شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي

شرح الرضيّ على الكافية - ج ١

المؤلف:

محمّد بن الحسن الرضي الاسترآبادي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤

لا يندب

إلا المعروف

قال ابن الحاجب :

«ولا يندب إلا المعروف ، فلا يقال : وارجلاه ، وامتنع»

«وا زيد الطويلاه خلافا ليونس».

قال الرضى :

هذا الذي ذكره في المتفجّع عليه ، وأما المتوجّع منه ، فإنك تقول : وا مصيبتاه ، وليست بمعروفة.

ويعني بالمعروف : المشهور ، علما كان ، أو ، لا ، فلو كان علما غير مشهور لم يندب وكذا غيره من المعارف ، فلا يقال : وا هذاه ،.

وإنما ذلك لتحصيل عذر النادب في الندبة ، لأنه إذا كان المندوب مشهورا ، لا يلام النادب في الندبة عليه ، ولو لم يكن علما وكان المتفجع عليه مشهورا بذلك الاسم جاز ندبته ، تقول يا ضاربا زيداه ، إذا كان زيد رجلا عظيما ، وقد ضربه المتفجع عليه واشتهر به.

وكذلك : يا حسنا وجههوه في المشهور بذلك.

فضابط المندوب أن يكون معرفة مشهورا ، سواء كان تعريفه قبل الندبة أو بحرف الندبة ،

٤٢١

تقول : وامن قلع باب خيبراه (١) ، وامن حفر بئر زمزماه (٢) ، لاشتهار الرجلين بذلك.

وموضع مدة الندبة آخر المضاف إليه ، وإن كان المندوب في الحقيقة هو المضاف ، نحو : وا أمير المؤمنيناه ، والمندوب هو الأمير ، إلا أنك أردت ندبة المضاف إلى المؤمنين فلو ألحقت مدتها بالمضاف لانفكّ من المضاف إليه ، فألحقتها المضاف إليه والمراد المضاف ، كما تقول : حبّ رمّاني وإن لم تكن ملكت الرمان ، بل الحبّ فقط.

وكذا تقول في المضارع للمضاف : وا طالعا جبلاه ، وكذا تلحقها آخر الصلة نحو : وامن حفر بئر زمزماه ؛ وكذا قال يونس والكوفيون إنك تلحقها آخر الصفة لا آخر الموصوف نحو : وا زيد الظريفاه.

وقال الخليل وسيبويه ، بل تلحقها آخر الموصوف نحو : وا زيداه الظريف ، لأن اتصال الموصوف بصفته لفظا أقلّ من اتصال المضاف بالمضاف إليه والموصول بصلته.

وليونس أن يقول : إنه متصل بها على الجملة لفظا واتصاله بها في المعنى أتمّ من اتصال الموصول بصلته ، والمضاف بالمضاف إليه ، وإن كان في اللفظ أنقص ، وذلك لأنه يطلق اسم الصفة على موصوفها ولا يطلق المضاف إليه على المضاف ، ولا الصلة على موصولها.

وحكى يونس أن رجلا ضاع له قد حان فقال : واجمجمتيّ الشاميتيناه (٣) والجمجمة القدح.

وحكى الكوفيون : وارجلا مسجّاه ، وقد استشهد الكوفيون بهذا على جواز ندبة غير المعروف ، وهو شاذ عند البصريين.

__________________

(١) يريد سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد جاء في بعض كتب السّير أن علي بن أبي طالب كان يحمل راية المسلمين في غزوة خيبر وكان المسلمون يحاصرونها وأن عليا خلع باب أحد حصون خيبر وبذلك تم فتحها وانتصر المسلمون ، وهم يذكرون هذا لبيان قوة عليّ الجسمية.

(٢) هذا يراد منه عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلّى الله عليه وسلّم.

(٣) أشرنا إلى أن شرح هذا التعبير سيأتي قريبا. ص ٤١٥ من هذا الجزء.

٤٢٢

وحكى الأندلسيّ عن الكوفيين أنهم ربما نونوا المندوب في الوصل ، نحو : وا زيدا يا هذا (١)!

__________________

(١) قوله : يا هذا. لبيان أن المراد الوصل فيما قبله. وهم يستعملون هذا الأسلوب لبيان ذلك. وربما قالوا بدل يا هذا : يا فتى ... بعد الكلام الذي يراد بيان أنه موصول كما يفعل المبرد.

٤٢٣
٤٢٤

حذف حرف النداء

[قال ابن الحاجب :]

«ويجوز حذف حرف النداء ، إلا مع اسم الجنس والإشارة»

«والمستغاث والمندوب ، نحو : يوسف أعرض عن هذا (١) وأيها»

«الرجل ، وشذ : أصبح ليل ، وافتد مخنوق وأطرق كرا».

[قال الرضى :]

يعني بالجنس ما كان نكرة قبل النداء ، سواء تعرّف بالنداء ، كيا رجل ، أو لم يتعرّف ، كيا رجلا ، وسواء كان مفردا أو مضافا أو مضارعا له ، نحو : يا غلام فاضل ، ويا حسن الوجه ، ويا ضاربا زيدا ، قصدت بهذه الثلاثة واحدا بعينه ، أو ، لا ؛

وإنما لا تحذف من النكرة ، لأن حرف التنبيه إنما يستغنى عنه إذا كان المنادى مقبلا عليك متنبها لما تقول ، ولا يكون هذا إلا في المعرفة ، لأنها مقصودة قصدها ؛

__________________

(١) الآية ٢٩ من سورة يوسف.

٤٢٥

وإنما لا تحذفه من المعرفة المتعرفة بحرف النداء ، إذ هي ، إذن ، حرف تعريف ، وحرف التعريف لا يحذف مما تعرف به ، حتى لا يظن بقاؤه على أصل التنكير ، ألا ترى أن لام التعريف لا تحذف من المتعرف بها ، وحرف النداء أولى منها بعدم الحذف ، إذ هي مفيدة مع التعريف : التنبيه والخطاب ،

وكان ينبغي ألّا يحذف من «أيّ» أيضا ، إذ هو ، أيضا ، جنس متعرّف بالنداء ، إلا أن المقصود بالنداء ، لما كان وصفه ، كما تقدم وهو معرفة قبل النداء باللام جاز حذفه ، ألا ترى أنه لا يجوز الحذف من : يا أيهذا ، من غير أن تصف هذا بذي اللام ، كما لا يجوز الحذف من : يا هذا ، فثبت أن الاعتبار في حذف حرف النداء من «أي» بوصفه ، نحو : أيها الرجل ؛ أو بوصف وصفه نحو : أيهذا الرجل.

وإنما لم يجز الحذف عند البصريين مع اسم الإشارة وإن كان متعرفا قبل النداء. لما ذكرنا قبل من أنه موضوع في الأصل لما يشار إليه للمخاطب ، وبين كون الاسم مشارا إليه وكونه منادى ؛ أي مخاطبا تنافر ظاهر ، فلما أخرج في النداء عن ذلك الأصل وجعل مخاطبا ، احتيج إلى علامة ظاهرة تدل على تغييره وجعله مخاطبا وهي حرف النداء ؛

والكوفيون جوّزوا حذف الحرف من اسم الإشارة ، اعتبارا بكونه معرفة قبل النداء ، واستشهادا بقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ)(١).

وليس في الآية دليل ، لأن هؤلاء خبر المبتدأ ، كما يجيء في الحروف ؛

فبقي على هذا من المعارف التي يجوز حذف الحرف منها : العلم والمضاف إلى أي معرفة كانت ، والموصولات.

وأما المضمرات ، فيشذ نداؤها ، نحو : يا أنت ، ويا إياك ؛

تقول في الموصولات : من لا يزال محسنا أحسن إليّ ،

ومن قال في ضبط ما يحذف منه الحرف : إنه يحذف مما لا يوصف به «أيّ» ؛

__________________

(١) الآية ٨٥ من سورة البقرة.

٤٢٦

يلزمه جواز الحذف في : يا غلام رجل ، ويا خيرا من زيد ، مع تنكيرهما ، وذلك مما لا يجوز ،

وإنما لم يجز الحذف من المستغاث والمتعجّب منه والمندوب ، أما المستغاث به ، فللمبالغة في تنبيهه بإظهار حرف التنبيه لكون المستغاث له أمرا مهما ، وأما المتعجب منه والمندوب فلانهما مناديان مجازا ، ولا يقصد فيهما حقيقة التنبيه والإقبال ، كما في النداء المحض ، فلما نقلا عن النداء إلى معنى آخر مع بقاء معنى النداء فيهما مجازا ، لزما لفظ علم النداء ، تنبيها على الحقيقة المنقولين هما منها ؛

ولم يذكر المصنف لفظة «الله» فيما لا يحذف منه الحرف وهي منه لأنه لا يحذف الحرف منه إلا مع إبدال الميمين منه في آخره نحو اللهم ، وذلك لأن حق ما فيه اللام أن يتوصل إلى ندائه بأي أو باسم الإشارة فلما حذفت الوصلة مع هذه اللفظة لكثرة ندائها لم يحذف الحرف منه ، لئلا يكون إجحافا ؛

قوله : «أصبح ليل» ، أي ادخل في الصباح ، وصر صبحا ، قالته أم جندب زوجة امرئ القيس ، تبرّما به ، وكان مفركا ، ويقال انه سألها عن سبب تفريكهن (١) له ، فقالت له ، لأنك ثقيل الصدر خفيف العجز سريع الاراقة ، بطيء الافاقة ؛

قوله : اطرق كرا ، (٢) رقية يصيدون بها الكرا ، يقولون : أطرق كرا إن النعام في القرى ، ما إن أرى هنا كرا ، فيسكن ويطرق حتى يصاد ، وهذه مثل رقية الضبع : خامري أمّ عامر.

والمعنى أن النعام الذي هو أكبر منك قد اصطيد وحمل إلى القرى فلا تخلّى (٣) أيضا ؛ ومثل ذلك قولهم : افتد مخنوق ، قاله شخص وقع في الليل على سليك بن السّلكة (٤) ،

__________________

(١) أي تفريك النساء له أي اتهامه بأنه مفرك ، وقد جاء شرح المفرك في اجابة زوجته.

(٢) انظر ص ٣٩٨ من هذا الجزء.

(٣) أي فلا تترك.

(٤) أحد صعاليك العرب مثل الشنفري وتأبط شرا.

٤٢٧

وهو نائم مستلق فخنقه ، وقال : افتد مخنوق ، فقال له سليك : الليل طويل وأنت مقمر ، أي أنت آمن من أن أغتالك ففيم استعجالك في الأسر ، ثم ضغطه سليك فضرط ، فقال سليك أضرطا وأنت الأعلى ، فذهبت كلها أمثالا ؛

* * *

٤٢٨

حذف المنادى

قال ابن الحاجب :

«وقد يحذف المنادى لقيام القرينة ، نحو : ألا يا اسجدوا».

قال الرضى :

المنادى مفعول به ، فيجوز حذفه ، إذا قامت قرينة دالة عليه بخلاف سائر المفعول به (١) ، فإنه قد يحذف نسيا منسيا ، كما تقدم.

قوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا)(٢) بتخفيف «ألا» على أنها حرف تنبيه ، و «يا» حرف نداء ، أي : يا قوم اسجدوا ؛ ومن قرأ : ألّا يسجدوا بتشديد اللام ، فان ناصبة للمضارع ، أدغمت نونها في لام «لا» ويسجدوا فعل مضارع سقط نونه بالنصب ، أي : فهم لا يهتدون لأن يسجدوا ، و «لا» زائدة ؛ أو نقول : أن لا يسجدوا ، بدل من السبيل ، أي فصدهم عن السجود ، ويجوز أن يكون بدلا من قوله : أعمالهم ، فلا تكون «لا» زائدة ، أي فزيّن لهم الشيطان أن لا يسجدوا.

__________________

(١) أي سائر أنواع المفعول به.

(٢) الآية ٢٥ من سورة النحل وقد ربطها في الشرح بالآية ٢٤ التي قبلها.

٤٢٩

الأسماء الملازمة للنداء

هذا ، واعلم أنه قد جاءت أسماء لا تستعمل في غير النداء ، وهي : فل وفلة ، وليس فل ، ترخيم فلان وإلّا لم يجز في المذكر إلا فلا ، إلا على مذهب الفراء كما تقدم من تجويزه نحو : يا عم في عماد ، ولو كان ترخيم فلان لقيل في المؤنث يا فلان بحذف تاء فلانة.

ومن ذلك : يا مكرمان ، ويا ملأمان ، ويا نومان ، أي يا كريم ويا لئيم ويا نائم ، وكذا يا ملكعان ، أي يا لكع ، وكل ما هو على مفعلان فهو مختص بالنداء ، والغالب فيه السبّ.

ومن الأبنية المختصة بالنداء : كل ما هو على فعل في سبّ المذكر وفعال في سبّ المؤنث ، نحو : خبث ولكع ، وخباث ولكاع ، وفعال هذه قياسية عند سيبويه كالتي بمعنى الأمر من الثلاثي ، وكذا فعل في مذكرها ، ومفعلان سماعي.

وربما اضطر الشاعر إلى استعمال بعض الأسماء المذكورة غير منادى ، كقوله :

١٤٣ ـ في لجة أمسك فلانا عن فل (١)

وقال :

١٤٤ ـ أطوف ما أطوف ثم آوى

إلى بيت قعيدته لكاع (٢)

ولم يسمع شيء من الأسماء المختصة بالنداء موصوفا.

__________________

(١) هذا من أرجوزة العجاج التي أولها : الحمد لله العلي الأجلل .. وهو مرتبط بقوله في وصف الناقة : تثير أيديها عجاج القسطل ... وقبل هذا الشطر : تدافع الشيب ولم تقتلّ. أي لم تقتتل ، وروى تقتل بكسر التاء والقاف ، بعد ادغام التاءين. ومنها كثير من الشواهد.

(٢) هذا بيت مفرد قاله الحطيئة الشاعر في هجاء امرأته. فقد روا أنه هجا نفسه وأباه وأمه وزوجته.

٤٣٠

المنصوب على الاختصاص

ومما أصله النداء باب الاختصاص ، وذلك أن تأتي بأيّ وتجريه مجراه في النداء من ضمه والمجئ بهاء التنبيه في مقام المضاف إليه ووصف «أي» بذي اللام ، وذلك بعد ضمير المتكلم الخاص كأنا وإني ، أو المشارك فيه نحو : نحن وإنّنا ، لغرض بيان اختصاص مدلول ذلك الضمير من بين أمثاله بما نسب إليه ، وهو إما في معرض التفاخر ، نحو : أنا أكرم الضيف أيها الرجل ، أي أنا أختص من بين الرجال باكرام الضيف ، أو في معرض التصاغر (١) ، نحو : أنا المسكين أيها الرجل ، أي مختصا بالمسكنة من بين الرجال ، أو لمجرّد بيان المقصود بذلك الضمير ، لا للافتخار ولا للتصاغر ، نحو : أنا أدخل أيها الرجل ونحن نقرّ أيها القوم ، فكل هذا في صورة النداء وليس به ؛ بل المراد بصفة «أي» هو ما دل عليه ضمير المتكلم السابق ، لا المخاطب ، وإنما نقل من باب النداء إلى باب الاختصاص لمشاركة معنوية بين البابين ، إذ المنادى ، أيضا ، مختص بالخطاب من بين أمثاله.

ولا يجوز في باب الاختصاص إظهار حرف النداء مع «أي» لأنه لم يبق فيه معنى النداء ، لا حقيقة كما في يا زيد ، ولا مجازا كما بقي في المتعجب منه والمندوب ، فكره استعمال علم النداء في الخالي عن معناه بالكلية.

وحال ظاهر «أيّ» ووصفه من ضم الأول ولزوم رفع الثاني كحالها في النداء ، لكن مجموع نحو : أيها الرجل في باب الاختصاص في محل النصب ، لوقوعه موقع الحال ، أي مختصا من بين الرجال.

وهذا كما قيل في نحو : سواء أقمت أم قعدت ، إن : أقمت أم قعدت ، وإن كان

__________________

(١) يريد التواضع.

٤٣١

في الظاهر جملة معطوفة على جملة ، إلا أنه في الحقيقة بتقدير مبتدأ عطف عليه اسم آخر ، أي سواء قيامك وقعودك ، كما يجيء في باب حروف العطف.

وقد يقوم مقام «أيّ» المذكور ، اسم منصوب دال على المراد من الضمير المذكور ، إما معرّف باللام نحو : نحن العرب أقرى للنزل ، أو مضاف نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم : «إنا معاشر الأنبياء فينا بكء» أي قلة كلام ، وقولهم : نحن آل فلان كرماء ،.

وربما كان المنصوب علما ، قال :

١٤٥ ـ بنا تميما يكشف الضباب (١)

قال أبو عمرو : ان العرب نصبت في الاختصاص أربعة أشياء : معشر ، وآل ، وأهل ، وبني ، قال :

١٤٦ ـ إنا بني ضبّة لا نفر (٢)

أقول : لا شك أن هذه الأربعة المذكورة أكثر استعمالا في باب الاختصاص ، ولكن ليس الاختصاص محصورا فيها.

قال المصنف ، المعرف باللام ليس منقولا عن النداء ، لأن المنادى لا يكون ذا لام ؛ ونحو أيها الرجل منقول عنه قطعا ، والمضاف يحتمل الأمرين ، أن يكون منقولا عن المنادى ونصبه بيا المقدرة ، كما في أيها الرجل ، وإن ينتصب بفعل مقدر ، كأعني أو أختص ، أو أمدح ، قال والنقل خلاف الأصل ، فالأولى أن ينتصب انتصاب نحو : نحن العرب.

هذا كلامه ، والأولى أن يقال : الجميع منقول عن النداء ، وانتصابه انتصاب المنادى إجراء لباب الاختصاص مجرى واحدا.

__________________

(١) هو من أرجوزة لرؤبة بن العجاج ، وهو تميميّ.

(٢) لم يرد هذا الشاهد في غير هذا الكتاب. واكتفى البغدادي بأن فسّر ضبّة فقال هو ضبّة بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر ؛ وبين وجه الاستشهاد به.

٤٣٢

ثم نقول : لكنهم جوّزوا النصب ودخول اللام في نحو : نحن العرب ، لأنه ليس بمنادى حقيقة ، ولأنه ، لا يظهر في باب الاختصاص حرف النداء المكروه مجامعته للّام.

وقد يأتي الاختصاص باللام أو الإضافة بعد ضمير المخاطب ، نحو : سبحانك الله العظيم ، وبك أهل الرحمة أتوسّل.

قالوا : وإن كان الاختصاص باللام أو الإضافة بعد ضمير الغائب نحو : مررت به الفاسق ، أو بعد الظاهر نحو : الحمد لله الحميد ، أو كان المختص منكرا ، فليس من هذا الباب ، بل هو منصوب إما على المدح نحو : الحمد لله الحميد ، أو الذم نحو : «وامرأته حمالة الحطب» (١) ، أو الترحم نحو قوله :

١٤٧ ـ لنا يوم وللكروان يوم

تطير البائسات ولا نطبر (٢)

وقوله :

١٤٨ ـ ويأوي إلى نسوة عطّل

وشعثا مراضيع مثل السعالى (٣)

__________________

(١) الآية ٤ من سورة المسد.

(٢) الكروان بكسر الكاف : جمع كروان بفتح الكاف والراء ، وقد يكون جمع كرا. لما تقدم أن الكرا ذكر الكروان. وانظر ص ٣٩٨ من هذا الجزء. والبيت من قصيدة لطرفة بن العبد يهجو عمرو بن المنذر الذي كان قد رشح أخاه قابوس للملك بعده فجعل طرفة والمتلمس في صحابة أخيه قابوس. وكان قابوس مشغولا باللهو والصيد يركض للصيد فيركضان معه فيعودان وقد أعياهما التعب فيصبح قابوس من اليوم الثاني جالسا للشراب فيقف طرفة والمتلمس ببابه إلى العشي. فلما ضجر طرفة بهذا ، قال قصيدة منها :

فليت لنا مكان الملك عمرو

رغوثا حول قبّتنا تدور

الرغوث النعجة المرضع. إلى أن يقول في وصف ما كان من قابوس :

لعمرك ان قابوس بن هند

ليخلط ملكه نوك كثير

قسمت الدهر في زمن رخيّ

كذاك الملك يقصد أو يجور

 ... الخ

(٣) شعثا جمع شعثاء وهو منصوب على الترحم. وهو من قصيدة لأمية بن أبي عائذ الهذلي يصف في مقدمتها الصياد الذي يغيب في الصيد ثم يعود إلى نسائه وقد ساءت حالهن لعدم وجود ما يصلحن به شأنهن وشأن أولادهن.

٤٣٣

بفعل لا يظهر ، وهو أعني ، أو أخص في الجميع ، أو أمدح أو أذم أو أترحم ، كل في موضعه.

هذا ما قيل ، ولو قيل في الجميع بالنقل من النداء لم يبعد ، لأن في الجميع معنى الاختصاص ، فنكون قد أجرينا هذا الباب مجرى واحدا.

وكما ينصب على الذم ما هو المراد مما قبله ، نحو قوله تعالى : وامرأته حمالة الحطب» ، ينصب عليه ، ما يشبّه به في القبح شيء مما قبله ، كقوله :

١٤٩ ـ لحا الله جرما كلما ذرّ شارق

وجوه قرود هارشت فازبأرّت (١)

وقال :

١٥٠ ـ أقارع عوف لا أحاول غيرها

وجوه قرود تبتغي من تجادع (٢)

واعلم أنه ليس لك في قولك : يا أيها الرجل وعبد الله ، المسلمين ، أن تجعل المسلمين صفة للرجل وعبد الله ، لاختلاف إعرابها فهو مثل قولك : اصنع ما سرّ أباك وأحبّ أخوك الصالحين ، فاما أن تنصبه على المدح ، أو ترفعه عليه ، أي هما المسلمان وأعني الصالحين ، كما يجيء في باب النعت.

__________________

(١) لحا الله : دعاء عليهم وهو مأخوذ من اللحو وهو نزع ما على العود من قشر. والمهارشة بين الكلاب تكون بتحريض بعضها على بعض. وازبأرّت : انتفشت حتى ظهر أصل شعرها أي انها تجمعت للوثوب. والبيت من شعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي. وهو صحابي. ويهجو جرما ، وهي قبيلة من قضاعة ، استعان بها عمرو على قبيلة أخرى اسمها نهد ، واشتغل هو وقومه بأعداء آخرين ففرت جرم ولم تصمد في قتال نهد وكان ذلك سببا في انهزام عمرو بن معد يكرب. فقال أبياتا في ذلك ، ومنها قوله :

علام تقول الرمح يثقل عاتقي

إذا أنا لم أطعن به إذا الخيل كرت

(٢) هو من احدى قصائد النابغة الذبياني التي يعتذر فيها إلى النعمان بن المنذر وهي من أشهر قصائده. وأول هذه القصيدة :

عفا ذو حسّ من قرتني فالفوارع

فجنبا أريك فالتلاع الدوافع

توهمت آيات لها فعرفتها

لستة أعوام وذا العام سابع

وقبل الشاهد :

لعمري وما عمري عليّ بهين

لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع

٤٣٤

وأما إذا قلت : يا زيد وعمرو ، الطويلين أو الطويلان ، فهما صفتان لاتفاق الموصوفين إعرابا وبناء.

وإذا قلت يا هؤلاء وزيد ؛ الطوال ، لم يكن الطوال وصفا ، بل عطف بيان ، لأنه لا يفصل بين اسم الإشارة وصفته كما مرّ ،.

وعلى الجملة : كل اسم فيه معنى الوصف ويمتنع كونه وصفا جاريا على الموصوف ، لمانع لفظي ، يرفع أو ينصب على المدح أو الذم أو الترحم ان كان فيه معنى من هذه المعاني وإلا فهو عطف بيان ، لأن فيه شرحا وبيانا كالوصف.

* * *

٤٣٥
٤٣٦

المنصوب

على شريطة التفسير

ضابطه

قال ابن الحاجب :

«الثالث (١) : ما أضمر عامله على شريطة التفسير ، وهو كل»

«اسم بعده فعل أو شبهه مشتغل عنه بضميره أو متعلقه لو سلّط»

«عليه هو أو مناسبه لنصبه ، نحو : زيدا ضربته وزيدا مررت»

«به ، وزيدا ضربت غلامه ، وزيدا حبست عليه ؛ ينصب»

«بفعل يفسّره ما بعده ، أي ضربت وجاوزت وأهنت ولا بست».

قال الرضى :

إنما وجب إضمار الفعل ههنا ، لأن المفسّر كالعوض من الناصب ولم يؤت به إلا عند تقدير الناصب ليفسّره ، فاظهار الفعل يغني عن تفسيره فحكم الناصب ههنا كحكم الرافع

__________________

(١) أي مما حذف الفعل فيه وجوبا قياسا.

٤٣٧

في نحو قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ)(١) ، كما ذكرنا في باب الفاعل.

وهذا عند الكسائي والفراء ، ليس مما ناصبه مضمر ، بل الناصب لهذا الاسم عندهما لفظ الفعل المتأخر عنه ، إما لذاته إن صح المعنى واللفظ بتسليطه عليه ، نحو : زيدا ضربته ، فضربت عامل في زيدا ، كما أنه عامل في ضميره ، وإما لغيره ان اختل المعنى بتسليطه عليه فالعامل فيه : ما دل عليه ذلك الظاهر وسدّ مسدّه كما في : زيدا مررت به ، وعمرا ضربت أخاه ، فالعامل في زيدا هو قولك مررت به لسدّه مسدّ جاوزت ، وفي عمرا : ضربت أخاه لسدّه مسدّ أهنت وليس قبل الاسم في الموضعين فعل مضمر ناصب عندهما.

وإنما جاز عندهما أن يعمل الفعل الطالب لمفعول واحد في ذلك المفعول وفي ضميره معا في حالة واحدة ، لأن الضمير في المعنى هو الظاهر فيكون فائدة تسليطه على الضمير بعد تسليطه على الظاهر المقدم ، تأكيد إيقاع الفعل عليه ، وليس الضمير المؤخّر عندهما ، بأحد التوابع الخمسة ، لأنه لو جعل مثلا تأكيدا أو بدلا أو عطف بيان لوجب أن يكون الضمير مثل الظاهر إعرابا في جميع المثل وليس كذا ، ألا ترى إلى قولهم : زيدا مررت به ، وزيدا ضربت غلامه.

ولو قيل على مذهبهما إن المنتصب بعد الفعل الظاهر أو شبهه سواء كان ضميرا أو متعلقه هو بدل الكل من المنصوب المتقدم لكان قولا ؛ فالضمير في : زيدا ضربته ، بدل من زيدا ، وكذا الجار والمجرور في : زيدا مررت به ، إذ المعنى زيدا جاوزته ، وكذا أخاه في قولك : زيدا ضربت أخاه ، بدل من زيدا ، على حذف المضاف من زيدا ، أي : متعلّق زيد ضربت أخاه ، وكذا في قولك : زيدا ضربت عمرا في داره وزيدا لقيت عمرا وأخاه ، بتقدير : ملابس زيد ضربت ، وملابس زيد لقيت ، ثم بيّنت الملابس بقولك عمرا في داره ، فإنه ملابس زيد بكونه مضروبا في داره ، وبقولك : عمرا وأخاه فإنه ملابس زيد بكونه ملقيّا لك هو وأخو زيد ، وإن كانت الملابسة في الصورتين بعيدة ، كما يجيء

__________________

(١) الآية ٦ من سورة التوبة وتقدمت.

٤٣٨

في مذهب البصريين أيضا.

واختار البصريون كون المنصوب معمولا لفعل مقدر يفسره ما بعده قياسا على المرفوع في : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ)(١) ، مع أنه قد ذهب شاذّ منهم (٢) إلى أن المرفوع في مثله مبتدأ لا فاعل كما تقدم في باب الفاعل.

ولا يجوز للكوفي أن يرتكب أن ارتفاع «امرؤ» ، بهلك المؤخر ، كما ارتكب في هذا الباب أن انتصاب الاسم بهذا المتأخر ، لأن الفعل ، باتفاق (٣) من جميع النحاة ، لا يرفع ما قبله.

قوله : «كل اسم بعده فعل» ، احتراز عن نحو «زيد أبوك» ولا يريد بقوله بعده أن يليه الفعل متصلا به ، بل أن يكون الفعل أو شبهه جزء الكلام الذي بعده ، نحو : زيدا عمرو ضربه ، وزيدا أنت ضاربه ،.

قوله : «أو شبهه» ، ليشمل نحو : زيدا أنا ضاربه ، أو أنا محبوس عليه ، ويعني بشبه الفعل اسمي الفاعل والمفعول ، أما المصدر فلا يكون مفسّرا في هذا الباب لأن ما لا ينصب بنفسه لو سلط ، لا يفسّر كما يجيء ، ومنصوب المصدر لا يتقدم عليه ، وكذا الصفة المشبهة ، لا تنصب ما قبلها ، وشبه الفعل إنما يفسّر إذا لم يصدّر الاسم بحرف لازم للفعل ، أما إذا كان مصدّرا به فلا يكون المفسّر إلا فعلا سواء فسّر الرافع أو الناصب ، نحو إن زيد قام ، وإن زيدا ضربته.

ولا بدّ لشبه الفعل مما يعتمد عليه ، إما قبل الاسم المحدود ، نحو : زيد هندا ضاربها

__________________

(١) الآية ١٧٦ من سورة النساء.

(٢) أي من النحاة.

(٣) دعوى أن ذلك محل اتفاق من جميع النحاة غير مسلمة حتى ان أراد نحاة البصرة لأن منهم من يجوز ذلك في الضرورة ، والكوفيون يجوزون مطلقا. وقد أشار إلى ذلك السيد الجرجاني في تعليقاته. واكتفى بأن قال : فيه نظر.

٤٣٩

أو بعده نحو : زيدا أنت محبوس عليه ، وزيدا ضاربه عمرو ، وكذا حرف الاستفهام وحرف النفي ، نحو : أزيدا ضاربه العمران ، وما زيدا ضاربه البكران! والّا لم ينصب ضمير الاسم المحدود ولا متعلقه لا لفظا ولا محلا ، فلا يجوز : زيدا ضاربه العمران ، كما يجوز : زيدا يضربه العمران.

قوله : «مشتغل عنه بضميره» أي مشتغل عن العمل في ذلك الاسم المتقدم بالعمل في الضمير الراجع إليه ، أي إنما لم يعمل في الاسم المتقدم بسبب العمل في ضميره ، ولو لا ذلك لعمل فيه ، وهو احتراز عن نحو : زيدا ضربت ، فإنه ليس من هذا الباب ، لأن عامله ظاهر وهو الفعل المؤخّر ، وعن نحو : زيد قام ، وزيد قائم ، أيضا ، لأن هذا الفعل وشبهه لا يعمل الرفع فيما قبله حتى يقال إنه اشتغل عنه بضميره ، فظهر أن قوله بعد : لو سلط عليه هو أو مناسبه لنصبه ، غير محتاج إليه ، مع قوله : مشتغل عنه ، لأن معناه كما ذكرنا أنه لو لا الضمير لعمل في ذلك المتقدم ، والفعل لا يرفع ما قبله لما تقرر في مظانّه (١) ، فلم يبق إلا النصب ، فمعنى مشتغل عنه بضميره : مشتغل عن نصبه بضميره ، أي لو سلط عليه ولم يشتغل بضميره لنصبه ،.

قوله «أو متعلّقه» أي مشتغل بضميره أو بما يتعلق به ذلك الضمير ، والتعلق يكون من وجوه كثيرة نحو كونه مضافا إلى ذلك الضمير ، نحو : زيدا ضربت غلامه ، ومنه نحو : زيدا ضربت عمرا وأخاه ، لأن الفعل مشتغل بذلك المضاف لكن بواسطة العطف ، أو موصوفا بعامل ذلك الضمير أو موصولا له نحو : زيدا ضربت رجلا يحبه ، وزيدا ضربت الذي يحبه ، أو ما عطف عليه موصوف عامل الضمير أو موصوله نحو : زيدا لقيت عمرا ورجلا يضربه وزيدا لقيت عمرا والذي يضربه ، وغير ذلك من التعلقات.

وقوله :

١٥١ ـ فكلّا أراهم أصبحوا يعقلونه

صحيحات مال طالعات بمخرم (٢)

__________________

(١) انظر ما تقدم في أول الباب من قوله ان الفعل لا يرفع ما قبله باتفاق.

(٢) هذا من معلقة زهير بن أبي سلمى. التي أولها :

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

بحومانة الدراج فالمتثلم

٤٤٠