شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤

أي مثل صوت حمار ، فيجيز ، إذن تعريفه ، مع كون الموصوف غير معرفة ، لأن مثل : لا يتعرف بالإضافة ، وبني عليه أنه يجوز : هذا رجل أخو زيد على الوصف ، أي مثل أخي زيد ، وردّ عليه سيبويه وقال : لو جاز هذا لجاز : هذا قصير الطويل ، أي مثل الطويل.

وقال غير الخليل : هو جامد مؤول بالمشتق ، أي له صوت منكر ، كما تقول : مررت برجل أسد ، أي جريء ، ومثله قليل ، كما يجيء في باب الوصف ، فإذا تعرّف فهو عند هؤلاء : بدل لا غير.

فإذا انتصب المصدر ، أعني نحو صوتا حسنا ، جاز أن يكون حالا ، على أحد التأويلين المذكورين في الوصف.

وذو الحال : الضمير المستكن في «له».

وأما إذا لم يكن المصدر للتشبيه وجاء موصوفا نحو : فإذا له صوت صوت حسن ، فقال سيبويه (١) : يجب رفعه على أحد وجهين ، إما على أنه بدل من الأول ، أو وصف له ، وإنما حكم فيه بالبدل لا التوكيد اللفظي ، كما في جاء زيد زيد ، لأن الثاني مع وصفه صار كاسم واحد يفيد ما لم يفده الأول ، ولو لم يكن معه الصفة ، لكان تأكيدا لا غير.

ومن جعله وصفا ، مع أن معنى الوصف ليس فيه ، فلكونه مع وصفه كاسم واحد ، ألا ترى أنهم جعلوا الحال الموطئة حالا ، لأن في وصفه معنى الحالية كما في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(٢).

وهذا كما قال سيبويه في نحو : لا ماء ماء باردا : فإن كررت فصار وصفا ، فأنت فيه بالخيار ، إن شئت نونت وإن شئت لم تنون ؛ جعل الثاني لكونه تكريرا للأول موصوفا

__________________

(١) كتاب سيبويه ج ١ ـ ١٨٢.

(٢) الآية ٢ من سورة يوسف.

٣٢١

بشيء ، كالوصف للأول.

ومن جعله بدلا ، فإن معنى الوصف في تابعه في الظاهر لا فيه.

ولا منع ، عندي ، أن يكون الثاني ، أعني : صوت حسن ، تأكيدا لفظيا ، كما يجيء في باب النداء.

وأجاز الخليل في هذا المصدر الموصوف ، النصب أيضا ، إما على المصدر ، أو على الحال.

وإنما اختار سيبويه الاتباع في الثاني دون النصب على المصدر ، لكونه بلفظ الأول ومعناه ، فالأولى أن نجعل الثاني مع تابعا للأول حتى يكون تابع الثاني كتابع الأول.

وإذا جاء بعد الجملة المذكورة صفة للمصدر المضمون من غير تكرير المصدر فالأولى الإتباع ، ويجوز النصب على حذف المصدر الموصوف ، نحو له صوت حسن ، ويجوز : حسنا ، أي صوتا حسنا ، وكذا إن خلت الجملة المتقدمة من صاحب الاسم الذي بمعنى المصدر ، فالأولى إتباع المصدر وإن كان للتشبيه ، وصفا أو بدلا ، كما ذكرنا ، نحو : مررت فإذا في الدار صوت صوت حمار ، وإنما ضعف نصبه لأن الجملة المتقدمة ، إذن ، ليست كالفعل لخلوها مما أسند إليه الحدث معنى ، ولا بدّ للفعل من مسند إليه ، وقد أجازوا النصب فيه على المصدر أو الحال ، كما مر.

وروي في بيت رؤبة :

٨٨ ـ فيها ازدهاف أيما ازدهاف (١)

__________________

(١) هو من أرجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج يعاتب فيها أباه ، أولها :

انك لم تنصف أبا الحجاف

وكان يرضى منك بالانصاف

وأبو الحجاف كنية رؤبة. قالوا ان رؤبة وأباه خرجا يريدان سليمان بن عبد الملك وهما في الطريق قال العجاج لرؤبة : أبوك راجز وأنت مفحم قال رؤبة فقلت له أفأقول فقال قل. فقلت أرجوزة فلما سمعها أسكتني. وفوجئت حين وصلنا إلى سليمان أنه ينشدها ، وأعطاه سليمان جائزة. فحرمني منها. وهي قصة طريفة في خزانة الأدب.

٣٢٢

نصب أيما ، مع أن لم يذكر صاحب الاسم ولا الموصوف ، وهو في غاية الضعف ، فالوجه الاتباع في مثله.

* * *

المصدر المؤكد لنفسه

وجوب حذف عامله

قال ابن الحاجب :

«ومنه ما وقع مضمون جملة لا محتمل لها غيره ، مثل : له على»

«ألف درهم اعترافا ، ويسمّى توكيدا لنفسه».

قال الرضى :

يعني بكون المصدر مضمونا لجملة لا تحتمل تلك الجملة من جميع المصادر إلا ذاك المصدر ، فلا محتمل لها ، إذن ، من المصادر إلا ذاك المصدر ، ولهذا قيل إن المصدر الظاهر يؤكد نفسه ، فاعترافا ، في : له عليّ ألف اعترافا يؤكد الاعتراف الذي تضمنته الجملة المذكورة ، كما أن المصدر مؤكد لنفسه في نحو ضربت ضربا ، إلا أن المؤكدّ ههنا مضمون المفرد أي الفعل من دون الفاعل ، لأن الفعل يدل وحده على المصدر والزمان ؛ وأما في مسألتنا فالاعتراف مضمون الجملة الاسمية بكمالها لا مضمون أحد جزأيها ،.

ومنه قولهم : الله أكبر دعوة الحق ، لأن «الله أكبر» أول الأذان الذي هو الدعاء الحق ، إذ هو دعاء إلى الصلاة ، فدعوة الحق ، كرجل صدق ، وحمار سوء ، ومنه قوله :

٨٩ ـ إني لأمنحك الصدود وإنني

قسما إليك مع الصدود لأميل (١)

__________________

(١) يعني أن قوله «قسما» تأكيد للمعنى المستفاد من قوله «وانني مع الصدود لأميل إليك» لما فيه من التحقيق والتأكيد المستفادين من إنّ واللام. فكأن قال في كل من الجملتين الأولى والثانية : أقسم قسما ، والبيت من قصيدة جيدة للأحوص الأنصاري في مدح عمر بن عبد الغزيز ، وهو الثاني بعد مطلعها الذي يقول فيه : ـ

٣٢٣

لأن «قسما» بمعنى التأكيد ، وهو الحاصل في الكلام السابق ، بسبب «انّ» واللام.

فالمصدر المؤكد لنفسه هو الذي يؤكد جملة تدل على ذلك المصدر نصا ، ومنه : «صبغة الله ، وصنع الله ، وكتاب الله» ونحوها ، لأن ما تقدمها من الكلام نصّ على معاني هذه المصادر.

وجيء بالمصادر مضافة إلى الفاعل ، لأنه حصل اليأس من إظهار فعلها كما تقدم ، ففي مثل هذه المصادر ضابطان لوجوب حذف أفعالها ، الإضافة المذكورة ، وكونها تأكيدا لأنفسها ، ولا يمتنع في كل ما هو تأكيد لنفسه من المصادر أن يقال : الجملة المتقدمة عاملة فيه ، لنيابتها عن الأفعال الناصبة ، وتأديتها معناها ، كما قلنا في نحو : لزيد صوت : صوت حمار ، فلا يكون من المنصوب باللازم اضماره.

* * *

المصدر المؤكد لغيره

حذف عامله وجوبا

قال ابن الحاجب :

«ومنها ما وقع مضمون جملة لها محتمل غيره ، نحو : زيد قائم»

«حقا ، ويسمّى توكيدا لغيره».

قال الرضى :

اعلم أن قولك : زيد قائم حقّا ، مثل رجع زيد القهقرى في أن المصدر في كليهما مؤكد لما يحتمل غيره ، إلا أن المحتمل في الأول جملة ، وفي الثاني مفرد ، أعني مجرد الفعل من دون الفاعل.

__________________

يا بيت عاتكة الذي أتعزل

حذر العدا وبه الفؤاد موكل

إني لأمنحك .. الخ. ومن أبياتها من شواهد النحو قوله :

ولو ان ما عالجت لين فؤادها

فقسا ، استلين به للان الجندل

٣٢٤

واعلم أن المؤكد لغيره في الحقيقة مؤكد لنفسه ، وإلا فليس بمؤكد ، لأن معنى التأكيد تقوية الثابت بأن تكرره ، وإذا لم يكن الشيء ثابتا فكيف يقوّى؟ وإذا كان ثابتا فمكرره إنما يؤكد نفسه.

وبيان كونه مؤكدا لنفسه أن جميع الأمثلة الموردة للمؤكد لغيره ، إما صريح القول أو ما هو في معنى القول ، قال تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ)(١) ، وقولهم : هذا القول لا قولك ، أي هذا هو القول الحق لا أقول مثل قولك ، إنه باطل ، وهذا زيد غير ما تقول ، «ما» فيه مصدرية ، أي قولا غير قولك ، ومعنى هذا زيد كمعنى قوله :

أنا أبو النجم وشعري شعري (٢) ـ ـ ٧٠

أي هذا هو ذلك المشهور الممدوح ، لا كما تقول في حقه من ضد ذلك ، وقولك : هذا زيد حقا أي قولا حقا ؛ وكذا : هذا عبد الله حقا ، والحقّ لا الباطل ، وكذا قول أبي طالب :

٩٠ ـ إذن لاتبعناه على خير حالة

من الدهر جدّا غير قول التهازل (٣)

أي قولا جدا ، وكذا قولك : لأفعلتّه البتة ، أي قطعت بالفعل وجزمت به قطعة واحدة ، والمعنى : أنه ليس فيه تردد بحيث أجزم به ثم يبدو لي ثم أجزم به مرة أخرى ، فيكون قطعتان أو أكثر بل هو قطعة واحدة لا يثنىّ فيها النظر ، وكذا قولهم : افعله البتة ، أي جزمت بأن تفعله وقطعت به قطعة ، فالبتة بمعنى القول المقطوع به ، وكأن اللام فيها في الأصل للعهد أي القطعة المعلومة التي لا تردد فيها (٤).

__________________

(١) الآية ٣٤ من سورة مريم.

(٢) تقدم هذا الشاهد في ص ٢٥٥ من هذا الجزء.

(٣) الضمير في قوله : لاتبعناه راجع إلى النبي محمد عليه الصلاة والسّلام والبيت من قصيدة منسوبة في سيرة ابن هشام لأبي طالب بن عبد المطلب عم النبي. وقد أوردها البغدادي وشرحها وهي تتضمن دفاعا عن النبي وذما في أعدائه الذين آذوه ، وفيها يقول :

كذبتم وبيت الله نبزى محمدا

ولما نطاعن دونه ونقاتل

نبزى محمدا أي نغلب عليه ويؤخذ منا. وبيت الشاهد جواب قسم في قوله في بيت قبله :

فو الله لو لا أن أجيء بسبة

تجر على أشياخنا في المحافل

(٤) وقالوا ان همزتها لم تسمع إلا بالقطع والقياس وصلها. ولا شك أنه أولى في الاستعمال.

٣٢٥

فنقول التقدير الأصلي في مثل هذا المصدر أن تجعل الجملة المتقدمة مفعولا بها لقلت ، وهذا المصدر مفعولا مطلقا لقلت ، بيانا للنوع ، فالقول الناصب مدلول الجملة المتقدمة ، لأن المتكلم إذا تكلم بالجملة فهي مقولة ، فمعنى جميع هذه المصادر ، إن كانت بعد الجملة الخبرية : قولا حقا مطابقا للخارج ، وهذا المعنى تدل عليه الجملة السابقة نصا بحيث لا احتمال لغيره من حيث مدلول اللفظ ، إذ جميع الأخبار من حيث اللفظ لا تدل إلا على الصدق ؛ وأما الكذب فليس بمدلول اللفظ ، بل هو نقيض مدلوله ، وأما قولهم : الخبر محتمل للصدق والكذب ، فليس مرادهم أن الكذب مدلول لفظ الخبر كالصدق ، بل المراد أنه يحتمل الكذب من حيث العقل ، أي لا يمتنع عقلا ألّا يكون مدلول اللفظ ثابتا.

وكذا ما يجيء بعد الأمر والنهي من المؤكد لغيره كالبتة ، يدلان عليه دلالة نص ، لأن الآمر قاطع بطلب الفعل ، والناهي قاطع بطلب تركه.

وأما قولهم : أجدّك لا تفعل كذا ، قال :

٩١ ـ خليلي هبّا طالما قد رقدتما

أجدّ كما لا تقضيان كراكما (١)

ولا يستعمل إلا مع النفي ، فليس مؤكدا للفعل المذكور بعده ، كما توهم بعضهم ، إذ لو أكد قوله : لا تقضيان كراكما ، لكان مؤكدا لمضمون المفرد أعني الفعل بلا فاعل ، فيكون نحو : رجع زيد القهقرى لأن عدم القضاء يكون ، إذن ، هو المحتمل للجدّ وغيره ، فيكون كالرجوع المحتمل للقهقرى وغيرها.

فإن قلت : جدّكما ، مضمون عدم قضاء المخاطبين لأنّ ذلك قد يكون جدّا ، وقد

__________________

(١) وضح الشارح وجه الاستشهاد بما فيه كفاية. وهذا البيت من شعر لقسّ بن ساعدة الأيادي من أفصح خطباء الجاهلية وله شعر قليل وهذا البيت أول أبيات أوردها البغدادي وذكر معها قصة غريبة تتضمن أنه قالها في رثاء أخوين أو صديقين له كان يعيش إلى جانب قبريهما ينتظر الموت مثلهما. وبعد هذا البيت :

ألم تعلما أني بسمعان مفردا

ومالي فيه من خليل سواكما

مقيم على قبريكما لست بارحا

طوال الليالي أو يجيب صداكما

وسمعان اسم موضع. ومفردا ، هكذا ورد منصوبا. فيكون خبر أني قوله بسمعان ومفردا حال أي اني باق بسمعان حال كوني مفردا ؛ وذكر البغدادي خلافا في نسبة هذا الشعر إلى غير قس بن ساعدة.

٣٢٦

يكون هزلا ، فيكون مؤكدا للجملة لا للمفرد.

قلت : عدم القضاء هو المحتمل للجد والهزل سواء أسندته إلى المخاطبين أو غيرهما ، ويعارض بنحو : زيد رجع القهقرى ، فإن القهقرى في هذا المثال بيان لرجوع زيد لا للرجوع المطلق ، فثبت أن جدّكما مبيّن لمضمون المفرد ، ونحن إنما جعلنا المصدر مؤكدا لغيره إذا أكد مضمون القول الذي هو مضمون الجملة لكونها مقولة.

ولا يجوز أن يقدّر : أجد كما أقول لا تقضيان ، كما قدرنا في بيت أبي طالب : أقول اتبعناه على كل حالة جدا ، لفساد المعنى ، فنصب أجدّك ، إذن ، بطرح الباء ، والمعنى : أبجدّ منك ، كما قال الأصمعي (١) ،.

ومثله قوله :

أحقا بني أبناء سلمى بن جندل

تهددكم إياي وسط المجالس (٢) ـ ٦٤

أي أفي حق ، ومعنى حقا ، وجدّا ، متقاربان.

أو نقول : انتصابه على الحال ، كما في فعلته جهدك على الخلاف الذي يجيء فيه.

والفاعل في أجدّكما ، الفعل (٣) الذي بعده إذا لم يكن مصدرا بما ، لأن لها صدر الكلام ، ويجوز أن يقال : هو بتقدير : أتجدّان جدّا ، ثم بيّن ما يسأل عن الجدّ فيه وهو : لا تقضيان ، فيكون ، إذن ، مما يجب حذف فعله بضابط إضافته إلى الفاعل.

فقد تبيّن لك بما قدمنا أن جميع المصادر المؤكدة لغيرها ، ينبغي أن تكون مدلولة الجملة

__________________

(١) الإمام عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع .. أوصل السيوطي نسبه إلى عدنان ، أحد أئمة اللغة السابقين. عاصر سيبويه ، وتناظرا ، وأخذ عن أبي عمرو بن العلاء وغيره. توفي سنة ٢٥٦ ه‍.

(٢) تقدم ذكر هذا الشاهد في صفحة ٢٤٧ من هذا الجزء.

(٣) قال البغدادي نقلا عن أبي حيّان : إنّ ، لا تفعل ، أي الفعل المنفي بعد أجدك ، عند أبي علي ـ أي الفارسي ـ حال أو على اضمار «ان» وارتفع الفعل. فيمكن أن يكون قول الشارح الرضى أن الفاعل هو الفعل الذي بعده مرادا به هذا.

٣٢٧

المتقدمة بحيث لا تحتمل من حيث اللفظ سواها ؛ كما في المؤكدة لنفسها ، ويقوّي ذلك أنه لا يجوز لك أن تقول : زيد قائم غير حق أو هو عبد الله قولا باطلا لأن اللفظ السابق لا يدل عليه ، فظهر أن قولهم في نحو : متى زيد قائم ظنّك ، إن ظنك مصدر مؤكد لغيره كحقا في قولك زيد قائم حقّا ، ليس بشيء (١) ، إذ ليس قولك زيد قائم دالا على ظنّ المخاطب نصاّ فانتصابه بنزع الخافص ، كما قيل في : أجدّك ، أو على المصدر لكنه غير مؤكد ، ولا يجوز اظهار ناصبه لكونه مضافا إلى فاعله.

فإذا ثبت هذا قلنا : إنما قيل لمثل هذه المصادر مؤكد لغيره مع أن اللفظ السابق دال عليه نصا ، لأنك إنما تؤكد بمثل هذا التأكيد إذا توهم المخاطب ثبوت نقيض الجملة السابقة في نفس الأمر وغلب في ذهنه كذب مدلولها ، فكأنك أكدت باللفظ النصّ في معنى (٢) ، لفظا محتملا لذلك المعنى ولنقيضه ؛ والنص غير المحتمل ، فلذلك قيل مؤكد لغيره ، وأما المؤكد لنفسه فلا يذكر لمثل هذا الغرض فيسمّى توكيدا لنفسه ، وهذه عبارة المتأخرين ، وسيبويه يسمّى المؤكد لنفسه التأكيد الخاص ، والمؤكد لغيره التأكيد العام.

وقال المصنف : معنى التوكيد لغيره ، أي التوكيد لدفع احتمال غيره ، وليس بشيء ، لأنه في مقابلة التوكيد لنفسه ، فينبغي أن يكون «الغير» (٣) مؤكدّا كالنفس.

وإنما وجب حذف الفعل الناصب في المؤكد لنفسه ولغيره ، لكون الجملتين كالنائبتين عن الناصب من حيث الدلالة عليه ، وقائمتين مقامه ، أعني قبل المصدر ، فلا يجوز تقدم المصدرين على الجملتين لكونهما كالعامل الضعيف.

قال الزجاج ، ولا يمتنع التوسط ، نحو : زيد حقا أخوك.

وأنا ، لا أرى بأسا بارتكاب كون الجملتين بأنفسهما عاملتين في المصدرين لإفادتهما

__________________

(١) خبر قوله فظهر أن قولهم ... الخ

(٢) أي الذي هو نص في معنى ، وقوله بعد ذلك لفظا محتملا ، مفعول أكدت ،

(٣) انظر التعليق رقم ١ ص ٣٧ من هذا الجزء.

٣٢٨

معنى الفعل ، كما ذكرنا فلا يتقدم المصدران عليهما لضعف العامل ، فلا يكونان ، إذن ، من هذا الباب.

* * *

المصادر المثناة

لقصد التكرير

قال ابن الحاجب :

«ومنها ما وقع مثنى نحو : لبيك وسعديك»

قال الرضى :

ليس وقوعه مثنى من الضوابط التي يعرف بها وجوب حذف فعله ، سواء كان المراد بالتثنية التكرير كقوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)(١) ، أي رجعا مكررا ، أو كان لغير التكرير ، نحو : ضربته ضربتين أي مختلفتين بل الضابط لوجوب الحذف في هذا وأمثاله إضافته إلى الفاعل أو المفعول كما ذكرنا قبل.

ولبّيك مثنى عند سيبويه ، مفرد ، كلدى ، عند يونس ، قلب ألفه ياء لما أضيف إلى المضمر كألف لدى ؛ وليس بوجه ، لبقاء يائه مضافا (٢) إلى الظاهر ، قال :

٩٢ ـ دعوت لما نابني مسورا

فلبىّ ، فلبي يدى مسور (٣)

قال أبو علي معتذرا ليونس : يجوز أن يقال : أجري الشاعر الوصل مجرى الوقف على لغة من وقف على أفعى ، أفعى بالياء.

وأصل لبّيك : ألبّ لك إلبابين ، أي أقيم لخدمتك وامتثال مأمورك ولا أبرح مكاني كالمقيم في موضع ، والتثنية للتكرير كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)(٤) ،

__________________

(١) الآية ٤ من سورة الملك

(٢) أي عند إضافته إلى الظاهر.

(٣) هذا من أبيات سيبويه التي لم يعرف قائلها وهو في كتاب سيبويه ج ١ ص ٧٦.

(٤) تقدمت قبل قليل.

٣٢٩

والمعنى : إلبابا كثيرا متتاليا ، فحذف الفعل ، وأقيم المصدر مقامه وحذف زوائده ورد إلى الثلاثي ، ثم حذف حرف الجر من المفعول وأضيف المصدر إليه ، كل ذلك ليفرغ المجيب بالسرعة من التلبية فيتفرغ لاستماع المأموريه حتى يمتثله ؛ ويجوز أن يكون من : لبّ بالمكان بمعنى : ألبّ ، فلا يكون محذوف الزوائد.

وأما قولهم : لبىّ يلبيّ فهو مشتق من : لبّيك ، لأن معنى : لبىّ : قال لبيك كما أن معنى : سبّح وسلّم ويسمل ، قال سبحان الله ، وسلام عليك ، وبسم الله ، وأما سبّح بمعنى نزّه وسلّم بمعنى جعله سالما ، فلم يشتقا من سبحان الله وسلام عليك.

وسعديك مثل لبيك ، أي أسعدك أي أعينك إسعادين ، إلا أنّ أسعد يتعدى بنفسه بخلاف ألبّ فإنه يتعدى باللام (١).

وقولهم : دواليك (٢) ، أي تداول الأمر دوالين ، وهذا ذيك أي أسرع إسراعين ، قال :

٩٣ ـ ضربا هذا ذيك وطعنا وخضا (٣).

أي ضربا يقال فيه هذا ذيك ، كقوله :

٩٤ ـ جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط (٤)

وهجاجيك ، أي كفّ كفيّن ، كلها مصادر لا تستعمل إلا للتكرير ، بخلاف : حنانيك ،

__________________

(١) لعله أراد بأنه يتعدى باللام حين يكون معناه الاجابة ، ولكن الأصل أنه يتعدى بالباء لقولهم ألبّ بالمكان أي أقام.

(٢) اعتبر البغدادي هذه الكلمة اشارة إلى شاهد وهو قول سحيم عبد بني الحسحاس :

إذا شق برد شق بالبرد مثله

دواليك حتى كلنا غير لابس

وشرح الشاهد وذكر ما فيه من روايات وذكر ما يتعلق به وبقائله ، كعادته.

(٣) وهو من رجز للعجاج في مدح الحجاج بن يوسف الثقفي وفيها يقول في وصف من قاتلهم الحجاج :

تجزيهم بالطعن طعنا فرضا

وتارة يلقون قرضا قرضا ... الخ

(٤) أي كما أن التقدير هنا : جاءوا بمذق يقال فيه : هل رأيت .. وهذا الرجز أورده الكامل في عدة أشطار منسوبا إلى أحد الرجاز وان كان بعض شراح الشواهد ينسبه للعجاج. وقبله : حتى إذا جن الظلام واختلط. أي أنهم جاءوه بهذا المذق في الظلام حتى لا يراه ، يصفهم بالبخل.

٣٣٠

ومثلها حواليك ، وإن كان ظرفا ، فإنه يستعمل حنان ، وحوال ، قال :

٩٥ ـ فقالت : حنان ، ما أتى بك ههنا

أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف (١)

ومعنى حنانيك أي تحنّن تحنّنا بعد تحنّن.

* * *

أنواع أخرى من المصادر

التي يحذف عاملها وجوبا

ومن المصادر الواجب حذف فعلها قياسا ، أيضا ، كل ما كان توبيخا ، مع استفهام ان ، أو ، لا ، نحو قوله :

٩٦ ـ أرضى وذؤبان الخطوب تنوشني (٢)

و : أمكرا وأنت في الحديد ، وقياما قد علم الله ، وأقياما وقد قعد الناس.

وإنما وجب حذف الفعل فيه حرصا على انزجار الموبّخ عما أنكر عليه ، وقد استعملت الصفات مقام المصادر في التوبيخ نحو : أقائما وقد قعد الناس ، وأقائما قد علم الله ، وقد قيل إنها أحوال ، كما يجيء في باب الحال.

ومما يشبه أن يكون قياسا ، كل مصدر عطف على جملة بالواو والمراد بالعطف تأكيد

__________________

(١) أورده سيبويه في كتابه ج ١ ص ١٧١ وقال ان «حنان» خبر مبتدأ محذوف. أي شأني حنان ، وأصله أحن حنانا فحذف الفعل ورفع المصدر لتكون الجملة اسمية مقيدة للدوام ، وهو من أبيات لشاعر اسمه المنذر بن درهم الكلبي في أبيات غزلية يقول فيها :

وأحدث عهد من أمية نظرة

على جانب العلياء إذا أنا واقف

فقالت حنان ...

وبعده فقلت لها ذو حاجة ومسلم

فصمّ علينا المأزق المتضايق

(٢) لم أجد تكملة لهذا الشطر. واكتفى البغدادي بأن شرحه ولم يتعرض لنسبته بنفي ولا اثبات. والذؤبان جمع ذئب واضافة إلى الخطوب تجعله كناية عن الأحداث الشديدة التي تشبه الذئاب. تنوشني : تصيبني وتنالني.

٣٣١

المعطوف عليه وتبيينه ، كما يقول المجيب : نعم ونعمة عين ، أي وأنعم عينك إنعاما ، أي أقرّها ، فحذف الزوائد وأضيف إلى المفعول ، أو : نعمت عينك نعمة ، أي قرة ، وهذا مضبوط بضابط الإضافة أيضا ، كما تقدم.

ويقول الرّادّ ، لا أفعل ذلك ولا كيدا ولا هما ، وهو مصدر كاد أي قرب ، ويقال أيضا ، ولا كودا ، ولا مكادة ؛

ويقول الرادّ على الناهي : لأفعلنّ ذلك ورغما وهوانا ، وتقول : اغتديت ولا اغتداء الغراب ، واهتديت ولا اهتداء القطا ؛ أي ولا اغتديت اغتداء الغراب بل أسرع من ذلك.

وإنما وجب حذف الفعل في هذه المصادر لدلالة المعطوف عليه على الفعل المقدر وإغنائه عنه.

ومن القياسات «وتبتل إليه تبتيلا» (١) عند سيبويه ، وهذا آخر القياسات.

قيام الجملة مقام المصدر

وقد جاءت الجملة قائمة مقام المصدر ، وهي «فاها لفيك» (٢) ، أي فا الداهية ، والمعنى دهيت دهيا ، والأصل فوها لفيك أي إلى فيك ، واللام بمعنى إلى ، كما تقول في الحال :

__________________

(١) الآية ٨ من سورة المزمل وتقدمت.

(٢) قولهم : فاها لفيك. استعمال مقصود به الدعاء كما قال الشارح وقد استعمله أحد الشعراء في بيت هو :

فقلت له فاها لفيك فانها

قلوص امرئ فأريك ما أنت حاذره

وأورده سيبويه. ج ١ ـ ١٥٩ ، والخطاب فيه لأسد كان يريد ناقة الشاعر لأن قبله :

تحسّب هواس وأيقن أنني

بها مفتد من واحد لا أغامره

وهواس من أسماء الأسد ، ومعناه أنّ هذا الأسد حسب أو أيقن أنني أتركه يفترس الناقة وأفتدي نفسي بها وأني لا أغامره ولا أقاتله. فأجبته داعيا عليه وقلت له انها ناقة انسان سيقربك ما تخشاه أي الموت ، وقال البغدادي نقلا عن الجرمي أنها لأبي سدرة الاعرابي وهو شاعر اسلامي معاصر لجرير والفرزدق ، وقد اعتبره البغدادي أحد شواهد هذا الشرح لتمثيل الشارح بقوله : فاها لفيك.

٣٣٢

كلمته فاه إلى فيّ ، أي مشافها ، ويجوز أن تكون هذه أيضا بمعنى المصدر ، أي كلمته مشافهة ، إلا أنه لا يجب حذف ناصبه ، كما وجب ذلك في : فاها لفيك.

ثم جعلت الجملة التي هي فوها لفيك بمعنى المصدر أي أصابته داهية فانمحى عنها معنى المبتدأ والخبر وكذا صار معنى : فاه إلى فيّ ، مشافهة أو مشافها من غير أن يفهم من المضاف والمضاف إليه معنى ، ومن الجار والمجرور معنى آخر ، فلما صارت الجملة بمعنى المفرد ، أعرب منها ما قبل الإعراب ، وهو الجزء الأول بإعراب المفرد الذي صارت بمعناه ، وهو المصدر ، أو الحال فقيل في : فوها ، وفوه : فاها وفاه ، وترك المضاف إليه والجار والمجرور على ما كانا عليه ، وقيل انتصاب فاها على أنه مفعول به ، أي جعل الله «فا» الداهية إلى فيك أي جعلها مشافهتك.

* * *

المفعول به

تعريفه ، وأنواع الفعل المتعدي

قال ابن الحاجب :

«المفعول به ما وقع عليه فعل الفاعل ، نحو : ضربت»

«زيدا وأعطيت عمرا درهما».

قال الرضى :

قوله : «ما وقع عليه فعل الفاعل» ، لفظ جار الله (١) ؛ يريد ما وقع عليه ، أو جرى مجرى الواقع ، ليدخل فيه المنصوب في : ما ضربت زيدا ، وأوجدت ضربا ، وأحدثت قتلا ، فكأنك أوقعت عدم الضرب على زيد (٢) ، وكأن الضرب كان شيئا أوقعت عليه الايجاد (٣).

__________________

(١) أي أن عبارة الزمخشري في المفصل : ما وقع عليه فعل الفاعل. فأخذها ابن الحاجب عنه ،.

(٢) أي في ما ضربت زيدا.

(٣) أي في قولك أوجدت ضربا ، ومثله أحدثت قتلا.

٣٣٣

وفسّر المصنف وقوع الفعل ، بتعلقه بما لا يعقل إلا به ، فعلى تفسيره ينبغي أن تكون المجرورات في : مررت بزيد ، وقربت من عمرو ، وبعدت من بكر ، وسرت من البصرة إلى الكوفة : مفعولا بها ، ولا شك أنه يقال إنها مفعول بها لكن بواسطة حرف جر ، ومطلق لفظ المفعول به لا يقع على هذه الأشياء في اصطلاحهم ، وكلامنا في المطلق (١).

وأيضا ، فإن معنى اشترك في قولهم : اشترك زيد وعمرو ، لا يفهم بعد إسنادك إياه إلى زيد إلا بشيء آخر وهو عمرو ، أو غيره ، وليس بمفعول في الاصطلاح.

والأقرب في رسم المفعول به أن يقال : هو ما يصح أن يعبّر عنه باسم مفعول غير مقيّد مصوغ من عامله المثبت أو المجعول مثبتا (٢) ،.

فبقولنا : اسم مفعول غير مقيد مصوغ من عامله ، يخرج عنه جميع المعمولات ، أما المفعول المطلق ، فلأن الضرب في قولك ضربت ضربا ، وأحدثت ضربا ، وإن كان مفعولا للمتكلم في المثالين ، إلا أنه لا يقال في الأول : أنّ ضربا مضروب ، ويقال في الثاني إنه محدث.

وأما سائر المفاعيل فيطلق عليها اسم المفعول المصوغ من عامله لكن مقيدا بحرف الجر ، كما يقال في سرت اليوم فرسخا وجئت وزيدا إكراما لك ان اليوم مسير فيه وكذا فرسخا ، وزيدا مفعول معه ، واكراما مفعول له ، وكذا في قولك : مررت بزيد ، وقمت إلى زيد ؛ زيد ممرور به ومقوم إليه ، وزيدا في : قربت زيدا ، وجئت زيدا ، وبعت زيدا مالا ، وكلت زيدا طعاما ، وبغيت زيدا شرا ، وأمثالها ملحق بالمفعول به بحذف حرف الجر ، لأنه مقروب منه ومجيء إليه ومبيع منه ومكيل له ومبغيّ له.

وأفعال القلوب في الحقيقة لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد وهو مضمون الجزء الثاني مضافا إلى الأول ، فالمعلوم في : علمت زيدا قائما : قيام زيد ، لكن نصبهما معا لتعلقه

__________________

(١) في لفظ المفعول به إذا أطلق ولم يقيد بحرف جر أو بواسطة.

(٢) أي ليشمل الفعل المنفي.

٣٣٤

بمضمونهما معا ، ولذا قلّ حذف أحدهما من دون الآخر ، مع أنهما في الأصل مبتدأ وخبر ، لأنك لو حذفت أحدهما لكنت كالحاذف بعض الكلمة.

وباب كسوت وأعطيت ، متعد إلى مفعولين حقيقة ، لكن أولهما مفعول هذا الفعل الظاهر ، إذ زيد في قولك : كسوت زيدا جبة وأعطيت زيدا جبة : مكسوّ ومعطى ، وثانيهما مفعول مطاوع هذا الفعل ، إذ الجبة مكتساة ومعطوّة أي مأخوذة ، وكذا نحو.

أحفرت زيدا النهر ، «زيدا» محفر والنهر محفور ، فالمعنى : حملت زيدا على أن يكتسي الجبة ويعطوها (١) ويحفر النهر ، وليس انتصاب الثاني في مثله بالمطاوع المقدر كما قال بعضهم ، أي أحفرته فحفر النهر ، لأنك تقول : أحفرته النهر فلم يحفره ، بل انتصاب المفعولين بالفعل الظاهر لأنه متضمن لمعنى الحمل على ذلك الفعل المطاوع ، أي حملته على أن يحفر النهر كما مر.

وباب أعلمتك زيدا قائما ، في الحقيقة متعد إلى مفعولين فإن المعلم هو المخاطب وقيام زيد هو المعلوم ، كما قلنا في كسوت وأعطيت ، فنصب الثاني والثالث ، لكونهما معا متضمنين لمفعوله الثاني ، كما قلنا في علمت.

وقولهم : المفعول به : الضمير يرجع إلى الألف واللام ، أي الذي يفعل به فعل ، أي يعامل بالفعل ويوقع عليه ، يقال فعلت به فعلا ، قال تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ)(٢) ، وكذا الضمير في المفعول فيه ، وله ، ومعه.

وأما ناصب المفعول ، فالفعل عند البصريين أو شبهه ، بناء على أنه به يتقوّم المعنى المقتضي للرفع ، أي الفاعلية ، أو المعنى المقتضى للنصب أي المفعولية.

وقال الفراء هو الفعل والفاعل ، وقال هشام بن معاوية من الكوفيين هو الفاعل ، وقد

__________________

(١) أي يتناولها.

(٢) الآية ٩ من سورة الأحقاف.

٣٣٥

ذكرنا في حد العامل أن هذين القولين أولى ، بناء على أن النصب علامة الفضلة لا علامة المفعولية ؛ وقال خلف من الكوفيين : إن عامله : كونه مفعولا ، كما فال في الفاعل إن عامله الإسناد ، على ما تقدم.

* * *

٣٣٦

تقديم المفعول

على الفعل

قال ابن الحاجب :

«وقد يتقدم على الفعل».

قال الرضى :

هذا الحكم ليس مختصا بالمفعول به ، بل المفعولات الخمسة فيه سواء ، إلا المفعول معه ، وذلك لمراعاة أصل الواو ، إذ هي في الأصل للعطف ، فموضعها أثناء الكلام.

ويجب تأخير منصوب الفعل إن كان بنون تأكيد مشددة أو مخففة فلا يقال : زيدا اضربنّ ، ولعل ذلك لكون تقديم المنصوب على الفعل دليلا ، في ظاهر الأمر على أن الفعل غير مهم وإلا لم يؤخّر عن مرتبته أي الصدر وتوكيد الفعل مؤذن بكونه مهما ، فيتنافران في الظاهر.

وكذا يجب تأخيره عنه لو اشتبه المنصوب بغيره بسبب التقديم ، كما في : ضرب موسى عيسى ، إذ لو قلت : عيسى ضرب موسى لظن أن المقدم مبتدأ ، وكذا لو كان الناصب فعل التعجب نحو : ما أحسن زيدا لأنه لا يتصرّف في معموله كما يجيء.

وكذا لو كان الفعل صلة للحرف ، نحو : عجبت من أن تضرب زيدا ، لأنه لا يفصل بين الحروف الموصولة وصلتها ، كما يجيء في الموصولات ، ويجب تقديم منصوب الفعل

٣٣٧

عليه إن تضمّن المنصوب معنى الاستفهام أو الشرط ، أو أضيف إلى ما تضمّن أحدهما ، نحو : أيّهم ضربت وأيّ حين تركب أركب ، وغلام أيّهم ضربت ، وغلام من لقيت فأكرمه.

وكذا إن كان المنصوب معمولا لما بعد الفاء التي في جواب «أما» ، إذا لم يكن له منصوب سواه ، نحو قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)(١) وذلك لما يجيء في حروف الشرط من أنه لا بدّ من نائب مناب الشرط المحذوف بعد أما ، ولو كان له منصوب آخر جاز أن تقدم أيّهما شئت وتخليّ (٢) الآخر بعد عامله ، نحو أما يوم الجمعة فاضرب زيدا ، وكذا إن سدّ شرط آخر مسدّ شرط «أمّا» ، نحو : أما إن لقيت زيدا فاضرب خالدا : لم يجب تقديم المنصوب.

ومنع الكوفيون نحو : زيدا غلامه ضرب ، لأن «زيدا» متأخر في التقدير من وجوه : أحدها بالنظر إلى «غلامه» لأنه من تمام خبره ، والثاني بالنظر إلى «ضرب» لأنه معموله ، والثالث بالنظر إلى فاعل «ضرب» لأنه مفعوله ، فبقي الضمير المتصل بغلامه كأنه لا مفسّر له قبله ، بخلاف قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ)(٣) لأنّ المنصوب متأخر من جهة المفعولية فقط ، وبخلاف : زيدا ضرب غلامه ، فإنه متأخر من جهة المعمولية والمفعولية ، وأجازه البصرية ، وهو الحق ، اكتفاء بالتقدم اللفظي.

وكذا منع الكوفيون نحو : غلامه أو غلام أخيه ضرب زيد ، وأيّ شيء أراد أخذ زيد ، على أن في «أراد» ضمير زيد ، وذلك لأن المفسّر في هذه الصورة هو الفاعل ، ولا يجوز أن تقدره قبل المفعول المقدم على الفعل ، لأن الفاعل لا يتقدم على الفعل فكيف يفسّر ما هو متقدم وليس بمقدم تقديرا ، وهذا بخلاف : ضرب غلامه زيد ، فإن مرتبة المفسّر قبل الضمير ؛ ويجوز تقديمه عليه ، وأجازه البصريون ، وهو الحق ، نظرا إلى أن مرتبة المفعول

__________________

(١) الآية ٩ من سورة الضحى

(٢) وتخلّى الآخر أي تبقيه بعد عامله ومعنى التخلية الترك.

(٣) الآية ١٢٤ من سورة البقرة.

٣٣٨

بعد الفاعل ، فإذا لم يجز تقديم المفسّر وحده أي الفاعل ، أخرنا ما اتصل به المفسر ، فنقول إن تقدير : غلامه ضرب زيد : ضرب زيد غلامه ، وكذا منعوا نحو : ما طعامك أكل إلا زيد ، لأنك حذفت الفاعل الذي هو الأصل والعمدة ، واعتنيت بالمفعول الذي هو فضلة وذلك بأن قدمته على الفعل ، وأجازه البصريون ، وهو أولى ، لأن المستثنى سدّ مسدّ الفاعل.

واعلم أنه لا يوقع فعل فاعله ضمير متصل على مفسّره الظاهر ، أي لا ينصبه ، فلا يقال : زيدا ضرب ، كما يجيء في المنصوب على شريطة التفسير.

* * *

حذف ناصب المفعول

جوازا ووجوبا ـ مواضع الحذف

الواجب السماعية

قال ابن الحاجب :

«وقد يحذف الفعل لقيام قرينه ، جوازا كقولك زيدا لمن قال :»

«من أضرب ، ووجوبا في أربعة مواضع : الأول سماعي نحو :»

«امرءا ونفسه ، و : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ)(١) ، وأهلا وسهلا».

قال الرضى :

القرينة الدالة على تعيين المحذوف قد تكون لفظية ، كما إذا قال شخص ، من أضرب؟

__________________

(١) الآية ١٧١ من سورة النساء.

٣٣٩

فتقول زيدا ، وقد تكون حالية ، كما إذا رأيت شخصا في يده خشبة قاصدا لضرب شخص فتقول : زيدا.

قوله : «امرءا ونفسه» أي دع امرءا ، والواو بمعنى «مع» أو للعطف.

وعلة وجوب الحذف في السماعيات كثرة الاستعمال ، وإنما كانت سماعية لعدم ضابط يعرف به ثبوت علة وسبب الحذف ، أي كثرة الاستعمال ، بخلاف المنادى فإن الضابط كونه منادى.

وقوله تعالى : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) تفسير سيبويه : انتهوا عن التثليث وائتوا خيرا لكم ، وقال الكسائي التقدير : انتهوا يكن خيرا لكم ، وليس بوجه ، لأن «كان» لا يقدر قياسا ، فلا يقال : عبد الله المقتول ، أي كن ذلك ، وقال الفراء : لو كان على إضمار «كان» لجاز : اتق الله محسنا ، أي تكن محسنا ، وهو عنده بتقدير : انتهوا انتهاء خيرا لكم ؛ وقولهم : حسبك خيرا لك ، ووراءك أوسع لك ، بتقدير : حسبك وائت خيرا لك ، ووراءك وائت مكانا أوسع لك يقوي مذهب سيبويه ، أي تقدير «ائت» في الآية ، وكذا قوله :

٩٧ ـ فواعديه سرحتي مالك

أو الرّبا بينهما أسهلا (١)

وكذا قولهم ، انته أمرا قاصدا ، أي انته عن هذا وائت أمرا قاصدا.

وقرينة «ائت» في هذه المواضع ، أنك نهيت في الأول عن شيء ثم جئت بعده بما لا تنهى عنه بل هو مما يؤمر به ، فيجب أن ينتصب بائت أو اقصد أو ما يفيد هذا المعنى ، وليس قولهم : أمرا قاصدا ، مما يجب حذف فعله على ما ذكره سيبويه ، وأورده الزمخشري

__________________

(١) هو من شعر عمر بن أبي ربيعة في احدى قصائده الغزلية التي يسلك فيها أسلوب القصة والمحاورة. وبعده

إن جاء فليأت على بغلة

اني أخاف المهر أن يصهلا

وروى بيت الشاهد بما يخرجه عن الاستشهاد وهو :

سلمى ، عديه سرحتي مالك

أو الربا دونهما منزلا

وسرحتا مالك ، والربا ، موضعان معينان.

٣٤٠