شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤

والشر ، وماز (١) ، رأسك والسيف ، فالمحذر ، إذن ، اما ظاهر أو مضمر ، والظاهر لا يجيء إلا مضافا إلى المخاطب ، والمضمر لا يجيء في الأغلب إلا مخاطبا

وقد يجيء متكلما ، كما مرّ ، وإذا كان معطوفا على المحذر جاز أن يكون ضمير غائب نحو : إياك وإياه من الشر ؛.

وقولهم إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيّا الشوابّ ، شاذ من وجهين : من جهة وقوع إياه محذرا ، وليس بمعطوف ، ومن جهة اضافة «ايا» إلى المظهر.

وسيبويه يقدر نحو : إياي والشر ، بنحو : لأحذر (٢) ونحوه ، فيكون على هذا تحذّرا لا تحذيرا ، قال الخليل بعضهم يقال له : اياك ؛ فيقول : اياي ، إذا قبل منك واستجاب ، كأنه يقول : أحذر نفسي وأحفظ ؛ وغير سيبويه يقدر في نحو : إياي والشر ، حذّر خطابا كما في اياك ، وقول سيبويه أولى ، ليكون الفاعل والمفعول شيئا واحدا ، كما في اياك والشر ، وقول عمر رضي الله عنه لجماعة : «اياي وأن يحذف أحدكم الأرنب بالعصا ، ولتذكّ لكم الأسل والرماح» ، يحتمل أمر المتكلم ، أي لأبعد نفسي عن مشاهدة حذف الأرنب ، وأمر المخاطب ، أي بعدّوني عن مشاهدة حذفه.

وأما الثاني أعني المحذّر منه المكرر ، فيكون ظاهرا أو مضمرا ، نحو : الأسد الأسد ، ونفسك نفسك ، وإياك إياك ، وإياه إياه ، وإياي إياي ، سواء كان الظاهر مضافا ، أو لا ، والمضمر متكلما ، أو مخاطبا أو غائبا ؛ وأجاز قوم ظهور الفعل مع هذا القسم ، نحو : احذر الأسد الأسد ، وإياك إياك احذر ، نظرا إلى أن تكرير المعمول للتأكيد لا يوجب حذف العامل ، كقوله تعالى : (دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا)(٣) ، ومنعه الآخرون وهو الأولى لعدم سماع ذكر العامل مع تكرير المحذر منه ، ولا نقول ان كل معمول مكرر موجب

__________________

(١) ماز ، ترخيم مازن ، وهو خطاب من شخص لآخر اسمه مازن يحذره من السيف.

(٢) صيغة مضارع مقرون بلام الأمر.

(٣) الآية ٢١ من سورة الفجر.

٤٨١

لحذف عامله ؛ وحكمة اختصاص وجوب الحذف بالمحذر منه المكرر ، كون تكريره دالا على مقاربة المحذر منه للمحذر ، بحيث يضيق الوقت إلا عن ذكر المحذر منه على أبلغ ما يمكن وذلك بتكريره ولا يتسع لذكر العامل مع هذا المكرر ؛ وإذا لم يكرر الاسم جاز اظهار العامل اتفاقا.

قال المصنف : كأن أصل إياك والأسد : اتّقك (١) ، ثم إنهم لما كانوا لا يجمعون بين ضميري الفاعل والمفعول لواحد إذا اتصلا ، جاءوا بالنفس مضافا إلى الكاف فقالوا : اتق نفسك ثم حذفوا الفعل لكثرة الاستعمال ثم حذفوا النفس لعدم الاحتياج إليه لأن اجتماع الضميرين زال بحذف الفاعل مع الفعل فرجع الكاف ولم يجز أن يكون متصلا لأن عامله مقدر كما يجي في المضمرات فصار منفصلا.

وأرى أن هذا الذي ارتكبه تطويل مستغنى عنه (٢) ، والأولى أن يقال هو بتقدير : إياك باعد أو نحّ باضمار العامل بعد المفعول وإنما جاز اجتماع ضميري الفاعل والمفعول لواحد لكون أحدهما منفصلا ، كما جاز ما ضربت إلا إياك وما ضربت إلا اياي.

فان قلت بينهما فرق وذلك أن المفعول في الحقيقة في : ما ضربت إلا اياي ليس ضمير المتكلم ، بل هو المتعدّد المقدر ، أي ما ضربت أحدا إلا اياي فالفاعل والمفعول فيه ليسا في الحقيقة ضميرين لواحد ، بخلاف قولك : إياي ضربت.

قلت : الضمير المنفصل حكمه في كلامهم حكم الظاهر مطلقا ، كما ذكرت في أول باب المنصوب على شريطة التفسير لكونه مستقلا مثله ، وقد صرّح السيرافي بجواز نحو : إياي ضربت ، وأيضا الظاهر من كلام العرب أن المفعول المقدم على الفعل فيه معنى الحصر ، وإن منعه المصنف ، في شرح المفصل (٣) عند قول «جار الله» : الله أحمد ، فمعنى : اياي

__________________

(١) أمر من : اتقى. متصل به ضمير المفعول.

(٢) أصاب الرضى في هذا النقد.

(٣) لابن الحاجب شرح على متن المفصل للزمخشري وقد أشرنا إلى ذلك في أول الكتاب.

٤٨٢

ضربت ما ضربت إلا اياي ، وإياك نعبد : ما نعبد إلا اياك.

وإنما وجب الحذف في الأول والثاني لأن القصد ، كما قلنا في النداء ، أن يفرغ المتكلم سريعا من لفظ التحذير حتى يأخذ المخاطب حذره من ذلك المحذور ، وذلك لأنه لا يستعمل هذه الألفاظ إلا إذا شارف المكروه أن يرهق ، وهو المعطوف في اياك والأسد ، والمكرر.

وإنما وجب حذف العامل في نحو : اياك والأسد ، لأنه في معنى المكرر الذي ذكرنا أنه يجب حذف عامله ، لأن معنى : اياك : بعدّ نفسك من الأسد ، وفحوى هذا الكلام : احذر الأسد ، ومعنى : الأسد الأسد ، أي بعّد الأسد عن نفسك وهو أيضا بمعنى : احذر الأسد ، لأن تبعيد الأسد عن نفسك بأن تتباعد عنه ، فكأنك قلت الأسد الأسد.

فإن قلت : المعطوف في حكم المعطوف عليه ، وإياك محذّر والأسد محذّر منه وهما متخالفان فكيف جاز العطف.

فالجواب : أنه لا يجب مشاركة الاسم المعطوف للمعطوف عليه إلا في الجهة التي انتسب بها المعطوف عليه إلى عامله ، وجهة انتساب «اياك» إلى عامله ، كونه مفعولا به ، أي مبعدا ، وكذا الأسد مبعد ، إذ المعنى : إياك بعّد وبعّد الأسد.

* * *

دخول من

في التحذير

قال ابن الحاجب :

«وتقول إياك من الأسد ومن أن تحذف ، وإياك أن تحذف»

«بتقدير «من» ولا تقول : إياك الأسد لامتناع تقدير من».

قال الرضى :

إذا جاء المحذّر منه بعد المحذّر فاما أن يكون مع «أن» أو لا معهما ؛ فالذي يغير

٤٨٣

«أن» نحو : إياك والأسد ، يجوز فيه وجهان كونه مع الواو ، ومع «من» وقد عرفت معنى العطف ، وأما «من» فهو متعلق بالفعل المقدر ، أي بعّد نفسك من الأسد.

والذي مع «أن» يجوز فيه هذان الوجهان ، نحو : اياك أن تحذف ، وإياك من أن تحذف ، ويجوز فيه وجه ثالث وهو حذف الجار ، لأن «أن» حرف ، موصولة طويلة بصلتها لكونها مع الجملة التي بعدها بتأويل اسم ، فلما طال لفظ ما هو في الحقيقة اسم واحد ، أجازوا فيه التخفيف قياسا بحذف حرف الجر ، الذي هو مع المجرور كشيء واحد ، وكذا «أنّ» المصدرية ، وبعد حذف الحرف صار «أن» مع صلتها في محل النصب عند سيبويه نحو : الله لأفعلنّ وقال الخليل والكسائي ، هي باقية على ما كانت عليه من الجر.

والأول أولى لضعف حرف الجر عن العمل مقدرا ، ونحو الله لأفعلن (١) نادر.

وحذف حرف الجر مع غير «أن» و «أنّ» سماع نحو : استغفرت الله ذنبا ، أي من ذنب ، وبغاه الخير ، أي بغي له.

وقال الأخفش الصغير (٢) ، يجوز حذف حرف الجر قياسا إذا تعيّن وإن كان مع غير أن وأنّ ؛ فلهذا لم يجز حذف الجار من اياك من الأسد ، إذ ليس بقياس ، ولم يسمع.

فإن قيل فاحذف العاطف ، قلت : حذفه أيضا لا يجوز وهو أشدّ من حذف حرف الجر ، لأنه قياس مع أن وأنّ ، شاذ كثير في غيرهما ، وأما حذف العاطف فلم يثبت إلا نادرا ، كما قال أبو علي في قوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ)(٣) أي وقلت ،

__________________

(١) أي بجر لفظ الجلالة بعد حذف حرف القسم.

(٢) تقدم أن الأخفش إذا أطلق انصرف إلى الأوسط ـ سعيد بن مسعدة الذي امتلأ هذا الشرح باسمه ، والأخفش الصغير ، لا يذكر إلا هكذا ، أو باسمه ، وهو علي بن سليمان ، وكنيته أبو الحسن. وهو تلميذ المبرد وأخذ عن ثعلب ، وله وقائع مع ابن الرومي الشاعر انتهت بصداقة بينهما ، ورد مصر ومنها إلى حلب ثم عاد إلى بغداد وتوفي بها سنة ٣١٥ ه‍ ، والأخفش الأكبر هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد. شيخ سيبويه وسيأتي ذكره في هذا الشرح.

(٣) الآية ٩٢ من سورة التوبة.

٤٨٤

وأما قول الشاعر :

١٦٠ ـ فإياك إياك المراء فإنه

إلى الشرّ دعّاء وللشر جالب (١)

فإما لضرورة الشعر ، واما لأنّ اياك اياك ، من باب : الأسد الأسد ، أي المحذّر منه مكرر ، والمراء منصوب باحذر.

وهذا قول سيبويه ، وإما لأن المراء مصدر بمعنى : ان ثماري فحمل في جواز حذف حرف الجر على ما يقدر به ، ومع هذا ، لا يجوز قياس سائرا المصادر عليه ؛ وهذا قول ابن أبي اسحاق (٢) ، ولا يمتنع أن يدّعى أن الواو التي في المحذّر بمعنى «مع».

* * *

الاغراء

وقد ترك المصنف بابا آخر مما يجب اضمار فعله قياسا ، وهو باب الاغراء ، وضابطه : كل مغرّي به مكرر ، أو معطوف عليه بالواو مع معطوفه ، فالمكرر نحو قوله :

١٦١ ـ أخاك أخاك إن من لا أخاله

كساع إلى الهيجا بغير سلاح (٣)

والذي مع العطف نحو : شأنك والحجّ ، ونفسك وما يعنيها ، والعامل فيهما : الزم ، ونحوه ، وعلة وجوب حذفه : ما تقدم في التحذير ، والخلاف في وجوب حذفه في المكرر هنا مثاله هناك ،.

__________________

(١) هذا من شعر الفضل بن عبد الرحمن القرشي ، يقول مخاطبا ابنه قبل هذا البيت :

من ذا الذي يرجو الأباعد نفعه

إذا هو لم تصلح عليه الأقارب

فاياك اياك المراء ...

 ... البيت ...

(٢) عبد الله بن أبي اسحاق الحضرميّ من رجال الطبقة الثانية من نحاة البصرة ، عاصر عيسى بن عمر الثقفي وأبا عمرو بن العلاء ، وكان كثير التخطئة للفرزدق في شعره حتى هجاه الفرزدق ؛ توفي سنة ١١٧ ه‍.

(٣) هذا من شعر مسكين الدارمي واسمه ربيعة بن عامر ، قيل انه طلب من معاوية أن يفرض له فلم يفعل فقال ذلك. وبعد البيت :

وان ابن عم المرء فاعلم جناحه

وهل ينهض البازي بغير جناح

٤٨٥

وإن لم يتكرر وخلا من العطف ، فلا خلاف في عدم وجوب الحذف كما هناك ، وكذا ، يجوز أن تكون الواو ههنا بمعنى «مع».

* * *

٤٨٦

المفعول فيه (١)

معناه ، أنواعه

قال ابن الحاجب :

«المفعول فيه هو ما فعل فيه فعل مذكور من زمان أو مكان»

قال الرضى :

يعني بقوله : «فعل مذكور» ، الحدث الذي تضمنه الفعل المذكور لا الفعل الذي هو قسيم الاسم والحرف ، وذلك لأنك إذا قلت : ضربت أمس ، فقد فعلت لفظ «ضربت» اليوم ، أي تكلمت به اليوم ، والضرب الذي هو مضمونه فعلته أمس ، فأمس : ما فعل فيه الضرب ، لا : ضربت.

واحترز بقوله : مذكور ، عن نحو قولك : يوم الجمعة بوم مبارك ، فإنه لا بدّ أن يفعل في يوم الجمعة فعل ، لكنك لم تذكر ذلك الفعل في لفظك ، فلم يكن ، في اصطلاحهم مفعولا فيه ؛ ونحو : يوم الجمعة في قولك : خرجت في يوم الجمعة ، داخل في هذا الحد ، ولهذا قال بعد : وشرط نصبه : تقديره بفي ، وأما إذا ظهر ، فلا بدّ من جرّه ، وهذا خلاف اصطلاح القوم ، فإنهم لا يطلقون المفعول فيه إلا على المنصوب بتقدير «في» ؛ فالأولى أن يقال : هو المقدّر بفي من زمان أو مكان فعل فيه فعل مذكور.

__________________

(١) بناء على رأي ابن الحاجب كل أسماء المكان والزمان تسمى ظروف زمان وظروف مكان ولا يسمى شيء منها مفعولا فيه إلا إذا كان مقدرا بفي. وعلى ما اختار الشارح الرضى تسمى أسماء زمان أو أسماء مكان وعند تقدير «في» ونصبها تسمى ظروفا ومفعولا فيه.

٤٨٧

شرط نصبه

وما يصلح. لذلك من الزمان والمكان

قال ابن الحاجب :

«وشرط نصبه تقدير «في» ، وظروف الزمان كلها تقبل ذلك ،»

«وظرف المكان ان كان مبهما قبل ، وإلا فلا وفسّر المبهم»

«بالجهات الست ، وحمل عليه : عند ، ولدي ، وشبهها ،»

«لابهامها ، ولفظ مكان ، لكثرته ، وما بعد دخلت مثل :»

«دخلت الدار على الأصح».

قال الرضى :

ظروف الزمان كلها ، أي مبهمها وموقتها يقبل ذلك أي يقبل النصب بتقدير «في» ؛ والمبهم من الزمان هو الذي لا حدّ له يحصره ، معرفة كان أو نكرة ، كحين ، وزمان ، والحين ، والزمان ، والموقت منه : ما له نهاية تحصره سواء كان معرفة أو نكرة ، كيوم وليلة ، وشهر ، ويوم الجمعة ، وليلة القدر ، وشهر رمضان.

قوله «وظرف المكان إن كان مبهما» ، اختلف في تفسير المبهم من المكان (١) ، فقيل هو النكرة ، وليس بشيء ، لأن نحو : جلست خلفك وأمامك منتصب ، بلا خلاف ، على الظرفية.

وقبل هو غير المحصور ، كما قلنا في الزمان ، وهو الأولى ، فتخرج منه المقادير الممسوحة كفرسخ وميل ، ولا خلاف في انتصابها على الظرفية ، فقال هؤلاء : ينتصب من

__________________

(١) أشار السيد الجرجاني هنا إلى اختلاف بين النسخ. ونظرت فيما أورده على اضطرابه فرأيت اثبات ما في النسخة المطبوعة.

٤٨٨

المكان على الظرفية نوعان : المبهم والمعدود ، ويدخل في المبهم : الجهات الست ، وعند ، ولدي ، ووسط ، وبين ، وإزاء ، وحذاء ، وحذة ، وتلقاء ، وما هو بمعناه ، ويستثنى من المبهم جانب ، وما بمعناها من : جهة ، ووجه ، وكنف ، وذرى ، فانه لا يقال : زيد جانب عمرو ، وكنفه ، بل : في جانبه أو : إلى جانبه ، وكذا خارج الدار ، فلا يقال : زيد خارج الدار ، كما قال سيبويه (١) ، بل من خارجها ، كما لا يقال : زيد داخل الدار وجوف البيت ، بل : في داخلها وفي جوفه.

وتكلف المصنف لادخال المعدود في لفظ المبهم بأن قال : المبهم ما ثبت له اسمه بسبب أمر غير داخل في مسمّاه ، فالمكان الممسوح كالفرسخ ، داخل فيه ، فإن المكان لم يصر فرسخا بالنظر إلى ذاته ، بل بسبب القياس المساحيّ الذي هو أمر خارج عن مسمّاه.

وقال (٢) : الموقّت : ما كان له اسمه بسبب أمر داخل في مسمّاه كأعلام المواضع ، فإنها أعلام لها اعتبار عين تلك الأماكن ، وكذا مثل : بلد ، وسوق ، ودار ، فإنها أسماء لتلك المواضع بسبب أشياء داخلة فيها ، كالدور في البلد ، والدكاكين في السوق ، والبيت في الدار.

وأما نحو خلف ، وقدام ، ويمين ، وشمال ، وبين ، وحذاء ، فإن هذه الأشياء تطلق على هذه الأماكن باعتبار ما تضاف إليه.

وينبغي أن يستثنى من المبهم في قوله ، أيضا : نحو جانب وما بمعناه ، وكذا جوف البيت وخارج الدار ، وداخلها ، وكذا بعض ما في أوله ميم زائدة من اسم مكان ، لأنه إنما يثبت مثل هذا الاسم للمكان باعتبار الحدث الواقع فيه ، والحدث شيء خارج عن مسمّى المكان ، مع أنه لا ينتصب كل ما هو من هذا الجنس ، فلا يقال : نمت مضرب زيد ، وقمت

__________________

(١) هذا ما جرى عليه الجمهور. وبعضهم يجوز نصبها على أنها مفعول فيه أيضا.

(٢) أي المصنف : ابن الحاجب.

٤٨٩

مصرعه ، بل هذا النوع من المكان يدخله تفصيل ، وذلك بأن يقال : اسم المكان : إما أن يشتق من حدث بمعنى الاستقرار والكون في مكان ، أو ، لا ، والثاني لا ينتصب على الظرفية إلا بالفعل الذي ينتصب به على الظرفية المختصّ من المكان ، كدخلت ، ونزلت وسكتت (١) ، وهو كالمضرب والمقتل والمأكل والمشرب ونحوها.

والأول ينصبه على الظرفية الفعل المشتق مما اشتق منه اسم المكان نحو : المجلس والمقعد ، والمأوى ، والمسدّ ، والمقتل والمبيت ، فتقول (٢) : قاتلت موضع القتال ، ونصرت مكان النصر ، وكذا تقول : قمت مقامه ، وجلست مجلسه ، وأويت مأواه ، وسددت مسدّه ، وينصبه ، أيضا ، كل ما فيه معنى الاستقرار ، وإن لم يشتق مما اشتق منه ، نحو : جلست موضع القيام ، وتحركت مكان السكون ، وقعدت موضعك ، ومكان زيد ، وجلست منزل فلان وقعدت مركزه ، قال تعالى : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)(٣) ، وكذا : نمت مبيته ، وأقمت مشتاه.

وما ليس فيه معنى الاستقرار لا ينصبه ، فلا يقال : كتبت الكتاب مكانك ، ورميت بالسهم موضع بكر ، وقتلته مكان المقرأة وشتمتك منزل فلان ، وقال الأكثرون من المتقدمين المبهم من المكان هو الجهات الست ، والموقت ما سواها ، وهذا القول هو الذي ذكره المصنف في الكافية ، ثم قالوا : حمل عند ، ولدي ، وبين ووسط الدار ، من الموقت على الجهات الست فانتصبت انتصابها لمشابهتها للجهات في الابهام.

قال المصنف : وكذا حمل لفظ مكان ، على الجهات ، لا لإبهامه ، فإن قولك جلست مكان زيد ، لا إبهام هنا في لفظ مكان ، بل لكثرة استعماله ، فحذف «في» منه تخفيفا ،

ولا ينبغي للمصنف هذا الإطلاق ، فان لفظ مكان لا ينتصب إلا بما فيه معنى الاستقرار

__________________

(١) وهنا أيضا اضطراب كثير في النسخ كما أشار الجرجاني واقتصرت منه كذلك على النص المطبوع.

(٢) التمثيل الأول للنوع الذي يكون مشتقا من حدث بمعنى الاستقرار وما بعد قوله : وكذا تقول قمت مقامه للنوع الثاني أي الذي لا يكون مشتقا من حدث بمعنى الاستقرار.

(٣) الآية ٥ من سورة التوبة.

٤٩٠

فلا يقال : كتبت المصحف مكان (١) ضرب زيد ، كما قدمنا.

وينبغي على قول هؤلاء الأكثرين أن تحمل المقادير الممسوحة على الجهات الست ، لمشابهتها لها في الانتقال فان تعيين ابتداء الفرسخ مثلا لا يختص موضعا دون موضع ، بل يتحوّل ابتداؤه وانتهاؤه كتحول الخلف قداما ، واليمين شمالا.

هذا ، واعلم أنه إنما نصب الفعل جميع أنواع الزمان ، لأن بعض الأزمنة ، أعني الأزمنة الثلاثة ، مدلوله ، فطرد النصب في مدلوله وفي غيره ، وأما المكان فلما لم يكن لفظ الفعل دالا على شيء منه ، بل دلالته عليه عقلية لا لفظية ، لأن (٢) كل فعل لا بدّله من مكان ؛ نصب من المكان ما شابه الزمان الذي هو مدلول الفعل ، أي الأزمنة الثلاثة ، وهو غير المحصور منه ، والمعدود ؛ ووجه المشابهة : التغير والتبدل في نوعي المكان ، كما في الأزمنة الثلاثة.

وأما انتصاب نحو : قعدت مقعده وجلست مكانه ، ونمت مبيته فلكونه متضمنا لمصدر معناه الاستقرار في ظرف فمضمونه مشعر بكونه ظرفا لحدث بمعنى الاستقرار ، كما أن نفسه ظرف المضمون ، بخلاف نحو : المضرب والمقتل ؛ فلا جرم ، لم ينصبه على الظرفية إلا ما فيه معنى الاستقرار.

وأما قول المصنف في الشرح (٣) : لما كان ظرف الزمان المعيّن مدلول الفعل ، تعدى إليه الفعل ؛ فهو مغالطة ، منشؤها الاشتراك في لفظ المعيّن ، وذلك أن الفعل يدل على المعيّن ، لكن من الأزمنة الثلاثة ، لا على الوقت المعيّن المراد به ههنا وهو المحصور ، كاليوم ، والشهر والليلة ، والسنة ، وكذا قوله : الفعل لما كان يدل على المكان المبهم تعدّي إليه ؛ غلط ، أو مغالطة ، وذلك لأن الفعل لا يدل على المكان المبهم أصلا ، لأن المقصود من دلالة اللفظ

__________________

(١) يجوز مثل هذا الاستعمال عند غيره من النحويين.

(٢) بيان لوجه دلالة الفعل على المكان عقلا.

(٣) أي في شرحه على هذه الرسالة «الكافية».

٤٩١

على الشيء : الدلالة الوضعية لا العقلية ، ودلالة الفعل على المكان عقلية لا وضعية ، ومع هذا ، فهو يدل عقلا على مطلق المكان لا على مبهم المكان ، بالتفسير الذي فسّره.

قوله : «ولفظ مكان» ، وكذا لفظ الموضع والمقام ونحوه بالشرط المذكور في الكل وهو انتصابه بما فيه معنى الاستقرار.

وقوله «وما بعد دخلت» ، اعلم أن دخلت وسكنت ونزلت ، تنصب على الظرفية كلّ مكان دخلت عليه ، مبهما كان ، أو ، لا ، نحو : دخلت الدار ، ونزلت الخان ، وسكنت الغرفة ، وذلك لكثرة استعمال هذه الأفعال الثلاثة فحذف حرف الجر ، أعني «في» معها في غير المبهم أيضا ، وانتصاب ما بعدها على الظرفية عند سيبويه ؛ وقال الجرمي : دخلت : متعدّ ، فما بعده مفعول به لا مفعول فيه ؛ والأصح أنه لازم ، ألا ترى أن غير الأمكنة بعد «دخلت» يلزمها «في» نحو : دخلت في الأمر ، ودخلت في مذهب فلان ؛ وكثيرا ما تستعمل «في» مع الأمكنة أيضا بعده ، نحو : دخلت في البلد ، وكذا نحو قوله تعالى : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)(١) ، وقولك : نزلت في الخان.

وكون مصدر «دخلت» على الدخول ، والفعول في مصادر اللازم أغلب وكونه ضد «خرجت» ، وهو لازم اتفاقا ، يرجحان كونه لازما ، فمن ثمّ ، قال : على الأصح.

وأما نحو : ذهبت الشام ، فانتصاب الشام على الظرفية اتفاقا ، لأن «ذهبت» لازم ، وهو شاذ ، وكذا قوله :

١٦٢ ـ فلأبغينكم قنا وعوارضا

ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد (٢)

أي : في قنا وفي عوارض ، وهما موضعان ؛ ومثله قوله :

__________________

(١) الآية ٤٥ من سورة ابراهيم.

(٢) قنا ، وعوارض ، مكانان ، والمعنى : لا طلبنكم في هذين المكانين. ولابة ضرغد مكان كذلك ، أي لأجعلن الخيل ، أو الفرسان الراكبين عليها تصير قبالتها ، وروي : ولاوردنّ الخيل ، والبيت من شعر عامر بن الطفيل ، قاله بعد موقعة انهزم فيها هو وقومه في يوم سمي : يوم الرقم ، وهو من أيام العرب.

٤٩٢

١٦٣ ـ لدن «بهزّ» الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثعلب (١)

ويكثر حذف «في» وإن كان شاذا من كل اسم مكان يدل على معنى القرب أو البعد ، حتى يكاد يلحق بالقياس ، نحو : هو منى مزجر الكلب ومناط الثريا ، ومقعد الخائن ، ومنزلة الشغاف (٢) ؛ ولا بأس أن نذكر بعض ما أهمله المصنف من أحكام الظروف ، فنقول : ظرف الزمان على ضربين : ما يصلح جوابا لكم ، وهو ما يكون معدودا ، سواء كان معرفة أو نكوة ، فإذا كان كذا (٣) ، استغرقه الفعل الناصب له إن أمكن (٤) كما إذا قيل لك : كم سرت؟ فقلت : شهرا ، استغرق السير جميع الشهر ليله ونهاره ، الا أن تقصد المبالغة والتجوّز ، وكذا إذا قلت : شهر رمضان ، فان لم يمكن استغراق الجميع : استغرق منه ما أمكن ، كما تقول : شهرا في جواب : كم صمت؟ أو كم سريت ، فالأول يعمّ جميع أيامه ، والثاني جميع لياليه ؛

والذي يصلح جوابا لمتى ، هو الزمان المختص معدودا كان ، كالعشر الأول من رمضان ، أو ، لا ، ومحدودا كان ، كيوم الجمعة ، أو ، لا ، كالزمن الماضي ، ومعرفة كان ، كيوم الجمعة ، أو ، لا ، كأول يوم من رمضان ، ويوما قدم فيه زيد ، ولا يجوز أن يجاب عنه بمعدود غير مختص ، كيوم ، وثلاثة أيام ، وكذا لو قلت : ثلاثة أيام من رمضان ، لأنه غير مختص ، ولو قلت : الثلاثة الأول من رمضان ، جاز ، لاختصاصها ؛

ويجوز في جواب «متى» التعميم والتبعيض إن صلح الفعل لهما ، كيوم الجمعة ، في

__________________

(١) هذا من قصيدة لساعدة بن جؤية الهذلي. والبيت في وصف الرمح وحركته في يد الفارس واهتزازه كما يهتز الثعلب في سيره. والعسلان مشية للثعلب فيها اضطراب واعوجاج. والمعنى : كما عسل في الطريق الثعلب.

(٢) انظر هذه الأمثلة وما أشبهها في باب المبتدأ والخبر

(٣) أي فان كان معدودا.

(٤) وذلك إذا لم يكن الفعل يختص ببعض أوقات الزمان دون بعض كالسير ، بخلاف السّرى فانه مختص بالليل والصوم فانه مختص بالنهار شرعا.

٤٩٣

جواب : متى سرت؟ وإن وجب التعميم فهو له ، كيوم الجمعة في جواب : متى صمت؟ وكذا إن لم يكن صالحا إلا للتبعيض فهو له ، نحو : يوم الجمعة في جواب : متى خرجت من البلد ، فما لا يصلح إلا جواب «متى» : المختص غير المعدود ، كيوم الجمعة ، وما لا يصلح إلا جواب «كم : المعدود غير المختص ، كثلاثة أيام ، وشهر وسنة ، وما يصلح جوابا لهما : المختص ، كالعشر الأول من رمضان ؛ قال سيبويه : الدهر ، والليل والنهار ، مقرونة باللام لا تصلح إلا جوابا لكم يعني : الليل معطوفا عليه النهار كقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)(١) ، أي الدهر ، فأما إذا قلت : يسير عليه النهار ، أو سير عليه الليل ، مشيرا إلى نهار وليل معينين ، فيقعان جوابا لمتى.

وقال سيبويه : أسماء الشهور كالمحرم وصفر ، إلى آخرها ، إذا لم يضف إليها اسم الشهر (٢) ، فهي كالدهر ، والليل والنهار ، والأبد ، أي تكون جوابا لكم لا غير ، قال : لأنهم جعلوهن جملة واحدة لعدة الأيام ، كأنك قلت : سير عليه الثلاثون يوما إذا قلت : سير عليه صفر ، فيستغرقها السير ؛ ولو أضفت إليها «شهرا» صارت كيوم الجمعة ، وصلحت جوابا لمتى أيضا ؛ هذا كلامه ، فان كان مستندا إلى رواية عن العرب فبها ونعمت والا ، فأي فرق بينهما من حيث المعنى؟

قوله (٣) : كأنه قيل سير عليه الثلاثون يوما ، قلنا ليس تعيين العدد مع اختصاص الزمان بمانع من وقوعه جوابا لمتى ، كالعشر الأول من رمضان ، على ما ذكرنا ؛

ولنذكر حكم الظروف في التصرف وضده ، وفي الانصراف (٤) وضده فنقول : المراد بغير المتصرف من الظروف : ما لم يستعمل إلا منصوبا بتقدير «في» أو مجرورا بمن ،

__________________

(١) الآية ٢٠ من سورة الأنبياء.

(٢) أي لفظ : شهر. كما يأتي في تمثيله.

(٣) أي قول سيبويه : يريد أن يناقشه فيما ذهب إليه.

(٤) أي كونها مصروفة أو ممنوعة من الصرف.

٤٩٤

وقد ينجر «متى» بإلى ، وحتى أيضا ، وينجر «أين» بإلى أيضا مع عدم تصرفهما ، و «من» الداخلة على الظروف غير المتصرفة : أكثرها يمعنى «في» نحو : جئت من قبلك ومن بعدك ، و : (مِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ)(١) ، وأما نحو : جئت من عندك ، و : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ)(٢) فلابتداء الغاية ؛

والمتصرف من الظروف : ما لم يلزم انتصابه بمعنى «في» أو انجراره بمن ؛ فمن الأول أكثر الظروف المبنية لزوما ، كإذ ، وإذا ، على تفصيل يأتي في الظروف المبنية ، وكصباح مساء ، ويوم يوم ، كما يجيء في المركبات ؛ وقد يجيء حيث و «إذ» ، متصرفين ، نحو : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)(٣) ، وقوله تعالى : (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ)(٤) ؛

ومن المعربة غير المتصرفة : بعيدات بين (٥) ، وذات مرة ، وذات يوم ، وذات ليلة ، وذات غداة ، وذات العشاء ، وذات الزمين ، وذات العويم ، وذا صباح ، وذا مساء ، وذا صبوح ، وذا غبوق ، فهذه الأربعة بغير تاء ، وإنما سمع في غير هذه الأوقات ، ولا يقاس عليه : ذات شهر ، ولا ذات سنة ؛ وهذه كلها تلزم الظرفية في غير لغة خثعم» ، وهم يصرّفونها قال شاعرهم :

١٦٤ ـ عزمت على إقامة ذي صباح

لأمر ما يسوّد من يسود (٦)

__________________

(١) الآية ٥ من سورة فصلت.

(٢) الآية ٥ من سورة مريم.

(٣) الآية ١٢٤ من سورة الأنعام. وهكذا أوردها الرضى بصفة الجمع وهي قراءة نافع أحد القراء السبعة.

(٤) الآية ٨٧ من سورة القصص.

(٥) سيذكر الشارح أن تفسيرها سيأتي في الظروف المركبة من هذا الكتاب. وفي باب الاضافة بالنسبة لبعضها ، وسيشرح ما لم يذكر في البابين المذكورين.

(٦) البيت منسوب إلى أنس بن مدركة الخنقمي. ولذلك يقول الشارح كما قال شاعرهم وهو من أبيات حماسية ، أولها :

دعوت بني قحافة فاستجابوا

فقلت ردوا فقد طاب الورود

وبعد أن أورد البغدادي هذه الأبيات ، وبيت الشاهد آخرها ، استبعد أن يكون البيت المستشهد به مرتبطا بما قبله.

٤٩٥

واما ذات اليمين وذات الشمال فكثيرتا التصرف ، كما يجيء في باب الظروف المبنية ؛ ومعنى الظروف المركبة المذكورة يجيء في المركبات ؛ ومعنى ذات مرة وأخواته يجيء في باب الإضافة.

وقولهم : لقيته بعيدات بين ، أي فراق ، يقال ذلك إذا كان الرجل ممسكا عن اتيان صاحبه ، ثم يأتيه ثم يمسك عنه نحو ذلك ، ثم يأتيه ، ومعنى التصغير تقريب زمن اللقاء ، أعني بعد الفراق.

وكون هذه الظروف غير متصرفة موقوف على السماع.

ومن المعربات غير المتصرفة : ما عيّن من : غدوة وبكرة ، وضحى وضحوة وبكر ، وسحر وسحير ، وعشية ، وعتمة ، ومساء وصباح ونهار وليل ، وأعني بالتعيين ، أن تريد غدوة يومك وضحاه وضحوته ، وبكرته ، وسحره وعشيته ، وعتمة ليلتك ، ومساءها.

تقول : سير عليه ليلا ونهارا ، إذا أردت نهارك وليلك.

وبكرة وغدوة ، يكونان ، أيضا ، علمين ، ولا تريد بهما غدوة يومك وبكرته كما سيجيء حكمهما ، فتكونان ، إذن ، متصرفتين.

والحكم بعدم تصرف هذه الظروف المعينة ، مبني على كونها معينة من دون العلمية وذلك أنهم جعلوا الزمان المعين من دون علمية ولا آلة تعريف كهذه الظروف المعيّنة ، لازما لطريقة واحدة أعني الظرفية ، تنبيها على مخالفته لسائر المعارف ، وذلك لأن كل نكرة صارت معرفة ، فلا بد فيها إما من العلمية ، وإما من اللام أو الاضافة ، وهذه كانت نكرات فتعينت بمجرد عناية (١) المتكلم ، لا بآلة ، ولا بعلمية ؛ والدليل على أنها ليست اعلاما أن عتمة وعشية وضحوة من هذه الظروف متصرفة على الأشهر مع تعينها ؛ ولو كانت أعلاما لم تتصرف ، فتعريف هذه الأسماء ، إذن ، بكونها معدولة عن اللام ؛ فهي معدولة عن

__________________

(١) أي قصد المتكلم.

٤٩٦

اللام وليست متضمنة لها ، كما تضمنت «أمس» في لغة أهل الحجاز ، أعني البناء (١) ، إذ لو تضمنتها لبنيت بناء «أمس» ، والدليل على كونها معدولة عن اللام : أنّ من قاعدتهم الممهدة أنّ لفظ الجنس لا يطلق على واحد معيّن منه ، إذا لم يكن مضافا ، إلّا معرفا بلام العهد ، سواء كان علما أو ، لا ، كالبيت ، والنجم ، والصعق ، وقوله تعالى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(٢) ، بلى ، وجد «سحر» من جملة هذه الأسماء المعينة ممنوعا من الصرف ، فاضطررنا إلى تقدير العلمية فيه بعد العدل عن اللام لتحصيل السببين.

وقال بعضهم (٣) : إنه عند تعيينه ، متضمن للّام فهو عنده مبني كأمس عند الحجازيين ، وعلى كلا القولين فهو مخالف لأخواته المذكورة من : ضحى ، وبكرة ، ومساء ، وصباحا ، ونهارا ، وليلا ، معينة ، فانها منونة اتفاقا ، إلا ما زعم الجوهري (٤) : أن «ضحى» معينا لا يتصرف ، كسحر ، ولا أدري ما صحته.

أما غدوة وبكرة ، فهما ، وإن كانتا معيّنتين مع العلمية ، إلا أن تلك العلمية هي الجنسية ، كما في أسامة ، ونذكر في باب العلم أن علم الجنس في معنى النكرة ، على أن الخليل كما يجيء بعيد ، حكى : آتيك اليوم غدوة وبكرة متوتين ؛ وألحق عبد القاهر (٥) ، عتمة وضحوة معينتين بسحر في منع الصرف لا عن سماع ، والأولى منعه ، إذ لم يسمعا إلا منونتين ، فكل ما ثبت ترك تنوينه من هذه المعينة ، فهو إما لتضمن اللام فيبنى ، كسحر عند بعضهم ، وإما للعلمية المقدرة كسحر عند الجمهور القائلين بمنع صرفه.

__________________

(١) قوله أعني البناء يمكن أن يكون تفسيرا لما يلزم من مشابهتها لأمس لو كانت متضمنة للام من البناء في لغة أهل الحجاز.

(٢) الآية ١٦ من سورة المزمل.

(٣) هذا القائل هو صدر الأفاضل ناصر بن علي المطرزي من علماء القرن السادس كما نقل عنه ابن هشام في أوضح المسالك وتقدم ذكره.

(٤) الجوهري صاحب الصحاح وتقدم ذكره.

(٥) تقدم ذكر الإمام عبد القاهر الجرجاني.

٤٩٧

أما غدوة وبكرة ، فقد زعم الخليل أنه إذا قصد بهما التعيين جاز تنوينهما كما في ضحوة ، نحو : أتيتك اليوم غدوة وبكرة ، وكذا قال أبو الخطاب (١) إنه سمع ممن يوثق به : آتيك بكرة ، وهو يريد الاتيان في يومه أو غده ، لكن الأغلب المشهور فيهما ترك التنوين مع التعيين ، كما كانتا كذلك علمين للجنس ، كما يجيء ، فيقدر العلمية فيهما كما في سحر.

فالمقصود مما تقدم أن عدم تصرف هذه المعيّنة مبنيّ على تعيينها من دون علمية ولا آلة تعريف ، وتعينها ، كذلك ، مستند إلى السماع فلا يقاس عليها في مثل هذا التعيين نحو : شهر وسنة ، وساعة ، وغديّة (٢) وغيرها ، فلا يثبت ، إذن ، عدم تصرفها (٣).

فالظروف الثلاثة عشر المذكورة ، إذا كانت معيّنة وجب عدم تصرفها وإذا لم تكن معيّنة كانت متصرفة ، نحو : صيد عليه غدوة ، فإذا تصرفت وأردت تعيينها فلا بدّ فيها من اللام أو الإضافة ، تقول : رأيته عند السحر الأعلى ، ولا تقول عند سحر الأعلى.

وأما الكلام في انصراف الظروف وعدم انصرافها فنقول : غدوة وبكرة غير منصرفتين اتفاقا وإن لم تكونا معينتين لكونهما من أعلام الأجناس كأسامة ، تقول في التعيين : أتيت اليوم غدوة أو بكرة ، وفي غير التعيين : لقيته العام الأول أو يوما من الأيام (٤) غدوة أو بكرة ، فتمنع الصرف في الحالين ، فهو في غير التعيين ، كما تقول : لقيت أسامة ، وإن كنت لقيت واحدا من الجنس غير معيّن.

وقد يجيء الكلام على أعلام الأجناس في باب الأعلام ؛ وأن علميتها لفظية لا معنى تحتها.

__________________

(١) كنيته الأخفش الأكبر ، واسمه : عبد الحميد بن عبد المجيد ، وهو من شيوخ سيبويه ، نقل عنه كثيرا في كتابه ، وهو من علماء الطبقة الثالثة في نحاة البصرة ، توفي سنة ١٧٧ ه‍.

(٢) تصغير غدوة.

(٣) أي نحو شهر وسنة الخ.

(٤) فيكون : العام الأول أو يوما من الأيام قرينته على عدم التعيين.

٤٩٨

وإذا لم يقصد تعيينهما ، جاز أيضا تنوينهما اتفاقا ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً)(١) ، وإذا قلت : كل غدوة وبكرة ، أو : ربّ غدوة وبكرة فهما منونتان لا غير ، لأن «كلّا» و «ربّ» من خواص النكرات.

والأغلب الأكثر في أعلام الأجناس أن تكون موضوعة أعلاما ، لا منقولة ، من النكرات نحو أسامة وثعالة ، وجيأل (٢) ، فهي مرتجلة في أعلام الأجناس كسعاد وزينب في أعلام الأشخاص.

فغدوة ، علم مرتجل ، وغداة هي الجنس ، كقولك : هذه غداة باردة ، ونحن في غداة طيبة.

وقد جاء «غدوة» جنسا في القرآن في قراءة من قرأ : (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ)(٣).

قال سيبويه : والأصل في هذين الاسمين ، غدوة ؛ وبكرة محمولة عليها ، لاجتماعهما في المعنى وفي البنية ، كما أن يذر محمول على يدع في حذف الواو ، وإنما قال هذا ، لأن بكرة وضعت نكرة ، وأعلام الأجناس مرتجلة كما مرّ.

وحكى أبو علي عن أبي زيد : لقيته فينة بعد فينة ، ولقيته الفينة بعد الفينة ، أي الحين بعد الحين ، فهي علم الجنس ، كما تقول لقيته في ندري أو في الندري أي في الندرة.

وذكر سيبويه أن بعض العرب يدع التنوين في «عشية» كما في غدوة ، يعني أنه يجعلها ، أيضا ، علم جنس ، وردّه المبرد ، وقال : عشية منوّنة على كل حال ؛ قال السيرافي حكاية سيبويه لا تردّ.

__________________

(١) الآية ٣٨ من سورة القمر.

(٢) علم جنس للضبع.

(٣) الآية ٢٨ من سورة الكهف ، والقراءة التي أشار إليها هي قراءة ابن عامر أحد القراء السبعة.

٤٩٩

وسحر غير منصرف ، لا لكونه علم الجنس ، بل إذا أردت به سحر يومك كما ذكرنا.

ومن الظروف المكانية ما هو عام التصرّف ، كفوق ، وتحت ، وعند ، ولدي ، ومع ، وبين بين ، بلا إضافة ، وحوال ، وحوالي ، وحول ، وحولى وأحوال ، والتثنية للتكرير ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)(١) ؛ وكذا «هنا» وأخواته ، وبدل ، ومكان بمعناه ؛ ولفظتا يمين وشمال كثيرتا التصرف ، وكذا : ذات اليمين وذات الشمال ، وما بقي من الجهات متوسط التصرف ، وكذا لفظ بين ، إذا لم يركب.

وأما حيث ، ووسط ساكن السين ، ودون ، بمعنى قدام فنادرة التصرف : قال : الفرذدق :

١٦٥ ـ أتته بمجلوم كأن جبينه

صلاءة ورس وسطها قد تفلقا (٢)

ووسط بتحريك السين متصرف ؛ وقد يدخل «دون» التي بمعنى قدّام معنيان آخران ، هي في أحدهما متصرفة ، وذلك معنى أسفل ، نحو أنت دون زيد ، إذا كان لزيد مرتبة عالية وللمخاطب مرتبة تحتها فيوصل إلى المخاطب قبل الوصول إلى زيد ، ويتصرّف فيها بهذا المعنى ، نحو : هذا شيء دون أي خسيس.

ومعناها الآخر : غير ، ولا يتصرف فيها بهذا المعنى ، وذلك نحو قوله تعالى : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً)(٣) ، كأن المعنى : أئذا وصلت إلى الآلهة أكتفي بهم ، ولا أطلب الله الذي هو خلفهم ، ووراءهم فهم كأنهم قدامه في المكان ، تعالى الله عنه.

__________________

(١) الآية ٤ من سورة الملك.

(٢) البيت من قصيدة للفرزدق في هجاء جرير ، كلها فحش واقذاع. أوردها البغدادي وشرحها. وقد خلت منها بعض النسخ من ديوان الفرزدق.

والمجلوم المقصوص بالجلمين وروى أتته بمحلوق. والصلاءة بالهمزة وبالياء ، هي ما يدق فيه الطيب ونحوه. وتفلقا : تشقق من كثرة الدق.

(٣) الآية ٢٣ من سورة يس.

٥٠٠