شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤

وأما على مذهب المبرد فينبغي ألّا يجوز بعدها الرفع إلا على وجه أذكره (١) ، وهو أن بعضهم يجوّز في جميع ما ذكرنا ونذكر ، أنه (٢) منتصب بفعل مقدر مفسّر بالظاهر : أن يرتفع بالفعل المقدر الذي هو لازم ذلك الفعل الظاهر ، قال السيرافي يجوز : هلا زيد قتلته ، بتقدير هلّا قتل زيد قتلته ، وروي الكوفيون.

لا تجزعي إن منفس أهلكته

فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي (٣) ـ ٤٦

أي إن أهلك منفس أو إن هلك منفس ، فعلى هذا ، يقدر على مذهب المبرّد في بيت ذي الرمة :

١٥٥ ـ إذا ابن أبي موسى بلال بلغته

فقام بفأس بين وصليك جازر (٤)

على رواية رفع «ابن» أي : إذا بلغ ابن أبي موسى.

هذا ، والأولى مطابقة المفسّر في الرفع والنصب إذا أمكن ، قوله : «وحيث» ، حيث دالة على المجازاة في المكان ، كإذا في الزمان ، نحو : حيث زيدا تجده فأكرمه ، ولكن استعمالها استعمال كلمات الشرط أقل من استعمال «إذا» ، فإنها تدخل على الاسمية التي جزآها اسمان اتفاقا ، نحو : اجلس حيث زيد جالس ، أما إذا كسعت (٥) بما ، نحو : حيثما فهي وسائر الأسماء الجوازم المتضمنة معنى الشرط نحو متى وأينما ، لا يفصل بينها وبين الفعل إلا عند الضرورة قال :

١٥٦ ـ فمتى واغل يزرهم يحيّو (٥) وتعطف عليه كأس الساقي (٦)

وقال :

__________________

(١) يقصد أن النزاع في الرفع على الابتداء.

(٢) مفعول لقوله فيما ذكرنا ونذكر ، وأما مفعول يجوّز فقوله : أن يرتفع بالفعل الخ.

(٣) تقدم هذا البيت في باب الفاعل ص ٢٠٠ من هذا الجزء.

(٤) من قصيدة لذي الرمة في مدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري. يقول فيها :

إلى ابن أبي موسى بلال طوت بنا

قلاص أبوهن الجديل وعامر

والجديل وعامر فحلان تنسب إليهما الإبل الجيدة. وقبل الشاهد :

أقول لها إذ شمّر الليل واستوت

بها البيد واستبّت عليها الحرائر

استبّت : اطردت وتوالت. الحرائر : جمع حرور ، الريح الحارة.

(٥) الكسع أن يضرب الإنسان على مؤخّره. وأراد بذلك : إذا جاءت «ما» بعد حيث ، لأنها تكون في مؤخرتها.

(٦) الواغل الذي يدخل على القوم في مجلس شرابهم من غير أن يدعى. وهو من شعر عدي بن زيد العبادي.

٤٦١

١٥٧ ـ صعدة نابتة في حائر

أينما الريح تميّلها تمل (١)

فلو اضطر الشاعر إلى الفصل نحو متى زيدا تزره يزرك فالنصب واجب ، لوجوب تقدير الفعل بعدها.

قوله : «وفي الأمر والنهي» ، قد تقدم ذلك بعلته (٢).

قوله : «وعند خوف لبس المفسّر بالصفة» ، إذا (٣) أردت مثلا أن تخبر أن كل واحد من مماليكك ، اشتريته بعشرين دينارا ، وأنك لم تملك أحدا منهم إلا بشرائك بهذا الثمن ، فقلت : كلّ واحد من مماليكي اشتريته بعشرين ، بنصب «كل» ، فهو نص في المعنى المقصود لأن التقدير : اشتريت كلّ واحد من مماليكي بعشرين ، وأما إن رفعت «كل» ، فيحتمل أن يكون «اشتريته» خبرا له ، وقولك «بعشرين» متعلقا به ، أي : كل واحد منهم مشترى بعشرين ، وهو المعنى المقصود ، ويحتمل أن يكون «اشتريته» صفة لكل واحد ، وقولك «بعشرين» هو الخبر ، أي كلّ من اشتريته من المماليك فهو بعشرين ، فالمبتدأ إذن ، على التقدير الأول (٤) : أعمّ ، لأن قولك : كل واحد من مماليكي : عمّ من اشتريته ، ومن اشترى لك ، ومن حصل لك منهم بغير المشترى من وجوه التملكات ؛ والمبتدأ على الثاني ، لا يقع إلا على من اشتريته أنت ، فرفعه ، إذن ، مطرق لاحتمال الوجه الثاني الذي هو غير مقصود ومخالف للوجه الأول ، إذ ربما يكون لك على الوجه الثاني منهم من اشتراه لك غيرك بعشرين أو بأقل منها أو بأكثر ، وربما يكون ، أيضا ، لك منهم جماعة بالهبة أو الوراثة أو غير ذلك ، وكل هذا خلاف مقصودك ، فالنصب ، إذن ، أولى لكونه نصا في المعنى المقصود ، والرفع محتمل له ولغيره.

__________________

(١) الصّعدة القناة المستقيمة تشبه بها المرأة الفارعة الطول والحائر : المكان المطمئن من الأرض يتحير فيه الماء فيجيء ويذهب والشجر النابت في هذه الأمكنة يجود ويطول. وهذا البيت لكعب بن جعيل : شاعر أموي.

(٢) في أول هذا البحث ص ٤٥٩.

(٣) هذا تمهيد لشرح المثال الذي أورده المصنف من القرآن ، وقد أطال الرضى في هذا التمهيد ، وفي بعض ما قاله مجال للبحث.

(٤) من تقديري الرفع ، وكذلك فيما يأتي من قوله على الثاني.

٤٦٢

والمثال الذي أورده المصنف من الكتاب العزيز أعني قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)(١) ، لا يتفاوت فيه المعنى كما يتفاوت في مثالنا ، سواء جعلت الفعل خبرا أو صفة ، فلا يصلح ، إذن ، للتمثيل وذلك لأن مراده تعالى بكل شيء : كل مخلوق ، نصبت «كل» أو رفعته ، وسواء جعلت «خلقناه» صفة ، مع الرفع أو خبرا عنه.

وذلك أن قوله تعالى خلقنا كلّ شيء بقدر ، لا يريد به خلقنا كل ما يقع عليه اسم «شيء» ، فكل شيء في هذه الآية ليس كما في قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢) ، لأن معناه أنه قادر على كل ممكن غير متناه.

فإذا تقرر هذا قلنا : ان معنى : كل شيء خلقناه بقدر ، على أن «خلقناه» هو الخبر : كل مخلوق : مخلوق بقدر ، وعلى أن «خلقناه» صفة : كل شيء مخلوق : كائن بقدر ، والمعنيان واحد ؛ إذ لفظ كل شيء ، في الآية مختص بالمخلوقات ، سواء كان خلقناه صفة له، أو خبرا، وليس مع التقدير الأول أعمّ منه مع التقدير الثاني كما كان في مثالنا (٣).

ويختار النصب ، أيضا ، إذا كان الكلام جوابا عن استفهام بجملة فعلية ، كما إذا قيل : أرأيت أحدا ، أو أيّهم ، أو غلام أيهم رأيت ، فتقول : زيدا رأيته ؛ وإنما كان النصب أولى ليطابق الجواب السؤال في كونهما فعليتين.

وكذا إذا قيل : أضارب الزيدان أحدا ، قلت : زيدا يضربان ، لأن معناه : أيضرب الزيدان أحدا ، فهو مقدر بالفعلية.

واختار الكسائي النصب إذا كان الاسم المحدود بعد اسم هو فاعل في المعنى ، نحو : زيد هندا يضربها ، فزيد في المعنى هو الضارب ، وإن كان في اللفظ مبتدأ ، فنصب «هند» أولى ، لأنه كأنه قيل : يضرب زيد هندا.

__________________

(١) الآية ٤٩ من سورة القمر ، وتقدمت.

(٢) الآية ٢٨٤ من سورة البقرة ، ومثلها في القرآن كثير والمقصود منها كلمة شيء.

(٣) أجاب السيد الجرجاني هنا عن المصنف بأن المثال صحيح مطابق إذا دقق النظر فيه.

٤٦٣
٤٦٤

تساوي

الرفع والنصب

قال ابن الحاجب :

«ويستوي الأمران في مثل : زيد قام وعمرا أكرمته»

قال الرضى :

يعني يستوي الرفع والنصب في الاسم المحدود إذا كان قبله عاطف على جملة اسمية ، الخبر فيها جملة فعلية أو على (١) الخبر فيها.

وإنما استويا لأنه يمكن أن يكون ما بعد الواو عطفا على الاسمية ، التي هي الكبرى ، فيختار الرفع مع جواز النصب ، ليناسب المعطوف المعطوف عليه في كونهما اسميّتين ؛ وأن يكون عطفا على الفعلية التي هي الصغرى فيختار النصب مع جواز الرفع ليتناسبا في كونهما فعليّتين.

فإن قيل الرفع أولى للسلامة من الحذف والتقدير.

عورض بكون الكلام المعطوف أقرب إلى الفعلية منه إلى الاسمية ، وهذا المثال : أعني : زيد قام وعمرو كلمته ، مثال أورده سيبويه (٢).

__________________

(١) أي : عاطف على الخبر فيها.

(٢) سيبويه ج ١ ص ٤٧ ومثال سيبويه : عمرو لقيته وزيد كلمته : وهما سواء.

٤٦٥

واعترض عليه بأنه لا يجوز فيه العطف على الصغرى ، لأنها خبر المبتدأ ، والمعطوف في حكم المعطوف عليه فيما يجب له ويمتنع عليه والواجب في الجملة التي هي خبر المبتدأ ، رجوع ضمير إلى المبتدأ ، وليس في : عمرو كلمته ، ضمير راجع إلى زيد ، وبعبارة أخرى : وهي أنه يجب في المعطوف جواز قيامه مقام المعطوف عليه ، ولو قلت : زيد كلمت عمرا ، لم يجز ، وبعبارة أخرى للأخفش ، وهي أنه لا يجوز عطف جملة لا محل لها على جملة لها محل.

واعتذر لسيبويه بأعذار ، أحدها للسيرافي ، وهو جواب عن جميع العبارات (١) : أن غرض سيبويه ، لم يكن تصحيح (٢) المثال ، بل تبيين جملة اسمية الصدر ، فعلية العجز ، معطوف عليها أو على الجزء منها وتصحيح المثال إليك ، بزيادة ضمير فيه ، نحو : عمرو كلمته في داره أو لأجله أو نحو ذلك.

وإنما سكت سيبويه عن هذا اعتمادا على علم السامع أنه لا بد للخبر إذا كان جملة من ضمير ، فيصحح المثال إذا أراد.

وأجاب بعضهم عن الوجه الأول ، بأنه ليس بمسلّم أن حكم المعطوف حكم المعطوف عليه فيما يجب ويمتنع ، ألا ترى إلى قولهم : ربّ شاة وسخلتها ؛ وردّ بأن سخلتها أيضا نكرة ، كما يأتي في باب المضمرات ، وأجيب عن الوجه الثاني بأنك تقول : زيد لقيته وعمرا ، ولو قلت : زيد لقيت عمرا لم يجز ، فلا يلزم جواز قيام المعطوف مقام المعطوف عليه.

وأجاب أبو علي (٣) عن اعتراض الأخفش ، بأن الاعراب كما لم يظهر في المعطوف عليه جاز أن يعطف عليه جملة لا إعراب لها.

__________________

(١) هي ما جاء أولا في قوله : واعترض ، ثم في قوله وبعبارة أخرى ، ثم قوله : وبعبارة أخرى للأخفش وكلها تلتقي في أن المثال غير صحيح.

(٢) معنى عبارة السيرافي المنقولة على هامش سيبويه أن سيبويه اشتغل بتوجيه العطف على الوجهين عن تصحيح المثال. ويتردد على ألسنة العلماء قولهم المناقشة في المثال ليست من دأب الرجال.

(٣) الفارسي ، وتقدم ذكره كثيرا.

٤٦٦

وأسدّ الاعتراضات هو الأول ؛ والجواب ما قال السيرافي ؛ ثم إن هذا المثال أجازه سيبويه مسوّيا بين رفع الاسم ونصبه ، على ما يؤذن به ظاهر كلامه ، ومنعه الأخفش لخلو المعطوف عن الضمير ، وجوّزه أبو علي ، على أن الرفع أولى من النصب ؛ وإن زدت في الجملة المعطوفة ضميرا راجعا إلى المبتدأ الأول فلا خلاف في جوازه ، ومثل قولك زيد قام وعمرا كلمته : قولك زيد ضارب عمرا ، وبكرا أكرمته ، يستوي في «بكر» الوجهان لأن اسم الفاعل الناصب للفعول به كالفعل ، وأما إذا قلت : زيد قائم غلامه ، وبكرا كلمته ، فالرفع فيه أولى ، لأنّ اسمي الفاعل والمفعول ، إذا لم ينصبا المفعول به لم تتم مشابهتهما للفعل ، كما يجيء في باب الإضافة ، إذ قد يرفع الضعيف المشابهة للفعل (١) ، نحو زيد مصريّ حماره.

__________________

(١) أي يعمل الرفع ، فلا مفعول لقوله يرفع.

٤٦٧
٤٦٨

وجوب النصب

قال ابن الحاجب :

«ويجب النصب بعد حرف الشرط وحرف التخصيص ، مثل»

«إن زيدا ضربته ضربك ، وألا زيدا ضربته»

قال الرضى :

حرف الشرط : إن ، ولو ، نحو : لو زيدا أكرمته ، وأما «أمّا» فهي وإن كانت من حروف الشرط ، إلا أن الرفع مختار بعدها ، على ما تقدم ، لأن النصب في أخويها ، إنما وجب لأجل الفعل المقدر المتعدي ، وشرطها فعل لازم واجب الحذف ، كما يجيء ، غير مفسّر بشيء ، فلا يكون من هذا الباب وتقديره : أما يكن من شيء ، وليس للشرط حرف غير هذه الثلاثة إلا «إذ ما» عند سيبويه ؛ ويقبح الفصل بينها وبين الفعل باسم مرفوع أو منصوب نحو : إذ ما زيد قام ، وإذ ما زيدا ضربته ، كما ذكرنا في : متى وحيثما.

قوله : «وحرف التحضيض» ، وهو أربعة : هلّا ، وألّا ، ولو لا ، ولو ما ؛ وعند الخليل : ألا ، المخففة قد تكون للتحضيض ، كما يجيء في قوله :

١٥٨ ـ ألا رجلا جزاه الله خيرا

يدل على محصلة تبيت (١)

__________________

(١) من أبيات نسبها سيبويه : لعمرو بن قنعاس أولها :

ألا يا بيت ، بالعلياء بيت ،

ولو لا حب أهلك ما أتيت

وقوله بالعلياء بيت بعد جملة النداء. قالوا انها جملة مستأنفة معناها لي بيت بالعلياء. تركته وجئت إليك.

لأجل حبي لأهلك. وفي بيت الشاهد يقصد أن يدله أحد على امرأة صالحة يتزوجها. وبعده : وهو مرتبط به :

ترجّل لمّتي وتضمّ بيتي

وأعطيها الاتاوة ان رضيت

٤٦٩

التقدير : ألا ترونني ، أي هلّا ترونني (١).

وحرف التحضيض لا يدخل إلا على الأفعال بالاستقراء انفاقا منهم ، وقد يقدر الفعل بعدها ، إما مفسّرا كما في قولك : هلا زيدا ضربته ، أو غير مفسّر كما في قوله :

١٥٩ ـ تعدّون عقر النيب أفضل مجدكم

بني ضوطري لو لا الكميّ المقنعا (٢)

أي لو لا تعدون ؛ وكذا إن ولو ، فانه يقدر الفعل بعدهما بلا مفسّر نحو : إن سيفا فسيف ، ونحو : «اطلبوا العلم ولو بالصين».

ولا شك أن التحضيض والعرض والاستفهام والنفي والشرط والنهي والتمني ، معان تليق بالفعل ، فكان القياس اختصاص الحروف الدالة عليها بالأفعال ، إلا أن بعضها ، بقيت على ذلك الأصل من الاختصاص كحروف التحضيض ، وبعضها اختصت بالاسمية كليت ولعلّ ، وبعضها استعملت في القبيلين مع أن أولويتها بالأفعال كهمزة الاستفهام ، وما ، ولا ، للنفي ، وبعضها اختلف في اختصاصها بالأفعال ، كألا للعرض ، على ما يجيء الكلام عليه في اسم «لا» التي لنفي الجنس ، وكذا «إن» الشرطية ، فانّ المرفوع في نحو :

(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) يجوز عند الأخفش والفراء أن يكون مبتدأ ، والمشهور وجوب النصب في :

إن زيدا ضربته ، وألا زيدا تضربه في العرض.

__________________

(١) في هذا المكان أشار السيد الجرجاني إلى اختلاف النسخ وأورد عبارة طويلة قال انها من نسخة أخرى وفيها استشهاد بقول الشاعر :

ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة

إليّ فهلا نفس ليلى شفيعها

ولعل النسخة التي نقل عنها البغدادي كانت كذلك لأنه عدّ هذا البيت من الشواهد وتكلم عليه وقال : ان بعده :

أأكرم من ليلى علي فتبتغي

به الجاه أم كنت امرءا لا أطيعها

وقيل في نسبة هذين البيتين انهما لمجنون بني عامر ، وقيل انهما لابن الدمينة.

(٢) الضوطري. والضوطر : الرجل الضخم الذي لا غناء عنده ، ويقال : هو ابن ضوطري أي ابن الأمة.

والكمي الشجاع ، والمقنع : الذي يلبس القناع ، وهو سنة عند العرب يلبس الشجاع منهم قناعا يخفي به وجهه.

وهذا البيت مما هجا به جرير الفرزدق ويشير بعقر النيب إلى ما كان يفتخر به الفرزدق وقومه من قصة التفاخر بين سحيم بن وثيل الرياحي ، وغالب بن صعصعة والد الفرزدق في عقر الإبل حتى غلب أبو الفرزدق سحيما إذ أمر عبيده بعقر كل ما معه من الإبل وظلت هذه القصة مثار افتخار لقومه. وكان الفرزدق يشير إليها كثيرا في شعره.

٤٧٠

صور ليست من الباب

قال ابن الحاجب :

«وليس مثل : أزيد ذهب به منه ، فالرفع (١) ، وكذا : كل»

«شيء فعلوه في الزبر ، ونحو : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)(٢) ،»

«الفاء بمعنى الشرط عند المبرد ، وجملتان عند سيبويه ، وإلا»

«فالمختار النصب».

قال الرضى :

قوله : «وليس مثل : أزيد ذهب به منه فالرفع» ، أي فالرفع واجب وإنما قال : إنه ليس من هذا الباب لأنه ، وإن كان اسما بعده فعل ، لكنه ليس مشتغلا عنه أي عن العمل فيه ، أي عن نصبه ، لأن عمل الفعل أو شبهه فيما قبله لا يكون إلا النصب ، كما ذكرنا ، وقوله بضميره أو متعلقة ، أي بنصب ضميره أو نصب متعلّق ضميره ، لأن الفعل لا يشتغل عن نصب اسم برفع ضميره ، ففي قولك : أزيد ذهب به ، خرج زيد من الحدّ المذكور بقوله : مشتغل عنه ، وبقوله بضميره ، إذ المعنى مشتغل عن نصبه بنصب ضميره ؛ هذا ، على أنه جوّز ابن السراج والسيرافي في مثل هذا المبني للمفعول اسناده إلى مصدر مقدر ، أي : أزيدا ذهب الذهاب به ، فيكون المجرور في محل النصب فينصب الاسم السابق لحصول الشرائط ، وهو ضعيف لعدم الاختصاص (٣) في المصدر المدلول عليه بفعله.

وجوّز الكوفيون نصب الاسم السابق من دون حاجة إلى المسند إليه المذكور بل يقدرون قبل الاسم فعلا متعديا ، نحو : أأذهب شخص زيدا ، ذهب به ، فاللازم مفسّر للمتعدي ،

__________________

(١) فالرفع ، أي واجب وسيشرحها الرضى.

(٢) الآية ٢ من سورة النور.

(٣) أي فلا تصح نيابته عن الفاعل حتى يكون المجرور في محل نصب.

٤٧١

كما ذكرنا قبل عن بعضهم أنهم يضمرون في نحو : إن زيد ضربته : لازم الفعل الظاهر ، على العكس ، أي : إن ضرب زيد ، ضربته ؛ وكلاهما خلاف الأصل ، إذ الأصل موافقة الاسم المحدود لضميره أو متعلقه في الرفع والنصب ، إذ ضميره أو متعلقة نائبه ، كما أن عامل الضمير والمتعلق نائب عامل الاسم ؛ فتنوي في : إن زيد ذهب ، أو ذهب به ، أو ذهب غلامه ، أو ذهب بغلامه : رافعا ، وتنوي في : ان زيدا ضربته ، أو حقّ عليه الضلالة أو ضربت غلامه أو حقّ على غلامه الضلاله : ناصبا.

قوله : وكذا : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ)(١) ، أي ليس من هذا الباب لأنه خرج بقوله مشتغل عنه أي عن نصبه مع بقاء المعنى الحاصل بالرفع وهنا لو نصبت «كل شيء» بفعلوا ، لم يبق معنى الرفع ، إذ يصير المعنى : فعلوا في الزبر كلّ شيء إن علقنا الجارّ بفعلوا ، ونحن لم نفعل في الزبر أي في صحف أعمالنا شيئا ، إذ لم نوقع فيها فعلا ، بل الكرام الكاتبون أوقعوا فيها الكتابة ، وإن جعلنا الجارّ نعتا لكل شيء ، صار المعنى : فعلوا كل شيء مثبت في صحائف أعمالهم وهذا وإن كان مستقيما ، إلا أنه خلاف المعنى المقصود حالة الرفع إذ المراد منه ما أريد في قوله تعالى : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)(٢) ، وفعلوه صفة «كل شيء» أي : كل ما فعلوه ، مثبت في صحائف أعمالهم بحيث لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.

قوله : «ونحو : الزانية والزاني فاجلدوا ، الفاء بمعنى الشرط ، عند المبرد ؛ أقول : جميع الشرائط فيه حاصلة في بداء (٣) النظر ، لأن ما بعد الفاء قد يعمل فيما قبلها ، كما في نحو قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)(٤) ، إلا أن القرّاء لما اتفقوا فيه على الرفع ، إلا ما روي في الشاذ عن عيسى بن عمر (٥) أنه قرأ بالنصب ، والنصب مع الطلب مختار كما تقدم ،

__________________

(١) الآية ٥٢ من سورة القمر.

(٢) الآية ٥٣ من سورة القمر.

(٣) أي عند النظرة الأولى قبل البحث والتفكير.

(٤) الآية ٣ من سورة المدثر.

(٥) هو عيسى بن عمر الثقفي الإمام النحوي وتقدم ذكره في هذا الشرح ص ١٣٧ من هذا الجزء وغيرها.

٤٧٢

والقرآن لا يجوز على غير المختار ، تمحل له النحاة وجها يخرج به عن الحدّ المذكور ، لئلا يلزم منه غير المختار.

فنقول : ما بعد الفاء يعمل فيما قبلها إذا كانت زائدة ، كما في قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ...) إلى قوله (فَسَبِّحْ)(١) كما يجيء في الظروف المبنية ، أو تكون الفاء واقعة غير موقعها لغرض ، كما في «وربّك فكبر» ، و (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)(٢) ، وأما إذا لم تكن زائدة وكانت واقعة في موقعها ، فما بعدها لا يعمل فيما قبلها ، كما تقدم.

وفي الآية هي كذلك ، لكون الألف واللام في «الزانية» مبتدأ موصولا ففيه الشرط ، واسم الفاعل الذي هو صلته ، كالشرط ، فخبر المبتدأ كالجزاء ، وهذا الذي ذكرته مذهب الفراء والمبرد ، فالفاء واقعة في موقعها فيخرج عن الحد بقوله مشتغل عنه بضميره أو متعلقه ،

وقال سيبويه : هما جملتان : أي : الزانية والزاني مبتدأ محذوف المضاف ، أي حكم الزانية ... والخبر محذوف ، أي : فيما يتلى عليكم بعد ، وقوله : فاجلدوا .. هو الذي وعد بأن حكم الزانية فيه ، والفاء عنده أيضا للسببية ، أي : إن ثبت زناهما فاجلدوا ، فخرج أيضا بقوله : مشتغل عنه بضميره ، كما قدمنا.

قوله : «وإلا فالمختار النصب ، أي لو لا التقدير ان المذكوران للمبرد وسيبويه ، لكان من هذا الباب ، فكان المختار النصب لقرينة الطلب ، التي هي أقوى قرائنه (٣).

وتقدير المبرد أقوى لعدم الاضمار فيه ، كما في تقدير سيبويه ؛ هذا آخر شرح كلام المصنف.

__________________

(١) الآيتان ١ ـ ٣ من سورة النصر.

(٢) الآية ٩ من سورة الضحى.

(٣) وهذا هو محمل قراءة عيسى بن عمر التي تقدمت الاشارة إليها في الصحيفة السابقة.

٤٧٣

[من زيادات الرضى]

واعلم أنّ ما يشتغل به المفسّر من ضمير الإسم المذكور أو متعلقه ، إن وقع بعد «الا» ، فالفعل المقدر ينبغي أن يكون مثبتا ، فيقدر في : إن زيد لم يقم الا هو : إن قام زيد لم يقم الا هو ، وفي نحو : إن زيدا لم تضرب الا إياه : إن تضرب زيدا لم تضرب الا إياه ؛

وذلك لأن الاسم المذكور يقع من الفعل المقدر موقع الاسم المشتغل به من المفسّر ، ألا ترى أن «أحد» واقع من استجارك المقدر مقام الضمير من استجارك ، المفسّر ، وكذا «زيدا» في : إن زيدا ضربته. واقع من ضربت المقدر موقع الضمير من المفسّر ؛ وما بعد «الا» إذا كان فاعلا أو مفعولا ، مثبت لا غير ، لأن الاستثناء المفرغ لا يكون الا بعد غير الموجب ، وليس قبل الاسم المذكور «الا» حتى ينقض نفي الفعل المقدر كما نقض «الا» المذكور قبل المشتغل به نفي المفسّر ، فلم يبق إلا إضمار الفعل الموجب ، ليوافق في المعنى : المنفيّ المنقوض نفيه بإلا ، ألا ترى أن «قام زيد» في مثالنا ، يوافق في المعنى : لم يقم إلا هو ، وكذا : تضرب زيدا ، يوافق معنى : لم تضرب إلا إياه ؛

فإذا تقرر هذا قلنا : قد يكون في المفسّر ضمير ان للاسم المذكور ، مرفوع ومنصوب ، وقد يكون فيه ضمير ومتعلق به ، كذلك ، أي متخالفان رفعا ونصبا ، وقد يكون فيه متعلقان بضميرين كذلك ؛

فالأول على ثلاثة أضرب ، لأن الضميرين إما متصلان أو منفصلان أو متصل ومنفصل ، فإن كانا منفصلين فلك الخيار في إضمار فعل رافع لذلك الاسم المذكور ، أو إضمار ناصب ؛

مثاله : إن زيدا لم يعطك إياه الا هو .. فإن نصبته اعتبارا باياه قدرت هكذا : لم يعطك زيدا لم يعطك إياه الا هو ، فلو سلطت الفعل عليه قلت : زيدا لم يعطك إلا هو ، وإن رفعته اعتبارا بهو ، قدرت هكذا : اعطاك إياه زيد لم يعطك إياه إلا هو ، لأن المشتغل به ، إذن ، بعد «الا» ، فلا بد من تقدير موجب كما تقدم ؛

وتسليط المفسّر ههنا على الاسم المذكور محال ، إذ الفعل لا يرفع ما قبله ؛ وإن كان

٤٧٤

أحدهما متصلا والآخر منفصلا فالاعتبار بالمتصل ، يعني : إن كان مرفوعا ، أضمر الرافع ، وإن كان منصوبا ، أضمر الناصب ؛

فالأول نحو : ان زيد أعطاك إياه ، راجع إلى زيد ، وجاز كون الفاعل والمفعول ضميرين لشيء واحد ، لكون أحدهما منفصلا ، وكذا : إن زيد لم يضرب إلا إياه : التقدير : إن أعطاك زيد أعطاك إياه ، وإن لم يضرب زيد لم يضرب إلا إياه.

ولو اعتبرت المنفصل ، لكان التقدير : ان أعطاك زيدا أعطاك إياه والمفعول مفسّر للفاعل الذي هو ضمير متصل ، وقد بينّا امتناع ذلك. مع تقديم المفعول في نحو : زيدا ضرب ، فكيف يجوز مع تأخره ؛ ولكان بالتسليط : إن زيدا أعطاك فيكون نحو : زيدا ضرب ، ولا يجوز ؛ وكذا لو اعتبرت المنفصل في : إن زيدا لم يضرب إلا إياه ، لكان التقدير : ضرب زيدا ، وبالتسليط زيدا ضرب ، ولا يجوزان ؛

والثاني أي الذي : المتصل فيه منصوب نحو : إن زيدا لم يضربه إلا هو ، أي إن لم يضرب زيدا لم يضربه إلا هو ، ولو اعتبرت المنفصل لكان التقدير إن ضربه زيد والفاعل مفسّر للمفعول الذي هو ضمير متصل ، وقد تقدم امتناع ذلك ،

وإن كانا متصلين ، ولا بدّ أن يكون الفعل من أفعال القلوب أو مما ألحق بها ، كعدمت وفقدت ، وإلا اتحد الفاعل والمفعول في المعنى متصلين ولا يجوز ذلك إلا في أفعال القلوب كما يجيء في بابها ، نظرنا ؛ فإن كان الاسم المذكور ظاهرا ، وجب رفعه اعتبارا بالضمير المرفوع ، نحو : إن زيد علمه قائما ، أي إن علم زيد علمه قائما ، إذ لو نصبت لكان التقدير : ان علم زيدا علمه قائما فيفسّر المفعول الفاعل الذي هو ضمير متصل ، ولا يجوز ، لا في أفعال القلوب ولا في غيرها مع تقدم المفعول نحو : زيدا علم قائما ، فكيف مع تأخره عن الضمير ، ولكان بالتسليط : إن زيدا علم علم قائما (١) ، ولا يجوز لما ذكرنا ؛

__________________

(١) بتكرير الفعل علم ، لأن أحدهما مسلط على ما قبله ، والآخر من الجملة المفسرة.

٤٧٥

وإن كان الاسم المذكور ضميرا راجعا إلى ما قبله جاز رفعه ونصبه اعتبارا بكل واحد من ضميري المفسّر ، كقولك بعد جري ذكر زيد : إن إياه علمه قائما ، أي إن علمه علمه قائما ، اتصل الضمير المنفصل لما ظهر عامله ، وبالتسليط : إن إياه علم علمه قائما ، ويجوز : إن هو علمه قائما أي إن علم علمه قائما باستتار الضمير لما ظهر العامل ؛

وأما المفسّر الذي معه ضمير ومتعلق به مختلفان رفعا ونصبا نحو : إن زيد ضرب غلامه ، وان زيدا ضربه غلامه ، أو ان زيد مرّ بغلامه وان زيد مرّ به غلامه ، فالاعتبار بالضمير المتصل لا بالمتعلّق ، فيجب في : ان زيد ضرب غلامه الرفع ، إذ لو نصبته اعتبارا بمتعلّق الضمير لكان التقدير : إن ضرب زيدا أي غلام زيد على ما ذكرنا قبل من أن المضاف في مثله محذوف ، فيفسّر المفعول الفاعل ظاهرا مع تأخر المفعول ، ومع المضاف يفسّر ذيل المفعول الفاعل ، وكلاهما لا يجوز ، كما تقدم في أول الباب ، وعلى تقدير المصنف يكون التقدير : ان لابس زيدا وضمير لابس لزيد ، ولا يجوز كما قدمناه ، وعلى ما قدرنا قبل من كون المضاف محذوفا في مثله يكون التقدير : ان ضرب زيدا أي متعلق زيد فيكون المفعول في الظاهر مفسّرا للفاعل وهو ضمير متصل ، وفي التقدير ذيل المفعول مفسر للفاعل ، ولا يجوزان مع تقدم المفعول ، نحو زيدا ضرب ، وغلام هند ضربت فكيف مع تأخيره ؛ وبالتسليط يصير : ان زيدا لابس ، أو ان زيدا ضرب أي متعلق زيد ضرب ولا يجوز.

وأما إن كان الضمير في المسألتين منفصلا ، جاز (١) رفع الاسم المذكور ونصبه ، نحو : ان زيدا لم يضرب غلامه إلا إياه ، وإن زيدا لم يضرب غلامه إلا هو ؛ تقدير الرفع في المسألة الأولى : ان لم يضرب زيد أي متعلّق زيد ، لم يضرب غلامه إلا إياه ، وتقدير النصب فيها : ان ضرب غلام زيد زيدا ، لم يضرب غلامه إلا إياه ، وبالتسليط : ان زيدا ضرب غلامه ، لأنك إذا حذفت الضمير المستثنى حذفت أداة الاستثناء فصيّرت الفعل موجبا

__________________

(١) جاز رفع الاسم. موقعها موقع الجواب من : أما ان كان الضمير. ففي التعبير تساهل وكانه حقه أن يقول فالرفع جائز أو أي تعبير آخر يكون مقترنا بالفاء في جواب أما.

٤٧٦

ليبقى معنى ايجاب الضرب لزيد كما كان مع الاستثناء.

وتقدير الرفع في الثانية : ان ضرب غلامه زيد لم يضرب غلامه إلا هو ، وتقدير النصب فيها : ان لم يضرب زيدا ، أي متعلق زيد لم يضرب غلامه إلا هو ، أو : ان لم يلابس زيدا ، بضرب غلامه لم يضرب غلامه إلا هو ، على تقدير المصنف ، وبالتسليط : ان زيدا ، أي غلام زيد ، لم يضرب إلا هو ، وعلى تقدير المصنّف : ان زيدا لم يلابس بضرب غلامه إلا هو.

وأما المفسّر الذي معه متعلقان بضميري الاسم المذكور مختلفان رفعا ونصبا ، نحو : إن زيد ضرب أخوه أباه ، فلك في الاسم المذكور الرفع والنصب ، فتقدير الرفع : ان ضرب زيد أي متعلّق زيد ، ضرب أخوه أباه ، وتقدير النصب : ان ضرب أخو زيد زيدا أي متعلّق زيد ، ضرب أخوه أباه ، وبالتسليط : ان زيدا ، أي أبا زيد ضرب أخوه ، وعلى تقدير المصنف : ان زيدا لابس بضرب أبيه.

هذا ما عرض لاتمام هذا الباب (١) ، والله أعلم بالصواب.

__________________

(١) وهذا أيضا من مبالغات الرضى رحمة الله عليه في استكمال القواعد والاسراف في تطبيقها ، وهذا مثل الذي ختم به باب المبتدأ والخبر إذا تعددت المبتدآت وانظر ذلك في آخر باب المبتدأ والخبر من هذا الجزء.

٤٧٧
٤٧٨

التحذير

قال ابن الحاجب :

«الرابع (١) التحذير ، وهو معمول بتقدير «اتّق» تحذيرا»

«مما بعده ، أو ذكر المحذّر منه مكررا ؛ نحو : اياك»

«والأسد ، وإياك وأن تحذف ، والطريق الطريق».

قال الرضى :

سميّ اللفظ المحذّر به من نحو : اياك والأسد ، ونحو : الأسد الأسد ، تحذيرا مع أنه ليس بتحذير ، بل هو آلة التحذير.

قوله : «هو معمول بتقدير «اتق» تحذيرا مما بعده» ، مؤذن بأن لفظ التحذير هو : إياك دون المعطوف ، وليس كذا ، بل التحذير لفظ المعطوف والمعطوف عليه ؛ والصحيح أن يقال : لفظ (٢) التحذير على ضربين ، إما لفظ المحذّر مع المحذّر منه بعده معمولا لبعّد مقدرا ، وإما لفظ المحذر منه مكررا ، معمولا لبعّد مقدرا ، نحو الأسد الأسد.

قوله : «تحذيرا مما بعده» ، مفعول له ، والعامل فيه المصدر أعني التقدير ، أي :

__________________

(١) أي مما حذف فيه عامل المفعول به وجوبا حذفا قياسيا.

(٢) أي الأسلوب الذي يحذّر به ، أو الذي يستعمل في التحذير.

٤٧٩

بأن تقدر «اتق» تحذيرا مما بعد ذلك المعمول ، كالأسد الذي بعد إياك ، وتقدير اتق ، ههنا فيه بعض السماجة من حيث المعنى ، إذ يصير المعنى : اتق نفسك من الأسد ، ولا يقال اتقيت زيدا من الأسد ، أي نحيته ، ولو قال بتقدير «نحّ» أو «بعّد» كان أولى.

قوله : «أو ذكر المحذّر منه مكررا» ، فيه نظر ، وذلك أن «ذكر» مصدر ، ففي عطفه على قوله معمول ، بعد من حيث المعنى ، إلا أن يقدر في الأول مضاف ، أي هو ذكر معمول ، أو ذكر المحذر منه ، وفيه نظر أيضا ، لأن مراده بالتحذير : هذا المنصوب (١) لأنه في تقسيم المنصوبات ، ألا ترى إلى قوله : الثاني المنادى ، الثالث ، ما أضمر عامله ، فلا يصح : الرابع ذكر منصوب حكمه كذا.

وفي بعض النسخ ، أو ذكر بلفظ ما لم يسمّ فاعله ، وليس بوجه ، لأن «أو» ههنا متصلة من حيث المعنى فينبغي أن يليها مثل المذكور قبل ، كما في نحو : جاءني زيد أو عمرو ، بلى ، لو كانت منفصلة (٢) جازت المخالفة بين ما بعدها وما قبلها ، تقول : أنا مقيم ثم يبدو لك ، فتقول : أو أمشي ، بمعنى بل أنا أمشي ، فيكون للاضراب عن الأول والاثبات للثاني ، كما يجيء في حروف العطف ؛ قال سيبويه في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)(٣) ، لو قال أو لا تطع كفورا ، لانقلب المعنى ، لأنها ، إذن ، إضرابية بمعنى بل ، فتكون للاضراب عن النهي عن طاعة الآثم ، فلو قلنا ههنا : أو ذكر ، لكان إضرابا عن قوله : معمول بتقدير اتق ، ولا يستقيم فعلى كل وجه في لفظه نظر.

وضابط هذا الباب أن تقول : كل محذّر معمول لا حذر أو بعّد ، أو شبههما ، مذكور بعده ما هو المحذّر منه إما بواو العطف أو بمن ظاهرة أو مقدرة ، يجب اضمار عامله ، وكذا كل محذّر منه مكرّر ، معمول لبعّد ، فيدخل في الأول نحو : اياك والأسد وإياي

__________________

(١) تقدم أنه قال أن لفظ اياك والاسد ونحوه هو آلة التحذير. والأسلوب المستعمل فيه ولكنه يقصد أن عبارة ابن الحاجب فيها أن التحذير هو نفس الاسم المنصوب.

(٢) يريد أن يراد بها الاضراب. كما يتبين من شرحه وتمثيله.

(٣) الآية ٢٥ من سورة الدهر.

٤٨٠