شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤

وأما وضع الظاهر مقام الضمير ، فإن كان في معرض التفخيم جاز قياسا كقوله تعالى : (الْحَاقَّةُ ، مَا الْحَاقَّةُ)(١) ، أي : ما هي ، وإن لم يكن فعند سيبويه يجوز في الشعر بشرط أن يكون بلفظ الأول ، قال :

٥٩ ـ لعمرك ما معن بتارك حقه

ولا منسىء معن ولا متيسر (٢)

بجر منسىء ، فإذا رفعته فهو خبر مقدم على المبتدأ ، وقال :

٦٠ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغني والفقيرا (٣)

وإن لم يكن بلفظ الأول لم يجز عنده.

وقال الأخفش : يجوز وإن لم يكن بلفظ الأول ، في الشعر كان أو في غيره ، قال :

٦١ ـ إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت

حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا (٤)

وليس هذا في خبر المبتدأ ، قال : ويجوز : زيد قام أبو طاهر ، إذا كان زيد يكني

__________________

(١) أول سورة الحاقة. ١ و ٢

(٢) أول بيتين للفرزدق وبعده :

أتطلب يا عوران فضل نبيذهم

وعندك يا عوران زقّ موكّر

ومراده بمعن : رجل كان يبيع بالنسيئة وكان يضرب به المثل في شدة التقاضي. قال البغدادي : أخطأ من قال ان المراد به معن بن زائدة ، أحد أجواد والعرب ، قال لأنه متأخر عن الفرزدق.

(٣) الاستشهاد به كالذي قبله. والبيت من قصيدة لعديّ بن زيد ، وهو الصحيح وقيل انها لابنه سوادة بن عدى ، وأولها :

طال ليلي أراقب التنويرا

أرقب الليل بالصباح بصيرا

ضمنها كثيرا من الحكم. وعديّ بن زيد من شعراء الجاهلية في عهد النعمان بن المنذر ،

(٤) شاهد على جواز إعادة الاسم بغير لفظ الأول وأجازه الأخفش ومنعه سيبويه. كما قال الشارح ، وهو من أبيات لشاعر اسمه الكلحبة العريني أو اليربوعي واسمه هبيرة بن عبد مناف ، وهي أبيات حماسية يخاطب فيها حزيمة بن طارق من بني تغلب وكان قد أغار على بني مالك فاستصرخوا بني يربوع فهزموه واستخلصوا منه ما كان قد سباه.

وقد ورد مثل هذا البيت في شعر لشبيب بن البرصاء وهو شاعر أموي. ولم يتغير فيه إلا القافية وهو :

إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت

حبال الهوينى بالفتى أن تجذّما

٢٤١

بأبي طاهر ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(١).

ومنع بعضهم في غير التفخيم مطلقا ، ولا وجه له ، لوروده.

__________________

(١) الآية ٣٠ من سورة الكهف.

٢٤٢

كيفية تقدير الخبر

إذا كان ظرفا

قال ابن الحاجب :

«وما وقع ظرفا فالأكثر أنه مقدّر بجملة».

قال الرضى :

أي ظرفا ، أو جارا ومجرورا ، ولم يذكره لجريه مجراه في جميع أحكامه حتى سماه بعضهم ظرفا اصطلاحا.

وانتصاب الظرف خبرا للمبتدأ عند الكوفيين على الخلاف ، يعنون أن (١) الخبر لما كان هو المبتدأ في نحو : زيد قاتم ، أو كأنه هو في : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ)(٢) ، ارتفع ارتفاعه ، ولما كان مخالفا له بحيث لا يطلق اسم الخبر على المبتدأ ، فلا يقال في نحو زيد عندك ، ان زيدا «عنده» خالفه (٣) في الإعراب ، فيكون العامل عندهم معنويا وهو معنى المخالفة

__________________

(١) زيادة يقتضيها المعنى.

(٢) الآية ٦ من سورة الأحزاب

(٣) قوله خالفه جواب : لما كان مخالفا له ،

٢٤٣

التي اتصف بها الخبر ، ولا يحتاج عندهم إلى تقدير شيء يتعلق به الخبر.

وأما البصريون فقالوا : لا بد للظرف من محذوف يتعلق به ، لفظي (١) ، إذ مخالفة الشيء للشيء لا توجب نصبه.

وقال بعض النحاة : العامل فيه المبتدأ.

وقال البصريون : الظرف منصوب على أنه مفعول فيه ، كما أنه كذلك اتفاقا في نحو : جلست أمامك ، وخرجت يوم الجمعة ، والجار والمجرور منصوب المحل على أنه مفعول به ، كما أنه كذلك اتفاقا في نحو : مررت بزيد ، إلا أن العامل ههنا مقدر.

وينبغي أن يكون ذلك العامل من الأفعال العامة ، أي مما لا يخلو منه قعل نحو : كائن ، وحاصل ، ليكون الظرف دالّا عليه ، ولو كان خاصا كآكل وشارب ، وضارب وناصر ، لم يجز لعدم الدليل عليه.

وقد يحذف خاص لقيام الدليل ، نحو : من لك بالمهذّب ، أي من يضمن ، ولا يجوز عند الجمهور إظهار هذا العامل أصلا لقيام القرينة على تعيينه وسدّ الظرف مسدّه ، كما يجيء في : لو لا زيد لكان كذا ؛ فلا يقال : زيد كائن في الدار ، وقال ابن جني بجوازه ، ولا شاهد له.

وأما قوله تعالى : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ)(٢) ، فمعناه ساكنا غير متحرك ، وليس بمعنى «كائنا».

وكذا حال الظرف في ثلاثة مواضع أخر : الصفة ، والصلة ، والحال ، وفيما عدا

__________________

(١) لفظي صفة لقوله «محذوف» ولا معنى له هنا إلا أن يكون المراد أن العامل في هذه الحالة يكون لفظيا لا معنويا ، كما أن قوله بعد ذلك : إذ مخالفة : يقصد بها التعليل لقول البصريين وعدم اعترافهم بأن الخبر منصوب في هذه الحالة.

(٢) الآية ٤٠ من سورة النمل.

٢٤٤

المواضع الأربعة ، لا يتعلق الظرف والجار والمجرور إلا بملفوظ موجود.

وأكثرهم على أن المحذوف المتعلّق به : فعل ، لأنا نحتاج إلى ذلك المحذوف للتعلق ، وإنما يتعلق الظرف باسم الفاعل في نحو : أنا مارّ بزيد لمشابهته للفعل ، فإذا احتجنا إلى المتعلّق به فالأصل أولى ، وأيضا ، للقياس على : الذي في الدار زيد ، و : كل رجل في الدار فله درهم ، والمتعلّق في الموضعين فعل ، لا غير ، كما يأتي.

وذهب ابن السراج (١) ، وأبو الفتح (٢) ، إلى أنه اسم لكونه مفردا والأصل في خبر المبتدأ أن يكون مفردا.

ولمانع أن يمنع.

قالوا : إنما كان أصله الإفراد ، لأنه القول المقتضي نسبة أمر إلى آخر. فينبغي أن يكون المنسوب شيئا واحدا كالمنسوب إليه ، وإلا لكانت هناك نسبتان أو أكثر ، فيكون خبران أو أكثر ، لا خبر واحد ، فالتقدير في : زيد ضرب غلامه : زيد مالك لغلام ضارب.

والجواب : أن المنسوب يكون شيئا واحدا كما قلتم ، لكنه ذو نسبة في نفسه فلا نقدره بالمفرد ، فالمنسوب إلى زيد في الصورة المذكورة : ضرب غلامه ، الذي تضمنته الجملة.

قالوا : إنه يفصل بالظرف بين «أمّا» وجوابها ، ولا يفصل بينهما إلا بالمفرد ، كما يجيء.

والجواب : أن الظرف في مثله ليس بمستقر ، أي بمتعلّق بمحذوف بل هو منصوب بالملفوظ بعد الفاء ، نحو : أمّا قدامك فزيد قائم ، فهو كالمفعول به في نحو : أما زيدا

__________________

(١) تقدم ذكره ص ٦٧ من هذا الجزء.

(٢) كنيته ابن جني. وتقدم ذكره كثيرا.

٢٤٥

فأنا ضارب ، كما يجيء في حروف الشرط.

واعلم أن صيرورة الجملة ذات محل من الإعراب بعد أن لم تكن ، لا يدل على كونها بتقدير المفرد ، بل يكفي في صيرورتها ذات محل وقوعها موقع المفرد.

وإن كان بعد الظرف معمول ، نحو : زيد خلفك واقفا ، فعند أبي علي (١) ، هو معمول الظرف لقيامه مقام العامل ، ومن ثمّ وجب حذفه.

وقال غيره : هو للعامل المقدر ، لأن الظرف جامد لا يلاقي الفعل في تركيبه ملاقاة اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة والمصدر ، له.

وكذا الخلاف في أن الخبر أيهما هو.

ثم ذهب السيرافي إلى أن الضمير حذف مع المتعلّق ، وذهب أبو علي ومن تابعه إلى أنه انتقل إلى الظرف ، لأنه يؤكد ، كقوله :

٦٢ ـ فإن يك جثماني بأرض سواكم

فإن فؤادي عندك الدهر أجمع (٢)

ويعطف عليه ، كقوله :

٦٣ ـ ألا يا نخلة من ذات عرق

عليك ورحمة الله السّلام (٣)

__________________

(١) أي الفارسي ، وتكرر ذكره

(٢) لأن «أجمع» تأكيد للضمير المستقر في الظرف «عندك». والبيت من قصيدة لجميل بن معمر صاحب بثينة. وقبله :

ألا تتقين الله فيمن قتلته

فأمسى إليكم خاشعا يتضرع ؛

(٣) أي أن قوله ورحمة الله معطوف على ضمير السّلام المستقر في الخبر «عليك» والمبتدأ متقدم بحسب الأصل.

وكنى بالنخلة في البيت عن المرأة ونسب البيت إلى الأحوص.

وهو أحد ثلاثة أبيات أوردها البغدادي وقد كرر هذا الشاهد برقم ١١٠ في باب المنادى ، وفي حديثه عنه هنا قال انه لا يعرف قائله. ثم قال وينسب إلى الأحوص. ولما أعاده ذكر الأبيات الثلاثة وهو أولها وبعده :

سألت الناس عنك فأخبروني

هنا من ذاك تكرهه الكرام

وليس بما أحل الله عيب

إذا هو لم يخالطه الحرام

٢٤٦

وينتصب عنه الحال ، كقوله تعالى : (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها)(١).

قال أبو علي ، وادّعى بعضهم أنه مجمع عليه : إن الظرف إذا اعتمد على موصول ، أو موصوف ، أو ذي حال ، أو حرف استفهام ، أو حرف نفي ، فإنه يجوز أن يرفع الظاهر ، لتقوّيه بالاعتماد ، كاسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة ، وكذا قال : إذا وقعت بعده «أنّ» المصدرية ، كقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً)(٢) ، لا صريح المصدر ، أما قوله :

٦٤ ـ أحقا بنى أبناء سلمى بن جندل

تهددكم إياي وسط المجالس (٣)

فلاعتماد الظرف.

قيل : إنما عمل في «أنّ» بلا اعتماد لشبهها بالمضمر في أنها لا توصف مثله.

ويجوز أن يقال في جميع ذلك : ان الظرف خبر قد تقدم على مبتدئه ، أما في غير المواضع المذكورة ، نحو : في الدار رجل ، فالمرفوع مبتدأ ، مقدّم الخبر.

وعند الكوفيين والأخفش في أحد قوليه ، هو فاعل للظرف لتضمنه معنى الفعل ، كما قالوا في نحو : قائم زيد.

وإنما قال الكوفيون ذلك ، لاعتقادهم أن الخبر لا يتقدم على المبتدأ ، مفردا كان أو جملة ، فيوجبون ارتفاع «زيد» في نحو : في الدار زيد ، وقائم زيد ، على الفاعلية ،

__________________

(١) الآية ١٠٨ من سورة هود.

(٢) الآية ٣٩ من سورة فصلت ؛

(٣) أي ان قوله : تهددكم فاعل لحقا ، لاعتماده على الاستفهام ، وتقديره : أفي حق تهددكم. والبيت للأسود ابن يعفر : جاهلي ، يخاطب جماعة من بني جندل تهددوه في فرس غنمها مع أمهار لها. فرد إليهم الفرس وأبقى الأمهار فهددوه فرد عليهم تهديدهم في قصة ذكرها البغدادي وذكر ما قاله من الشعر في ذلك.

٢٤٧

لئلا يتقدم الضمير على مفسّره.

وليس بشيء ، لأن حق المبتدأ التقدم ، فالضمير متأخر تقديرا ، كما في : ضرب غلامه زيد.

وأما الأخفش فلا يوجب ذلك ، بل يجوّز ارتفاعه بالابتداء أيضا ، إذ هو يجوّز تقدم الخبر على المبتدأ ، لكن لما أجاز عمل الصفة بلا اعتماد أجاز كون «زيد» في قائم زيد ، فاعلا ، أيضا.

وله في جواز عمل الظرف بلا اعتماد قولان ، وذلك لأن الظرف أضعف في عمل الفعل من الصفة ، وثبوت الإجماع على جواز : في داره زيد ، يصحح تقديم الخبر ويمنع كون زيد فاعلا وإلّا لزم الإضمار قبل الذكر ، ومنع بعض البصريين من نحو : في داره قيام زيد ، وفي دارها عبد هند ، وذلك لأن المبتدأ حقه التقديم فجاز عود الضمير من الخبر إليه. نحو : في داره زيد ، فأما ما أضيف إليه المبتذأ ، فليس له التقدم الأصلي.

والأولى جواز ذلك ، كما ذهب إليه الأخفش ، وذلك لأنه عرض للمضاف إليه بسبب التركيب الإضافي الحاصل بينه وبين المبتدأ وصيرورته معه كاسم واحد ، مرتبة التقديم تبعا للمبتدأ وإن لم يكن له ذلك في الأصل.

وقد ورد في كلامهم : في أكفانه درج الميت.

واعلم أن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن اسم عين ، ولا حالا منه ، ولا صفة له ، لعدم الفائدة ، إلا في موضعين (١) : أحدهما : أن يشبه العين المعنى في حدوثها وقتا دون وقت ، نحو : الليلة الهلال ، الثاني : أن يعلم إضافة معنى إليه تقديرا نحو قول امرئ

__________________

(١) جاء في بعض نسخ هذا الشرح التي أشار إليها الجرجاني في تعليقاته بهامش المطبوعة : أنها ثلاثة. وأن الثالث هو أن يكون اسم العين عاما واسم الزمان خاصا ومثل له بقوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ،) (الواقعة آية ٢).! وذلك على أن كاذبة اسم فاعل وقيل إنه مصدر والتقدير ليس لوقعتها تكذيب فيكون خبرا عن اسم معنى ،

٢٤٨

القيس : اليوم خمر وغدا أمر (١). أي شرب خمر ، وقوله :

٦٥ ـ أكل عام نعم تحوونه

يلقحه قوم وتنتجونه (٢)

أي حوايته ، ولو قلت : الأرض يوم الجمعة ، وزيد يوم السبت لم يجز ، لأنه لا فائدة لتخصيص حصول شيء بزمان هو في غيره حاصل مثله.

ويكون ظرف الزمان خبرا عن اسم معنى بشرط حدوثه ، ثم ينظر ، فإن استغرق ذلك المعنى جميع الزمان أو أكثره وكان الزمان نكرة رفع غالبا ، نحو : الصوم يوم ، والسير شهر ، إذا كان السير في أكثره لأنه باستغراقه إياه كأنه هو ، ولا سيما مع التنكير المناسب للخبرية.

ويجوز نصب هذا الزمان المنكر ، وجره بفي نحو : الصوم في يوم ، أو يوما ، خلافا للكوفيين ، وذلك أن «في» عندهم ، توجب التبعيض ، فلا يجيزون : صمت في يوم الجمعة ، بل يوجبون النصب.

والأولى جوازه ، كما هو مذهب البصريين ، ولا يعلم إفادة «في» للتبعيض.

وإن كان الزمان معرفة ، نحو : الصوم يوم الجمعة لم يكن الرفع غالبا كما في الأول عند البصريين ، وأوجب الكوفيون النصب ، كما أوجبوه في المنكر للعلة المذكورة.

فإن وقع الفعل لا في أكثر الزمان ، سواء كان الزمان معرفا أو منكرا ، فالأغلب نصبه أو جره بفي ، اتفاقا بين الفريقين ، نحو : الخروج يوما. أو في يوم ، والسير يوم الجمعة أو في يوم الجمعة.

__________________

(١) من قول امرئ القيس الكندي قاله حين أخبر بموت أبيه وهو على الشراب.

(٢) أي بتقدير مضاف قبل «نعم» تقديره حواية. وهذا مما قيل في أحد أيام العرب وهو يوم الكلاب الثاني. وقاتله رجل من بني ضبه قال بعضهم انه قيس بن حصين بن يزيد وهو من الأرجاز التي كان يتبادلها الفرسان في هذا اليوم. وجاء في آخر هذا الرجز قوله : أيهات أيهات لما ترجونه. ويريد هيهات هيهات.

٢٤٩

وأما قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)(١) ، فلتأكيد أمر الحج ودعاء الناس إلى الاستعداد له حتى كأن أفعال الحج مستغرقة لجميع الأشهر الثلاثة.

وإذا كان ظرف المكان خبرا عن اسم عين ، سواء كان اسم مكان أو ، لا فإن كان غير متصرف ، نحو زيد عندك ، فلا كلام في امتناع رفعه ، وإن كان متصرفا وهو نكرة فالرفع راجح ، نحو : أنت مني مكان قريب ، ودارك مني يمين أو شمال ، وهو باق على الظرفية عند البصريين ، والمضاف محذوف ، إما من المبتدأ ، أي مكانك مني مكان قريب ، أو من الخبر ، أي أنت مني ذو مكان قريب ، ومثله عند الكوفيين بمعنى اسم الفاعل فيجب رفعه ، وليس بظرف ، كما يجيء عن قريب.

وإن كان معرفة فالرفع مرجوح ، نحو : زيد خلفك ، وداري أمامك ، وذلك لان أصل الخبر التنكير ، ومع ذلك ، فرفع المعرفة لا يختص بالشعر نحو قوله :

٦٦ ـ شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة

يد الدهر الا جبرئيل أمامها (٢)

خلافا للجرمي والكوفيين.

وإذا كان المكان في موضع الخبر عن عين ، والمراد تعيين المنزلة من قرب أو بعد ، قال سيبويه : لا يستعمل منه إلا ما استعملته العرب ، فلا تقل : هو مني مجلسك ، ومتكأة زيد ، ومربط الفرس ، قال : ولو أظهرت المكان في هذه الأشياء ، جاز ، نحو : هو مني مكان مجلسك ومكان متكأة زيد ، وذلك أن المكان يستعمل قياسا في تعيين القرب أو البعد.

ومما استعملته العرب ، قولهم : هو مني مزجر الكلب ، أي مهان ، ومقعد القابلة ،

__________________

(١) الآية ١٩٧ من سورة البقرة.

(٢) الشاهد رفع الظرف : أمام. لأنه معرف ، فهو خبر عن جبرئيل وهو لغة في جبرئيل وقوله يد الدهر منصوب على الظرفية بمعنى مدى الدهر وطول الدهر. وشهدنا أي شهدنا الغزوات مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهو من شعر كعب بن مالك الأنصاري ونسبه بعضهم إلى حسان بن ثابت.

٢٥٠

أي قريب ، وكذا معقد الأزار ومقعد الخائن ، وهو مني مناط الثريا ، أي بعيد ، قال أبو ذؤيب :

٦٧ ـ فوردن والعيّوق مقعد رابئ ال

ضرباء فوق النجم لا يتتلع (١)

أي عال مشرف ، كالامين على الياسرين (٢) ، فإنه أعلى منهم ليشرف عليهم ، كي لا يخونوا. (٣)

قال بعضهم : ما كان من هذه الظروف بمعنى القرب نحو معقد الأزار ، فجعله ظرفا أولى من رفعه ، وما كان منها في معنى البعد ، كمناط الثريا فرفعه أولى ، قال : لأن الظرف حاو للمظروف فقربه من المظروف يحقق له الاحتواء ، وبعده عنه يبعده عن الاحتواء.

وفيه نظر ، وذلك لأن الظرف في قولك : أنت مني مناط الثريا ليس بعيدا من المظروف ، بل هو محتو عليه ، لكنهما بعيدان عن المتكلم.

ويجب رفع كل واحد من ظرفي الزمان والمكان إذا كان متصرفا ومؤقتا محدودا ، وأخبرت به عن اسم عين لإرادة تقدير المسافة القريبة ، أو البعيدة ، نحو : دارك مني فرسخ ، وأنت مني بريد ، ومنزلك مني ليلة. أي : ذات مسافة فرسخ على حذف مضاف بعد مضاف ، وكذا : ذو مسافة سرى ليلة ، ومني متعلق بمدلول الخبر ، أي بعيدة مني هذا القدر.

__________________

(١) من قصيدة أبي ذؤيب الهذلي المشهورة في رثاء بنيه. والعيوق كوكب يطلع حيال الثريّا ، والضرباء جمع ضريب وهو الذي يضرب القداح ، وهو الموكلّ بها!

(٢) أي الذين يلعبون الميسر ؛

(٣) كتب البغدادي في هذا الموضع على شاهد أورده بعد قوله فوردن والعيوق وهو قوله :

انصب للمنية تعتريهم

رجالي أم هم درج السيول

وليس هذا الشاهد في النسخة المطبوعة ولعله موجود في النسخة التي أخذ منها البغدادي شواهده. ولم ينبه أحد ممن علقوا على خزانة الأدب على ذلك. ولم يشيروا إلى عدم وجوده في شرح الرضى. والبيت من شعر ابراهيم ابن هرمة.

٢٥١

وكذا قولهم : هو مني فوت اليد ، أي : إذا مددت يدي لم أنله ، وهو مني دعوة الرجل ، أي : إذا صاح الرجل لم (١) تبلغه صيحته ، والتقدير : ذو مكان فوت اليد ، وذو مكان بلوغ دعوة الرجل.

وأما انتصاب نحو قولك : داري خلف دارك فرسخين ، وميلا. وبريدا ، أو يوما وليلة ، فلأن الخبر هو «خلف دارك» ونصبها على الحال عند المبرد ، من الضمير في الخبر ، أي ذات مسافة فرسخين.

وعلى التمييز عند الجمهور ، وهو تمييز عن النسبة ، أي تباعدت فرسخين ، فالفرسخان مبعدان لها ، كما أن الماء في : امتلأ الإناء ماء ، مالئ.

ويجوز أن ينتصب على المصدر كقولك : دنوت أنملة ، أي دنوّ أنملة كما قيل في قوله تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ)(٢).

ويجوز رفعها ، وخلف ، ظرف للخبر ، أي ذات مسافة فرسخين خلف دارك ، أو هما خبران.

وكذا قولهم : داري من خلف دارك فرسخين أو فرسخان ، لأن دخول «من» في مثله ، وخروجها على السواء. كما في قولك : جئت قبلك ، ومن قبلك.

قال أبو عمرو (٣) : إذا دخلت «من» وجب الرفع في الظروف التي بعد المجرور ، لأن التمييز فضلة ، وبدخول «من» خرج الكلام عن التمام ، وليس بشيء ، إذ يقال : داري من خلف دارك ويسكت عليه.

__________________

(١) مقتضى تفسيره الآتي للمثال أن تكون «لم» زائدة.

(٢) آية ٣٢ سورة الزخرف.

(٣) المراد أبو عمرو بن العلاء وتقدم ذكره أكثر من مرة. انظر ص ١٣٧ من هذا الجزء.

٢٥٢

ويجوز أيضا ، أنت مني فرسخين بالنصب ، على أن «مني» خبر المبتدأ ، أي من أشياعي ، وفرسخين : حال ، أي ذوي سير فرسخين أو على الظرف أي في فرسخين ، أي أنت من أشياعي ما سرنا فرسخين ، كقوله صلّى الله عليه وسلّم : «سلمان منا».

واعلم أن نحو : خلف ، وقدام ، من الظروف : ظروف عند البصريين ، أضيفت أولم تضف ، وترك الإضافة قليل عندهم.

وهي عند الكوفيين لا تكون ظروفا إلا مع الإضافة ، أما عند الافراد فهي بمعنى اسم الفاعل ، فمعنى جلست خلفا ، عندهم أي متأخرا ، نصب على الحال ، وقام مكانا طيبا ، أي مغتبطا ، فإذا وقعت خبرا عن المبتدأ وجب عندهم رفعها ، نحو أنت خلف وقدام ، أي متأخر ، ومتقدم ، والبصرية تجوّز نصبها على قلّة ، كما ذكرنا ، وأما رفعها عندهم فعلى حذف المضاف ، كما مر ، وهي باقية على الظرفية ، وهو الأولى ، إذ خروج الشيء عن معناه خلاف الأصل فلا يرتكب ما أمكن حمله على عدم خروجه عنه.

وقوله :

٦٨ ـ وساغ لي الشراب وكنت قبلا

أكاد أغص بالماء الحميم (١)

أي قبل ذلك ، يقوّي مذهب البصريين.

__________________

(١) روي مثله بقافية أخرى .. بالماء الفرات والذي هنا من أبيات ليزيد بن الصّعق قالها وقد انتقم لنفسه من الربيع ابن زياد العبسي وكنيته أبو حريث وكان الربيع قد أغار على يزيد وقومه فلم يتمكن منهم فأخذ ابلا لجيرانه فأقسم يزيد بن الصعق لينتقمنّ ، فلما تحقق له الوفاء بقسمه قال :

الا أبلغ لديك أبا حريث

وعاقبة الملامة للمليم

وقبل الشاهد :

فنمت الليل إذ أوقعت فيكم

قبائل عامر وبني تميم ...

وساغ الخ أما البيت الآخر : الذي آخره بالماء الفرات فلم ينسبه أحد ولم يذكروا شيئا قبله ولا بعده. وقال العيني إن بيت الشاهد لعبد الله بن يعرب بن معاوية وكان له ثأر فأدركه والذي أثبتناه هنا منقول من خزانة الأدب للبغدادي.

٢٥٣

واعلم أن «اليوم» إذا وقع خبرا عن لفظي الجمعة والسبت جاز نصبه على ضعفه ، لكونهما في الأصل مصدرين ، فمعنى : اليوم الجمعة أو السبت : أي الاجتماع ، أو السكون ، والأولى رفعه لغلبة الجمعة والسبت في معنى اليومين.

ولا يجوز نصب «اليوم» خبرا عن الأحد ، والإثنين ، إذ هما بمعنى اليومين ، واليوم لا يكون في اليوم ، وأجازه الفراء ، وهشام (١) ، وذلك لتأويلهما اليوم بالآن ، كما يقال : أنا اليوم ، أفعل كذا ، أي الآن.

فمعنى : اليوم الأحد ، أي الآن الأحد ، والآن أعمّ من الأحد فيصح أن يكون ظرفه.

هذا ، ولنذكر طرفا مما يتعلق بخبر المبتدأ ، إذا كان مفردا. فنقول : هو إما مشتق أو جامد ، وكلاهما إما أن يغاير المبتدأ لفظا ، أو ، لا.

والأول : إما أن يتحد به معنى ، نحو : زيد أخوك ، وزيد قائم ، أو يغايره معنى أيضا ، والمغاير ، يقع خبرا عنه إمّا لمساواته في معنى كقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ)(٢) ، أو لحذف المضاف من المبتدأ ، أو الخبر نحو : داري منك فرسخان ، أي بعد داري فرسخان ، أو داري منك ذات مسافة فرسخين ، أو لكون واحد من المبتدأ والخبر معنى والآخر عينا. ولزوم ذلك المعنى لتلك العين حتى صار كأنه هي ، كقول الخنساء :

٦٩ ـ ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت

فإنما هي إقبال وإدبار (٣)

__________________

(١) المراد به هشام بن معاوية ويقال له هشام الضرير وهو من متقدمي الكوفيين وتقدم ذكره في هذا الجزء ص ٦٣. أما الفراء فقد تكرر ذكره كثيرا

(٢) الآية ٦ من سورة الأحزاب وتقدمت قبل ذلك.

(٣) من قصيدة لها في رثاء أخيها صخر ، أولها :

قذى بعينك أم بالعين عوار

أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار

وبيت الشاهد في وصف ناقة شبهت بها نفسها. فان قبله

فما عجول على بوّ تطيف به

قد ساعدتها على التحنان أظآر

وبعده :

لا تسمن الدهر في أرض وإن رتعت

وإنما هي تحنان وتسجار

يوما بأوجد مني حين فارقني

صخر وللدهر إحلاء وامرار

٢٥٤

وقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ)(١) ، وان قدرنا المضاف في مثله في المبتدأ ، أي لكنّ ذا البر من آمن ، وحالها إقبال ، أو في الخبر نحو : برّ من آمن ، وذات إقبال.

أو جعلنا المصدر بمعنى الصفة ، نحو : ولكنّ البارّ ، وهي مقبلة ، جاز ، لكنه يخلو من معنى المبالغة.

والثاني أي الذي لا يغاير المبتدأ لفظا ، يذكر للدلالة على الشهرة ، أو عدم التغيّر ، كقوله :

٧٠ ـ أنا أبو النجم وشعري شعري (٢).

أي : هو المشهور المعروف بنفسه لا بشيء آخر ، كما يقال مثلا : شعري مليح ، وتقول : أنا أنا ، أي ما تغيرت عما كنت ، قال :

٧١ ـ رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع

فقلت وأنكرت الوجوه هم هم (٣)

وأما الجامد فإن كان مؤولا بالمشتق نحو قولك : هذا القاع عرفج كله أي غليظ ، تحمل الضمير ، فكله ههنا تأكيد للضمير ؛ ويجوز أن يكون مبتدأ مؤخرا عن الخبر.

وإن لم يكن مؤولا به ، لم يتحمله خلافا للكسائي ، فكأنه نظر إلى أن معنى : زيد أخوك ، متصف بالأخوة ، وهذا زيد ، أي متصف بالزيدية أو محكوم عليه بكذا ،

__________________

(١) الآية ١٧٧ من سورة البقرة.

(٢) من أرجوزه لأبي النجم العجلي وبعده :

لله درّي ما أجنّ صدري

من كلمات باقيات الحرّ

تنام عيني وفؤادي يسري

مع العفاريت بأرض قفر

(٣) لأبي خراش الهذلي من قصيدة يذكر فيها تفلّته من أعداء له كانوا يترصدونه ، ومعنى رقوني : سكنوني أي فعلوا ما يطمئنني ويجعلني أسكن إليهم ولكني عرفت خدعتهم. لأنهم هم أعدائي الذين يقصدون قتلي!

٢٥٥

وذلك لأن الخبر عرض فيه معنى الإسناد بعد أن لم يكن ، فلا بد من رابط ، وهو الذي يقدره أهل المنطق بين المبتدأ والخبر ، فالجامد كله ، على هذا ، متحمل للضمير عند الكسائي ، لكنه كما لم يشابه الفعل ، لم يرفع الظاهر كالمشتق ، وكذا لم يجر على ذلك الضمير تابع لخفائه ، وأما المشتق فهو متحمل للضمير اتفاقا ، إن لم يرفع الظاهر. خبرا كان ، أو نعتا ، أو حالا ، فيستكن فيه إن جرى على من هوله ، نحو زيد قائم ، وإن جرى على غير من هوله ، أكدّ المستكن به بمنفصل ، خبرا كان المتحمل للضمير ، نحو : أنا زيد ضاربه أنا ، أو نعتا ، نحو : لقيت رجلا ضاربه أنا ، أو حالا نحو : لقيك زيد مكرمه أنت ، أو صلة نحو : الضاربة أنا : زيد ، وإن أمن اللبس جاز ترك الضمير المنفصل في هذه الصور عند الكوفية ، وأما البصرية فأوجبوه طردا ، نحو : هند : زيد ضاربته هي ، وتمام البحث فيه يجيء في باب الإضمار (١) إن شاء الله تعالى :

وجوب تقديم

المبتدأ

قال ابن الحاجب :

«وإذا كان المبتدأ مشتملا على ما له صدر الكلام مثل من»

«أبوك ، أو كانا معرفتين ، أو متساويين مثل : أفضل منك»

«أفضل مني ، أو كان الخبر فعلا له مثل : زيد قام ، وجب»

«تقديمه».

قال الرضي :

قوله : «من أبوك» ، مبني على مذهب سيبويه ، وذلك لأنه يخبر عنده بمعرفة عن

__________________

(١) أي في باب الضمائر من قسم المبنيات.

٢٥٦

نكرة مضمنة استفهاما ، أو نكرة هي أفعل التفضيل مقدم» على خبره ، والجملة صفة لما قبلها ، نحو مررت برجل أفضل منه أبوه.

وغير سيبويه على أن مثل هذين خبران مقدمان ، والمثال المتفق عليه في مثل هذا المقام : من قام؟ وما جاء بك؟ وأيهم قام؟ ومن قام قمت.

وإنما كان للشرط والاستفهام والعرض والتمني ونحو ذلك مما يغيّر معنى الكلام ، مرتبة التصدر ، لأن السامع يبنى الكلام الذي لم يصدّر بالمغيّر على أصله ، فلو جوّز أن يجيء بعده ما يغيّره ، لم يدر السامع إذا سمع بذلك المغيّر : أهو راجع إلى ما قبله بالتغيير ، أو مغيّر لما سيجيء بعده من الكلام ، فيتشوش لذلك ذهنه.

وكذلك حكم المضاف إلى أداة الشرط أو الاستفهام ، يجب تصدره نحو : غلام من قام؟ ، وغلام من يقم أقم؟ لأن معنى الشرط والاستفهام يسري إلى المضاف ، وإلّا لم يجز تقدمه على ماله الصدر.

قوله : «أو كانا معرفتين ، أو متساويين» ، ليس على الإطلاق بل يجوز تأخر المبتدأ عن الخبر ، معرفتين أو متساويين مع قيام القرينة المعنوية الدالة على تعيين المبتدأ ، كما في قوله :

٧٢ ـ بنونا بنو أبنائنا. وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد (١)

وذلك لأنا نعرف أن الخبر محط الفائدة ، فما يكون فيه التشبيه الذي تذكر الجملة لأجله فهو الخبر ، كقولك : أبو يوسف أبو حنيفة ، أي مثل أبي حنيفة ، ولو أردت تشبيه أبي حنيفة بأبي يوسف ، فأبو يوسف هو الخبر ، ومثله قول أبي تمام :

__________________

(١) لأنه يريد تشبيه بني الأبناء بالأبناء فيكون المبتدأ هو المشبه والخبر هو المشبه به. وحمله بعضهم على ظاهره وقال إنه من عكس التشبيه ، قال البغدادي بعد أن شرح البيت انه مع شهرته في كتب النحو لا يعرف قائله. وهو كذلك في غير كتب النحو ، وان بعضهم نسبه إلى الفرزدق. ثم قال والله أعلم بحقيقة الحال.

٢٥٧

٧٣ ـ لعاب الأفاعي القاتلات لعابه

وأرى الجني اشتارته أيد عواسل (١)

أي : بنو أبنائنا مثل بنينا ، ولعابه مثل لعاب الأفاعي.

قوله : «أو كان الخبر فعلا له» ، أي فعلا مسندا إلى ضمير المبتدأ ، نحو زيد قام ، فإنه لو قدم : اشتبه المبتدأ بالفاعل.

فإن قيل : فليجز إن كان الضمير بارزا ، نحو : الزيدان قاما ، والزيدون قاموا.

قلت يشتبه المبتدأ بالبدل من الضمير ، أو بالفاعل على لغة : يتعاقبون فيكم ملائكة ، أو نقول ، منع ذلك حملا على المفرد.

مع أنه قيل في قوله تعالى : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ)(٢) ، وقوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٣) ، إن «كثير» والذين ، مبتدأن مقدما الخبرين.

ويجب ، أيضا تأخير الخبر إذا اقترن بالفاء ، نحو : الذي يأتيني فله درهم ، نظرا إلى أصل الفاء الذي هو التعقيب ، وأيضا لكونها فاء الجزاء ، وهو عقب الشرط ، لاستحقاق أداته صدر الكلام.

ويجب ، أيضا ، تأخير الخبر إذا جاء بعد «إلّا» لفظا أو معنى ، نحو : ما زيد إلا قائم ، وإنما زيد قائم ، لأنك إن قدمته من غير «إلا» انعكس المعنى ، كما ذكرنا في تقديم الفاعل وتأخيره ، ولا يجوز التقديم مع «إلا» لما يجيء في باب الإستثناء.

__________________

(١) قوله ومثله يدل على أنه لا يريد الاستشهاد بناء على ما سبق التنبيه إليه من أن المتقدمين لا يستشهدون بشعر أبي تمام ، والبيت من قصيدة له في وصف القلم يقول قبله مخاطبا محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم

لك القلم الأعلى الذي بشباته

يصاب من الأمر الكلى والمفاصل

(٢) الآية ٧١ من سورة المائدة.

(٣) الآية ٣ من سورة الأنبياء.

٢٥٨

ويجب أيضا تأخير الخبر ، إذا اقترن المبتدأ بلام الابتداء ، نحو : لزيد قائم ، أو كان ضمير الشأن. للزوم تصدرهما.

تقديم الخبر وجوبا

قال ابن الحاجب : «وإذا تضمن الخبر المفرد ما له صدر الكلام مثل : أين زيد»

«أو كان مصححا ، مثل في الدار رجل ، أو لمتعلقه ضمير في»

«المبتدأ ، مثل : على التمرة مثلها زبدا ، أو عن «أن» مثل :»

«عندي أنك قائم ، وجب تقديمه».

قال الرضى :

هذا بيان لموجبات تقديم الخبر ، وإنما قال : الخبر المفرد ، لأنه إن كان جملة متضمنة لما يقتضي صدر الكلام ، لم يجب تقديمه ، نحو : زيد من أبوه؟ إذ الاستفهام وسائر ما يقتضي صدر الكلام يكفيها أن تقع صدر جملة من الجمل بحيث لا يتقدم عليها أحد ركني تلك الجملة ولا ما صار من تمامها من الكلم المغيرة لمعناها ، كانّ وأخواتها وسائر ما يحدث معنى من المعاني في الجملة التي يدخلها ، فلا يقال : إنّ من يأتني أشكره.

وأما قولهم : علمت أيّهم في الدار ، فإن الفعل لما كان من أفعال القلوب ، وليس أثرها المعنوي بظاهر كأفعال العلاج فإنها محسوسة الآثار كالضرب والمشي ، جوّز تقديمه على الكلام المصدّر بأداة الاستفهام والنفي ولام الابتداء ، مع تأثيره فيه معنى ، مع أن تقدمه كلا تقدم ، إذ معنى ظننت زيدا قائما : زيد قائم في ظني ، ومنع من العمل فيه ظاهرا ، احتراما للفظ المقتضي للصدر.

وأما قولهم : الذي ما يضرب ، والذي إن تضربه يضربك ، فإن الموصول وإن كان مع الصلة ككلمة واحدة ، إلا أنه لا يؤثر في صلته معنى ، ونحو قولهم : زيد من أبوه ،

٢٥٩

وعمرو في دار من هو ، أولى بالجواز ، لأن المبتدأ كما أنه لا يؤثر معنى من المعاني في الخبر ، ليس هو معه ، أيضا ، كالمفرد ، كما كان الموصول مع صلته كذلك.

فإن قيل : كيف الجمع بين قوله ههنا : أين مفرد (١) ، وقوله قبل : وما وقع ظرفا فالأكثر أنه مقدر بجملة.

قلت : لا شك أن لفظ «أين» اسم مفرد في الوضع ، سواء قدر بالجملة أو بالمفرد ، فأين في : أين زيد ، مفرد واقع موقع الجملة على الأصح ، فيصح أن يقال : إنه خبر مفرد.

وإن كان الاستفهام ظرفا متعلقا بالخبر المفرد الملفوظ به وجب تقديمه على المبتدأ ، إمّا مع الخبر ، نحو : علام راكب زيد ، أو بدونه نحو : علام زيد راكب.

قوله : «وإذا تضمن الخبر المفرد» ، اعلم أنه لا يقع من جملة مقتضيات الصدر ، خبرا مفردا ، إلا كلمة الاستفهام ، نحو : من زيد ، أو مضاف إليها ، نحو : غلام من زيد؟

قوله : «أو كان مصححا» ، أي كان الخبر ، أي تقدمه مصححا لمجيء المبتدأ نكرة ، على ما ذكر قبل في جواز تنكير المبتدأ ، أنّ تقدم حكم النكرة عليها ، خصّصها حتى جاز وقوعها مبتدأ ، وقد قلنا عليه ما فيه كفاية.

والأولى أن يقال في إيجاب تقدم الظرف خبرا عن المبتدأ المنكر ، في الأغلب مما لا يتضمن معنى الدعاء : إنّ العلة فيه خوف لبس الخبر بالصفة مع كثرة استعمال الظرف خبرا ، فلو قلّ وقوع الظرف خبرا عن المنكر ، اغتفر ذلك اللبس القليل ، كما في قوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ)(٢).

__________________

(١) في تمثيله للخبر المفرد المتضمن ما له صدر الكلام بقوله : أين زيد ؛

(٢) الآيتان ٢٢ ، ٢٤ ، من سورة القيامة.

٢٦٠