شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤

فنقول : تقديره : ضربي زيدا حاصل قائما ، والعامل في الحال «حاصل» وفي صاحبها «ضربي» ، وهو الياء ، أو زيدا ، فنقول : حذفنا «كائن» أو «حاصل» العامل في الحال لكونه عاما شاملا لجميع الأفعال كما حذفناه في نحو : زيد عندك أو في الدار ، لمشابهة الحال للظرف ، والحذف في كليهما واجب لقيام الحال والظرف مقام العامل ، كما تقدم بيانه.

واعلم أنه يجوز رفع الحال الساد مسدّ الخبر عن أفعل ، المضاف إلى «ما» المصدرية الموصولة بكان أو يكون ، نحو : أخطب ما يكون الأمير قائم ، هذا عند الأخفش والمبرد ، ومنعه سيبويه ، والأولى جوازه ، لأنك جعلت ذلك الكون أخطب ، مجازا ، فجاز جعله قائما ، أيضا.

ولا يجوز مثل ذلك بعد مصدر صريح إلا في الضرورة ، فلا نقول : ضربي زيدا قائم ، إذ لا مجاز في أول الكلام ، ولا شك أن المجاز يؤنس بالمجاز.

ويجوز أن يقدر في أفعل المذكور زمان مضاف إلى «ما يكون» بخلاف نحو : أكثر شربي السويق ، وضربي زيدا ، وذلك لكثرة وقوع «ما» المصدرية مقام الظرف نحو قولك : ما ذرّ شارق ، فيكون التقدير : أخطب أوقات ما يكون الأمير قائم ، أي أوقات كون الأمير ، فتكون قد جعلت الوقت أخطب وقائما ، كما يقال : نهاره صائم ، وليله قائم ويرجح هذا التقدير أنه سمع : أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة برفع يوم الجمعة ، وأيضا كثرة وقوع «ما» المصدرية زمانا ، وكثرة وقوع الزمان مسندا إليه الواقع فيه ، كقوله :

٧٩ ـ لقد لمتنا يا أم غيلان في السّرى

ونمت وما ليل المطى بنائم (١)

__________________

(١) البيت لجرير يرد على الفرزدق. وفي أول القصيدة يخاطب أم غيلان قالوا انها بنت جرير : وقبل هذا الشاهد :

تقول لنا سلمى : من القوم ، ان رأت

وجوها عتاقا لوحت بالسمائم

والسمائم جمع سموم وهي الريح الحارة.

٢٨١

ومنع المبرد من نحو قولك : أحسن ما يكون زيد القيام ، وذلك لأن «أحسن» في الحقيقة : زيد ، فلا يخبر عنه بنفس القيام.

وأجازه الزجاج وهو الأولى ، لأنك جعلت «أحسن» وإن كان في الحقيقة زيدا : مصدرا ، وذلك بإضافته إلى «ما» المصدرية.

قوله : «وكل رجل وضيعته» الضيعة في اللغة العقار ، وهي ههنا كناية عن الصنعة.

وضابط هذا : كل مبتدأ عطف عليه بالواو التي بمعنى «مع» وفيه مذهبان :

قال الكوفيون «وضيعته» خبر المبتدأ ، لأن الواو بمعنى «مع» فكأنك قلت : كل رجل مع ضيعته ، فإذا صرحت بمع ، لم تحتج إلى تقدير الخبر ، فكذا مع الواو التي بمعناه ، فلا يكون هذا المثال ، إذن ، مما نحن فيه ، أي مما حذف خبره.

وفيه نظر لأن الواو ، وإن كانت بمعنى «مع» تكون في اللفظ للعطف في غير المفعول معه ، فإذا كان «وضيعته» عطفا على المبتدأ لم يكن خبرا.

فإن قيل يجوز أن يكون رفع ما بعد الواو منقولا عن الواو لكونها خبر المبتدأ كما هو مذهب السيرافي ، في نصب المفعول معه ، على ما يجيء في بابه ، وذلك أنه يقول : النصب الذي على المفعول معه هو الذي كان في الأصل على «مع» فلما قام الواو مقامه ، لم يمكن أن يكون عليها لكونها في الأصل حرفا فانتقل إلى ما بعدها.

فالجواب : أن «مع» إذا وقع خبرا عن المبتدأ لا يستحق الرفع لفظا ، حتى ينقل إلى ما بعده ، بل يكون منصوبا لفظا على الظرفية مرفوعا محلا لقيامه مقام الخبر ، نحو : زيد معك ، كما تقول : زيد عندك ،.

وقال البصريون : الخبر محذوف ، أي كل رجل وضيعته مقرونان ، وفيه أيضا ، إشكال ، إذ ليس في تقديرهم لفظ يسدّ مسدّ الخبر فكيف حذف وجوبا؟ وإنما قلنا ذلك لأن الخبر مثنى فمحله بعد المعطوف ، وليس بعد المعطوف لفظ يسدّ مسدّ الخبر.

ولو جاز أن نقول إن المعطوف ساد مسدّ الخبر المحذوف بعده ، لم يصح الاعتراض

٢٨٢

على تقدير الكوفيين ، في قولك : ضربي زيدا قائما حاصل ، بأنه ليس هناك ما يسد مسدّ الخبر ، إذ لهم أن يقولوا ، أيضا ، تأخر الحال عن محله سدّ مسدّ الخبر.

ولو تكلفنا ، وقلنا : التقدير كل رجل مقرون وضيعته ، أي هو مقرون بضيعته ، وضيعته مقرونة به ، كما تقول : زيد قائم وعمرو ، ثم حذف «مقرون» وأقيم المعطوف مقامه ، لبقي البحث في حذف خبر المعطوف وجوبا من غير سادّ مسدّه.

ويجوز أن يقال عند ذلك : إن المعطوف أجرى مجرى المعطوف عليه في وجوب حذف خبره.

والظاهر أن حذف الخبر في مثله غالب لا واجب ، وفي نهج البلاغة : (١) «وأنتم والساعة في قرن واحد» ، فلا يكون ، إذن من هذا الباب ، فلا يرد الاشكال.

قال الكوفيون : إن ولي معطوفا على مبتدأ فعل لأحدهما واقع على الآخر جاز أن يكون ذلك الفعل خبرا عنهما ، سواء دلّ ذلك الفعل على التفاعل ، أو ، لا ، فالأول نحو : زيد والريح يباريها ، فيباريها خبر عنهما لكونه بمعنى متباريان ، والثاني نحو : زيد وعمرو يضربه ، وقريب منه قول أمير المؤمنين على رضي الله عنه : «فهم والجنة كمن قد رآها» ، وإنما جاز ذلك لتضمن الخبر ضميريهما.

والبصريون يمنعون مثل هذه ، على أن يكون الفعل خبرا ، إذ الفعل في ذلك كالصفة ، فلا يقال : زيد وعمرو ضاربه بالإتفاق ، ويجوزونها على أن يكون الفعل حالا ، لا غير ، فزيد والريح ، عندهم مثل : كل رجل وضيعته ، ويياريها حال.

__________________

(١) أي من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والرضى يستشهد كثيرا بما ورد في نهج البلاغة منسوبا للإمام علي ، وكلامه رضي الله عنه في مقدمة الكلام الذي يستشهد به بعد كلام الله وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلم. ولكن كثيرا من العلماء ينازع في نسبة نهج البلاغة إلى علي. ولو لا هذا لكثر الاستشهاد بما ورد فيه. وبعض العلماء صحح نسبة الكتاب إلى علي ودافع عن كل ما أثير من شبه حول نسبته إليه. والله أعلم بحقيقة الحال. وما أورده الرضى هنا من خطبة في نهج البلاغة ج ٢ ص ٨٢ طبعة الحلبي سنة ١٩٦٣ إخراج محمد أبو الفضل ابراهيم : وبعد الجملة المذكورة : وكأنها قد جاءت بأشراطها.

٢٨٣

واعلم أنه قد يغني ما أضيف إليه المبتدأ عن المعطوف فيطابقهما الخبر ، كما يقال : راكب الناقة طليحان ، وقولك : مقاتل زيد قويان ، أي زيد ومن يقاومه زيد : قويان.

قوله : «لعمرك لأفعلن» ، ضابطه ، كل مبتدأ في الجملة القسمية متعين للقسم ، نحو : لعمرك ، وأيمن الله. كما يجيء في باب القسم ، فإن تعيّنه للقسم دال على تعين الخبر المحذوف ، أي : لعمرك ما أقسم به ، وجواب القسم ساد مسدّ الخبر المحذوف ، والعمر والعمر بمعنى ولا يستعمل مع اللام إلا المفتوحة ، لأن القسم موضع التخفيف لكثرة استعماله.

وقد يستعمل لعمرك في قسم السؤال أيضا ، نحو لعمرك لتفعلنّ.

وقد ترك المصنف قسما آخر مما يجب فيه حذف الخبر ، وهو إذا كان الخبر ظرفا متعلقا بالمتعلّق العام نحو : زيد قدامك أو في الدار على ما ذكرنا قبل.

وتجويز ابن جني إظهار ذلك المتعلّق ، ليس بوجه ، لأن الأمرين : أي الدلالة على تعيّن الخبر والسدّ بشيء آخر مسدّه حاصلان فوجب الحذف.

ولعل المصنف إنما ترك ذكره لكون هذا الساد مسدّ الخبر مرفوع المحل بكونه خبرا دون سائر ما تقدم مما سدّ مسدّ الخبر.

ثم اعلم أن الأغلب في الاستعمال تعريف المبتدأ لأن الأصل كون المسند إليه معلوما ، وكذا الأصل تنكير الخبر ، لأنه مسند ، فشابه الفعل ، والفعل خال من التعريف والتنكير ، كما ذكرنا في أول الكتاب ولا يصح تجريد الاسم عنهما فجردناه مما يطرأ ويحتاج إلى العلامة وهو التعريف ، وأبقيناه على الأصل فكان نكرة.

وإنما كان الأصل في الإسناد. الفعل دون الاسم لأن الاسم يصلح لكونه مسندا ومسندا إليه ، والفعل مختص بكونه مسندا لا غير ، فصار الإسناد لازما له دون الاسم.

وأما قول النحاة أصل الخبر التنكير لأن المسند ينبغي أن يكون مجهولا فليس بشيء ، لأن المسند ينبغي أن يكون معلوما كالمسند إليه.

٢٨٤

وإنما الذي ينبغي أن يكون مجهولا هو انتسب ذلك المسند إلى المسند إليه فالمجهول في قولك : زيد أخوك هو انتساب أخوّة المخاطب إلى زيد ، وإسناده إليه ، لا أخوّته.

وإذ تعددت المبتدآت ، نحو : زيد أبوه ، أخوه ، عمه خاله ، ابنه ، بنته ، صهرها.

جاريته ، سيدها ، صديقه ، قادم.

فالمبتدأ الأخير مع خبره خبر عما قبله بلا فصل ، فصديقه قادم ، خبر عن سيدها ، وهكذا إلى المبتدأ الأول ، فتكون الجملة التي بعد الأول ، وهي مركبة من جمل خبرا عن الأول ، ويضاف كل واحد من المبتدآت إلى ضمير متلوه إلا المبتدأ الأول.

وإن لم تضف المبتدآت ، كل واحد منها إلى ضمير ما قبله ، فإنك تأتي بالعوائد بعد خبر المبتدأ الأخير ، فيكون آخر العوائد لأول المبتدآت وما قبل الآخر لما بعد أول المبتدآت وهكذا على الترتيب.

وذلك نحو : هند ، زيد ، عمرو ، بكر ، خالد قائم عنده في داره بأمره معها ، فكأنك قلت : بكر خالد قائم عنده ومعناه بكر مع خالد ، ثم جعلت هذه الجملة أي بكر مع خالد ، خبرا عن عمرو ، مع رابطة في داره ، فكأنك قلت : عمرو بكر مع خالد في داره ، أي عمرو داره مشتملة على بكر وخالد ، ثم تجعل هذه الجملة خبرا عن زيد مع رابطة بأمره ، فكأنك قلت : زيد عمرو داره مشتملة على بكر وخالد بأمره ، أي بأمر زيد ، أي زيد أمر عمرا بجمع خالد وبكر ، ثم تجعل هذه الجملة خبرا عن هند مع رابطة معها ، فكأنك قلت : هند زيد أمر عمرا بجمع بكر وخالد معها.

وعلى هذا القياس إن كانت المبتدآت أكثر. (١)

__________________

(١) دلّ الشارح بهذا على مقدرة فائقة وبراعة عظيمة في تطبيق قواعد النحو. وما أجدر مثل هذه الفروض أن يدخل في باب كباب الاخبار بالذي والألف واللام الذي وضعوه للتدريب والتمرين.

٢٨٥
٢٨٦

خبر إنّ وإخواتها

تعريفه وأحكامه

قال ابن الحاجب :

«خبر إن وأخواتها ، هو المسند بعد دخول هذه الحروف ، نحو»

«إن زيدا قائم ، وأمره كأمر خبر المبتدأ ، إلا في تقديمه إلا إذا»

«كان ظرفا».

قال الرضى :

اعلم أنه لما كان مذهبه أن الأصل في رفع الأسماء الفاعل ، وفي نصبها المفعول ، لم يكن له بدّ من أن يدّعي أنّ كل مرفوع أو منصوب غيرهما ، فهما مشبهان بهما من وجه ، كما يقال إن المبتدأ يشبه الفاعل لكونه مسندا إليه ، والخبر يشبهه لكونه ثاني جزأي الجملة ، وخبر إن وأخواتها يشبهه لكون عامله ، أي إن واخواتها ، مشابها للفعل المتعدي ، إلا أنه قدم منصوبه على مرفوعه تنبيها بفرعية العمل على فرعية العامل ، وخبر «لا» التبرئة مشبّه بخبر إن ، المشبه للفاعل ، واسم «ما» الحجازية مشبه لاسم ليس الذي هو فاعل ؛ وقد تبيّن بهذا وجه مشابهة اسم ان ، واسم «لا» التبرئة وخبر ما الحجازية للمفعول.

وكذا نقول إن الحال والتمييز والمستثنى المنصوب مشابهة للمفعول بكونها فضلات.

وأما من قال ، وهو الحق ، إن الرفع علامة العمد ، فاعلة كانت أو ، لا ، والنصب علامة الفضلات ، مفعولة كانت أو ، لا ، فلا يحتاج إلى تشبيه هذه المرفوعات بالفاعل ،

٢٨٧

بل يحتاج في نصب بعض العمد ، وهي اسم ان ، وأخواتها ، واسم لا التبرئة ، وخبر كان وأخواتها ، وخبر ما الحجازية ، إلى تشبيهها بالفضلة ، فيقول ، إن «إنّ» وأخواتها ، لما شابهت الفعل المتعدي ، كما يجيء في بابها ، عملت رفعا ونصبا مثله ، ولم يقدّم الرفع على النصب ، كما قدم في «ما» الحجازية ، لأن معنى «ما» ومعنى الفعل الذي يعمل عمله ، أعني ليس ، شيء واحد ، فكان ترتيب معموليها كترتيب معمولي «ليس» ، أعني تقديم المرفوع على المنصوب ، تطبيقا للّفظ بالمعنى.

وأما «إن» فليست بمعنى الفعل المتعدي على السواء ، بل معناها يشبه معناه من وجه ، وكذا لفظها لفظه ، والمشابهة قوية ، كما يجيء في بابها ، فأعطيت عمل الفعل في حال قوته ، وهو إذا تصرف في معموله بتقديم النصب على الرفع.

وعند الكوفيين ، إن خبر «إن» وأخواتها ، وكذا خبر «لا» التبرئة ، مرفوع بما ارتفع به حين كان خبر المبتدأ ، لا بالحروف ، لضعفها عن عملين.

ومذهب البصريين أولى ، لأن اقتضاءها للجزأين على السواء ، فالأولى أن تعمل فيهما ، ولا سيما مع مشابهة قوية بالفعل المتعدي.

قوله : «بعد دخول هذه الحروف» ، يخرج خبر المبتدأ وكل ما كان أصله ذلك سوى خبر هذه الحروف ، لكن دخل فيه غير المحدود ، فإن نحو «حسنا» في قولك : إن رجلا حسنا غلامه في الدار ، مسند إلى «غلامه» بعد دخول «إن» ، وليس بخبرها ، وكذا يرد على حد خبر «لا» التبرئة نحو : لا رجل حسنا غلامه في الدار ، وكذا يرد على حد اسم «ما» و «لا» المشبهتين بليس ، نحو : ما زيد الظريف غلامه في الدار ، فإن «غلامه» مسند إليه ، مع أنه ليس باسم «ما» ، وكذا يرد على حده لخبر المبتدأ بقوله : المجرد المسند إلى آخره ... صفة المبتدأ في نحو قوله تعالى : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ)(١).

__________________

(١) الآية ٢٢١ من سورة البقرة. وتقدمت.

٢٨٨

ولو قال هناك : المغاير للصفة المذكورة وتابع المبتدأ ، وقال ههنا : المسند بعد دخولها الذي كان في الأصل خبر المبتدأ ، وفي اسم «ما» هو المسند إليه الذي كان في الأصل مبتدأ ؛ سلم من الاعتراض.

قوله : «وأمره» أي حاله وشأنه كأمر خبر المبتدأ ، أي في أقسامه من كونه مفردا وجملة ، وفي أحكامه من كونه متحدا ، ومتعدّدا ، ومثبتا (١) ، ومحذوفا ، وغير ذلك ، وفي شرائطه من أنه إذا كان جملة فلا بد من الضمير ، ولا يحذف إلا إذا علم.

قوله «إلا في تقديمه» أي ليس أمره كأمر خبر المبتدأ في تقديمه فإنه لا يجوز تقديمه على اسم «إن» ، وقد جاز تقديم الخبر على المبتدأ ، وإنما ذلك لأن هذه الحروف فروع على الفعل في العمل ، كما يجيء في بابها ، فأريد أن يكون عملها فرعيا أيضا ، والعمل الفرعي للفعل : أن يتقدم المنصوب على المرفوع ، والأصلي أن يتقدم المرفوع على المنصوب ، كما عرفت في باب الفاعل عند قوله : والأصلي أن يلي فعله ، فلما أعملت العمل لفرعيتها لم يتصرّف في معموليها بتقديم ثانيهما على الأول ، كما تصرّف في معمولي الفعل ، لنقصانها عن درجة الفعل ، وقد يخالف خبرها خبر المبتدأ في غير ما ذكر أيضا ، وذلك أن خبرها لا يكون مفردا متضمنا ما له صدر الكلام ، كما يجيء في قسم الحروف.

قوله «إلا أن يكون ظرفا» ، استثناء من قوله «في تقديمه» الذي كان منفيا لكونه مستثنى من الموجب ، فيكون المستثنى الثاني موجبا لكونه من منفى ، أي ليس أمره كأمر خبر المبتدأ في تقديمه إلا إذا كان ظرفا ، فإن حكمه ، إذن ، حكمه في جواز التقديم إذا كان الاسم معرفة ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٢) ، وفي وجوبه إذا كان الاسم نكرة ، نحو : إن من البيان لسحرا ، وإنما جاز تقديم الخبر ظرفا لتوسعهم في الظروف ما لا يتوسع في غيرها ، لأن كل شيء من المحدثات لا بد أن يكون في زمان أو مكان ، فصارت مع كل شيء كقريبه ولم تكن أجنبية منه ، فدخلت حيث لا يدخل

__________________

(١) أي مذكورا في اللفظ.

(٢) الآيتان ٢٥ ، ٢٦ من سورة الغاشية.

٢٨٩

غيرها ، كالمحارم يدخلون حيث لا يدخل الأجنبي ، وأجري الجار والمجرور مجراه لمناسبة بينهما ، إذ كل ظرف في التقدير جار ومجرور ، والجار محتاج إلى الفعل أو معناه ، كاحتياج الظرف.

* * *

خبر لا التي

لنفي الجنس

قال ابن الحاجب :

«خبر «لا» التي لنفي الجنس ، هو المسند بعد دخولها ، نحو :»

«لا غلام رجل ظريف فيها ، ويحذف كثيرا ، وبنو تميم لا»

«يثبتونه».

قال الرضى :

وجه مشابهته للفاعل : مشابهته لخبر «إن» المشابه للفاعل ، فهو مشبّه بالمشبّه ، ووجه مشابهة «لا» التبرئة لإنّ ، أن «لا» للمبالغة في النفي ، لكونها لنفي الجنس ، كما أن «إنّ» للمبالغة في الإثبات.

وقيل : حملت عليها حمل النقيض على النقيض.

وارتفاع خبر «لا» بها ، إن لم يكن اسمها مبنيّا عند جميع النحاة (١) ، وإن كان اسمها مبنيا ، نحو : لا رجل ظريف ، قال سيبويه : ارتفاعه بكونه خبر المبتدأ ، ولا رجل ، مرفوع المحل بالابتداء ، وذلك لأنه لما صار الاسم الذي كان معربا ، بسببها مبنيا ، وصار دخولها عليه سبب بنائه مع قربه منها ، استبعد أن يكون الخبر البعيد منها يستحق بسببها

__________________

(١) لا يتفق هذا مع قوله عن الكوفيين فيما تقدم ان خبران وخبر لا مرفوع بما ارتفع به حين كان خبر المبتدأ. وربما كان يقصد بجميع النحاة : جميع البصريين.

٢٩٠

اعرابا ، فبقي على أصله من الرفع بالابتداء.

وهو عند غيره مرفوع بلا ، كما كان مع اسمها المنصوب بها ؛ قال المصنف : ليس هنا تمثيل النحاة لارتفاع خبر «لا» بنحو : لا رجل ظريف ، بحسن (١) ، لأنه في الظاهر صفة لاسم «لا» والمثال ينبغي أن يكون ظاهرا فيما يمثّل له ويستقبح إذا كان فيه احتمال ما مثّل له واحتمال غيره على السواء ، وأقبح منه ، إذا كان غير ما مثّل له أظهر ؛ ومثالهم كذلك ؛ لأن خبر «لا» يحذف كثيرا ، فظريف في : لا رجل ظريف ، في الصفة أظهر.

وقال (٢) : في مثالنا ، لا يحتمل «ظريف» إلا الخبر ، لأن المضاف المنفي بلا ، لا يوصف إلا بالمنصوب.

والذي ذهب إليه من امتناع وصف المضاف المنفي بلا ، بالمرفوع مذهب جماعة من النحاة ، وقد خولفوا فيه ، وجوّزوا رفعه حملا على المحل.

وذلك لأن «لا» هذه مشبهة بإنّ ، فكما يجوز في توابع اسم «إن» وإن كان معربا ، الحمل على المحل ، فكذا في توابع اسم «لا» معربا كان أو مبنيا.

وللأولين أن يفرقوا بين «لا» و «إنّ» في هذا الباب ، بأن «إن» لا تزيل معنى الابتداء بل معناها توكيد مضمون الجملة ، فكأن المبتدأ باق على حاله ، فجاز الحمل على المحل ، بخلاف «لا» ، فإن معنى الجملة يتغير بها عما كانت عليه ، فلا يجوز أن تقدر كالعدم ، ويجعل الاسم بعدها كالمبتدأ به ، كما فعل مع «إن».

وكان مقتضى ذلك : ألّا يجوز الحمل على محل اسمها إلا أنهم جوّزوا ذلك إذا كان اسمها مبنيا ، لأنه إذا كان معربا ، فالحمل على الإعراب الظاهر ، أي النصب ، أولى من الرفع البعيد الذي إن اعتبر ، فلكونه أصلا في هذا الاسم مع مشابهة «لا» لإنّ التي الابتداء معها كالباقي ، أما إذا كان مبنيا فنصبه بعيد كرفعه ، لأن النصب فيه صار بسبب البناء

__________________

(١) بحسن خبر قوله ليس هنا تمثيل النحاة.

(٢) أي المصنف أيضا.

٢٩١

فتحا ، فصار نصب تابعه حملا على فتحه المشابه للنصب بعروضه بلا ، وزواله بزوالها ، مساويا لرفع توابعه ، حملا على رفعه الذي كان له في الأصل ، لأن كل واحد منهما بعيد.

قوله : «ظريف فيها» لا فائدة في إيراد هذا الظرف بعد الخبر ، ولا معنى له إن علقناه بالخبر ، إذ يكون المعنى : ليس لغلام رجل ظرافة في الدار ، وهذا معنى سمج.

ومثاله ، أيضا ، ظاهر بسبب هذا الظرف ، في كون «ظريف» صفة لغلام رجل والظرف خبر «لا» ، والمعنى : ليس في الدار غلام رجل ظريف ، ولو قال : لا غلام رجل قائم فيها ، لكان أظهر من جهة المعنى في كون «فيها» متعلقا بالخبر.

قوله : «وبنو تميم لا يثبتونه إلا إذا كان ظرفا» ، اقتدى فيه بجار الله (١) ، قال الجزولي : بنو تميم لا يلفظون به إلا أن يكون ظرفا ؛ قال الأندلسي : لا أدري من أين نقله ، ولعله قاسه ، قال : والحق : أنّ بني تميم يحذفونه وجوبا ، إذا كان جوابا ، أو قامت قرينة غير السؤال دالة عليه ، وإذا لم تقم فلا يجوز حذفه رأسا ، إذ لا دليل عليه بل بنو تميم ، إذن ، كأهل الحجاز في إيجاب الإتيان به ؛

فعلى هذا القول : يجب إثباته مع عدم القرينة عند بني تميم وغيرهم ومع وجودها يكثر الحذف عند أهل الحجاز ، ويجب عند بني تميم.

اسم ما ، ولا

المشبهتين بليس

قال ابن الحاجب :

«اسم «ما» و «لا» المشبهتين بليس هو المسند بعد»

__________________

(١) أي الزمخشرى ؛ وقد تقدم. وكذا الجزولى. والأندلسي.

٢٩٢

«دخولهما نحو : ما زيد قائما ، ولا رجل أفضل منك ،»

«وهو في «لا» شاذ».

قال الرضى :

اسم «ما» وخبرها ، قد يكونان معرفتين ، أو أحدهما ، نحو : ما زيد قائما ، وما زيد هو الظريف.

وأما الجملة الاسمية التي تدخلها «لا» فإما أن يكون المبتدأ فيها معرفة مع تكرير «لا» ، نحو : لا زيد فيها ولا عمرو ، أو يكون جزآها نكرتين ، نحو : لا رجل قائم.

قوله : «وهو في «لا» شاذ» ، أي عمل ليس في (١) «لا» شاذ ، قالوا يجيء في الشعر نحو قوله :

٨٠ ـ من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح (٢)

والظاهر أنه ، لا تعمل «لا» عمل ليس ، لا شاذا ، ولا قياسا ، ولم يوجد في شيء من كلامهم خبر «لا» منصوبا كخبر «ما» وليس.

وهي في نحو : لا براح ، «ولا مستصرخ» ، الأولى أن يقال هي التي في نحو : لا إله إلا الله ، أي «لا» التبرئة ، إلا أنه يجوز لها أن تهمل مكررة نحو : لا حول ولا قوة ويجب ذلك مع الفصل بين اسمها وبينها ومع المعرفة ويشذ في غير ذلك نحو : لا براح ، وذلك لضعفها في العمل ، كما يجيء في المنصوبات عند ذكر اسمها.

والظاهر فيها الاستغراق مع ارتفاع المبتدأ المنكر بعدها ، لأن النكرة في سياق غير

__________________

(١) أي بالنسبة للا.

(٢) من قصيدة لسعد بن مالك بن قيس بن ثعلبة أحد سادات بني بكر بن وائل وفرسانها في الجاهلية. وهو يعرض فيها بالحارث بن عباد لقعوده عن الحرب التي شبت بين بكر وتغلب بسبب قتل جساس لكليب. واول القصيدة :

يا بؤس للحرب التي

وضعت أراهط فاستراحوا

وتعريضه بالحارث في قوله في بيت الشاهد : من صدّ عن نيرانها. الخ ...

٢٩٣

الموجب ، للعموم على الظاهر ، سواء كانت مع «لا» أو ليس ، أو غيرهما من حروف النفي أو النهي والاستفهام.

ويحتمل أن تكون لغير الاستغراق مع القرينة ، فيجوز : لا رجل في الدار بل رجلان ، وأما إذا انتصب اسمها أو انفتح فهي نص في الاستغراق ، كما أن : ما جاءني رجل ظاهر في الاستغراق ، ويجوز العدول عنه للقرينة ، نحو : ما جاءني رجل بل رجلان ، وما جاءني من رجل نص في الاستغراق ، فلا يجوز : ما جاءني من رجل بل رجلان.

* * *

المنصوبات

المعنى العام للمنصوبات

قال ابن الحاجب :

«المنصوبات هو ما اشتمل على علم المفعولية».

قال الرضى :

قد تبيّن شرحه بما ذكرنا في حدّ المرفوعات (١).

وعلم الفضلة كما تقدم في أول الكتاب أربعة ، الفتحة والكسرة والألف والياء ، نحو : رأيت زيدا ، ومسلمات ، وأباك ومسلمين ؛ ومسلمين.

وقد قسم النحاة المنصوبات قسمين : أصلا في النصب ، يعنون به المفعولات الخمسة ، ومحمولا عليه ، وهو غير المفعولات من الحال والتمييز وغير ذلك.

والذي جعلوه غير المفعولات يمكن أن يدخل بعضها في حيّز المفاعيل فيقال للحال :

__________________

(١) ص ١٨٣ من هذا الجزء

٢٩٤

هو مفعول مع قيد مضمونه ، إذ المجيء في جاءني زيد راكبا : فعل مع قيد الركوب الذي هو مضمون راكبا ، ويقال للمستثنى : هو المفعول بشرط إخراجه ، وكأنهم آثروا التخفيف في التسمية ؛ والمفعول بلا قيد شيء آخر هو المفعول المطلق ، كما يجيء ، ففي جعل المفعول معه ، والمفعول له أصلا في النصب لكونهما مفعولين ، وجعل المستثنى والحال فرعين مع أنهما أيضا مفعولان ، نظر ؛ وإن كان الأصالة في النصب بسبب كون الشيء من ضروريات معنى الفعل ، فالحال كذلك دون المفعول معه والمفعول له ، إذ ربّ فعل بلا علة ولا مصاحب ولا فعل إلا وهو واقع على حالة من الموقع والموقع عليه.

والحق أن يقال : النصب علامة الفضلات في الأصل ، فيدخل فيها المفاعيل الخمسة والحال والتمييز ، والمستثنى ، وأما سائر المنصوبات فعمد ، شبّهت بالفضلات كاسم «إن» واسم «لا» التبرئة ، وخبر «ما» الحجازية ، وخبر كان وأخواتها.

* * *

المفعول المطلق

معناه

قال ابن الحاجب :

«فمنه المفعول المطلق ، وهم اسم ما فعله فاعل فعل»

«مذكور بمعناه».

قال الرضى :

قدم المفعول المطلق لأنه المفعول الحقيقي الذي أوجده فاعل الفعل المذكور ، وفعله ، ولأجل قيام هذا المفعول ، به صار فاعلا ، لأن ضاربية زيد في قولك : ضرب زيد ضربا ، لأجل حصول هذا المصدر منه.

أما المفعول به نحو : ضربت زيدا ، والمفعول فيه ، نحو ضربت قدّامك يوم الجمعة ، فليسا مما فعله فاعل الفعل المذكور وأوجده ، وكذا المفعول معه ، وأما المفعول له ، وإن كان مفعولا للفاعل وصادرا منه ، إلا أن فاعليته ليست لقيام هذا المفعول ، به ، ألا ترى أن كون

٢٩٥

المتكلم زائرا في قولك زرتك طمعا ، ليس لأجل قيام الطمع به بل لأجل الزيارة.

فبان أن المفعول المطلق أخصّ بالفاعل من المفعول له ، فهو أحق بتقديم ذكره ، وأيضا ، لا فعل إلا وله مفعول مطلق ، لأن طلب الفعل الرافع للفاعل ، له ؛ أشد من طلبه لغيره ، ألا ترى أنه كما يقع على فاعله بصوغه على صورة اسم فاعل منه ، يقع على المفعول به بصوغه على صورة اسم مفعول منه ، بلا قيد آخر ، ففي قولك : ضرب زيد عمرا ، يوم الجمعة وخالدا اكراما لك : زيد ضارب ، وعمرو مضروب ، وأما يوم الجمعة فمضروب فيه ، وخالد ، مضروب معه ، واكراما مضروب له ، فتعليق ذلك الفعل بالمفعول به بتغيير صيغته من غير قيد آخر ، نحو : ضرب زيد ، وأما إلى غيره فبحرف جر ، نحو ضرب في يوم الجمعة ؛ وأما قولهم : سير فرسخان ، وصيد يوم كذا ، فمجاز قليل ، وكذا : فرسخ مسير ويوم مصيد ، وهو على حذف الجر للاتساع ، كما في نحو : استغفرت الله ذنبا.

قال سيبويه في قولهم : جئتك خفوق النجم ، أصله : حين خفوق النجم ، فاتسع في الكلام واختصر ، قال : وليس هذا في سعة الكلام بأبعد من قولهم : صيد عليه يومان ، وولد له ستون عاما ، وسير عليه فرسخان ؛ يعني أنك جعلت المفعول فيه كالمفعول ، اتساعا واختصارا فجعله ، كما ترى في غاية البعد.

وقدم المفعول فيه على المفعول له والمفعول معه لأن احتياج الفعل منّا إلى الزمان والمكان ضروري ، بخلاف العلة والمصاحب ، وقدم المفعول له على المفعول معه ، إذ الفعل الذي لا علة له ولا غرض ، قليل ، بخلاف الفعل بلا مصاحب فإنه أكثر منه مع المصاحب ، وأيضا ، يصل الفعل إليه بواسطة الواو ، بخلاف سائر المفاعيل ، ولو لا مراعاة التسمية ، كما قلنا ، لكان تقديم الحال على المفعول له والمفعول معه ، أولى ، إذ الفعل لا يخلو من حال من حيث المعنى.

وإنما سمي ما نحن فيه مفعولا مطلقا ، لأنه ليس مقيدا لكونه مفعولا حقيقيا بحرف جر ، كالمفعول به والمفعول فيه ، والمفعول له والمفعول معه.

قوله : «هو اسم ما فعله» ، قال : إنما قلت ههنا : اسم بخلاف سائر الحدود ، ليخرج

٢٩٦

نحو : ضربت ، الثاني ، في قولك : ضربت ضربت ، فإنه شيء فعله المتكلم الذي هو فاعل الفعل المذكور.

قلت ؛ إن أراد بقوله : فعله المتكلم ، أوجده بالقول ، أي قاله ، فالمقول في الحقيقة وإن كان مفعولا ، إلا أن الفعل في ظاهر اصطلاحهم يطلق على غير القول ، فيقال : هذا مقول وهذا مفعول فلم يكن ، إذن ، داخلا في قوله : ما فعله حتى يخرج بقوله : اسم ، وأيضا ضربت ، باعتبار أنه مقول ، ليس بفعل ، بل هو اسم ، لأن المراد : هذا اللفظ المقول ، فلا يخرج بقوله : اسم ما فعله لكونه اسما ، وبتأويله باللفظ يدخل في الحد جميع المفاعيل ، فإن لفظ «زيدا» ويوم الجمعة ، وأمامك ، : لفظ أوجده الفاعل بالقول في قولك : ضربت زيدا يوم الجمعة أمامك.

وإن أراد ، وهو الظاهر ، بقوله : فعله ، أنه فعل مضمونه الذي هو الضرب فلم يكن داخلا حتى يخرج ، لأنه ، إذن ، فعل مضمونه ، ولم يفعله.

هذا ، ويعني باسم ما فعله : اسم الحدث الذي فعله.

ويخرج عن هذا الحدّ ، نحو ضربا في : ما ضربت ضربا ، لأنه لم يفعل فاعل المذكور ههنا فعلا ، إلا أن يقول : النفي فرع الإثبات فجرى مجراه وألحق به ، وكذا نحو : مات موتا ، وفني فناء : جار مجرى ما فعله الفاعل.

واحترز بقوله : فاعل فعل مذكور عن نحو : أعجبني الضرب ، فإن الضرب فعله فاعل فعل ما ، لكن لم يفعله فاعل الفعل الذي هو أعجب ، لأن فاعله الضرب ، وهو لا يفعل نفسه ، وكذا : استحسنت الضرب.

قوله : «مذكور» صفة فعل ، وكذا قوله بمعناه ، والضمير في «معناه» ، عائد إلى : اسم ، أو إلى «ما» ، قوله : «بمعناه» احتراز عن نحو : كرهت قيامي ، فإن «قيامي» اسم لما فعله المتكلم ، وهو فاعل الفعل المذكور ، لكن ليس كرهت ، بمعنى قيامي ، ويبطل

٢٩٧

هذا الحد بنحو : كرهت كراهتي ، وأحببت حبيّ ، وأبغضت بغضي على أن المنصوبات مفعول بها (١).

* * *

أنواع المفعول المطلق

وحكمه من حيث التثنية والجمع

قال ابن الحاجب :

«ويكون للتأكيد والنوع والعدد ، نحو : جلست جلوسا»

«وجلسة ، وجلسة ، فالأول لا يثنى ولا يجمع ، بخلاف»

«أخويه».

قال الرضى :

المراد بالتأكيد ، المصدر الذي هو مضمون الفعل بلا زيادة شيء عليه ، من وصف ، أو عدد ، وهو في الحقيقة تأكيد لذلك المصدر المضمون ، لكنهم سمّوه تأكيدا للفعل توسّعا ، فقولك : ضربت بمعنى : أحدثت ضربا ، فلما ذكرت بعده ضربا ، صار بمنزلة قولك : أحدثت ضربا ضربا ، فظهر أنه تأكيد للمصدر المضمون وحده ، لا للإخبار والزمان اللذين تضمنهما الفعل.

ويعني بالنوع المصدر الموصوف ، وذلك علي ضروب ، لأنه إما أن يكون موضوعا على معنى الوصف كالقهقري ، والقرفصاء ، وكالجلسة والركبة ، لأن الفعلة للمصدر المختص بصفة من الصفات ، كصفة الحسن أو القبح ، أو الشدة أو الضعف ، أو غير ذلك ، فالجلسة

__________________

(١) لانه يصدق على : كراهتي ، وحبي ، أنهما مفعولان لفاعل فعل مذكور وأن معنى الكراهة والحب موجود في كرهت وأحببت. وأجيب عن ذلك بأن الكراهة والحب مفعولان لفاعل الفعلين المذكورين لا بحسب هذا الفعل بل بحسب فعل آخر كما قال السيد الجرجاني في تعليقاته على هذا الشرح.

٢٩٨

ليست مطابقة للجلوس.

وربما يذكر بعدها ما يعين ذلك الوصف نحو جلسة حسنة ، وربما يترك نحو : جلست جلسة.

وإما أن يوصف بصفة مع ثبوت الموصوف نحو : جلست جلوسا حسنا ، أو مع حذفه ، نحو : عمل صالحا أي عملا صالحا ، ومنه : ضربت ضرب الأمير ، لأنك حذفت الموصوف ثم حذفت المضاف من الصفة ، والأصل : ضربته ضربا مثل ضرب الأمير ، وذلك لأنك لا تفعل فعل غيرك.

وإما أن يكون اسما صريحا مبّنيا كونه بمعنى المصدر ، إمّا بمن نحو : ضربته أنواعا من الضرب ، وإما بالإضافة ، وذلك إما في أي ، نحو ضربته أيّ ضرب. وإما في أفعل التفضيل نحو : ضربته أشدّ الضرب ، وقدمت خير مقدم ، لأن «أيّا» وأفعل التفضيل بعض ما يضافان إليه كما يجيء في باب الإضافة.

ويجوز أن يكون هذا مما حذف موصوفه ، أي : ضربا أيّ ضرب ، وضربا أشدّ الضرب.

وإمّا في بعض ، وكل ، نحو ضربته بعض الضرب أو كلّ الضرب ؛ أو غير مبيّن في اللفظ ، نحو : ضربته أنواعا وأجناسا.

وإما أن يكون مصدرا مثنى أو مجموعا لبيان اختلاف الأنواع ، نحو : ضربته ضربين أي مختلفين ؛ قال تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)(١) ، أو معرفا بلام العهد ، كما إذا أشرت إلى ضرب معهود شديد أو ضعيف أو غير ذلك ، فتقول : ضربته ذلك الضرب ؛ ونحو : القرفصاء في : قعد القرفصاء ، والقهقري في : رجع القهقري مصدر بنفسه كما ذكرنا ، عند سيبويه ؛ وقال المبرد هو في الأصل صفة المصدر ، أي القعدة القرفصاء والرجوع

__________________

(١) الآية ١٠ من سورة الأحزاب.

٢٩٩

القهقري ، وعند بعض الكوفيين : هو منصوب بفعل مشتق من لفظة ، وإن لم يستعمل ، فكأنه قيل ، تقهقر القهقري وتقرفص القرفصاء ، ونحوه ؛ وعدم سماع وقوع هذه الأسماء وصفا لشيء ، وعدم سماع أفعالها يضعف المذهبين ؛ إذ هو إثبات حكم بلا دليل.

ويعني بالعدد : ما يدل على عدد المرات معينا كان أو ، لا ، وهو إما مصدر موضوع له ، نحو : ضربته ضربة وضربتين وضربات ، أو مصدر موصوف بما يدل عليه نحو ضربته ضربا كثيرا ، وأما عدد صريح مميز بالمصدر نحو : ضربته ثلاث ضربات ، قال الله تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً)(١) أو مجرد عن التمييز نحو : ضربته ألفا ، ويجوز أن يكون المجرد صفة لمصدر محذوف أي ضربا ألفا ؛ وإما آلة موضوعة موضع المصدر نحو : ضربته سوطا وسوطين وأسواطا ، والأصل ضربته ضربة بسوط فحذف المصدر المراد به العدد ، وأقيم الآلة مقامه دالة على العدد بإفرادها ، وكذا في ضربت ضربتين بسوط ، أو ضربات بسوط وضعت الآلة مقام المثنى والمجموع مثناة أو مجموعة ، فقيل ضربته سوطين وأسواطا وتثنيتها وجمعها تثنية المصدر وجمعه لا تثنية الآلة وجمعها ، لأنك ربما قلت ضربته سوطين وأسواطا مع أنك لم تضربه العدد المذكور إلا بسوط واحد ، لكنك ثنيت الآلة وجمعتها لقيامها مقام المصدر المثنى والمجموع ، ويجوز أن يكون أصل : ضربته سوطا : ضربته ضربة سوط ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

وقد اجتمع في هذا القسم أي فيما قام فيه الآلة مقام المصدر : النوع والعدد ، كما اجتمعا في نحو قولك : ضربته ضربين وضروبا قاصدا اختلاف الأنواع.

قوله «فالأول لا يثنى ولا يجمع» ، إذ المراد بالتأكيد : ما تضمنه الفعل بلا زيادة عليه ، ولم يتضمن الفعل إلا الماهية من حيث هي هي ، والقصد إلى الماهية من حيث هي هي يكون مع قطع النظر عن قلتها وكثرتها ، والتثنية والجمع ، لا يكونان إلا مع النظر إلى كثرتها ، فتناقضا.

__________________

(١) الآية ٤ من سورة النور.

٣٠٠