شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤

«عدل ووصف وتأنيث ومعرفة

وعجمة ثم جمع ثم تركيب»

«والنون زائدة من قبلها ألف

ووزن فعل وهذا القول تقريب»

«مثل : عمر ، وأحمر ، وطلحة ، وزينب ، وابراهيم ومساجد ومعديكرب» «وعمران ، وأحمد ؛ وحكمه أن لا كسر ولا تنوين» ؛

قال الرضى :

أعلم أولا أن قول النحاة : ان الشيء الفلاني علة لكذا ، لا يريدون به أنه موجب له ، بل المعنى أنه شيء إذا حصل ذلك الشيء ينبغي أن يختار المتكلم ذلك الحكم ، لمناسبة بين ذلك الشيء وذلك الحكم ، والحكم في اصطلاح الأصوليين : ما توجبه العلة ، واياه عني المصنف بقوله : «وحكمه أن : لا كسر ولا تنوين» ، لأن سقوط الكسر والتنوين في غير المنصرف مقتضى العلتين ، وتسميتهم ، أيضا ، لكل واحد من الفروع في غير المنصرف سببا وعلة : مجاز ، لأن كل واحد منها جزء العلة لا علة تامة إذ باجتماع اثنين منها يحصل الحكم ، فالعلة التامة ، إذن ، مجموع علتين ، أو واحدة منها تقوم مقامهما ، مع حصول شرط كل واحد منها وستعرف الشروط ان شاء الله تعالى :

ويدخل في الحد الذي ذكره المصنف لغير المنصرف : ما دخله الكسر والتنوين للضرورة أو التناسب ، وكذا المجموع بالألف والتاء علما ، والمجموع بالواو والنون علما للمؤنث ، كمسلمات ومسلمون ، وان لم يحذف منهما الكسر والتنوين ، لثبوت العلتين في جميع ذلك.

ففي قوله بعد : «ويجوز صرفه للضرورة أو التناسب» نظر ، لأن الصرف ، على قوله عبارة عن تعرّي الاسم عن السببين المعتبرين ، وعن السبب القائم مقامهما ، وهو في حال الضرورة وقصد التناسب غير مجرد عنهما ، فكان الوجه أن يقول ، ويزول حكم غير المنصرف للضرورة أو للتناسب ، لأن حكم غير المنصرف حكم قد يتخلف عن العلة ، بخلاف حكم المعرب أعني اختلاف الآخر باختلاف العوامل لفظا أو تقديرا فانه لا يتخلف عن علة الاعراب.

وعلى ما حدّ النحاة غير المنصرف أعني قولهم : هو ما لا يدخله الكسر والتنوين للسببين ،

١٠١

يجوز أن يقال : يجوز صرفه للضرورة.

وكذا ، على ما حدّ المصنف ، يكون ما دخله اللام أو الاضافة مما فيه علتان من التسع غير منصرف ، وعند غيره هو منصرف ، سواء قالوا : ان الكسر سقط تبعا للتنوين ، أو قالوا : ان الكسر والتنوين سقطا معا ، وذلك أن أكثرهم قالوا : ان الاسم لما شابه الفعل ، حذف لأجل مشابهته اياه علامة تمكنه التي هي التنوين ، أي علامة اعرابه ، لأن أصل الاسم الاعراب ، وأصل الفعل البناء وجعلوا ترك الصرف عبارة عن حذف التنوين ، وقالوا : ثم تبعه الكسر بعد صيرورة الاسم غير منصرف ، وقوّوا هذا القول بأنه لما لم يكن مع اللام والإضافة تنوين حتى يحذف لمنع الصرف لم يسقط الكسر ، فظهر أن سقوطه لتبعية التنوين لا بالأصالة.

فعلى قول هؤلاء : نحو الأحمر ، وأحمركم ، منصرف لأن التنوين لم يوجد فيحذف ، كما في أحمران وأجمعون.

وقال بعضهم : انه لما شابه الفعل حذف الكسر والتنوين معا لمنع الصرف ونحو : الأحمر وأحمركم ، عندهم ، أيضا منصرف ، لأن الكسر والتنوين لم يحذفا ، ولا أحدهما مع اللام والإضافة لمنع الصرف.

والأول أقرب أعني أن الكسر سقط تبعا للتنوين ، وذلك أنه يعود في حال الضرورة مع التنوين تابعا له ، مع أنه لا حاجة داعية إلى اعادة الكسر ، إذ الوزن يستقيم بالتنوين وحده ، فلو كان الكسر حذف أيضا لمنع الصرف كالتنوين ، لم يعد بلا ضرورة إليه ، إذ مع الضرورة ، لا يرتكب الا قدر الحاجة.

وانما تبعه الكسر في الحذف ، لأن التنوين يحذف لا لمنع الصرف أيضا ، كما في الوقف ، ومع اللام والإضافة والبناء ، فأرادوا النص من أول الأمر على أنه لم يسقط الا لمشابهة الفعل لا للإضافة ولا للبناء ولا لشيء آخر ، فحذفوا معه صورة الكسر التي لا تدخل

١٠٢

الفعل ، ولهذا يؤتى بنون العماد (١) في نحو : ضربني ، ويضربني.

وانما لم يظهر أثر منع الصرف في المثنى وجمع المذكر السالم مع اجتماع السببين ، نحو : أحمران ، ومسلمون علمين للمؤنث ، لأن النون فيهما ليس للتمكن كما ذكرنا حتى يحذف فيتبعه الكسر ، وأيضا ، فان النصب فيهما تابع للجر ، فلم يتبع الجر النصب ؛ بلى ، ان سمي بهما وأعربا اعراب المفرد ، أي جعل النون معتقب الاعراب ، وجب منع صرفهما للعلتين ، لأن فيهما ، اذن ، تنوين التمكن ، ولا يتبع نصبهما الجر.

ثم نقول : أصل الاسم الاعراب ، كما ذكرنا ، ثم قد يتفق مشابهته للفعل وهي على ثلاثة أضرب :

احدها ، وهو أقواها : أن يصير معنى الاسم : معنى الفعل سواء ، كما في أسماء الأفعال ، فيبنى الاسم. نظرا إلى أصل الفعل الذي هو البناء ويعطي عمله.

وثانيها ، وهو أوسطها : أن يوافقه من حيث تركيب الحروف الأصلية ويشابهه في شيء من المعنى كاسم الفاعل والمفعول والمصدر والصفة فيعطي عمل الأفعال التي فيه معناها ، ولا يبنى لضعف أمر الفعل في البناء بتطفل بعضه وهو المضارع على الاسم في الاعراب ، فلا يبنى منه الا قويّ المشابهة للأفعال أي الذي معناه معنى الفعل سواء كاسم الفعل ، وثالثها ، وهو أضعفها : ألّا يشابهه لفظا ، ولا يتضمن معناه ، ولكن يشابهه بوجد بعيد ، ككونه فرعا لأصل ، كما أن الأفعال فرع الأسماء افادة واشتقاقا ، فأما الافادة فلاحتياج الفعل في كونه كلاما إلى الاسم ، واستغناء الاسم فيه (٢) عنه ، وأما الاشتقاق ، فيجيء في باب المصدر ؛ فلا يبنى بهذه المشابهة ، لضعفها مع ضعف الفعل في البناء ولا يعطى بها عمل الفعل ، لأن ذلك بتضمن معناه الطالب للفاعل والمفعول

__________________

(١) أي نون الوقاية ، ووجه تسميتها نون العماد أنها تكون عمادا للفعل أي حاجزا وحصنا له من الكسر ، وهو معنى قولهم نون الوقاية.

(٢) أي في كونه كلاما لإمكان تركب الكلام من اسمين.

١٠٣

وهو خلو منه ، بل تنزع بهذه المشابهة علامة الاعراب (١) فيكون اسما معربا بلا علامة اعراب ، ثم يتبعه الكسر على قول ، أو ينزع التنوين والكسر معا ، كما تقدم.

وانما احتيج في هذا الحكم إلى كون الاسم فرعا من جهتين ، ولم يقتنع بكونه فرعا من جهة واحدة ، لأن المشابهة بالفرعية مشابهة غير ظاهرة ولا قوية ، إذ الفرعية ليست من خصائص الفعل الظاهرة ، بل يحتاج في إثباتها فيه ، إلى تكلف ، كما مضى ، وكذا اثبات الفرعية في الأسماء بسبب هذه العلل غير ظاهر ، كما يجيء ، فلم تكف واحدة منها الا إذا قامت مقام اثنتين.

فان قلت : إذا شابه الاسم غير المنصرف الفعل ؛ فقد شابهه الفعل ، أيضا ، فلم كان اعطاء الاسم حكم الفعل أولى من العكس؟

فالجواب أن الاسم تطفل على الفعل فيما هو من خواص الفعل ، وليس ذلك لمطلق المشابهة بينهما ، وذلك كما يصير اسم الفعل بمعنى الفعل ، ويتضمن اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة والمصدر ، معنى الفعل ، فيتطفل الأسماء على الأفعال في المعنى ؛ فتعطى حكم الفعل ، وذلك ببناء اسم الفعل وعمله عمله معا ، وعمل البواقي عمله ، حسب ، وهذا مطرد في كل ما يعطي حكما لأجل مشايهته لنوع آخر ، كما إذا اتفق مشابهة الحرف للفعل بتضمن معناه ، كان واخواتها ، و «ما» و «لا» ، عمل عمل الفعل.

وإذا اتفق مشابهة الاسم للحرف باحتياجه إلى غيره كالموصولات ، والمضمرات ، والغايات ؛ أو بتضمن معناه كأسماء الشرط والاستفهام ونحو ذلك ، كما يجيء في باب المبنى ؛ بني الاسم لتطفله على الحرف فيما يخصه ؛ وههنا يكفي أدنى مشابهة لأجل بناء الاسم ، بخلاف مشابهته للأفعال ، وذلك لتمكن الحرف ورسوخه في البناء ، دون الفعل.

وإذا شابه الفعل الحرف بلزوم معنى الانشاء الذي هو بالأصالة للحرف أعطى حكم

__________________

(١) أي التنوين كما هو اختياره.

١٠٤

الحرف في عدم التصرف ، كما في «عسي» ، وفعل التعجب ، وان شابه الاسم ، كالمضارع أعرب ، كما يجيء في بابه.

فظهر أن الاسم قد يشابه الفعل والحرف ، وكذا الفعل ، قد يشابه الاسم والحرف ، وأما الحرف فيشابه الفعل فقط.

قوله : «والنون زائدة» ، نصب زائدة ، على أنها حال من النون ، والعامل معنى الكلام ، فان معنى قوله «وهي عدل ووصف» إلى آخره : أي : تكون علل منع الصرف عدلا ووصفا ، وكذا ، وكذا ، والنون زائدة (١).

وقد ألحق بالأسباب المذكورة ما شابه ألف التأنيث المقصورة ، وهو كل ألف زائدة في آخر الاسم العلم ، سواء كانت للالحاق ، كما في : أرطى ، وذفري ، وحبنطى ، أو ، لا ، كقبعثرى ، لأنها بالعلمية تمتنع من التاء كألف التأنيث ، فإذا عدّ الألف والنون سببا ، لمشابهة ألف التأنيث بالامتناع من التاء ، فعدّ الألف المقصورة الممتنعة من التاء ، أولى ، لمشابهتها لها لفظا ، وامتناعا من التاء.

وأما ألف الالحاق الممدودة فلم تلحق مع العلمية بألف التأنيث الممدودة وان كانت ، أيضا ، ممتنعة من التاء مثل ألف التأنيث الممدودة ، لاجتماع شيئين : أحدهما ضعف ما يشبهه ألف الالحاق الممدودة ، أي الهمزة في نحو صحراء ، في باب التأنيث ، دون الألف في نحو سكري ، لكون الهمزة في الأصل ألفا ، والثاني كون همزة الالحاق في مقابلة الحرف الأصلي ولذلك اثر الألف والنون في نحو : سكران ، لمشابهته ألف التأنيث الممدودة ، لأن النون ليست في مقام حرف أصلي.

وألف الالحاق المقصورة وان كانت في مقابلة حرف أصلي ، لكنها تشبه علامة التأنيث الأصلية ، أي الألف المقصورة ، لا المنقلبة عن علامة التأنيث ، أي ألف التأنيث الممدودة

__________________

(١) فكأن قوله : والنون. فاعل. فجاءت الحال من الفاعل والعامل فيها معنى الفعل.

١٠٥

وأما فرعية هذه العلل ؛ فان العدل فرع ابقاء الاسم على حاله ، والوصف فرع الموصوف ، والتأنيث فرع التذكير ، والتعريف فرع التنكير اذ كل ما نعرفه كان مجهولا في الأصل عندنا ، والعجمة في كلام العرب فرع العربية ، إذا الأصل في كل كلام ألّا يخالطه لسان آخر ، فيكون العربية ، اذن ، في كلام العجم فرعا ؛ والجمع فرع الواحد ، والتركيب فرع الافراد ، والألف والنون فرع ألفي التأنيث كما يجيء بعد ، أو فرع ما زيدا عليه ، ووزن الفعل في الاسم فرع وزن الاسم ، إذا كان خاصا بالفعل ، أو أوله زيادة كزيادة الفعل ، لأن أصل كل نوع ألّا يكون فيه الوزن المختص بنوع غيره.

وههنا فروع أخر لم يعتبروها ، ككون الاسم مصغرا ، أو منسوبا ، أو شاذا ، وغير ذلك ممّا لا يحصى ، وذلك اختيار منهم بلا علة مخصصة ، قوله : «وحكمه أن : لا كسر» ولم يقل : أن : لا جرّ ، لأنه يدخله الجر عند الجمهور ، إذ هو عندهم معرب ، والجر أنواع ، وجره فتح ، فالفتح الذي في «بأحمد» عندهم ، عمل الجار ، وهو يعمل الجرّ ، لا محالة.

وقال الأخفش ، والمبرد ، والزجاج : غير المنصرف في حال الجر مبني على الفتح لخفته ، وذلك لأن مشابهته للمبني ، أي الفعل ، ضعيفة فحذفت علامة الاعراب مطلقا ، أي التنوين ، وبني في حالة واحدة فقط ، واختص بالبناء في حالة الجر ليكون كالفعل المشابه في التعرّي من الجر.

صرف ما لا ينصرف

في الضرورة والتناسب

قال ابن الحاجب :

«ويجوز صرفه للضرورة ، أو التناسب ، مثل : سلاسلا وأغلالا ، وقواريرا».

قال الرضى :

قال الأخفش : ان صرف ما لا ينصرف مطلقا ، أي في الشعر وغيره : لغة الشعراء ، وذلك أنهم كانوا يضطرون كثيرا ، لإقامة الوزن ، إلى صرف ما لا ينصرف فتمرن على

١٠٦

ذلك ألسنتهم ، فصار الأمر إلى أن صرفوه في الاختيار ، أيضا ، وعليه حمل قوله تعالى : (قَوارِيرَا)(١) وقال هو والكسائي : ان صرف ما لا ينصرف مطلقا لغة قوم ، الا «أفعل منك» ، وأنكره غيرهما ، إذ ليس بمشهور عن أحد في الاختيار نحو : جاءني أحمد وابراهيم ، ونحو ذلك ، وأما للضرورة فلا خلاف في جواز صرفه ، فلا يصرف ما فيه الألف المقصورة لعدم الضرورة (٢).

ومنع الكوفيون صرف «أفعل من» في الضرورة ، لأن «من» مع مجروره كالمضاف إليه ، فلا ينون ما هو كالمضاف ؛ والأصل الجواز ، لأن الكلام في الضرورة ، وفرق بين المضاف ، وما هو كالمضاف.

وجوّز الكوفيون وبعض البصريين للضرورة ترك صرف المنصرف ، لا مطلقا ، بل بشرط العلمية دون غيرها من الأسباب لقوتها ، كما نبيّن لك عند الكلام في تفصيل الأسباب ، وذلك بكونها شرطا لكثير من الأسباب مع كونها سببا.

واستشهدوا بقوله :

١٧ ـ فما كان حصن ولا حابس

يفوقان مرداس في مجمع (٣)

__________________

(١) من الآيتين ٤ ، ١٥ من سورة الدهر.

(٢) جوّزه بعضهم واستدل عليه بقول الشاعر :

اني مقسم ما ملكت فجاعل

جزءا لآخرتي ودنيا تنفع

بتنوين «دنيا» والخلاف بينهم مبني على خلافهم في معنى الضرورة : هل هي ما وقع في الشعر وان كان للشاعر عنه مندوحة ، أو هي ما لا ليس للشاعر عنه مندوحة.

(٣) من أبيات للعباس بن مرداس السّلمي الصحابي : قالها وقد أعطاه الرسول من غنائم حنين بعض الابل في حين أنه أعطى كثيرا من المؤلفة قلوبهم كلا منهم مائة بعير فقال العباس هذه الأبيات ومنها :

وما كنت دون امرئ منهما

ومن تضع اليوم لا يرفع

وحصن وحابس ، هما والدا : عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وكانا ممن أعطاهما الرسول مائة بعير.

فلما قال ذلك أمر النبي بارضائه. فأعطى مثل ما أعطوا.

١٠٧

ومنعه الباقون ، استدلالا بأن الضرورة تجوّز ردّ الأشياء إلى أصولها فجاز صرف غير المنصرف ، ولا تخرج ، لأجلها ، الأشياء عن أصولها ؛ وقريب من هذا الوجه : جواز قصر الممدود في الشعر ، دون مدّ المقصور ، إلّا نادرا ، ومنعوا روايتهم بأن قالوا : الرواية يفوقان شيخى.

والانصاف : ان الرواية لو ثبتت عن ثقة لم يجز ردّها وان ثبتت عندك رواية أخرى.

قوله : «سلاسلا» صرف ليناسب المنصرف الذي يليه ، أي (أَغْلالاً) فهو كقولهم : هنأني الشيء ومرأني ، والأصل : امرأني.

قوله : (قَوارِيرَا) يعني إذا قرئ منونا ، لا إذا وقف عليه بالألف لأن الألف حينئذ ، كما تحتمل أن تكون بدلا من التنوين ، تحتمل أن تكون للاطلاق ، كما في قوله تعالى : «الظُّنُونَا و السَّبِيلَا و الرَّسُولَا» (١) ، فلا يكون نصّا فيما استشهد له من صرف غير المنصرف ؛ وانما صرف ليناسب أواخر الآي في هذه السورة ، لأن أواخر الآي كالقوافي ، يعتبر توافقها وتجانسها ، وكذا كل كلام مسجّع ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسّلام : «خير المال سكة مأبورة وفرس مأمورة» أي مؤمّرة ، يعني كثيرة النتاج ، وقال تعالى : (وَالْفَجْرِ)(٢) ، ثم قال : (يَسْرِ)(٣) ويمال (سجا)(٤) لموافقة : (قلى)(٥).

ما يقوم مقام علتين

قال ابن الحاجب :

«وما يقوم مقامهما : الجمع ، وألفا التأنيث»

__________________

(١) من الآيات ١٠ ، ٦٦ ، ٦٧ من سورة الأحزاب.

(٢) (٣) الآيتان ١ ، ٤ من سورة الفجر.

(٤) (٥) الآيتان ٢ ، ٣ من سورة الضحى.

١٠٨

قال الرضى :

اعلم أن الأكثرين على أن قيام الجمع الأقصى مقام سببين وقوته ، لكونه لا نظير له في الآحاد العربية.

أما نحو : ثمان ، ورباع ، أي الذي ألقى رباعيته ، ورجل شتاح أي طويل ، وحمار حزاب ، أي غليظ قصير ، فشواذ.

وأما نحو : الترامي والتغازي ، فالأصل فيه ضم ما قبل الآخر ، لكنه كسر لأجل الياء ، وأما نحو : هوازن وشراحيل ، علمين فمنقول عن الجمع وسيجيء حكمه ، وأما يمان وشآم (١) ، فالألف فيهما عوض من احدى ياءى النسب ، فهذا الوزن عارض لم يعتدّ به ، وذلك لأنهما صارا إلى هذا الوزن بسبب احدى ياءي النسب ، والألف الذي هو بدل من الأخرى ، وياء النسب عارضة ، لا يعتدّ بها في الوزن ، نحو : جماليّ وكماليّ في المنسوب إلى : جمال ، وكمال.

وكذا : تهام بفتح التاء في المنسوب إلى التّهم بمعنى «تهامة» قال :

١٨ ـ أرقني الليلة برق بالتّهم

يا لك برقا من يشقه لا يلم (٢)

قال سيبويه : منهم من يقول يمانيّ وشآميّ بتشديد الياء وهو قليل ، ويجيء وجهه في التصريف ، ان شاء الله تعالى (٣).

وانما لم تعدّ ياء النسب عارضة في : قماريّ ، وكراسيّ ، وعواريّ ، وبخاتي ،

__________________

(١) في النسب إلى اليمن والشام.

(٢) بعد أن شرحه البغدادي قال ان ابن الأعرابي أورده في نوادره غير منسوب لأحد وأورد بعده.

ما زال يسري منجدا حتى عتم

كأن في ريّقه إذا ابتسم

بلقاء تنفي الخيل عن طفل متمّ

(٣) في باب النسب من شرحه على الشافية.

١٠٩

ودباسيّ (١) ، ونحوها ، لأنها ثبتت في آحادها ، وصيغت هذه الجموع على اعتبار تلك الياءات في الآحاد ، وليس ذلك ، أي اعتداد الياء في المفرد وصوغ الجمع عليه ، مطردا ، ألا ترى أنك لا تقول في جمع عجميّ : عجاميّ ، وان كان ياؤه للوحدة كما في بختيّ.

وقيل : ان «ثمانيا» مثل «يمان» : الألف والياء للنسب إلى الثّمن الذي هو جزء الثمانية.

وفيه نظر ؛ إذ لا معنى للنسب في «ثمان» فانه بالإضافة إلى «ثمن» كالأربع إلى الربع ، والخمس إلى الخمس ، ولا معنى لنسب هذين العددين إلى جزأيهما ، وتقدير النسب في الرّباعيّ أنسب ، فيكون منسوبا إلى الرّباعية ، وهي السّنّ.

ويجوز أن يقال في الثّماني ، انه منسوب إلى الثمانية ، أي مجرّد العدد ، لأن الثماني (٢) ، لا يستعمل إلا في المعدود ، والثمانية في الأصل : العدد ، لا المعدود ، كما تقول في صريح العدد : ستة ضعف ثلاثة ، ولا تقول : ست ضعف ثلاث ، وقد يجيء تحقيقه في باب العدد ؛ فالألف فيهما ، اذن ، غير الألف في المنسوب إليه تقديرا ، لكونه بدلا من احدى ياءي النسب ، وكذلك الياء غير الياء ، كما قيل في : هجان وفلك.

وقد جاء «ثمان» في الشعر غير منصرف شاذا ، قال الشاعر :

١٩ ـ يحدو ثماني مولعا بلقاحها

حتى هممن بزيفة الارتاج (٣)

__________________

(١) القمري نوع من اليمام. والقمرة لون بين البياض والسواد. والعواريّ جمع عارية أي ما يستعار. وفي الصحاح كأنها منسوبة إلى العار. والدبسيّ طائر أدكن.

(٢) أي بدون تاء ، ومع التاء يستعمل إذا كان المعدود مذكرا. ولذلك قال ان ثمانية بالثاء في الأصل للمعدود.

(٣) من قصيدة لابن ميادة واسمه الرمّاح بن يزيد من بني مرة. وميادة اسم أمّه ، عاش في عهد بني أمية وأدرك العباسيين. وقبل البيت :

وكأن أصل رحالها وحبالها

علّقن فوق قويرح شحاّج

يصف ناقته فشبهها في سرعتها بالقويرح الشحاج أي حمار الوحش. والقويرح الذي انتهت اسنانه من الظهور.

والشحاج من أسماء حمار الوحش وهو بدل أو عطف بيان من قويرح والمراد بالثماني أتن الحمار أي الأناث.

يريد أنه يسوقها أمامه مولعا بلقاحها لتحمل وهي لا تمكنه فتهرب فهو يجري سريعا خلفها. حتى أوشكت الأتن أن تسقط ما ارتجت وأغلقت عليه أرحامها لأنهن كن حوامل.

١١٠

وهو على التوهم ؛ لما رأى فيه معنى الجمع ، ولفظه يشبه لفظ الجمع ظنه جمعا ، أمّا سراويل فأعجميّ في الأشهر ، وقد قيّدنا الآحاد بالعربية ؛ أو عربي مفرد شاذ ، أو جمع تقديرا ، كما يجيء ، وأما نحو : أكلب وأجمال ، فانهما ، وان لم يأت لهما نظير في الآحاد ، الا أن كونهما جمعي قلة ، وحكم جمع القلة حكم الآحاد ، بدليل تصغيره على لفظه : فتّ في عضد جمعيتهما مع أنه نسب إلى سيبويه : أن أفعالا مفرد ، ولذا ، قال تعالى : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ)(١) ، والضمير للأنعام ، وجاز وصف المفرد به نحو : برمة أعشار ، وثوب أسمال ، ونطفة أمشاج ، ولم يوصف المفرد بغير هذا الوزن من الجموع.

ولا يصح الاعتذار بمجيء «أفعل» في الواحد ، نحو : «أدرج» في اسم موضع ، لكونه منقولا من الجمع كمدائن ، ولا بآجر ، وآنك (٢) ، لأنهما أعجميان ، ولا بأبلم (٣) ، لأنها لغة رديئة شاذة ، والفصيح ضم الهمزة ، ولا بأشدّ ، لأنه جمع شدة على غير القياس ، أو هو جمع لا واحد له بدليل قوله :

٢٠ ـ بلغتها واجتمعت أشدّي (٤)

فأنث الفعل.

وقال بعضهم : انما قوي حتى قام مقام السببين ، لكونه نهاية جمع التكسير ، أي يجمع الجمع إلى أن ينتهي إلى هذا الوزن فيرتدع ، ولهذا سمي بالجمع الأقصى ، نحو : كلب ، وأكلب ، وأكالب ، ونعم وأنعام وأناعيم ، وأما قوله عليه الصلاة والسّلام : «انكن صواحبات يوسف» ، وقوله :

__________________

(١) الآية : ٦٦ من سورة النحل.

(٢) الآنك : من معانيه : الرصاص أو الذائب منه.

(٣) الأبلم : خوص شجر الدوم.

(٤) روي مجتمع الأشد فلا شاهد فيه. وهو من رجز لأبي نخيلة السعدي في مدح هشام بن عبد الملك. وبلغتها بفتح التاء خطاب للمدوح. ومن هنا قال البغدادي إنه لا يصلح للاستشهاد ثم قال : ولعل ما أورده الشارح من أرجوزة أخرى. أي ليتم له الاستشهاد به.

١١١

٢١ ـ جذب الصّراريّين بالكرور (١)

جمع صرّاء ، جمع صار بمعنى الملّاح ، فهما جمعا سلامة ، ونحن قلنا : نهاية جمع التكسير.

وقيل : لما لم يكن له في الآحاد نظير ، أشبه الأعجمي الذي لا نظير له في كلام العرب ، ففيه الجمع وشبه العجمة ، وعلى هذا ففيه سببان ، لا سبب كالسببين.

وقال الجزولي (٢) : فيه الجمع وعدم النظير في الآحاد ، وعدم النظير فيها عنده ، سبب مستقل ، لا يحتاج إلى الجمعية ، كما يأتي في سراويل ففيه عنده ، أيضا سببان والأسباب عنده أكثر من التسعة.

وقال المصنف : منع صرف مثل هذا الجمع لتكرر الجمع حقيقة ، كأكالب ، أو كونه على وزن جمع الجمع كمساجد ، فلا أثر عنده لكونه أقصى جموع التكسير.

وأما قيام ألفي التأنيث ، أعني الممدودة والمقصورة مقام سببين فللزومهما الكلمة وبناء الكلمة عليهما ، بخلاف تاء التأنيث فان بناءها على العروض وان اتفق في بعض الأسماء لزومها كعنصوة (٣) ، وقمحدوة ، وحجارة ، وخزاية (٤) ، وغيرها ، كما يجيء في باب التأنيث.

__________________

(١) من أرجوزة طويلة للعجاج وقبله : لأيا يثانيها من الجئور : جذب الصراريين ... يثانيها من الثني وهو العطف اي يميلها ، وروي ينائيها من النأي أي يبعدها والجؤور مصدر سماعي بمعنى الجور وهو العدول عن القصد.

والكرور الحبال. وجذب بالضم فاعل ينائيها. يقول في وصف سفينته إنه لا يبعدها عن الميل والانحراف إلا جذب الصراريين بالحبال بعد لأي. وهي صورة معروفة إلى الآن في تسيير السفن.

(٢) الجزولي بضم الجيم نسبة إلى جزولة بضم الجيم والزاي احدى قبائل البربر بالمغرب. وهو من علماء القرن السادس اشتهر بمقدمة في النحو سماها الجزولية اهتم بها العلماء قال عنها في كشف الظنون أنها تسمى بالقانون : واسم الجزولي عيسى وكنيته أبو موسى توفي سنة ٦٠٥ ه‍.

(٣) العنصوة مضمومة الصاد مثله العين : القليل المتفرق من النبت. والقمحدوة احدى الرباعيات أي الأسنان.

(٤) مصدر خزي بمعنى استحيا.

١١٢

العدل

صوره في الكلام ووجه منعه الصرف

قال ابن الحاجب :

«فالعدل خروجه عن صيغته الأصلية ، تحقيقا ، كثلاث»

«ومثلث ، وأخر ، وجمع ، أو تقديرا ، كعمر ، وباب قطام»

«في تميم».

قال الرضى :

العدل اخراج الاسم عن صيغته الأصلية بغير القلب ، لا للتخفيف ، ولا للالحاق ، ولا لمعنى ، فقولنا بغير القلب ، ليخرج نحو : أيس ، في يئس ، وقولنا : لا للتخفيف احتراز عن مقام ، ومقول ، وفخذ ، وعنق ، وقولنا ولا للالحاق ، ليخرج نحو كوثر ، وقولنا ولا لمعنى ليخرج نحو : رجيل ورجال ، قوله : «خروجه» أي خروج الاسم ، ولو قال إخراجه لكان أوفق لمعنى العدل ، وهو الصرف ، يقال اسم معدول أي مصروف عن بنيته ، والعدول : الانصراف والخروج.

قوله : «عن صيغته الأصلية» يخرج عنه «أخر» ان قلنا انه معدول عن «الآخر» ، وسحر عند من قال انه معدول غير منصرف ، وأمس عند تميم ، اذهما معدولان عنّ السحر والأمس ، واللام ليست من صيغة الكلمة ، لأن الكلمة لم تصغ عليها ، الا أن نقول :

١١٣

كأنها من صيغة الكلمة وبنيتها لشدة امتزاجها بها.

قوله «تحقيقا» نصب على المصدر ، لأن الخروج ، اما خروج تحقيق أي خروج محقق ، كرجل سوء بمعنى رجل سيّئ ، أو خروج تقدير ، أي خروج مقدر.

ويعني بالعدل المحقق : ما يتحقق حاله بدليل يدل عليه غير كون الاسم غير منصرف ، بحيث لو وجدناه ، أيضا ، منصرفا ، لكان هناك طريق إلى معرفة كونه معدولا ، بخلاف العدل المقدر ، فانه الذي يصار إليه لضرورة وجدان الاسم غير منصرف وتعذر سبب آخر غير العدل ، فان «عمر» مثلا ، لو وجدناه منصرفا ، لم نحكم قط بعد له عن عامر ، بل كان كأدد.

وأما ثلاث ومثلث ، فقد قام دليل على أنهما معدولان عن «ثلاثة ثلاثة» وذلك أنا وجدنا ثلاث ، وثلاثة ثلاثة ، بمعنى واحد ، وفائدتهما تقسيم أمر ذي أجزاء على هذا العدد المعيّن ، ولفظ المقسوم عليه في غير لفظ العدد مكرر على الاطراد في كلام العرب ، نحو قرأت الكتاب جزءا جزءا ، وجاءني القوم رجلا رجلا ، وأبصرت العراق بلدا بلدا ، فكان القياس في باب العدد ، أيضا ، التكرير ، عملا بالاستقراء ، والحاقا للفرد المتنازع فيه بالأعم الأغلب ، فلما وجد «ثلاث» غير مكرر لفظا ، حكم بأن أصله لفظ مكرر ، ولم يأت لفظ مكرر بمعنى «ثلاث» الا «ثلاثة ثلاثة» فقيل انه أصله.

وقد جاء فعال ، ومفعل في باب العدد ، من واحد إلى أربعة اتفاقا وجاء فعال من عشرة في قول الكميت :

٢٢ ـ ولم يستريثوك حتى رمي

ت فوق الرجال خصالا عشارا (١)

والمبرد ، والكوفيون يقيسون عليها إلى التسعة ، نحو : خماس ومخمس ، وسداس

__________________

(١) البيت من شعر للكميت بن زيد الأسدي يمدح به أبان بن الوليد بن عبد الملك ، وقبله :

رجوك ولم يبلغ العمر من

ك عشرا ولا نبت فيك أثغارا

لأدنى خسا أو زكا من سنيك

إلى أربع فبقوك انفطارا

١١٤

ومسدس ، والسماع مفقود.

بلى ، يستعمل على وزن فعال من واحد إلى عشرة مع يائي النسب ، نحو الخماسيّ والسداسيّ والسباعيّ والثمانيّ والتساعيّ.

وعند سيبويه : أن منع الصرف في هذا للعدل والوصف.

فان قيل : الوصف في هذا المكرر عارض كعروضه في «أربع» في نحو : نسوة أربع ، فكيف أثّر فيه ، ولم يؤثّر في أربع؟

قلت : هذا التركيب المعدول ، لم يوضع الاوصفا ، ولم يستعمل الا مع اعتبار معنى الوصف فيه ، ووضع المعدول غير وضع المعدول عنه.

والفراء يجيز صرف هذا المعدول إذا لم يجر على الموصوف ، وليس بوجه إذ الموضوع على الوصفية ، كأحمر ، يؤثر فيه الوصف ، وان لم يتبع الموصوف.

وقال ابن السرّاج (١) انما لم ينصرف لكون «مثنى» مثلا معدولا عن لفظ اثنين ، وعن معناه أيضا ، لأنه عدل عن معناه مرة واحدة إلى معنى : اثنين اثنين ، ففيه عدل لفظي وعدل معنوي.

وقيل : ان فيه عدلا مكررا من حيث اللفظ ، لأن أصله كان : اثنين مرتين ، فجعل مرة واحدة ، ثم غيّر لفظ اثنين ، إلى لفظ مثنى.

وقال الكوفيون ، وابن كيسان (٢) : ان فيه العدل والتعريف ، كما في عمر ، إذ لا

__________________

ـ وبعدهما الشاهد يقول : تبينوا فيك السؤدد لسنة أو سنتين.

(لأدنى خسا أو زكا) والخسا الفرد والزكا الزوج وأقلهما الواحد والاثنان. وقوله ولا نبت فيك ، أي ولم يبلغ نبت فمك أسنانك أثغارا والاثغار سقوط الأسنان الرواضع. وقوله بقوك أي انتظروك حتى تكبر. كأنه يقول أبقوك.

(١) تقدم ذكره ص ٦٧ من هذا الجزء

(٢) أبو الحسن محمد بن ابراهيم بن كيان. من مشاهير النحاة الذين جمعوا في معارفهم بين مذهبي البصرة والكوفة ومهدوا لظهور المذهب البغدادي. أخذ عن المبرد وعن ثعلب توفي سنة ٢٩٩ ه‍.

١١٥

يدخله اللام ، وإذا أجرى على النكرة فمحمول على البدل.

ولا دليل على ما قالوا ؛ ولو كان معرفة ، ولا شك أن فيه. معنى الوصف لجرى على المعارف ، وكيف يكون معرفة ، وهو يقع حالا ، نحو جاءني القوم مثنى؟.

وأما «أخر» فانه جمع أخرى التي هي مؤنث آخر ، وهو أفعل التفضيل بشهادة الصرف (١) ، نحو : آخر ، آخران ، آخرون وأواخر ، وأخرى ، أخريان أخريات وأخر ، مثل : الأفضل ، الأفضلان ، الأفضلون ، والأفاضل ، والفضلى ، الفضليان ، الفضليات والفضل ، فمعنى «آخر» في الأصل : أشد تأخرا ، وكان ، في الأصل ، معنى جاءني زيد ورجل آخر ؛ أشد تأخرا من زيد في معنى من المعاني ثم نقل إلى معنى «غير» فمعنى : رجل آخر : رجل غير زيد ، ولا يستعمل إلا فيما هو من جنس المذكور أولا. فلا يقال : جاءني زيد وحمار آخر ، ولا : وامرأة أخرى.

وتستعمل «أخريات» في المعنى الأول ، ولا تستعمل الا مع اللام أو الإضافة ، كما هو حقها ، نحو : جاءني فلان في أخريات الناس ، أي في الجماعات المتأخرة ، وكذا : الأواخر.

فلما خرج آخر وسائر تصاريفه عن معنى التفضيل ، استعملت من دون لوازم أفعل التفضيل أعني «من» والاضافة ، واللام ؛ وطوبق بالمجرد عن اللام والإضافة ما هو له ، نحو : رجلان آخران ، ورجال آخرون ، وامرأة أخرى ، وامرأتان أخريان ، ونسوة أخر ، قيل : الدليل على عدل أخر ، أنه لو كان مع «من» المقدرة كما في : الله أكبر ، للزم أن يقال : بنسوة آخر ، على وزن أفعل ، لأن أفعل التفضيل ما دام بمن ظاهرة أو مقدرة لا يجوز مطابقته لمن هوله ، بل يجب افراده ، ولا يجوز أن يكون بتقدير الإضافة ، لأن المضاف إليه لا يحذف الا مع بناء المضاف ، كما في الغايات ، أو مع سادّ مسدّ المضاف إليه وهو التنوين كما في «حينئذ» ، و «كلّا آتينا (٢)» أو ، مع دلالة ما أضيف إليه تابع

__________________

(١) أي بدليل تصرف الكلمة في تأنيثها وتثنيتها وجمعها كما مثل الشارح.

(٢) من الآية ٧٩ من سورة الأنبياء.

١١٦

ذلك المضاف نحو قوله :

٢٣ ـ إلا علالة أو بدا

هة سابح. نهد الجزارة (١)

أخذا من استقراء كلامهم فلم يبق الا أن يكون أصله اللام.

ولمانع أن يمنع الحصر فيما ذكر من الوجوه بما ذهب إليه الخليل في أجمع وأخواته من كونها معرّفات بتقدير الإضافة مع عريها من تلك الوجوه ، فالأولى أن يقال في امتناع كون أخر بتقدير الإضافة ، أن المضاف إليه لا يحذف إلا إذا جاز اظهاره ، ولا يجوز اظهاره ههنا.

ومنع أبو علي (٢) من كون «أخر» معدولا عن اللام ، استدلالا بأنه لو كان كذا لوجب كونه معرفة ، كأمس وسحر ، المعدولين عن ذي اللام ، وكان لا يقع صفة للنكرات كما في قوله تعالى : (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(٣).

وأجيب بأنه معدول عن ذي اللام لفظا ومعنى ، أي عدل عن التعريف إلى التنكير ، ومن أين له أنه لا يجوز تخالف المعدول والمعدول عنه تعريفا وتنكيرا : ولو كان معنى اللام في المعدول عن ذي اللام واجبا ، لوجب بناء «سحر» كما ذهب إليه بعضهم (٤) لتضمنه معنى الحرف ، فتعريف سحر ليس لكونه معدولا عن ذي اللام ، بل لكونه علما.

__________________

(١) من أبيات للأعشى ميمون بن قيس يخاطب بها شيبان بن شهاب وكان بينهما مهاجاة وزعم شيبان أن قوم الأعشى لا يستطيعون غزوهم فقال الأعشى :

وهناك يكذب ظنكم

أن لا اجتماع ولا زيارة

 .. وقوله الاعلالة ... العلالة بضم العين بقية جري الفرس والبداهة أول جريه وهو استثناء منقطع من قوله :

أن لا اجتماع ولا زيارة

والسابح الفرس ونهد الجزارة بضم الجيم أي مرتفع الرأس والرجلين.

(٢) تقدم ذكر أبي علي الفارسي ص ٧٩ من هذا الجزء وتكرر ذكره بعد ذلك.

(٣) من الآية ١٨٤ من سورة البقرة. وتكررت في الآية التي بعدها.

(٤) هو صدر الأفاضل ناصر بن علي المطرزي من خوارزم أخذ عن الزمخشري وعرف بالأدب والشعر وله آراء في النحو. حكى عنه القول بالبناء ابن هشام في أوضح المسالك ـ توفي سنة ٦١٠ ه‍.

١١٧

وذهب ابن جني (١) ، إلى أن قياس «أخر» لما تجرد من اللام والإضافة أن يستعمل بمن ، ويفرد لفظه في جميع الأحوال ، فأخر ، في قولك بنسوة أخر ، معدول عن : آخر من ..

ويلزم على هذا القول أن يكون : آخران ، وآخرون ، وأواخر ، وأخرى وأخريات ، معدولات ، أيضا ، عن : آخر من .. الا أن أخرى وأواخر غنيان عن اعتبار العدل بألف التأنيث والجمعية ؛ والمثنى والمجموع بالواو والنون لا يتبيّن فيهما حكم منع الصرف في موضع ، نحو : أحمران وأجمعون كما مرّ ، وأما أخريات فاستعمالها باللام والإضافة كما هو الأصل ، ولو لم يكن أيضا لم يبن فيه أثر منع الصرف لكونه كعرفات.

هذا ، وفي ادعاء كون ألفاظ المؤنث والمثنيين والمجموعين ، معدولة عن لفظ الواحد المذكر : بعد ، فالأولى ألّا يدّعى كون أخر وتصاريفه معدولة عن أحد لوازم أفعل التفضيل على التعيين ، بل نقول هي معدولة عما كان حقها ولازمها في الأصل ، أعني أحد الأشياء الثلاثة مطلقا.

وانما عدل عنه لتعريه عن معنى أفعل التفضيل الذي هو المستلزم لأحدها كما يجيء في باب أفعل التفضيل ، وذلك لأنه صار بمعنى «غير» كما ذكرنا ، فعلى هذا لا يفسّر العدل بما فسره به المصنف ، أعني خروجه عن صيغته الأصلية ، بل نقول العدل اخراج اللفظ ، كما ذكرنا (٢) ، عما الأصل أن يكون معه من الصيغة ، أو استلزام كلمة أخرى ، فيدخل فيه سحر وأمس ، ونحو : ضحى ، وعشية ، ومساء ، وبكر ، معيّنات ، لأن الأصل في تخصيص اللفظ المطلق بشيء معيّن مما كان يقع عليه وضعا أن يكون باللام والإضافة.

ويدخل فيه الغايات أيضا نحو قبل وبعد ، لقطعهما عن المضاف إليه الذي كان يقتضيه

__________________

(١) ابن جني هو العالم المشهور : أبو الفتح عثمان بن جني. ولد بالموصل ونبغ صغيرا ولزم أبا علي الفارسي وأخذ عنه كثيرا حتى إنه خلفه بعد وفاته ومن أبرز آثاره العلمية : الخصائص. وسر الصناعة والمحتسب. توفي سنة ٣٩٢ ه

(٢) في أول هذا الفصل.

١١٨

وضعا ، فعلى هذا ، إذا كان المعدول معربا ، وانضم إلى عدله سبب آخر ، امتنع صرفه ، فلم يمنع ضحى وأخواته لعدم اعتبار العلمية فيها كما اعتبرت في سحر ، على ما يجيء.

وأما جمع ، ومثله أخواته من : كتع وبصع وبتع ، فالأكثرون على أنه معدول عن جمع ، لأنه جمع جمعاء وقياس جمع فعلاء أفعل : فعل ، كحمراء وحمر.

قال أبو علي : ليس قياس كل فعلاء أن يجمع على فعل ، بل (١) قياس مؤنث أفعل المجموع على فعل أيضا ، واجمع مجموع على «أجمعون» لا «جمع».

وقوله :

٢٤ ـ فما وجدت نساء بني نزار

حلائل أسودين وأحمرينا (٢)

شاذ ، كما يجيء في باب الجمع ، ولو كان جمع معدولا عن جمع ، وفعل يصلح لجمع المذكر والمؤنث ، لجاز : جاءني الرجال جمع ، قال (٣). والحق أن جمعاء : اسم لا صفة وقياس جمع فعلاء اسما : فعالى في التكسير ، وفعلاوات في التصحيح ، كصحارى وصحراوات ، فجمع معدول عن أحدهما.

ويرد عليه أن جمعاء لو كان اسما لكان أجمع أيضا ، كذلك ، فجمعه ، إذن ، على أجمعون ، شاذ ، إذ لا يجمع بالواو والنون الا العلم أو الوصف ، كما يجيء في باب الجمع.

وأما السبب الآخر فيه ، وفي «أجمع» ، فعن الخليل أنه تعريف إضافي وكذا في أجمع (٤) ، لأن الأصل في جاءني القوم أجمعون : أجمعهم أي جميعهم وقرأت الكتاب أجمع : أي جميعه.

__________________

(١) أي بل هو قياس لفعلاء الذي هو مؤنث أفعل المجموع على فعل أيضا.

(٢) من قصيدة للأعور الكلبي : حكيم بن عياش هجا بها مضرا وقوم الكميت وكان ذلك سببا في رد الكميت عليه بقصيدة طويلة تقدم منها الشاهد السادس عشر في هذا الجزء.

(٣) قال : أي ابو علي الفارسي.

(٤) لا حاجة إلى قوله : وكذا في اجمع لأن الكلام عنه وعن جمع في قوله وأما السبب فيه (أي في جمع) وفي اجمع.

١١٩

قيل : هو ضعيف ، لأن تعريف الاضافة غير معتبر في منع الصرف : وله (١) أن يقول : انما لم يعتبر ذلك مع وجود المضاف إليه ، لأن حكم منع الصرف لا يتبيّن فيه ، كما يجيء ، وأما مع حذفه ، فما المانع من اعتباره؟

وقال بعضهم (٢) : فيه التعريف الوضعي كالأعلام ، أي وضع تأكيدا للمعارف بلا علامة التعريف ، والمؤكد لا يكون إلا معرفة ، إلا ما جوّز الكوفيون من نحو قوله :

٢٥ ـ قد صرّت البكرة يوما أجمعا (٣)

مما كان المؤكد فيه محدودا ، ففيهما على هذا القول شبه العلمية. ويرد عليه : صباحا ، ومساء ، وبكرا ، وضحى ، وعتمة ، وضحوة إذا كانت معينات ، فإنها ، إذن ، معارف بلا علامة مخصصة بعد العموم ، كالأعلام الغالبة نحو : النجم ، والصّعق ، ففيها العدل عن اللام مع شبه العلمية مع أن جميعها منصرفة ، وأيضا ، شبه العلم لم يثبت جمعه بالواو والنون بل المجموع هذا الجمع إما العلم ، وإما الوصف.

وقال المصنف : فيه وفي أجمع مع العدل : الوصف الأصلي ، وان صارا بالغلبة في باب التأكيد ، فهما عنده ، كأسود وأرقم ، ونحوهما.

وهذا قريب ، لكن بقي الكلام في أن أجمع في الأصل من أي الصفات هو؟ أمن باب أحمر حمراء ، أم من باب الأفضل والفضلى؟ لا يجوز أن يكون من باب أحمر ، لجمعه على «أجمعون» ، وجمعه بالنظر إلى أصله : «فعل» ، وبالنظر إلى نقله إلى الأسماء الغالبة : أفاعل ، كأساود ، وأداهم ، قال :

٢٦ ـ أتاني وعيد الحوص من آل جعفر

فيا عبد عمرو ، لو نهيت الأحاوصا (٤)

__________________

(١) أي للخليل ، وهو دفاع من الرضى عن رأي الخليل.

(٢) نسبب هذا الرأي لابن مالك.

(٣) شاهد مجهول القائل حتى قال بعض البصريين أنه مصنوع. ونقل البغدادي عن العيني في الشواهد الكبرى أن صدره : انا إذا خطافنا تقعقعا .. وردّ عليه بأن هذا لا يصلح للارتباط بالشاهد.

(٤) من شعر الأعشى قيس مما قاله متصلا بتفضيل عامر بن الطفيل على علقمة بن علاثة الصحابي رضي الله عنه ..

١٢٠