شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤

فافعلون ، لا يجوز فيه ، لا قبل الغلبة ولا بعدها ، وأيضا ، أفعل فعلاء لا يجيء الا في الألوان والخلق.

والأولى أن يقال : إنه في الأصل افعل التفضيل ، بشهادة «أجمعون» وجمع ، فكأن معنى قولنا : قرأت الكتاب أجمع ، في الأصل : أنه أتمّ جمعا في قراءتي من كل شيء فهو تفضيل لقولهم جميع ، نحو : أحمد وأشهر في المحمود والمشهور ، ثم جعل بمعنى جميعه ، وانمحى عنه معنى التفضيل ، فعدل في اللفظ عن لوازم أفعل التفضيل الثلاثة ، أعني اللام والإضافة و «من» ، كما ذكرنا في أخر ، فأجمع وآخر فيهما العدل والوصف والوزن ، وأخر وجمع فيهما العدل والوصف.

ويرد على جعل أجمع من باب الأفضل أن مؤنثه جمعاء ، وحقه : جمعى ، كأخرى.

والجواب عنه : أنه لما انمحى عنه معنى التفضيل ، جاز أن يغيّر بعض تصاريفه عما هو قياسه.

ولما بقى فيه معنى الصفة مع أنّ وزنه أفعل ، صار كأحمر الذي هو على أفعل وهو صفة ، فجاز : جمعاء كحمراء ، وإذا جاز لك أن تقول حسناء ، وخشناء ، وعلياء ، مع أن مذكراتها : حسن وخشن وعال ، لكونها (١) صفات فكيف إذا انضم إلى الصفة وزن افعل.

هذا ، وكان على المصنف أن يذكر «سحر» معيّنا في العدل المحقق ، إذ هو غير منصرف في القول المشهور ، ويذكر ، أيضا أمس ، رفعا على لغة بني تميم ، كما يجيء في الظروف المبنية ، لقيام الدليل على عدلهما ، وهو أن كل لفظ جنس أطلق ، وأريد به فرد من أفراده معيّن ، فلا بد فيه من لام العهد ، سواء صار بالغلبة علما نحو : النجم ، والصّعق ،

__________________

ـ ـ والحوص جمع أحوص وهم قوم علقمة جمعه على فعل باعتبار الوصف ثم جمعه على الأحاوص باعتبار الاسمية وعبد عمرو أحد بني الأحوص. ومن هذا الشعر قوله :

فان تتعدني اتعدك بمثلها

وسوف أزيد الباقيات القوارصا

(١) يريد أن الوصف في كل من حسن وخشن وعال. كان كافيا في مجيء مؤنثها على فعلاء فمن باب أولى إذا كان المذكر على وزن أفعل.

١٢١

أو ، لا ، نحو قوله تعالى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(١) ، أخذا من استقراء كلامهم ؛ فثبت عدل سحر ، وأمس محققا ، وأما علميتهما فمقدرة ، كما يجيء في الظروف المبنية ، قوله «أو تقديرا» ، قد مضى التقدير (٢).

اعلم أن ما هو على وزن فعل من الأسماء على ثلاثة أضرب : إما اسم جنس غير صفة ، وذلك على ضربين : مفرد ، كصرد ، وهدى ، وجمع كغرف وحجر ، فهذه كلها منصرفة وان سمي بها إذا كان المسمى مذكرا ،

وإما صفة ، وذلك على ثلاثة أقسام : أحدها مبالغة فاعل غير مختصة بالنداء ، كحطم وختع (٣) في مبالغة حاطم وخاتع ، فهو كضروب في مبالغة ضارب ، وثانيها مبالغة فاعل مختصة بالنداء ، نحو يا فسق ، ويا لكع ، فهو في المذكر كفعال في المؤنث نحو يا فساق ويا لكاع ، كما يجيء في باب النداء ، وفعل وفعال ، المختصان بالنداء ، معدولان عند النحاة ، بخلاف نحو حطم وختع ، قالوا : لو لم يكونا معدولين ، بل كانا كحطم ، لم يختصا بالنداء ، بل ساوقا (٤) ما هما لمبالغته في شيوع الاستعمال ، كما ساوق حطم في الاستعمال حاطما ، ولم يختص بباب دون باب.

وأنا لا أرى في نقصان بعض الأشياء المشتركة في معنى عن بعض في التصرف ، دليلا على أن الناقص معدول عن الشائع ، وسيجيء لهذا مزيد بحث في أسماء الأفعال.

ولما كان من مذهبهم أن جميع أنواع «فعال» ، مبنية كانت ، أو ممنوعة من الصرف ، معدولة ، وكذا «فعل» المختص بالنداء ؛ فرّعوا عليه أنك إذا سميت بها ، ففعل لا ينصرف اتفاقا ، نحو فسق علما ، للعدل والعلمية ، وكذا : فعال عند بني تميم ، نحو : نزال وفجار وفساق ، أعلاما ؛ وهذا الذي قالوا : حقّ ، لو ثبت لهم أن جميعها معدول

__________________

(١) الآية ١٦ من سورة المزمل.

(٢) أي معنى العدل التقديري.

(٣) الحطم : الشديد : والختع الماهر الحاذق في الدلاله وهو أيضا من أسماء الضبع.

(٤) أي سارا مثله في عدم الاختصاص بالنداء.

١٢٢

ولم يثبت ، ودونه خرط القتاد ، كما يجيء في أسماء الأفعال.

وثالث الأقسام : جمع فعلى أفعل التفضيل ، ولا عدل فيها إلا في أخر وجمع وأتباعه ، كما ذكرناهما.

وإمّا علم ، وهو ـ ان جمع شرطين : ثبوت فاعل وعدم فعل قبل العلمية ، فهو غير منصرف ، كقثم (١) وجحى ، لأنه ثبت قاثم وجاح ، وعدم قثم وجحى قبل العلمية ، فحكمنا بكونه معدولا عن فاعل جنسا ، وقطعنا بعدم نقله عن فعل الجنسيّ ، فقلنا : هو علم مرتجل ، أي غير منقول عن شيء ، وهو معدول ، وانما حملناه على كونه معدولا ، ولم نجوّز أن يكون مرتجلا غير معدول ، كعمران وسعاد لكثرة كون فعل الجامع للشرطين ، غير منصرف واضطرارنا حينئذ إلى تقدير العدل فيه على ما تقدم لئلا تنخرم القاعدة الممهدة (٢) ، فكل فعل علم جامع للشرطين يجهل كونه في كلامهم منصرفا أو غير منصرف فعلينا أن نقدر العدل فيه ونمنعه الصرف ، الحاقا للمشكوك فيه بالأغلب.

أما «أدد» فانه وإن جمع الشرطين ، لكنه سمع في كلامهم منصرفا فلا نقدر العدل فيه.

وان اختلّ أحد الشرطين ، وذلك بألّا يجيء له فاعل قبل العلمية ، ولا فعل ، فهو منصرف ، لو جاء مثل ذلك في كلامهم ، ولا أعرف له مثالا ، وكذا ان جاء له فاعل قبل العلمية مع ثبوت فعل أيضا قبلها ، فهو منصرف ، كحطم وختع علمين ، لجواز نقله عن فعل جنسا وألّا يكون معدولا عن فاعل ، ولا سيما أن النقل في الأعلام أكثر وأغلب من العدل ، أما عمر وزفر ، علمين ، فكان الواجب على هذا الأصل صرفهما ، لأنه كما جاء

__________________

(١) القثم من أسماء الذكر من الضباع ، وقثم بمعنى أعطى. وجحى من جحا بالمكان إذا أقام ، ويقال جحاه جحوا واجتحاه : بمعنى اجتاحه أي استأصله.

(٢) وهي وجود سببين في الممنوع من الصرف أو واحد يقوم مقامهما.

١٢٣

لهما فاعل قبل العلمية ، جاء فعل أيضا ، نحو : عمر جمع عمرة ، والزّفر : السيّد ، قال الأعشى (١) :

٢٧ ـ أخور غائب يعطيها ويسألها

يأبى الظلامة منه النوفل الزفر (٢)

لكنهما لما سمعا غير منصرفين ، حكمنا بأنهما حال العلمية غير منقولين عن فعل الجنسيّ ، بل هما معدولان عن فاعل ، وان اختلّ الشرطان كلاهما فلا كلام في كونه منصرفا ، أيضا ، لو اتفق مجيئه.

فان قيل : هلّا حكم في المرتجلة التي هي نحو موهب ، ومكوزة ، ومحبب ، وحيوة ، أنها معدولة عن : موهب ، ومكازة ، ومحبّ وحيّة؟

قلت : لأنها وان كانت خارجة عن القياس ، الا أن هذه التغييرات رجوع إلى الأصل من وجه ، فكأنها ليست بمعدولة ، إذ العدل خروج عن الأصل ، وهذا رجوع إليه.

أما في محبب ومكوزة فظاهر ، وأما موهب فانه وان كان قياس معتل الفاء بالواو أن يساغ منه مفعل بكسر العين ، لكن الأصل في يفعل مفتوح العين ، ان يبني منه مفعل بالفتح ، فالعدول إلى الكسر في موضع وموجل مخالفة للأصل.

وانما خولف ، حملا على الأكثر ، وذلك لأن معتل الفاء الواوي أكثر من باب يفعل بكسر العين ، والموضع (٣) مبني على المضارع.

وقد حكى الكوفيون : موضع بفتح الضاد على الأصل؟

__________________

(١) المراد أعشى باهلة وهو عامر بن الحارث وكنيته أبو قحفان ، وجاء في بعض النسخ : الاعشى الباهلي.

(٢) من قصيدة له يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي وهو أخو الأعشى لأمه وكان قد قتل في سفره إلى حج ذي الخلصة (صنم كانوا يعبدونه) فقتله بنو نفيل بن عمر بن كلاب. وهي قصيدة جيدة قال البغدادي : ولجودتها وندرتها نشرحها. وشرحها كلها وذكر قصة قتل المنتشر. وقال ان القصيدة نسبت في بعض الآراء إلى أخت المنتشر

(٣) يريد اسم المكان لا خصوص هذه الكلمة. وهي فيما عدا ذلك مما ذكره مراد بها اللفظ نفسه.

١٢٤

وأما مورق في اسم رجل ، فانما صرف إما بناء على أنه فوعل ، أو على أنه مفعل ، لكن كونه أكثر من مفعل كما يجيء في التصريف أوهمهم أنه غير معدول عن مفعل بالكسر ، وكذلك موكل علما ، وأمّا :

٢٨ ـ شمس بن مالك (١)

بضم الشين ، فلما لم يلزم لم يعتبر في الوزن ، ولو سلمنا لزومه قلنا : انه منقول عن جمع شموس ، والا لزم جواز صرفه وترك صرفه كما في هند ، لأن أمر العدل ظاهر وليس كالعجمة في نوح ولوط ، حتى يقال إنه لا يؤثر في الثلاثي الساكن الأوسط.

وأمّا حيوة فان الصيغة لم تتغير ، والعدل خروج عن الصيغة الأصلية ، فوزن حيوة ، وحيّة : فعلة ، فلنا (٢) أن نرتكب كونها معدولة ؛

قوله «وقطام في تميم» ، أي في لغة بني تميم ، أما في لغة أهل الحجاز ففيها ، أيضا ، عدل مقدر عند النحاة ، لكنها مبنية ، وكلامه في المعربات غير المنصرفة ، ونعني بباب «قطام» ، ما هو على وزن فعال من أعلام الأعيان المؤنثة.

وذلك أن «فعال» على أربعة أقسام ، كما يجيء : اسم فعل كنزال ، وبناؤه ظاهر ؛ وعلم للمصادر على رأي النحاة ، كفجار للفجرة ، وصفة للمؤنث كفساق بمعنى فاسقة ، وهما ، أيضا ، مبنيان باتفاق ، قالوا لمشابهته (٣) باب نزال ، عدلا ووزنا ، ولم يكتفوا في المشابهة بالوزن لئلا يرد نحو : سحاب ، وجهام ، وكلام ، وكهام ؛ فانها معربة ، فقالوا :

__________________

(١) قال الرضى في الاستشهاد بهذا : وأما شمس بن مالك ... واقتصر على ذلك ولكن البغدادي جعله أحد الشواهد لأنه ورد في شعر لتأبط شرا ، ثابت بن جابر يرثي بها شمس بن مالك. وهي أبيات عشرة أوردها أبو تمام في أول الحماسة في باب المراثي. والبيت المقصود منها قوله :

واني لمهد من ثنائي فقاصد

به لابن عمّ الصدق شمس بن مالك

(٢) هكذا ورد : والصواب : فليس لنا أن نرتكب ولم يشر الجرجاني إلى شيء من النسخ الأخرى يكون فيها هذا التصحيح للعبارة.

(٣) المناسب : لمشابهتهما أي علم المصادر ووصف المؤنث ويمكن أن يكون التقدير : لمشابهة كل منهما.

١٢٥

كما أن نزال معدول عن : انزل ، ففساق وفجار في التقدير معدولتان عن فاسقة والفجرة.

والقسم الرابع : علم الأعيان المؤنثة ، فلغة الحجازيين بناؤه كله ، قيل لمشابهتها أيضا ، لنزال ، وزنا وعدلا مقدرا.

وبنو تميم افترقوا فرقتين : أكثرهم على أن ذات الراء من هذا القسم مبنية على الكسر للوزن والعدل المقدر ، كحضار ، وانما قدروا العدل فيها تحصيلا للكسر اللازم بسبب البناء ، إذ كسر الراء مصحح للامالة المطلوبة المستحسنة.

وغير ذات الراء كقطام معربة غير منصرفة للتأنيث والعلمية ؛ ولم يحتاجوا في ترك الصرف ههنا إلى تقدير العدل ، كما احتيج إليه في عمر ، الا أن بعض النحاة يقدرونه فيه من غير ضرورة ، لأنه من باب حضار الذي وجب تقدير العدل فيه لغرض البناء الذي هو سبب الامالة ، فقدّروه فيه أيضا طردا للباب.

وأقلّهم (١) على أن جميع هذا القسم غير منصرف ، من ذوات الراء كان ، أو ، لا ، وسيجيء الكلام على تقدير العدل في مثله في أسماء الأفعال.

الوصف

وشرط تأثيره في منع الصرف

قال ابن الحاجب :

«الوصف ، شرطه أن يكون في الأصل فلا تضره الغلبة فلذلك»

«صرف : مررت بنسوة أربع ، وامتنع : أسود وأرقم للحية ،»

«وأدهم للقيد ، وضعف منع : أفعى للحيّة ، وأجدل للصقر ،»

«وأخيل لطائر».

__________________

(١) أي أقل بني تميم ، وهو مقابل لقوله قبل : أكثرهم

١٢٦

قال الرضى :

قوله : «الوصف» ، تقدير الكلام : شرطه أن يكون في الأصل فلذلك صرف : مررت بنسوة أربع ، ولا تضره الغلبة ، فلذلك امتنع : أسود وأرقم.

وأنا إلى الآن لم يقم لي دليل قاطع على أن الوصف العارض غير معتدّ به في منع الصرف ، أما قولهم : مررت بنسوة أربع مصروفا ، فيجوز أن يكون الصرف لعدم شرط وزن الفعل على ما يذكر ، وهو عدم قبوله للتاء ، فانه يقبلها لقولهم : أربعة ، لا لعدم شرط الوصف.

وليس قولهم : ان التاء في أربعة ليست بطارئة على أربع ، لأن أربعة للمذكر ، وأربعا للمؤنث والمذكر في الرتبة قبل المؤنث بخلاف يعمل ويعملة ، فان يعملة للمؤنث فالتاء طارئة ؛ بشيء (١) ، وان دققوا فيه النظر ، لأنه إذا جاز ألّا يعتدّ بالوزن الأصلي في يعمل ، لكونه قد يعرض له بعد ، (٢) ما يخرجه عن الاعتبار وهو التاء في المؤنث ، فكيف يعتد بالوزن العارض في أربع مع كونه قبل ، على حالة خرج بها عن شرط اعتبار الوزن ، وهي اتصاله بالهاء؟ فإذا كان الوزن في الحال حاصلا فيهما والمخرج عن اعتباره في حال أخرى ، فسواء كانت تلك الحال قبل أو بعد ، بل الأوّل ينبغي أن يكون أضعف ، لأنه عارض غير لازم ، إذ قد يجوز في أربع للمؤنث استعمال الأصل أعني أربعة للمذكر ؛ وفي الثاني أعني يعملا وزن الفعل أصل لكنه غير لازم لأنه يقال للمؤنث يعملة ؛ فالوزنان متساويان في عدم اللزوم ، وأربع يزيد ضعفا بعروض الوزن ، على يعمل.

قوله : «فلا تضر الغلبة» ، معنى الغلبة أن يكون اللفظ في أصل الوضع عاما في أشياء ، ثم يصير بكثرة الاستعمال في أحدها أشهر به بحيث لا يحتاج لذلك (٣) الشيء إلى قرينة ، بخلاف سائر ما كان واقعا عليه ، كابن عباس ، فانه كان عاما يقع على كل واحد من بني

__________________

(١) خير عن قوله : وليس قولهم أن الثاء في اربعة الخ ..

(٢) بعد أي بعد جعله وصفا وفيما يأتي قوله في أربع : مع كونه قبل أي قبل جعله وصفا.

(٣) أي لدلالته على ذلك الشيء. وكذلك في قوله بعد. فلا يحتاج له.

١٢٧

العباس ، ثم صار أشهر في عبد الله فلا يحتاج له إلى قرينة ، بخلاف سائر أخوانه وكذا النجم ، في الثريا ، والبيت في الكعبة ، فكذا أسود ، كان عاما في كل ما فيه سواد ، فكثر استعماله في الحيّة السوداء حتى لا يحتاج فيها إلى قرينة من الموصوف أو غيره إذا عنيت به ذلك النوع من الحيات بخلاف سائر السّود ، فانه لا بد لكل منها إذا قصدته من قرينة ، إما الموصوف نحو : ليل أسود ، أو غيره نحو : عندي أسود من الرجال ، وبهذا الشرح يتبين لك أنه لا تخرج الأوصاف العامة بالغلبة عن معنى الوصفية ، ولا سيّما إذا لم تصر أعلاما بالغلبة ، فان اعتبار الوصف مع العلمية فيه نظر ، كما يجيء ؛ وكيف يخرج عن الوصف ، ومعنى الغلبة تخصيص اللفظ ببعض ما وضع له ، فلا يخرج عن مطلق الوصف ، بل انما يخرج عن الوصف العام ، أي لا يطلق على كل ما وضع له ؛ بلى يخرج الوصف لفظا عن كونه وصفا أي لا يتبع الموصوف لفظا ، فلا يقال : قيد أدهم ، لكن المقصود في باب ما لا ينصرف : الوصف من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، فبان بهذا ضعف قول المصنف في شرح قوله بعد : (١) وخالف سيبويه الأخفش ، وهو قوله : ومذهب سيبويه أولى لما ثبت متقدما من اعتبار الوصفية الأصلية وان زال تحقيقها معنى ، بل لا استدلال له في باب أحمر إذا نكر بعد العلمية بباب أسود الغالب ، لأن معنى الوصف في أحمر ، إذا زال بالعلمية تحقيقا لم يعد بعد التنكير ، لأن معنى : رب أحمر ، إذن ، ربّ مسمّى بأحمر ، كان فيه الحمرة ، أو ، لا ، حتى يجوز في السودان المسمّى كل واحد منهم بأحمر : ربّ أحمر لقيته ، فإذا لم يعد تحقيقا لم يعتبر في منع الصرف.

ويجوز مع العلمية ، أيضا بقاء معنى الوصف كما يجيء ، فيجوز أن يعتبر بعدها فليس اعتبار الوصف بعد العلمية بلازم ، وهو في الوصف الغالب من دون العلمية ، كاسود ، لازم ، لبقائه بحاله قطعا.

__________________

(١) في البحث الأخير من باب ما لا ينصرف عنه الكلام على تنكير نحو أحمر بعد العلمية.

١٢٨

ويعضد بقاء معنى الوصف في مثله عندهم قول أبي علي في كتاب الشعر (١) : الأبرق ، والأبطح ، وإن استعملا استعمال الأسماء ، وكسّرا تكسيرها ، لم يخلع عنهما معنى الوصف ، بدلالة أنهم لم يصرفوهما ، ولا نحوهما ، في النكرة فعلمت أن معنى الوصف مقرّ فيهما ، وإذا أقرّ فيهما معنى الوصف علّقت الحال والظرف بهما.

هذا لفظه ، ونحن نعلم أن معنى أسود الغالب ؛ حية فيها سواد ، ومعنى أرقم حية فيها سواد وبياض ، ومعنى أدهم ؛ قيد فيه دهمة أي سواد ، أي قيد من حديد لأن الحديد أسود.

فلم يثبت بنحو أسود أن الوصفية الأصلية تعتبر بعد زوالها ، فلا حجة ، إذن ، لسيبويه ، في منع صرف أحمر المنكر بعد العلمية ، كما أنه لم يثبت بأربع : ان الوصفية العارضة لا تعتبر.

وقال بعضهم : ربما لا تعتبر الصفة في الغالبة نحو أبطح ونحوه من الغالبات فتصرف ، وذلك لنقصانها عن سائر الصفات لفظا لعدم جريها على الموصوف ، وان كان معنى الوصف باقيا فيها.

قوله : «وضعف منع أفعى» ، معطوف على قوله : صرف .. أي ولكون الوصف الأصلي معتبرا ، ضعف منع أفعى ، لأنه لم يتحقق كونه وصفا في أصل الوضع ، ولا يثبت أيضا في الاستعمال نحو أيّم أفعى ، بل توهّم أنها موضوعة للصفة ، لما رأوا أنها للحية الخبيثة الشديدة ، من قولهم فعوة السم ، أي شدته.

وكذا توهم الصفة في الأجدل الذي هو الصقر ، أنه موضوع في الأصل للوصف ، أي طائر ، ذو جدل وهو الإحكام ، وقد قيل للدرع جدلاء ، فكأنها مؤنث أجدل.

__________________

(١) لأبي علي الفارسي كتاب اسمه : الايضاح الشعري. وينقل الرضى في شرحه هذا عن الفارسي فيقول مرة عنه : كتاب الشعر ، ومرة : الكتاب الشعري. وذكر السيوطي في البغية أن للفارسي كتابا اسمه : أبيات الاعراب ، فربما كان هو المقصود من كلام الرضى.

١٢٩

وكذا توهم في أخيل أن معناه الأصلي : طائر ذو خيلان ، ولم يثبت ما توهموه تحقيقا.

ولنا أن نقول : صرف هذه الكلمات ونحوها ، لأن مستعملها لا يقصد معنى الوصف مطلقا ، لا عارضا ولا أصليا ، فأفعى وان كانت في نفسها خبيثة ، وأجدل ، طائرا ذا قوة (١) ، وأخيل طائرا ذا خيلان ، الا أنك إذا قلت مثلا : لقيت أجدلا ، فمعناه هذا الجنس من الطير ، من غير أن تقصد معنى القوة ، كما تقول : رأيت عقابا ، لا تقصد فيها معنى الوصف بالشدة ، وان كانت أقوى من الصقر ، وليس صرفها لكونها غير موضوعة للوصف تحقيقا كما أشار إليه المصنف ، فأما منع صرف مثله ، فغلط ووهم.

__________________

(١) أي وان كان أجدل طائرا ذا قوة. وكذا فيما بعده. بالعطف على قوله : وان كانت في نفسه خبيثة.

١٣٠

التأنيث المانع من الصرف

أنواعه وأحكامه وشرط تأثيره

قال ابن الحاجب :

«التأنيث بالتاء ، شرطه العلمية ، والمعنوي كذلك وشرط تحتم»

«تأثيره : زيادة على الثلاثة أو تحرك الأوسط أو العجمة ، فهند»

«يجوز صرفه ، وزينب ، وسقر ، وماه ؛ فقدم منصرف ،»

«وعقرب ممتنع».

قال الرضى :

اعلم أن التأنيث على ضربين : تأنيث بالألف وتأنيث بالتاء ، فما هو بالألف متحتم التأثير بلا شرط ، للزوم الألف وضعا على ما مر ، ولذا قام مقام سببين.

ونريد بتاء التأنيث تاء زائدة في آخر الاسم مفتوحا ما قبلها تنقلب هاء في الوقف ، فنحو : أخت وبنت ليس مؤنثا بالتاء بل التاء بدل من اللام ، لكنه اختص هذا الابدال بالمؤنث دون المذكر ، لمناسبة التاء للتأنيث ، فعلى هذا لو سميت ببنت وأخت وهنت مذكرا لصرفتها ، والتأنيث بالتاء على ضربين : أحدهما أن يكون التاء فيه ظاهرا ، فشرطه العلمية ،

١٣١

سواء كان مذكرا حقيقيا كحمزة ، أو مؤنثا حقيقيا ، كعزّة ، أو ، لا هذا ولا ذاك ، كغرّة ، فالعلمية شرط تأثيره متحتما ، فلا يؤثر من دون العلمية بدليل نحو : امرأة قائمة ، وفي قائمة الوصف الأصلي والتأنيث بالتاء ، فالخلل لم يجىء إلا من التأنيث ، لأن شرط الوصف وهو كونه وضعيا على ما ذكر المصنف حاصل ، وذلك الخلل ان وضع تاء التأنيث في الأصل على العروض وعدم الثبات ، تقول في قائمة : قائم ، فلم يعتد بالعارض.

وإنما قلنا في الأصل ، لأن أصل وضعها للفرق بين المذكر والمؤنث ولا تجيء لهذا المعنى في الصفات والأسماء إلا غير لازمة للكلمة ، كضاربة ومضروبة وحسنة ، وامرأة ، ورجلة (١) ، وحمارة.

وأما في غير هذا المعنى فقد تكون لازمة ، كما في حجارة ، وغرفة ، كما يجيء في باب التأنيث.

ثم ان العلمية حيث كانت الكلمة من الكلمات العربية صيّرتها مصونة عن النقصان ، فتلزم التاء بسببها ، فتاء عائشة كراء جعفر ، صارت لازمة لا تحذف إلا في الترخيم كما يحذف الحرف الأصلي.

وانما ذلك لأن التسمية باللفظ وضع له ، وكل حرف وضعت الكلمة عليه لا ينفك عن الكلمة ، فقولك : عائشة ، في الجنس ليس موضوعا مع التاء ، فإذا سميت به ، فقد وضعته وضعا ثانيا مع التاء ، فصار التاء كلام الكلمة في هذا الوضع.

وأما ان كانت العلمية في غير الكلم العربية ، فربّما تصرّف العرب فيها بالنقص وتغيير الحركة وقلب الحرف ، ان استثقلوها ، كما في جبرائيل وميكائيل ، وارسطاطاليس ، فقالوا : جبريل وجبرال وجبرين ، وميكال ، وارسطو ، وارسطاليس ونحو ذلك ، وذلك لورودها على غير أوزان كلمهم الخفيفة وتركيب حروفها المناسبة مع عدم مبالاتهم بما ليس من أوضاعهم ، ولذلك قالوا أعجميّ فالعب به ما شئت.

__________________

(١) ورد استعمال «رجلة» مؤنث رجل. في قوله : (مزقوا جيب فتاتهم. لم يبالوا حرمة الرجلة).

١٣٢

وأما الزيادة في الأعلام ، فنقول : ان كان الحرف الزائد لا يفيد معنى كألف التأنيث في نحو بشرى وذكرى ، وتاء التأنيث في نحو غرفة ، وألف الالحاق في نحو معزى ، لم يجز زيادته ، لأن مثل ذلك لا يكون الا حال الوضع ، وكلامنا فيما يزاد على العلم بعد وضعه ، إذا استعمل على وضعه العلميّ ، وكذا الحكم ان لم تفد الزيادة الا ما أفاد العلم ، كتاء الوحدة ولام التعريف من غير اشتراك العلم.

وان أفادت الزيادة معنى آخر ، فان لم يقع لفظ العلم بذلك المعنى على ما وضع له أولا ، لم يجز زوال الوضع العلمي ، فلا نزيد عليه التاء المفيدة لمعنى التأنيث.

وان بقى لفظ العلم مع تلك الزيادة واقعا على ما كان موضوعا له جازت مطلقا ان لم يخرج العلم بها عن التعيين كياء النسبة وياء التصغير ، وتنوين التمكن ، نحو هاشمي وطليحة ، وان خرج بها عن التعيين جازت بشرط جبران التعيين بعلامته ، كما في : الزيدان والزيدون ، على ما يجيء في باب الأعلام.

فان قيل : فإذا صار التاء بالعلمية لازما (١) ، فهلّا قيل في نحو : حمزة ، انه قائم مقام سببين كالألف ، فتكون العلمية شرط قيامه مقام سببين ، ولا تكون سببا.

قلت : لما ذكرنا من أن وضع التاء في الأصل على العروض ، فلزومه عارض ، فلم يبلغ مبلغ الألف التي وضعها على اللزوم.

وثانيهما أن يكون التاء مقدرا وهو الذي سماه المصنف بالمعنوي ، سواء كان حقيقيا ، كهند وزينب ، أو غير حقيقي كحلب ومصر ، والألف لا تقدر كالتاء ، اذ الألف ، للزومها ، لا تحذف حتى تقدر ، ولا تؤثر التاء مقدرة الا مع العلمية.

ولا يصح الاستدلال على كون التأنيث المعنوي أيضا مشروطا بالعلمية بانصراف نحو : حائض ، وامرأة جريح ، كما فعل المصنف في شرحه (٢) ، لأن المراد بالمؤنث المعنوي

__________________

(١) قوله فاذا صار التاء لازما. مما جرى عليه في تعبيراته عن الحروف والألفاظ مطلقا ، انظر ص ٤٥ من هذا الجزء هامش رقم (١) وسيعود بعد قليل إلى التأنيث.

(٢) أي في شرحه على هذه الرسالة «الكافية».

١٣٣

ما كان التاء فيه مقدرا كما مر ، لا المؤنث الحقيقي ، وفي نحو حائض ، لا تاء مقدرا ، إذ لو كان كذلك لكان غير منصرف مع كونه علما للمذكر كعقرب وليس كذلك ، ولكنت تقول في تصغيره تصغير الترخيم : حييضة ، كما تقول في سماء : سمّية ، وليس كذلك ، لأنك تقول فيه : حييض ، الا ترى إلى نحو حائض منصرفا مع التأنيث والوصف ، ومثله مع العلمية ، أيضا ، غير منصرف ، كما يجيء.

وانما شرط فيه العلمية أيضا ، لأن المقدر عندهم أضعف من الظاهر وشرط الظاهر العلمية.

والفرق بينهما أن العلمية تصيّر التاء الظاهرة متحتّمة التأثير مطلقا وان كانت الكلمة على ثلاثة ساكنة الأوسط ، كشاة علما ، لأن العلامة ظاهرة ، وأما التاء المقدرة فضعيفة ، فان سدّ مسدّها في اللفظ حرف آخر ، أثرت وجوبا ، والا ففيه الخلاف كما يجيء ؛ وما يسدّ مسدّها : الحرف الأخير في الزائد على الثلاثة ، لأن موضع التاء في كلامهم فوق الثلاثة ولا تزاد ثالثة ، وأما نحو ثبة وشاة ، فمحذوف اللام ، ودليل سدّه مسدّ التاء : تصغيرهم عقربا على عقيرب من دون التاء ، بخلاف : قدر فان تصغيره : قديرة ، فالمؤنث بالتاء المقدرة حقيقيا كان ، أولا ، إذا زاد على الثلاثة وسميت به لم ينصرف ، سواء سميت به مذكرا حقيقيا ، أو مؤنثا حقيقيا ، أو ، لا هذا ولا ذاك ، وذلك لأن فيه تاء مقدرة وحرفا سادّا مسدّها فهو بمنزلة حمزة.

وان كان ثلاثيا فإما أن يكون متحرك الأوسط ، أو ، لا.

والأول ان سميت به مؤنثا حقيقيا كقدم في اسم امرأة ، أو غير حقيقي كسقر ، لجهنم ، فجميع النحويين على منع صرفه للتاء المقدرة ، ولقيام تحرك الوسط مقام الحرف الرابع القائم مقام التاء ، والدليل على قيام حركة الوسط مقام الحرف الرابع أنك تقول في حبلى : حبليّ وحبلويّ ، ولا تقول في : جمزى إلا جمزيّ ، كما لا تقول في : جمادى الا جماديّ.

١٣٤

وخالفهم ابن الانباري (١) ، فجعل سقر ، كهند في جواز الأمرين نظرا إلى ضعف السادّ مسدّ التاء.

وان سميت به مذكرا حقيقيا أو غير حقيقي ، فلا خلاف عندهم في وجوب صرفه لعدم تقدير تاء التأنيث ، وذلك كرجل سميته بسقر ، وكتاب سميته بقدم ، وانما لم يقدر لطرآن (٢) التذكير في الوضع الثاني على ما ضعف تأنيثه في الوضع الأول ، فعلى هذا تقول في تصغير سقر اسم رجل : سقير ، وأمّا أذينة ، وعينية لرجل فسمّي بهما بعد التصغير.

وان لم يسدّ مسدّ التاء ، ولا مسدّ السادّ مسدّه شيء ، وذلك إذا كان ثلاثيا ساكن الأوسط ، فلا يخلو إما أن يكون فيه عجمة ، أو ، لا ، فان لم يكن فان سمّيت به مذكرا ، سواء كان حقيقيا ، أو ، لا ، كهند ، إذا جعلته اسم رجل أو اسم سيف مثلا ، فلا خلاف في صرفه ، وان سميت به مؤنثا حقيقيا أو غيره ، فالزجاج ، وسيبويه ، والمبرد (٣) : جزموا بامتناعه من الصرف لكونه مؤنثا بالوضعين : اللغوي ، والعلمي ، فظهر فيه أمر التأنيث ،

وغيرهم خيّروا فيه بين الصرف وتركه ، لفوات الساد مسدّ حرف التأنيث ، وما يسدّ مسدّ السادّ.

وكذا الخلاف فيما سكن حشوه للاعلال لا وضعا ، كدار ونار ، وفي الثنائي كيد اسم امرأة.

وان كان فيه العجمة ، كماه وجور ، فان سمّيت به مذكرا حقيقيا ، أو ، لا ، فالصرف لا غير ، اذ هما كنوح ولوط ، كما يجيء.

__________________

(١) أبو بكر محمد بن القاسم ، أخذ عن ثعلب وكان يمتاز بحافظة نادرة وهو الذي ينقل عنه النحاة كثيرا من الآراء توفي سنة ٣٢٧ ه‍ وهو غير أبي البركات كمال الدين بن محمد الأنباري صاحب كتاب الانصاف والمتوفى سنة ٥٧٧ ه‍ والأشهر في الحديث عنه أن يقال : الأنباري بدون ابن.

(٢) تقدم أن هذا المصدر نادر ويستعمله المؤلف كثيرا ، انظر ص ٦١ من هذا الجزء هامش (١).

(٣) تكرر ذكر هؤلاء جميعا.

١٣٥

وان سميت به مؤنثا حقيقيا أو ، لا ، فترك الصرف لا غير ، لأن العجمة ، وان لم تكن سببا في الثلاثي الساكن الأوسط كما يجيء ، لكن مع سقوطها عن السببية لا تقصر عن تقوية السببين حتى يصير الاسم بهما متحتم المنع.

فظهر بهذا التفصيل أن المؤنث إذا سمي به مذكر ، حقيقي أو غير حقيقي ، يعتبر في منع صرفه : زيادة على ثلاثة أحرف ، ولا يعتبر تحرك الأوسط ولا العجمة.

وههنا شروط أخر لمنع صرف المؤنث إذا سمي به المذكر تركها المصنف : أحدها : ألّا يكون ذاك المؤنث منقولا عن مذكر ، فان ربابا ، اسم امرأة ؛ لكن إذا سميت به مذكرا انصرف ، لأن الرباب قبل تسمية المؤنث به كان مذكرا بمعنى الغيم ، وكذا لو سميت بنحو حائض وطالق مذكرا انصرف ، لأنه في الأصل لفظ مذكر وصف به المؤنث اذ معناه في الأصل شخص حائض ، لأن الأصل المطرد في المشتقات أن يكون المجرد من التاء منها صيغة المذكر ، وذو التاء موضوعا للمؤنث ، فكل نعت لمؤنث ، بغير التاء فهو صيغة موضوعة للمذكر ، استعملت للمؤنث.

وثانيها : ألّا يكون تأنيث المؤنث الذي سمي به المذكر تأنيثا يحتاج إلى تأويل غير لازم ، فان نساء ، ورجال ، وكل جمع مكسّر خال من علامة التأنيث لو سميت به مذكرا انصرف ، لأن تأنيثها لأجل تأويلها بجماعة ، ولا يلزم هذا التأويل ، بل لنا أن نؤولها بالجمع فيكون مذكرا ، ولم يبق التأنيث الحقيقي الذي كان في المفرد ، ولا التذكير الحقيقي ، في نحو نساء ورجال ، بل تأنيثهما باعتبار التأويل بالجماعة وهو غير لازم ، كما ذكرنا ،

وثالثها : ألّا يغلب استعماله في تسمية المذكر به ، وذلك لأن الأسماء المؤنثة السماعية ، كذراع ، وعناق ، وشمال ، وجنوب ، على أربعة أضرب ، قسمة عقلية ؛ إما أن يتساوى استعمالها مذكرة ومؤنثة ، فإذا سمّي بها مذكر جاز فيها الصرف وتركه ؛ أو يغلب استعمالها مذكرة ، فلا يجوز بعد تسمية المذكر بها الا الصرف أيضا ، أو لا تستعمل إلا مؤنثة ، فليس فيها بعد تسمية المذكر بها الا منع الصرف ، أما إن عكست الأمر أعني سميت المؤنث باسم المذكر حقيقيين كانا ، أو ، لا ، فان كان الاسم ثلاثيا متحرك الأوسط ، كجبل وحسن ، أو زائدا على الثلاثة كجعفر ، فلا كلام في منع صرفهما لظهور أمر التأنيث بالطرءان

١٣٦

مع ساد مسدّ التاء ، أو ساد مسدّ السادّ ، وان كان ثلاثيا ساكن الأوسط كزيد وبحر يسمّى بمثلهما امرأة ، فالخليل وسيبويه وأبو عمرو (١) ، يمنعونه الصرف متحتما ، كماه ، وجور ، لظهور أمر التأنيث بالطرءان.

وأبو زيد (٢) ، وعيسى (٣) ، والجرمى (٤) ، يجعلونه مثل هند في جواز الأمرين ، ويرجحون صرفه على صرف هند نظرا إلى أصله.

قوله : «وشرط تحتم تأثيره» ، أي تأثير المعنوي ، والمراد به تأنيث ما التاء فيه مقدرة ، سواء كان حقيقيا كزينب ، أو ، لا ، كعقرب.

قوله : «زيادة على الثلاثة أو تحرك الأوسط أو العجمة» ، أي إذا سمّي به المؤنث وذلك لما ذكرنا أن آخر حروف الزائد على الثلاثة يقوم مقام التاء ، وتحرك الأوسط يقوم مقام الزائد السادّ مسدّ التاء.

وأما العجمة فانها وان لم تسدّ مسدّ التاء ولا مسدّ الزائد المذكور ، وليست أيضا ، سببا في الثلاثي الساكن الأوسط كما يجيء ، لكنها مقوية للتأنيث الضعيف تأثيره لكون علامته مقدرة بلا نائب ، فالضعف من قبله لا من قبل العلمية ، فهو المحتاج إلى التقوية لا العلمية ، فلذا قال : وشرط تحتم تأثيره أي تأثير التأنيث المعنوي.

قوله : «فهند يجوز صرفه» ، لخلوه من جميع شرائط التحتم الثلاث ، وزينب ممتنع ، للزيادة ، وسقر ، لتحرك الأوسط ، وماه وجور للعجمة.

__________________

(١) المراد أبو عمرو بن العلاء بن عمار ، وأرجح الأقوال أن اسمه زبّان وهو المقصود في البيت المشهور

هجوت زبّان ثم جئت معتذرا

من هجو زبّان لم تهجو ولم تدع

وهو من متقدمي النحاة ، وأحد أئمة الطبقة الثانية من علماء البصرة توفي سنة ١٥٤ قالوا انه لم يترك آثارا مكتوبة لأنه تنسك في آخر حياته فأحرق كتبه. وهو أحد القراء السبعة.

(٢) المراد : أبو زيد الأنصاري واسمه سعيد بن أوس بن ثابت. كان اماما نحويا ولغويا وله مؤلفات كثيرة أكثرها في اللغة ومن أشهرها النوادر توفي سنة ٢١٥ ه‍ على الأرجح.

(٣) أي عيسى بن عمر الثقفي امام من متقدمي النحاة وهو ممن أخذ عنهم سيبويه. توفي سنة ١٤٩ ه‍.

(٤) أما الجرمي فقد تقدم ذكره أكثر من مرة. انظر ص ٧٩ من هذا الجزء.

١٣٧

قوله : «فان سمي به مذكر ، أي بالمؤنث المقدر تاؤه الذي عبر عنه بالمعنوى ،

قوله : «فشرطه الزيادة ، أي الزيادة على الثلاثة ، ولا يفيد تحرك الأوسط ولا العجمة ، لضعف أمر التأنيث في الأصل بسبب تقدير علامته ، فيزيل التذكير الطارئ في الوضع العلمي ذلك الأمر الضعيف ، الا إذا سدّ مسدّ علامته حرف ، ولا تقاومه الحركة القائمة مقام السادّ ، ويكون ماه ، وجور ، إذن ، كنوح ولوط ، لأن الجميع علم المذكر ، فلا تكون التاء مقدرة ، وسيجيء أن العجمة لا تأثير لها في الثلاثي الساكن الأوسط بالسببية ، بل انما تؤثر بالشرطية بعد ثبوت سببين دونها ؛ فقدم وجور منصرفان ، لعدم الحرف الزائد وعقرب ممتنع ، لأن الباء قام مقام تاء التأنيث.

١٣٨

أسماء القبائل والبلدان

وأما أسماء القبائل والبلدان فان كان فيها مع العلمية سبب ظاهر بشروطه فلا كلام في منع صرفها ، كباهلة ، وتغلب ، وبغداد ، وخراسان ونحو ذلك.

وان لم يكن فالأصل فيها الاستقراء ، فان وجدتهم سلكوا في صرفها أو ترك صرفها طريقة واحدة ، فلا تخالفهم ؛ كصرفهم ثقيفا ، ومعدّا ، وحنينا ودابقا ، وترك صرفهم سدوس ، وخندف ، وهجر ، وعمان ، فالصرف في القبائل بتأويل الأب ، ان كان اسمه كثقيف ، أو الحيّ ، وفي الأماكن بتأويل المكان والموضع ونحوهما ؛ وترك الصرف في القبائل بتأويل الأم ان كان في الأصل ، كخندف ، أو القبيلة ، وفي الأماكن بتأويل البقعة والبلدة ونحوهما.

وان جوّزوا صرفها وترك صرفها كما في «ثمود» و «واسط» ، و «قريش» ، فجوّزهما أيضا على التأويل المذكور.

وان جهلت كيفية استعمالهم فلك فيها الوجهان.

هذا ، وربما جعلوا الأب مؤولا بالقبيلة فمنعوه الصرف ، قال :

١٣٩

٢٩ ـ وهم قريش الأكرمون إذا انتموا

طابوا فروعا في العلا وعروقا (١)

ويصفونه ببنت ، نحو تميم بنت مر ، وقيس بنت عيلان.

وكذا قد يؤول اسم الأم بالحيّ فيصفونه بابن نحو باهلة بن أعصر ، وباهلة امرأة ، وقد يؤنث ما أسند إلى اسم الأب مع صرفه بتأويل حذف مضاف مؤنث ، نحو جاءتني قريش مصروفا ، أي أولاد قريش قال الله تعالى : (كذبت ثمود المرسلين)(٢) بصرف ثمود ، على ما قرئ ، فيعتبر المضاف المحذوف ، كما في قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ)(٣).

ويجوز أن يكون صرف مثله لتأويله بالحيّ ، وتأنيث المسند لتأويله بالقبيلة ، فهو مؤول بالمذكر والمؤنث باعتبار شيئين : الاسناد والصرف ولا منع فيه.

وأما نحو قولهم : قرأت هود ، فان جعلته اسم النبي صلّى الله عليه وسلّم ، على حذف المضاف ، أي سورة هود ، فالصرف ، وان جعلته اسم السورة فترك الصرف ، لأنه كماه وجور.

وأما أسماء الكلم المبنية في الأصل ، نحو : «انّ» تنصب وترفع ، و : «ضرب» فعل ماض ، فالأكثر الحكاية ، وان أعربتها فلك الصرف ، بتأويل اللفظ ، وتركه بتأويل الكلمة واللفظة (٤) ، ويجيء بسط القول فيها وفي أسماء حروف التهجّي إذا سميت بها السور أو غيرها في باب الأعلام ، إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) أورده شارحنا وتكلم عليه البغدادي واقتصر في شرحه على اشتقاق قريش وأورد له أمثلة ولم ينسبه. ولم يستشهد به غير الرضى ممن اطلعت على كتبهم. وأما وجه الشاهد فيه فقد وضحه الشارح الرضى.

(٢) الآية ١٤١ من سورة الشعراء.

(٣) الآية ٤ من سورة الأعراف.

(٤) وعلى هذا جرى استعمال الرضى كما قلنا غير أنه يخلط بين الاستعمالين أحيانا.

١٤٠