شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤

الفاعل وحده ، فلم يثبت إلا عند الكسائي ، كما يجيء في باب التنازع.

وإنما حكم بعد «نعم» بحذف الفعل والفاعل معا ، لأن «نعم» حرف لا يفيد معناه الإفرادي إلا بانضمامه إلى غيره كما سبق في حدّ الاسم ، وههنا أفاد المعنى الكلامي ، فلا بد من تقدير الكلام المدلول عليه بقرينة الكلام الذي صدقه «نعم» وذلك الكلام في مثالنا جملة فعلية ، فيقدر بعد «نعم» جملة فعلية ، وإذا كان السؤال بجملة إسمية ، كان المقدر بعد «نعم» اسمية ، كما يقال : أزيد قائم فتقول : نعم ، أي نعم زيد قائم.

وحذف الجملتين بعد حرف التصديق جائز لا واجب ، ولذا قال : وقد يحذفان.

التنازع

حقيقته وصور وقوعه

قال ابن الحاجب :

«وإذا تنازع الفعلان ظاهرا بعدهما ، فقد يكون في الفاعلية»

«مثل : ضربني وأكرمني زيد ، وفي المفعولية ، مثل ضربت»

«وأكرمت زيدا ، وفي الفاعلية والمفعولية مختلفين».

قال الرضى :

اعلم أنه لو قال : الفعلان فصاعدا ، أو شبههما ليشمل اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة ، نحو : أنا قاتل وضارب زيدا وليشمل. أيضا ، أكثر من عاملين نحو : ضربت وأهنت وأكرمت زيدا ، لكان أعمّ ، لكنه اقتصر على الأصل وهو الفعل ، وعلى أول المتعددات وهو الاثنان.

قوله : «ظاهرا بعدهما» ، إنما قال ذلك لأن بعض المضمرات لا يصح تنازعه ، وذلك لأن المضمر المتنازع ، لا يخلو من أن يكون متصلا ، أو منفصلا ، ويستحيل التنازع

٢٠١

في المضمر المتصل بالعامل الأخير مرفوعا ومنصوبا ، لأن التنازع إنما يكون حيث يمكن أن يعمل في المتنازع فيه وهو في مكانه : كلّ واحد من المتنازعين لو خلّاه الآخر ، والعامل الأول يستحيل عمله في المضمر المتصل بالعامل الأخير ، لأن المتصل يجب اتصاله بعامله ، أو بما هو كجزئه ، ولا يتصل بعامل آخر ،

وأما المنفصل ، فإن كان مرفوعا ، نحو : ما ضرب وما أكرم إلا أنا ، وكذا الظاهر الواقع هذا الموقع ، نحو ما قام وما قعد إلا زيد ، فلا يجوز أن يكون أيضا من باب التنازع على الوجه الذي التزمه البصريون وهو أن الأول إذا توجّه إلى المتنازع (١) بالفاعلية وألغيته ، فلا بد أن يكون في العامل الملغى ضمير موافق للمتنازع ، وإنما لم يجز أن يكون منه إذ لو كان الملغى ههنا هو الأول وأضمرت فيه ضميرا مطابقا للمتنازع ، فإن كان بدون «إلا» صار هكذا : ما ضربت ، وما أكرم إلا أنا ، وما قام. أي هو ، أعني زيدا ، وما قعد إلا زيد ، فيكون «إلا أنا» مستثنى من المتعدد المقدر في : ما أكرم ، و : «الّا زيد» مستثنى من المتعدد المقدر في : ما قعد ، ولا يجوز أن يكونا مستثنيين من : ما ضربت ، وما قام ، لأنه لا متعدد فيهما ، لا ظاهرا ولا مقدرا ، فيصير الضرب والقيام منفيين عن المتنازع بعد ما كانا مثبتين له ، وشرط باب التنازع ألّا يختلف المعنى بالإضمار في الملغى.

وإن كان الاضمار في الملغى مع «الا» قلت في الأول ما ضرب إلا أنا وما أكرم إلا أنا ، إذ لا يمكن اتصال الضمير مع الفصل بإلا ، فلا يكون من باب التنازع ، لأن الملغى في باب التنازع إما أن يكون خاليا من العمل في المتنازع وفي نائبه أعني الضمير ، كضربت ، وأكرمني زيد ، وكذا ضرب وأكرمت هند ، عند الكسائي (٢) ، أو يكون فيه نائب عن المتنازع أعني الضمير في نحو : ضربا وأكرمت الزيدين ، ليظهر كونه ملغى وكون الآخر هو المعمل ، ولا يظهر في «إلا أنا» الذي بعد ما ضرب ، نيابة عن «إلا

__________________

(١) أي المتنازع فيه. والرضى يعبر عنه في هذا البحث كثيرا بالمتنازع فقط بصيغة اسم المفعول. وهو تعبير سليم لأن مادة تنازع متعدية بنفسها. وقد يقول المتنازع فيه.

(٢) يعني بحذف الفاعل من الأول وعدم اضماره وسيأتي.

٢٠٢

أنا» الذي بعد : ما أكرم ، كما ظهرت في ألف ضربا نيابة عن الزيدين في قولك : ضربا وأكرمت الزيدين ، فلا يظهر كون : ما ضرب ملغى ، وكون : ما أكرم معملا ، إذ لكل منهما من الفاعل مثل ما للآخر على السواء ، وكان يجب أن تقول في الثاني : ما قام إلا هو ، وما قعد إلا زيد ، ولا يستعمل مثله في كلامهم ، بل المستعمل : ما قام وما قعد إلا زيد.

ويجوز أن يكون هذا من باب التنازع عند الكسائي ، ويكون الفاعل محذوفا من الأول مع إعماله للثاني ، كما هو مذهبه على ما يجيء. ويلزم البصريين أيضا في هذا المقام متابعة الكسائي في مذهبه ، لأنهم يوافقونه ههنا في أن هذا من باب الحذف لا من باب الإضمار ، لأنهم حذفوا الفاعل مع «الا» لدلالة الثاني عليه ، لأنه هو.

وكل ما ذكرنا على إعمال الأول في المنفصل المرفوع يجيء مثله في إعمال الثاني فيه.

وإن كان المتنازع فيه منفصلا منصوبا ، نحو ما ضربت وما أكرمت إلا إياك ، جاز أن يكون من باب التنازع ، وتكون قد حذفت المفعول مع «إلا» من الأول مع إعمال الثاني ، أو من الثاني مع إعمال الأول ، إذ المفعول يجوز حذفه بخلاف الفاعل ، وكذا المجرور المنصوب المحل ، نحو قمت وقعدت بك.

فعلى هذا ، يجوز التنازع في المضمر المنفصل (١) والمجرور ، ولا سيما إذا تقدم ذلك الضمير على العاملين ، نحو : إياك ضربت وأكرمت.

فقول المصنف «ظاهرا» غير وارد مورده ، وكذا قوله «بعدهما» ، لا حاجة إليه ، إذ قد يتنازعان فيما هو قبلهما ، إذا كان منصوبا ، نحو : زيدا ضربت وقتلت ، وبك قمت وقعدت ، وإياك ضربت وأكرمت.

قوله : «فقد يكون في الفاعلية» ، أي يكون التنازع.

__________________

(١) أي غير المرفوع. وتقدم قريبا أنه لا يجوز التنازع في الضمير المنفصل المرفوع الواقع بعد الا.

٢٠٣

اعلم أن العاملين في التنازع على ضربين ، إذ هما إما متفقان أو مختلفان ، والمتفقان على ثلاثة أضرب ، لأنهما إما أن يتفقا في التنازع في الفاعلية حسب ، نحو : ضربني وأكرمني زيد ، أو في المفعولية حسب ، نحو : ضربت وأكرمت زيدا ، أو في الفاعلية والمفعولية معا. نحو : ضرب وأكرم زيد عمرا ، ولم يذكر المصنف هذا الثالث ، لأنه يتبيّن بالقسمين الأولين ، لأنهما إذا تنازعا في الفاعلية والمفعولية معا ، فقد تنازعا في الفاعلية وتنازعا أيضا في المفعولية.

والمختلفان على ضربين ، لأنه اما أن يطلب الأول الفاعلية ، والثاني المفعولية ، نحو : ضربني وأكرمت زيدا ، أو بالعكس نحو : ضربت وأكرمني زيد ، فقوله : «مختلفين» حال من الفعلين ، لأن معنى قوله : فقد يكون أي التنازع : فقد يتنازعان ، أي فقد يتنازع الفعلان في الفاعلية والمفعولية مختلفين ، واحترز بقوله مختلفين ، عن القسم الثالث من أقسام المتفقين لأنهما تنازعا في ذلك القسم في الفاعلية والمفعولية أيضا ، لكن متفقين في التنازع ، وإنما احترز عنه ، لأن هذا القسم كما ذكرنا يتبيّن من القسمين الأولين حتى لا يتكرر بعض الأقسام.

اختيار كل من

البصريين والكوفيين

قال ابن الحاجب :

«ويختار البصريون إعمال الثاني ، والكوفيون الأول».

قال الرضى :

أي البصريون يقولون : المختار إعمال الثاني مع تجويز إعمال الأول. وكذا الكوفيون : يختارون إعمال الأول مع تجويز إعمال الثاني.

وإنما اختار البصريون إعمال الثاني لأنه أقرب الطالبين إلى المطلوب فالأولى أن

٢٠٤

يستبدّ به دون الأبعد ، وأيضا لو أعملت الأول في العطف في نحو : قام وقعد زيد ، لفصلت بين العامل ومعموله بأجنبي بلا ضرورة ولعطفت على الشيء وقد بقيت منه بقية ، وكلاهما خلاف الأصل.

ولا تجيء هذه العلة في غير العطف نحو : جاءني لأكرمه زيد ، وكاد يخرج زيد.

وقال الكوفيون : إعمال الأول أولى لأنه أول الطالبين ، واحتياجه إلى ذلك المطلوب أقدم من احتياج الثاني ، ولا شك مع الاستقراء أن إعمال الثاني أكثر في كلامهم.

قوله : الأول ، أي إعمال الأول :

أثر إعمال الثاني

قال ابن الحاجب :

«فإن أعملت الثاني ، أضمرت الفاعل في الأول على وفق»

«الظاهر ، دون الحذف خلافا للكسائي ، وجاز ، خلافا».

«للفراء ، مثل ضربني وضربت زيدا ، وحذفت المفعول إن»

«استغنيت عنه وإلا أظهرت».

قال الرضى :

هذا بيان أنه إذا أعملت الثاني على ما هو اختيار البصريين فكيف يكون حال الأول ، فقال : الأول ، إذن ، إما أن يطلب المتنازع للفاعلية أو للمفعولية ، فإن كان الأول ، نحو : ضربني وأكرمت زيدا. فالبصريون يضمرون في الأول فاعلا مطابقا للاسم المتنازع ، في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث ، فتقول : ضربني وأكرمت زيدا. ضرباني وأكرمت الزيدين ، ضربوني وأكرمت الزيدين ، ضربتني وأكرمت هندا ، ضربتاني وأكرمت الهندين ، ضربنني وأكرمت الهندات.

والكسائي يحذف الفاعل من الأول حذرا من الإضمار قبل الذكر ، كما ذكرنا

٢٠٥

قبل ، فحاله كما قيل :

٤٧ ـ فكنت كالساعي إلى مثعب

موائلا من سبل الراعد (١)

وذلك لأن حذف الفاعل أشنع من الإضمار قبل الذكر ، لأنه قد جاء يعده ما يفسره في الجملة ، وإن لم يجيء لمحض التفسير ، كما جاء في نحو ربه رجلا. فهو يقول : ضربني وأكرمت زيدا أو الزيدين أو الزيدين أو هندا أو الهندين أو الهندات.

ونقل المصنف عن الفراء منع هذه المسألة أي إعمال الثاني إذا طلب الأول للفاعلية (٢) ، وقال إنه يوجب إعمال الأول في مثل هذا ، والنقل الصحيح عن الفراء في مثل هذا أن الثاني إن طلب أيضا للفاعلية نحو : ضرب وأكرم زيد جاز أن تعمل العاملين في المتنازع ، فيكون الاسم الواحد فاعلا للفعلين. لكن اجتماع المؤثرين التامّين على أثر واحد مدلول على فساده في الأصول. وهم يجرون عوامل النحو كالمؤثرات الحقيقية ، قال : وجاز أن تأتي بفاعل الأول ضميرا بعد المتنازع ، نحو ضربني وأكرمني زيد هو ، جئت بالمنفصل لتعذر المتصل بلزوم الإضمار قبل الذكر.

وإن طلب الثاني للمفعولية مع طلب الفعل الأول له لأجل الفاعلية. نحو ضربني وأكرمت زيدا هو ، تعيّن عنده الإتيان بالضمير بعد المتنازع كما رأيت ، كل هذا حذرا مما لزم البصريين والكسائي من الإضمار قبل الذكر ، أو حذف الفاعل.

قوله : «وحذفت المفعول إن استغنيت عنه وإلا أظهرت». يعني إذا أعملت الثاني

__________________

(١) ليس هذا شاهدا على قاعدة وإنما هو تمثيل لحال الكسائي حيث فر من الاضمار قبل الذكر فحذف الفاعل. فهو كقولهم وقع فيما فرّ منه لأنه هرب من محظور فوقع في محظور أشد. والمثعب مسيل الماء في الوادي. وسبل الراعد يريد به المطر. والساعي اللاجئ والذاهب والموائل الذي يتخذ موئلا أي ملجأ ، والبيت من شعر سعيد بن حسان كما قال العيني. وقبله :

قررت من معن وافلاسه

إلى اليزيديّ أبي واقد

ومعن هو ابن زائدة الجواد المشهور. واليزيدي أحد أبناء يزيد بن عبد الملك ويقصد أن كلا منهما لكرمه وكثرة انفاقه قد أفلس.

(٢) جرى الرضى على هذا الاستعمال كثيرا وهو تعدية طلب باللام.

٢٠٦

وطلب الأول للمفعولية فالواجب حذف المفعول. وافق البصريون ههنا الكسائي في حذف المفعول بخلاف الفاعل ، لأن الحذف هناك أيضا ، كان الوجه ، للزوم الإضمار قبل الذكر إلا أنه تعذر ، لأن الفاعل لا يحذف ، وفي المفعول : هذا المانع مرتفع لأنه فضلة يحذف في السعة ، فكيف مع مثل هذا المحوج ، أي الإضمار قبل الذكر ، قوله : «إن استغنيت عنه» في مثل ضربت وأكرمني زيد ، لا تقول : ضربته وأكرمني زيد.

وقال المالكي (١) : يجوز ذلك على قلة.

قوله : «والا أظهرت» يعني إن لم تستغن عن المفعول أظهرت ، وذلك لكونه أحد مفعولي باب «علمت» مع ذكر الآخر ، فإنه لا يجوز حذفه على ما هو المشهور عندهم ، وذلك لكون مضمون الفعلين هو المفعول الحقيقي ، لأن المعلوم في قولك علمت زيدا قائما : مصدر المفعول الثاني مضافا إلى الأول ، أي علمت قيام زيد ، بخلاف مفعولي «أعطيت» فإن كل واحد منهما مفعول به ، إذ زيد في قولك أعطيت زيدا درهما : معطى ، وكذا الدرهم ، ولا يجوز ، أيضا إضماره لكونه إضمارا قبل الذكر في المفعول لا في الفاعل ، فلم يبق بعد تعذر الحذف والإضمار ، إلّا الإظهار.

واعترض على هذا بأنه يجوز في السعة وإن كان قليلا ، حذف أحد مفعولي باب علمت عند قيام القرينة ، لأن كل واحد منهما في الظاهر منصوب برأسه ، ظاهر في المفعولية ، كمفعولي أعطيت.

وقد جاء ذلك في القرآن والشعر ، قال الله تعالى : «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما

__________________

(١) نقل الرضى في هذا الشرح في مواضع كثيرة عن الإمام جمال الدين بن مالك النحوي المعروف صاحب الألفية والتسهيل .. وسماه كثيرا باسم المشهور : ابن مالك : وجاءت بعض نقوله منسوبة إلى المالكي ، كما هنا. ولم أجد من اسمه المالكي من النحويين ممن سبقوا الرضى أو عاصروه وقد رجحت أنه يقصد بقوله المالكي : ابن مالك أيضا. إذ أن بعض ما نقله منسوبا إلى المالكي معروف أنه من آراء ابن مالك. وفي هذا الموضع بالذات وجدت هذا الرأي منسوبا إلى ابن مالك في التسهيل وان كان في الألفية أوجب الحذف. انظر شرح الأشموني في باب التنازع. وليس عجيبا أن ينقل الرضى عن ابن مالك المعاصر له فقد نقل عن غيره من المعاصرين ومنهم منصور بن فلاح اليمني الذي عبر عنه بصاحب المغني انظر ص ٩٢ من هذا الجزء ؛

٢٠٧

آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ» (١) أي بخلهم هو خيرا ، فحذف أولهما ، وقال :

٤٨ ـ لا تخلنا على غرائك إنا

طالما قد وشى بنا الأعداء (٢)

أي لا تخلنا أذلاء ، فحذف ثانيهما.

سلمنا أنه امتنع الحذف ، لم امتنع الإضمار ، نحو حسبنيه وحسبت زيدا قائما.

قوله : «لكونه إضمارا قبل الذكر في المفعول» ، قلنا : ان جاز الحذف في هذا المفعول فاحذف وإن لم يجز فهو كالفاعل ، فليجز فيه أيضا ، الإضمار قبل الذكر ، لمشاركته الفاعل في علة جواز الإضمار قبل الذكر ، وهي امتناع حذفه ، سلمنا أنه يمتنع الإضمار قبل الذكر في مطلق المفعول ، لم لا يجوز إضماره بعد الذكر ، كما هو مذهب الفراء في : ضربني وأكرمت زيدا هو ، فنقول ههنا : حسبني وحسبت زيدا قائما إياه ، كما ذكر السيرافي ، هذا ، والحق أن يقال في هذا الأخير : إن الفصل بين المبتدأ والخبر بالأجنبي قبيح ، ولا سيّما إذا صارا في تقدير اسم مفرد بسبب كون مضمونهما مفعولا حقيقيا ، لعلمت وبابه.

__________________

(١) الآية ١٨٠ من سورة آل عمران.

(٢) هذا البيت من معلقة الحارث بن حلّزة اليشكري التي أولها

آذنتنا ببينها أسماء

رب ثاو يمل منه الثواء

والخطاب في قوله لا تخلنا. للواشي الذي يقصده في البيت السابق على هذا يقوله :

أيها الناطق المرقش عنا

عند عمرو وهل لذاك انتهاء

والمعنى كما قال الشارح لا تخلنا اذلاء وغرائك بمعنى اغرائك أي اغرائك الملك بنا. وبعده :

فبقينا على الشماتة تنمي

نا جدود وعزة قعساء.

٢٠٨

إعمال الأول

وما يترتب عليه

قال ابن الحاجب :

«وإن أعملت الأول أضمرت الفاعل في الثاني ، والمفعول»

«على المختار ، إلا أن يمنع مانع فتظهر».

قال الرضى :

هذا بيان أنه إذا أعملت الأول على ما هو المختار عند الكوفيين فكيف يكون حال الثاني ، فقال : لا يخلو إما أن يطلبه للفاعلية أو للمفعولية ، فتقول في الأول : ضربت وضربني زيدا ، وضربت وضرباني الزيدين ، وضربت وضربوني الزيدين ، وضربت وضربتني هندا ، وضربت وضربتاني الهندين ، وضربت وضربنني الهندات ، تضمر الفاعل في الثاني على وفق الظاهر بلا خلاف من أحد ، لأنه ليس إضمارا قبل الذكر ، لكون المتنازع من حيث كونه معمولا للأول مقدما على العامل الثاني تقديرا ، وإن كان مؤخرا لفظا.

قوله : «والمفعول على المختار» أي وأضمرت المفعول أيضا في الثاني كالفاعل على الوجه المختار ، فيكون ضميرا بارزا ، ولا تحذفه ، نحو ضربني وضربته زيد ، ويجوز حذفه أيضا لكونه فضلة ، أما اختيار الإضمار فلأن الثاني أقرب الطالبين ، فالأولى ، إذا لم يحظ بمطلوبه مع الإمكان أن يشغل بما يقوم مقام المطلوب ويخلفه. حتى يترك ذلك المطلوب للأبعد الذي حقه ألّا يعمل مع وجود الأقرب ، وحتى لا يظن بسبب عدم تأثيره فيه مع القرب أنه ليس مطلوبه وأنه موجه إلى غيره.

فلما اتفق البصريون والكوفيون في مثل هذه المسألة ، أعني عند إعمال الأول وطلب

٢٠٩

الثاني للمفعول : على أن المختار إضمار المفعول في الثاني ، كان خلوّ الثاني عن الضمير في قوله تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ)(١) ، وقوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)(٢) ، دليلا للبصريين على أن المختار إعمال الثاني ، وإلا كان أفصح الكلام أي القرآن ، على غير المختار ، أي على حذف المفعول من الثاني عند إعمال الأول.

قوله : «إلا أن يمنع مانع فتظهر» ، على المختار ، وذلك إذا كان ذلك المفعول أحد مفعولي باب علمت ويلزم من إضماره مطابقا للمعود إليه مخالفة بينه وبين المفعول الأول في الإفراد أو التثنية أو الجمع ، أو التذكير أو التأنيث ، نحو : حسبني وحسبتهما منطلقين الزيدان منطلقا. قال المصنف ، لم يجز حذف منطلقين ، لكونه ثاني مفعولي حسبت ، ولا إضماره لأنك لو أضمرته مثنى ليطابق المفعول الأول ، إذ هما مبتدأ وخبر في الأصل وتطابقهما في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث واجب ، لخالف المعود إليه ، وهو منطلقا ، ولو أضمرته مفردا ليطابق المرجوع إليه لخالف المفعول الأول ، فلما امتنع الحذف والإضمار ، وجب إظهاره.

هذا كلامه ، والكلام على عدم جواز حذف أحد مفعولي حسبت ، قد سبق ، ولو سلّم له لم يسلّم وجوب المطابقة بين الضمير والمعود إليه ، إذا لم تلبس المخالفة بينهما ، قال تعالى : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً)(٣) وقبله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً)(٤) ، والضمير للأولاد.

فالإضمار قد يأتي على المعنى المقصود ، فيجوز : حسبني وحسبتهما إياهما الزيدان منطلقا ؛ وإن كان المعود إليه مفردا. مراعاة للمسند إليه.

وكذا نقول : حسبت وحسباني إياه الزيدين قائمين ، وحسبت وحسبتني إياه هندا قائمة ، وحسبتني وحسبتها إياها هند قائما.

وفي كل هذا ، القبح حاصل لفصل الأجنبي بين العامل والمعمول ، وفي بعضها بين المبتدأ والخبر في الأصل.

__________________

(١) الآية ١٩ من سورة الحاقة

(٢) الآية ٩٦ من سورة الكهف.

(٣) الآية ١١ من سورة النساء.

٢١٠

صورة ليست من التنازع

ورد على استدلال

قال ابن الحاجب :

«وقول امرئ القيس : كفاني ولم أطلب قليل من المال (١) ، ليس منه»

«لفساد المعنى».

قال الرضى :

هذا جواب عن استدلال الكوفية بهذا البيت في كون إعمال الأول هو المختار ، وذلك أنهم قالوا : الشاعر فصيح ، وقد أعمل الأول بلا ضرورة ، إذ لو أعمل الثاني لم ينكسر عليه الوزن ، ولا غيره ، وأيضا لو أعمل الثاني لم يلزمه محذور ، إذ كان يكون الفاعل مضمرا في «كفاني» ، فاختار إعمال الأول مع أنه لزمه شيء غير مختار بالاتفاق ، وهو حذف المفعول من الثاني ، كما مر ، وفيه دليل على أن إعمال الأول مختار عند الفصحاء ، إذ العاقل لا يختار أحد الأمرين مع لزوم مشقة ومكروه له في ذلك الأمر دون الأمر الآخر ، إلا لزيادة ذلك الذي اختاره في الحسن على الآخر.

__________________

(١) يأتي تمام البيت في الشرح وهو من قصيدة امرئ القيس بن حجر صاحب المعلقة والقصيدة التي منها الشاهد تقدم بعضها شاهدا في ص ٤٧ من هذا الجزء. وشرح الرضى هذا البيت شرحا لا مجال للزيادة عليه.

٢١١

أجاب البصرية بأن هذا الاستدلال إنما يصح إذا كان هذا البيت من باب التنازع ، وليس منه لفساد المعنى.

وبيانه مبني على مقدمة ، وهي أن «لو» تنفي شرطها وجزاءها (١) سواء كانا مثبتين أو منفيين ، فإن كانا مثبتين وجب انتفاؤهما ، نحو لو كان لي مال لحججت ، فالحج ووجود المال منفيان ، وإن كانا منفيّين ، وجب ثبوتهما لأن نفي النفي إثبات ، نحو لو لم تزرني لم أكرمك ، فالزيارة والإكرام مثبتان ، وإن كان أحدهما مثبتا دون الآخر ، وجب ثبوت المنفي وانتفاء المثبت ، نحو : لو لم تشتمني أكرمتك ، ولو شتمتني لم أكرمك.

رجعنا إلى بيان فساد معنى البيت لو كان من باب التنازع ، فنقول :

أوله :

٤٩ ـ فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ...

وقوله : أن ما أسعى لأدنى معيشة ، شرط «لو» ، أي لو ثبت أن سعيي لأدنى معيشة ، فيكون المعنى : لم يثبت أن سعيي لأدنى معيشة ، أي : أن طلبي : لقليل من المال ،

وقوله : كفاني ، جزاء «لو» وقوله : لم أطلب قليل من المال عطف عليه ، فيكون حكمه حكم الجواب ، فيكون عدم طلب قليل من المال منفيا ، أي ثبت أن طلبي : لقليل من المال ، وهو إثبات لما نفاه بعينه في المصراع الأول ، فيكون تناقضا فيفسد المعنى.

فإن قال الكوفي : إن التناقض إنما جاء لجعلك الواو في : ولم أطلب للعطف ، ونحن نقول إن الواو للحال.

فالجواب : انك تكون إذن ، مستشهدا بما يحتمل العطف الراجح ، والحال المرجوح ، إذ واو العطف أكثر من واو الحال ، والاستشهاد ينبغي أن يكون بالراجح ، أو بما هو

__________________

(١) هذا المشهور عند النحاة ويسمونها حرف امتناع لامتناع. وقد ناقش ابن هشام في المغني هذا القول وردّ عليه وقال إنه لا يستقيم في كثير من الأمثلة.

٢١٢

نص في المقصود ، لا بما يحتمله وغيره على السواء ، فكيف إذا كان غير المقصود راجحا والمقصود مرجوحا.

فإن قلت : فإلام توجه قوله : ولم أطلب إذا لم يكن موجها إلى قليل؟ قلنا : قيل إلى المجد المحذوف المدلول عليه بقوله بعد :

ولكنما أسعى لمجد مؤثل

وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

والمعنى : لو كان سعيي لتحصيل أقل ما يعاش به ، لكنت أكتفي بذلك لأنه قد حصل لي ذلك ، ولم أكن أطلب المجد.

والأظهر أن مفعول : لم أطلب محذوف نسيا ، كما في قوله تعالى : (يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ)(١) ، أي له القبض والبسط ، وكذا ههنا : معنى البيت : لو كان سعيي لقليل من المال لمنعني ما وجدته منه عن السعي ، ولم يكن مني طلب ، مع ذلك الوجدان ، بل كنت أستقر ، وأطمئن ، ولكني أسعى لتحصيل مجد مؤثل أي مؤصل مدّخر لنفسي ولعقبي ، يرجع إليه عند التفاخر.

واعلم أنه قد يتنازع الفعلان المتعديان إلى ثلاثة ، خلافا للجرمي ، نحو : أعلمت وأعلمني زيد عمرا قائما ، على إعمال الثاني وحذف مفاعيل الأول ، وأعلمني ، وأعلمته إياه زيد عمرا قائما على إعمال الأول وإضمار مفاعيل الثاني ، والأولى أن يقال : وأعلمته ذلك ، قصدا للاختصار ، إذ مفعول «علمت» في الحقيقة ، كما ذكرنا ، هو مضمون المفعولين ، فيكون «ذلك» إشارة إليه ، وإنما منعه الجرمي لعدم السماع.

وكذا : يتنازع فعلا تعجب ، خلافا لبعضهم ، نظرا إلى قلة تصرف فعل التعجب ، تقول : ما أحسن ، وما أكرم زيدا ، على إعمال الثاني وحذف مفعول الأول ، وما أحسن وما أكرمه زيدا ، على أعمال الأول (٢).

__________________

(١) الآية ٢٤٥ من سورة البقرة.

(٢) يعني مع اضمار المفعول في الثاني من فعلى التعجب.

٢١٣
٢١٤

نائب الفاعل

الأشياء التي تنوب عن الفاعل

قال ابن الحاجب :

«مفعول ما لم يسمّ فاعله : كل مفعول حذف فاعله وأقيم هو»

«مقامه ، وشرطه أن تغيّر صيغة الفعل إلى فعل ويفعل ولا يقع»

«المفعول الثاني من باب علمت ، ولا الثالث من باب أعلمت ،»

«والمفعول له والمفعول معه كذلك ، وإذا وجد المفعول به تعين»

«له. تقول : ضرب زيد ، يوم الجمعة أمام الأمير ضربا شديدا»

«في داره ، فتعيّن زيد ، فإن لم يكن فالجميع سواء ، والأول من»

«باب أعطيت أولى من الثاني».

قال الرضى :

قولهم : مفعول ما لم يسمّ فاعله ، أي مفعول الفعل الذي لم يسمّ فاعله ، وقولهم : فعل ما لم يسمّ فاعله ، أي فعل المفعول الذي لم يسمّ فاعله ؛ أضيف الفعل إلى المفعول لأنه صيغ له.

٢١٥

قوله : «إلى فعل ويفعل» أي إلى فعل ويفعل ونظائرهما مما يضم أوله في الماضي ويكسر ما قبل آخره ، حتى يعمّ نحو : أفعل ، وافتعل ، واستفعل ، وفعّل ، وفوعل ، وفعلل ، وتفعلل ، وأمثالها ، ويضم أوله ويفتح ما قبل آخره في المضارع حتى يعمّ يفتعل ، ويستفعل ويفعلل وأمثالها ، لكنه اقتصر على الثلاثي لكونه أصلا للرباعي وذي الزيادة.

قوله : «ولا يقع المفعول الثاني من باب علمت ولا الثالث من باب أعلمت» ، اعلم أن الثالث من باب أعلمت هو الثاني من باب علمت ، كما يجيء في بابه ، والذي زاد بسبب الهمزة هو المفعول الأول ، إذ معنى أعلمت زيدا عمرا فاضلا : صيّرت زيدا يعلم عمرا فاضلا ، والثاني والثالث مفعولا «علمت» فكل ما ثبت للمفعول الثاني من باب «علمت» ، يثبت لثالث مفاعيل «أعلمت» فنقول : إذا كان ثاني مفعولي علمت ظرفا غير متصرف ، أو جارا ومجرورا ، أو جملة ، نحو : علمت زيدا عندك ، أو أبوه منطلق أو في الدار ، لم يقم مقام الفاعل ، إذ معنى الظرف الذي لا يتصرف ، لزوم نصبه على الظرفية أو انجراره بمن ، نحو : من قبلك ، والجار لا ينوب مع المفعول به الصريح كما يجيء. والجملة ، كما لا تقع فاعلا : لا تقع موقعه أيضا.

بلى ، إذا كانت محكية جاز قيامها مقامه ، لكونها بمعنى المفرد ، أي اللفظ ، نحو قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ)(١) أي قيل هذا القول وهذا اللفظ ، وكذا قد تجيء الجملة في مقام الفاعل ، ومفعول ما لم يسمّ فاعله وهي في الحقيقة مؤولة بالاسم الذي تضمنته ، كقوله تعالى : (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ)(٢) ، وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا)(٣). أي تبيّن لكم فعلنا بهم ، وألم يهدلهم اهلاكنا ، فيصح نحو : بيّن لكم كيف فعلنا :

وما أجازه الكسائي ، والفراء ، من قيام الجملة التي هي خبر لكان وجعل ، مقام

__________________

(١) الآية ٤٤ من سورة هود.

(٢) الآية ٤٥ من سورة إبراهيم.

(٣) الآية ٢٦ من سورة السجدة.

٢١٦

الفاعل ، نحو : كين يقام ، وجعل يفعل ، فبعيد لوجهين : أحدهما : أن هذين الفعلين من عوامل المبتدأ والخبر ، وما حذف في هذا الباب فليس بمنويّ ، ولا يحذف المبتدأ إلا مع كونه منويّا ، فلا ينوب على هذا ، خبر كان المفرد ، أيضا ، عن الفاعل نحو : كين قائم ، وقد أجازه الفراء دون الكسائي.

والثاني : أن الجملة لا تقوم مقام الفاعل إلا محكية ، أو مؤولة بالمصدر المضمون ، ولا معنى لكين القيام.

والمتقدمون منعوا من قيام ثاني مفعولي «علمت» مطلقا مقام الفاعل ، قالوا : لأنه مسند أسند إلى المفعول الأول ، فلو قام مقام الفاعل والفاعل مسند إليه ، صار في حالة واحدة مسندا ومسندا إليه فلا يجوز.

وفيما قالوا نظر ، لأن كون الشيء مسندا إلى شيء ومسندا إليه شيء آخر في حالة واحدة ، لا يضر ، كما في قولنا : أعجبني ضرب زيد عمرا ، فأعجبني مسند إلى ضرب ، وضرب مسند إلى زيد ، ولو كان لفظ مسندا إلى شيء ، أسند أي ذلك الشيء إلى ذلك اللفظ بعينه لم يجز ، وهذا كما يكون الشيء مضافا ، ومضافا إليه بالنسبة إلى شيئين ، كغلام في قولك : فرس غلام زيد.

وأمّا المتأخرون فقالوا : يجوز نيابته عن الفاعل إذا لم يلتبس ، كما إذا كان نكرة ، وأول المفعولين معرفة نحو : ظنّ زيدا قائم ، لأن التنكير يرشد إلى أنه هو الخبر في الأصل.

والذي أرى ، أنه يجوز قياسا نيابته عن الفاعل ، معرفة كان أو نكرة ، واللبس مرتفع مع إلزام كل من المفعولين مركزه ، وذلك بأن يكون ما كان خبرا في الأصل بعد ما كان مبتدأ (١) ، فلا يجوز في نحو : علمت زيدا أباك ، مع اللبس تقديم الثاني على الأول ، وهذا كما قلنا في نحو : ضرب موسى عيسى ، وكذا في نحو : أعلمتك زيدا أباك ، فإذا لزم كل واحد مركزه لم يلتبس إذا قام مقام الفاعل وهو في مكانه.

__________________

(١) أي واقعا بعد ما كان مبتدأ.

٢١٧

وليس معنى قيام المفعول مقام الفاعل أن يلي الفعل بلا فصل ، بل معناه أن يرتفع بالفعل ارتفاع الفاعل ، فتقول : علم زيدا أبوك ، والمرفوع ثاني المفعولين ، وأعلمك زيدا أبوك ، والمرفوع ثالث المفاعيل ،

وكذا يجب حفظ المراتب في باب «أعطيت» إذا ألبست مخالفته ، نحو : أعطيت زيدا أخاك ، فإن لم تلبس لقرينة جاز العدول ، كقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)(١).

هذا الذي قلنا من حيث القياس ، ولا شك أن السماع لم يأت إلا بقيام أوّل مفعولي علمت ، لكون مرتبته بعد الفاعل بلا فصل ، والجار أحق بصقبه.

وكذا : لم يسمع إلا قيام أول مفاعيل «أعلمت» كقوله :

٥٠ ـ نبتت عمرا غير شاكر نعمتي

والكفر مخبثة لنفس المنعم (٢)

لأنه في الحقيقة : فاعل «علم» ، إذ معنى : أعلم زيد عمرا منطلقا ، علم زيد عمرا منطلقا.

وقيام ثاني مفاعيل «أعلمت» مقام الفاعل أولى من حيث القياس. من قيام ثالثها ، كما كان قيام أول مفعولي «علمت» أولى ، فتقول : أعلمك زيدا أباك ، ولا يلبس مع لزوم كلّ مركزه.

قوله : «والمفعول له والمفعول معه كذلك» ، إنما لا يقومان مقام الفاعل ، لأن النائب منابه ينبغي أن يكون مثله في كونه من ضروريات الفعل من حيث المعنى ، وإن جاز ألّا يذكر لفظا ، كما أن الفاعل من ضروريات الفعل ، ولا شك أن الفعل لا بدّ له

__________________

(١) الآية ٢٣ من سورة الجاثية.

(٢) من معلقة عنترة بن شداد العبسيّ. والكفر : انكار النعمة وجحدها. ومعنى أنه مخبثة لنفس المنعم أنه سبب لتغير نفس المنعم. والشطر الثاني يجري مجرى المثل.

٢١٨

من مصدر ، إذ هو جزؤه ، وكذا لا بدّ له من زمان ومكان يقع فيهما ، ولا بدّ للمتعدي من مفعول يقع عليه ، وكذا المجرور مفعول به لكن بواسطة حرف الجر ، ولهذا كان كل مجرور ليس من ضروريات الفعل لم يقم مقام الفاعل ، كالمجرور بلام التعليل ، نحو : جئتك للسّمن ، فلا يقال : جئ للسمن ، إذ ربّ فعل بلا غرض ، لكونه عبثا ، فمن ثمّ لم يقم المفعول له مقام الفاعل ، وإنما لم يقم المفعول معه مقامه ، إذ هو مصاحب ، وربّ فعل يفعل بلا مصاحب ، مع أن معه الواو التي أصلها العطف وهي دليل الانفصال ، والفاعل كجزء الفعل ، ولو حذفتها لم يعرف كونه مفعولا معه ،.

وكذا التمييز ، والمستثنى ليسا من ضرورياته ، وأجاز الكسائي نيابة التمييز ، لكونه في الأصل فاعلا ، فقال في : طاب زيد نفسا : طيبت نفس زيد ، وأما الحال فإنها ، وإن كانت من ضروريات الفعل ، لكن قلة مجيئها في الكلام منعتها من النيابة عن الفاعل الذي لا بدّ لكل فعل منه.

قوله : «وإذا وجد المفعول به تعيّن له ،» أي للقيام مقام الفاعل ، وذلك لكون طلب الفعل للمفعول به بعد الفاعل أشدّ منه لسائر المنصوبات.

هذا مذهب البصريين ، وأما الكوفيون ، ووافقهم بعض المتأخرين فذهبوا إلى أن قيام المفعول به المجرور مقام الفاعل أولى ، لا أنه واجب ، استدلالا بالقراءة الشاذة : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ)(١) ، بالنصب ، ويقول الشاعر :

٥١ ـ ولو ولدت قفيرة جرو كلب

لسبّ بذلك الجرو الكلابا (٢)

وأمثاله ،

__________________

(١) الآية ٣٢ من سورة الفرقان.

(٢) قفيرة بصيغة التصغير اسم أم الفرزدق. والبيت من قصيدة جرير التي أولها :

اقلي اللوم عاذل والعتابا

وقولي ان اصبت لقد أصابا

وهي في هجاء الفرزدق وتقدم هذا المطلع شاهدا في هذا الجزء.

٢١٩

ومنع الجزولي نيابة المنصوب لسقوط الجار مع وجود المفعول به المنصوب من غير حذف الجار كما في :

٥٢ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب (١)

والوجه الجواز ، لالتحاقه بالمفعول به الصريح.

والأخفش أجاز نيابة الظرف والمصدر مع وجود المفعول به بشرط تقدمها على المفعول به ووصفهما ، والشرط في المفعول المطلق القائم مقام الفاعل أن يكون ملفوظا به.

وقد أجاز سيبويه إضمار المصدر المعهود ، فيقال لمن ينتظر العقود : قد قعد ، أو الخروج : قد خرج ، بناء على قرينة التوقع أي قعد القعود المتوقع.

ويجوز نيابة المصدر المدلول عليه بغير لفظ العامل إذا كان المصدر مفعولا به نحو قولك : قمت فاستحسن ، أي استحسن قيامي.

ويشترط في المفعول المطلق ، أيضا ، ألّا يكون لمجرد التوكيد إذ النائب عن الفاعل يجب أن يكون مثله في إفادة ما لم يفده الفعل حتى يتبيّن احتياج الفعل إليه ، ليصيرا معا كلاما ، فلو قلت : ضرب ضرب لم يجز ، لأن «ضرب» مستغن بدلالته على «ضرب» عن قولك : ضرب ، بل يقال : ضرب ضربة أو : الضرب الفلاني ، ولذلك قال المصنف ضربا شديدا ، وكذا يشترط الفائدة المتجددة في كل ما ينوب عن الفاعل ، فلا يقال : ضرب شيء ، ولا : جلس مكان أو زمان أو في موضع ، لأن هذه الأشياء معلومة من الفعل ، ولا فائدة متجددة في ذكرها.

__________________

(١) هذا بيت ورد في شعر شاعرين أحدهما أعشى طرود. ولم يعرف من اسمه إلا هذا والآخر مختلف في اسمه ، وكلا الشعرين يذكر نصيحة تلقاها الشاعر من أبيه أو غيره والبيت بروايتيه في خزانة الأدب : الشاهد رقم ٥٢.

٢٢٠