تفسير المراغي - ج ٩

أحمد مصطفى المراغي

إيماء إلى أن اليهود أشربوا فى قلوبهم حب المال وفتنوا بجمعه ومنع بذله فى سبيل الله ، كما أنى سأكتبها كتبة خاصة للذين يصدّقون بجميع آياتنا التي تدل على توحيدنا وصدق رسلنا تصديق إيقان مبنى على العلم الصحيح دون تقليد للآباء والأجداد.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) أي إن كتابة الرحمة كتابة خاصة لمن يتصفون بالصفات الثلاث المتقدمة : وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمى وهو وصف خاص بمحمد صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه غيره من النبيين. فالأمية آية من آيات نبوته ، فهو مع أميته قد جاء بأعلى العلوم النافعة التي بها يصلح ما فسد من عقائد البشر وأخلاقهم وآدابهم وأعمالهم ، فغيّر نظم البشر فى تلك الحقبة الطويلة وأثر فى حياة الأمم التي حوله أكبر الأثر بما شهد له المنصفون فى كل الأديان.

وقد وصف الله ذلك الرسول الذي أوجب اتباعه على كل من أدركه من بنى إسرائيل بصفات :

(١) إنه نبى أمي.

(٢) إنه هو (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) أي يجد الذين يتبعونه من بنى إسرائيل وصفه مكتوبا فى التوراة والإنجيل بحيث لا يشكّون أنه هو. فقد جاء فى الباب الثالث والثلاثين من سفر التثنية : «جاء الرب من سينا وأشرق لنا من ساعير واستعلى من جبال فاران ومعه ألوف الأطهار ، فى يمينه قبس من نار» فمجيئه من سينا إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام ، وإشراقه من ساعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام ، واستعلاؤه من جبال فاران إنزاله القرآن ، لأن فاران من جبال مكة.

وجاء فى الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا : «فأما إذا جاء الفار قليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق فهو يشهد لى وأنتم تشهدون لأنكم معى من الابتداء ـ والفارقليط بالعبرية معناه أحمد ـ كما قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام : «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» وجاء فى سفر التكوين : «فلا يزول القضيب من يهوذا والراسم

٨١

من تحت أمره إلى أن يجىء الذي هو له وإليه تجتمع الشعوب» وفى هذا دلالة على مجىء محمد عليه السلام بعد تمام حكم موسى وعيسى ، لأن المراد من الحاكم موسى لأنه ما جاء بعد يعقوب صاحب شريعة إلا هو ، والمراد من الراسم عيسى وبعدهما ما جاء صاحب شريعة إلا محمد عليه الصلاة والسلام.

وعلى الجملة ، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا يتناقلون خبر بعثته صلى الله عليه وسلم فيما بينهم ويذكرون البشارات من كتبهم ، حتى إذا ما بعثه الله بالهدى ودين الحق آمن به كثيرون وكان علماؤهم يصرحون بذلك كعبد الله بن سلام وأصحابه من علماء اليهود وتميم الداري من علماء النصارى وغيرهم من الذين أسلموا فى عصر النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما الذين استكبروا فكانوا يكتمون البشارات به فى كتبهم ويؤولون كثيرا منها ويكتمونه عمن لم يطلع عليه ، وقد قيّض الله عالما من علماء الهند يسمى الشيخ رحمة الله فى القرن الماضي لتحقيق هذه البشارات فى كتاب سماه : [إظهار الحق] وتناول فيه مسائل غاية فى الأهمية ، ويجدر بمن يريد التوسع فى هذه المسائل أن يطلع عليه وهو مطبوع متداول بين أيدى الناس.

(٣ ، ٤) إنه (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي لا يأمر إلا بالخير ولا ينهى إلا عن الشر كما قال عبد الله بن مسعود : إذا سمعت الله يقول «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فأرعها سمعك ، فإنه خير تؤمر به أو شر تنتهى عنه اه.

ومن أهم ما أمر به عبادة الله وحده لا شريك له ، ومن أهم ما نهى عنه عبادة ما سواه كما هو شأن جميع الرسل فى ذلك كما قال : «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ».

(٥ ، ٦) إنه (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) أي إنه يحل لهم ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وفيه فائدة فى التغذية ، ويحرّم عليهم ما تستقذره

٨٢

النفوس : كالميتة والدم المسفوح وما يؤخذ من الأموال بغير حق كالربا والرّشوة والغصب والخيانة.

(٧) إنه (يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي إنه يضع عنهم التكاليف الشاقة كاشتراط قتل الأنفس فى صحة التوبة والقصاص فى القتل العمد أو الخطأ من غير شرع الدية وقطع الأعضاء الخاطئة وقطع موضع النجاسة من الثوب وتحريم السبت.

وقال ابن كثير : أي إنه جاء بالتيسير والسماحة كما ورد فى الحديث : «بعثت بالحنيفية السمحة» وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن. «بشّروا ولا تنفّروا ، ويسروا ولا تعسّروا ، وتطاوعا ولا تختلفا».

والخلاصة ـ إن بنى إسرائيل كانوا قد أخذوا بالشدة فى أحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات فكان مثلهم مثل من يحمل أثقالا يئطّ منها وهو موثق بالسلاسل والأغلال فى عنقه ويديه ورجليه ، وقد خفف المسيح عليه السلام عنهم بعض التخفيف فى الأمور المادية ، وشدد فى الأحكام الروحية إلى أن جاءت الشريعة الوسطى السمحة التي بعث بها خاتم الرسل محمد صلوات الله عليه.

ثم بين سبحانه وتعالى كيفية اتباعه عليه الصلاة والسلام وعلو مرتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة فى الدارين إثر بيان نعوته الجليلة فقال :

(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي إن الذين آمنوا بالرسول الأمى حين بعث ـ من قوم موسى ومن كل أمة ، وعزروه بأن منعوه وحموه من كل من يعاديه مع التعظيم والإجلال ، لا كما يحمون بعض ملوكهم مع الكره والاشمئزاز ، ونصروه باللسان والسّنان ، واتبعوا النور الأعظم الذي أنزل مع رسالته وهو القرآن ، أولئك هم المفلحون الفائزون بالرحمة والرضوان دون سواهم من حزب الشيطان الذين خذلهم الله فى الدنيا والآخرة.

٨٣

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨))

الإيضاح

بعد أن حكى عز اسمه ما فى التوراة والإنجيل من نعوته صلى الله عليه وسلم وذكر شرف من يتبعه من أهلهما ونيلهما سعادة الدنيا والآخرة ـ قفى على ذلك ببيان عموم بعثته صلى الله عليه وسلم ودعوة الناس كافة إلى الإيمان به وأمره بتبليغهم دعوته فقال :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أي قل لجميع البشر من عرب وعجم إنى رسول الله إليكم كافة لا إلى قومى خاصة فهو بمعنى قوله تعالى : «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً» وقوله «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» أي وأنذر به كل من بلغه من النقلين ، وقوله : «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ»

وجاءت أحاديث صحيحة ناطقة باختصاصه صلى الله عليه وسلم بالرسالة العامة كحديث جاء فى الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلى : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصلّ ، وأحلّت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى ، وأعطيت لى الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة».

ثم وصف الله تعالى نفسه بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وبالإحياء والإماتة فقال : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) أي إن الله الذي

٨٤

أنا رسوله هو من له التصرف فى السموات والأرض وتدبير العالم كله ، إذ وحدة النظام فى جملة المخلوقات وعدم التفاوت فيها دليل على وحدة مصدرها وتدبيرها ، فهو المعبود وحده لا إله إلا هو.

وتوحيد الربوبية بالإيمان وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل : أي بعبادة الله وحده ـ هما أصل الدين والركن الأول فى العقيدة. والركن الثاني الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، والركن الثالث عقيدة البعث بعد الموت وهى تتضمن الإحياء والإماتة وتصرف الرب فى خلقه.

وقد بنى على تقرر هذه الأمور الثلاثة الدعوة إلى الإيمان فقال :

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) أي فآمنوا أيها الناس جميعا بالله الواحد فى ربوبيته وألوهيته الذي يحيى كل ما تحلّه الحياة ويميت كل ما يعرض له الموت بعد الحياة ، وهذا أمر مشاهد كل يوم.

وآمنوا برسوله النبي الأمى الذي بعثه فى الأميين رسولا إلى الخلق أجمعين ، يعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من خرافات الشرك والجهل والتفرق والتعادي ليكونوا بهدايته أمة واحدة يتحقق بها الإخاء البشرى العام ، وقد بشر بهذا النبي الأنبياء صلوات الله عليهم ، لأنه المتمم لما بعثوا به من هداية الناس.

(الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) أي يؤمن بتوحيد الله وكلماته التشريعية التي أنزلها لهداية خلقه على ألسنة رسله وهى مظهر علمه ورحمته ، وكلماته التكوينية التي هى مظهر إرادته وقدرته وحكمته.

وبعد أن أمرهم سبحانه بالإيمان أمرهم بالإسلام فقال :

(وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي واسلكوا طريقه ، واقتفوا أثره فى كل ما يأتى وما يذر من أمور الدين رجاء اهتدائكم بالإيمان وباتباعه إلى ما فيه سعادتكم فى الدنيا والآخرة وتلك هى الثمرة التي تجنى منهما ، فما آمن قوم بنبي إلا كانوا بعد الإيمان

٨٥

به خيرا مما كانوا قبله من العزة والكرامة فى دنياهم وسعادتهم فى آخرتهم بنيل رصوان ربهم والحظوة بالقرب منه.

وليس من التشريع الذي يجب فيه امتثال الأمر واجتناب النهى ـ ما لا تعلق له بحق الله ولا حق خلقه من جلب مصلحة أو دفع مفسدة كمسائل العادات والزراعات والصناعات والعلوم والفنون المبنية على التجارب وما جاء فيها من أمر ونهى فهو إرشاد لا تشريع ـ وقد ظن بعض الصحابة أن إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الأمور الدنيوية المبنية على التجارب من قبيل التشريع كامتناعهم عن تلقيح النخل حين نهاهم عنه فأشاص : (أي خرج ثمره شيصا رديئا) فراجعوه فأخبرهم أن ما قاله كان عن ظن ورأى ، لا عن تشريع ووحي ، وقال لهم : «أنتم أعلم بأمور دنياكم» والحكمة فى ذلك تنبيه الناس إلى أن مثل هذه الأمور الدنيوية والمعاشية متروكة لمعارف الناس وتجاربهم.

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩))

المعنى الجملي

بعد أن بين عز اسمه كتابته للرحمة لمن يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم من قوم موسى ووصفهم بأنهم هم المفلحون ـ ذكر هنا حال خواص أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا متبعين له حق الاتباع وعطفهم على المهتدين باتباع خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.

الإيضاح

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) الأمة : الجماعة الكثيرة ، ويهدون : يرشدون ويدلون ، والعدل الحكم بين الناس بالحق ـ يقال هو يقضى بالحق ويعدل وهو حكم عادل ؛ أي ومن قوم موسى جماعة عظيمة يهدون الناس بالحق الذي

٨٦

جاءهم به من عند الله ويعدلون به دون غيره إذا حكموا بين الناس ، فلا يتبعون هوى ولا يأكلون سحتا ولا رشى ، وهؤلاء من كانوا فى عصر موسى وممن بعد عصره حتى بعد ما ضاع أصل التوراة ووجدت النسخ المحرفة بعد السبي ، فإن الأمم الكبيرة لا تخلو من أهل الحق والعدل.

ونحو الآية قوله : «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً».

وقد ورد فى خيار أهل الكتاب ثلاثة أنواع من الآيات :

(١) ما كان منها صريحا فى الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به كقوله فى سورة البقرة : «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ».

(٢) ما كان صريحا فى الذين كانوا فى عهد موسى عليه السلام واتبعوه أو اتبعوا من بعده من أنبيائهم إلى عهد البعثة العامة قبل بلوغ دعوتها كالآية التي نحن نفسرها.

(٣) ما كان محتملا للقسمين كقوله «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ».

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠))

٨٧

تفسير المفردات

قطعناهم أي صيرناهم قطعا وفرقا كل فرقة منها سبط ، والسبط : ولد الولد مطلقا ، وقد يخص بولد البنت ، وأسباط بنى إسرائيل سلائل أولاده العشرة : أي ماعدا لاوى وسلائل ولدي ابنه يوسف وهما إفرايم ومنسى ، إذ سلائل لاوى نيطت بها خدمة الدين فى جميع الأسباط ولم تجعل سبطا مستقلا ، والأمة : الجماعة التي تؤلف بين أفرادها رابطة خاصة أو مصلحة واحدة أو نظام واحد ، والاستسقاء : طلب الماء للسقيا ، والانبجاس والانفجار واحد ، يقال : بجسه فانبجس وبجّسه فتبجس كما يقال فجره : أي شقه فانفجر ، وقال الراغب : الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شىء ضيق ، والانفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شىء واسع ، والغمام : السحاب مطلقا أو الأبيض منه أو الرقيق ، والمنّ مادة بيضاء تنزل من السماء كالطلّ حلوة الطعم شبيهة بالعسل وإذا جفّت كانت كالصمغ. والسلوى : طير يشبه السّمانى (السمان) لكنه أكبر منه.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه فى هذه الآية حالين من أحوال بنى إسرائيل ، أولاهما : أنه قسمهم اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباطهم الاثني عشر ، ثانيتهما : أنهم لما استسقوا موسى ضرب الحجر فانبجس منه اثنتا عشرة عينا بقدر عدد الأسباط وقد تقدم ذكر هاتين الواقعتين فى سورة البقرة.

الإيضاح

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) أي وفرقنا قوم موسى الذين كان منهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ، ومنهم الظالمون والفاسقون ، فجعلناهم اثنتي عشرة فرقة تسمى أسباطا : أي أمما وجماعات يمتاز كل منهم بنظام خاص فى معيشته وبعض شئونه.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) أي وأوحينا إلى موسى. حين استسقاه قومه فاستسقى ربه لهم ـ

٨٨

أن اضرب بعصاك الحجر فضر به فنبعت منه عقب ضربه إياه اثنتا عشرة عينا من الماء بقدر عدد أسباطهم ، وخص كل واحد بعين منها للزحام وحفظا للنظام.

وفى سفر العدد من التوراة أن عدد الرجال الصالحين للحرب من بنى إسرائيل كان يزيد على ستمانة ألف من ابن عشرين فما فوق وعلى هذا فيكون عددهم جميعا يزيد على ألفى ألف (مليونين) وابن خلدون قال فى مقدمته : إن هذا العدد لا يتصور بقاؤه فى صحراء مجدبة قليلة المياه بحال فلا ينبغى للمؤرخين اعتماد هذا.

كذلك ما ورد من حجم الحجر وشكله ككون رأسه كرأس الشاة أو أكبر وكونه يوضع فى الجوالق أو يحمل على ثور أو حمار فكل ذلك من الخرافات الإسرائيلية التي تلقاها المفسرون بالقبول على غرابتها.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) أي وسخرنا لهم الغمام يلقى عليهم ظله فيقيهم لفح الشمس من حيث لا يحرمون فائدة نورها وحرها المعتدل ، ولو لا السحاب فى التيه لأحرقتهم حرارتها إذ لم يكن هناك من الشجر ما يستظلون به.

(وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) فسهلنا عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه وكان المن يقوم مقام الخبز عندهم ويكفى الألوف من الناس ، وتقوم السّمانى مقام اللحوم والطيور الأخرى.

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ، أي وأنزلنا عليهم ما ذكر قائلين لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم ، وفى ذلك تنبيه وتذكير بما كان يجب عليهم من شكر هذه النعم.

(وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمونا بكفرهم بهذه النعم ، بل ظلموا أنفسهم وأضروها بهذا الجحود والإنكار ، وقد كان ذلك من دأبهم وعادتهم آنا بعد آن ، وقد جاء فى الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذرّ مرفوعا «يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادى إنكم لن تبلغوا ضرّى فتضرونى ، ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى».

٨٩

ولا شك أن من ظلم نفسه كان لغيره أظلم ، وإن كان ظلمه لنفسه مما يجهل أنه ظلم لها ، إذ يتجلى له فى صورة المنفعة وتكون عاقبته مضرة ، وهكذا الحال فى جميع الظالمين والمجرمين ، فهم يظنون أنهم بظلمهم وإجرامهم ينفعون أنفسهم جهلا منهم للعواقب وقلة تدبر ما ينبغى أن يتفطّن له.

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢))

الإيضاح

تقدم مثل هاتين الآيتين فى سورة البقرة غير أن بين الموضعين فروقا :

(١) إنه قال هنا : اسكنوا القرية ، وفى سورة البقرة : «ادْخُلُوا» والفائدة هنا أتم ، لأن السكنى تستلزم الدخول دون العكس.

(٢) إنه قال هنا : (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) وفى سورة البقرة ، «فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً» ، فجاء العطف هناك بالفاء لأن بدء الأكل يكون عقب الدخول كأكل الثمرات والفواكه التي تكون فى كل ناحية من القرية ـ أما السكنى فأمر ممتد يكون الأكل فى أثنائه لا عقبه ، كما وصف هناك الأكل بالرغد وهو : الواسع الهنيء لأن الأكل فى أول الدخول يكون ألذ وبعد السكنى والإقامة لا يكون كذلك.

(٣) إنه قال هنا : (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) وقدم هنا ما أخر هناك وأخر ما قدمه ، والواو لا تدل على طلب ترتيب بين الأمرين ، فالاختلاف فى التعبير دالّ على عدم الفرق بين تقديم هذا وتأخير ذاك وبين عكسه ، إذ لا فارق بين أن يدعوا بقولهم : (حِطَّةٌ) أي حط عنا أوزارنا وخطايانا الذي هو بمعنى قولنا اللهم غفرا ـ

٩٠

فى حال التلبس بالتواضع والخضوع وتنكيس الرءوس شكرا لله على نعمه عند دخول القرية ، وبين أن يبدءوا بتنكيس الرءوس والخضوع والتواضع ثم يدعوا بقولهم (حِطَّةٌ)

(٤) إنه قال هنا : (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بدون واو ، وهناك : «وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ» بالعطف والمعنى واحد وترك الواو أدل على أن الزيادة تفضل من الله ليست مشاركة للمغفرة فيما جعل سببا لها من الخضوع والسجود والاستغفار والدعاء بحط الأوزار.

(٥) إنه قال هاهنا (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) : فزيد منهم على مثله فى سورة البقرة.

ومعنى تبديلهم قولا غير الذي قيل لهم : أنهم عصوا بالقول والفعل وخالفوا الأمر مخالفة تامة لا تحتمل اجتهادا ولا تأويلا فلم يراعوا ظاهر مدلول اللفظ ولا الفحوى والمقصود منه ، حتى كأن المطلوب منه غير الذي قيل لهم.

وما روى فى الإسرائيليات من هذا التبديل من الألفاظ العبرانية أو العربية ـ فلا ثقة به ، وإن خرّج بعضه فى الصحيح والسنن موقوفا ومرفوعا كحديث أبي هريرة فى الصحيحين وغيرهما ـ قيل لبنى إسرائيل : (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا : (حِطَّةٌ) حبة فى شعيرة ، إذ هو مروى من طريق هماّم بن منبّه أخى وهب وهما صاحبا الغرائب فى الإسرائيليات ، وأبو هريرة لم يصرح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار إذ ثبت أنه روى عنه.

(٦) إنه قال هنا : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) وقال هناك «فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» فالاختلاف بين الإنزال والإرسال وهو خلاف لفظى ، وبين عليهم وعلى الذين ظلموا ، وبين يظلمون ويفسقون ، وفائدته بيان أنهم كانوا يجمعون بين الظلم الذي هو نقص للحق أو إيذاء للنفس أو للغير ، والفسق الذي هو الخروج عن الطاعة ، والرجز كما تقدم العذاب الذي تضطرب له القلوب أو يضطرب له الناس فى شئونهم ومعايشهم.

٩١

والعبرة فى هذا القصص أن نعلم أن الله يعاقب الأمم على ذنوبها فى الدنيا قبل أن يعذبها فى الآخرة ، وأن نبتعد بقدر الطاقة عن الظلم والفسق ، فقد عاقب الله بنى إسرائيل بظلمهم ولم يحل دون عقابه ما كان لهم من فضائل ومزايا ككثرة الأنبياء فيهم وتفضيلهم على العالمين كما تقدم.

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦))

تفسير المفردات

القرية : هى أيلة ، وقيل مدين ، وقيل ، طبريّة والعرب تسمى المدينة قرية ، حاضرة البحر : أي قريبة منه على شاطئه ، ويعدون فى السبت : أي يتجاوزون حكم الله بالصيد المحرّم عليهم فيه ، وحيتانهم : سمكهم ، ويوم سبتهم : أي تعظيمهم للسبت يقال سبتت اليهود تسبت إذا عظّمت السبت بترك العمل فيه وتخصيصه للعبادة ، وشرّعا : واحدها شارع كركّع وراكع : أي ظاهرة على وجه الماء ، ونبلوهم : نختبرهم ، وأمة منهم : أي جماعة منهم ، والمعذرة : بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب ، فمعنى معذرة إلى ربكم : قيام منا بعذر أنفسنا إلى الله تعالى ، ونسوا ما ذكروا به : أي تركوه

٩٢

ترك الناسي وأعرضوا عنه إعراضا تاما ، والسوء. العمل الذي تسوء عاقبته ، والبئيس : الشديد من البأس وهو الشدة ، أو من البؤس وهو المكروه أو الفقر ، والعتو : الإباء والعصيان ، وخاسئين : أي أذلاء صاغرين.

المعنى الجملي

ذكرت هذه القصة فى سورة البقرة إجمالا وهاهنا ذكرت تفصيلا ، إذ كانت سورة الأعراف نزلت بمكة فى أوائل الإسلام ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم لقى أحدا من اليهود وقد كان أميالا يقرأ كتابا كما قال تعالى : «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» فكان ذلك أدل على الإعجاز.

الإيضاح

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والسؤال للتقرير المتضمن للتقريع والتوبيخ وبيان أن كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبمعجزاته ليس بدعا جديدا منهم ، فإن أسلافهم أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة واعتدوا هذا الاعتداء الشائن الذي قص الله خبره.

والمعنى ـ واسأل بنى إسرائيل عن أهل المدينة التي كانت قريبة من البحر راكبة على شاطئه

(إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي اسألهم عن حالهم حين كانوا يعتدون فى السبت ويجاوزون حكم الله بالصيد فيه وقد نهوا عنه.

(إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) أي يأتيهم السمك ظاهرا على وجه الماء يوم تعظيمهم للسبت بترك العمل والتفرغ للعبادة فيه ابتلاء من الله واختبارا لهم.

(وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) أي لا تأتيهم يوم لا يسبتون كما كانت تأتيهم يوم

٩٣

السبت حذرا من صيدهم لاعتيادها أحوالهم ؛ قيل إنها اعتادت ألا يتعرض أحد لصيدها يوم السبت فأمنت وصارت تظهر فيه وتخفى فى الأيام التي لا يسبتون فيها لما اعتادت من اصطيادها فيها ، فلما رأوا ظهورها وكثرتها فى يوم السبت أغواهم ذلك بالاحتيال على صيدها فيه.

(كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي مثل هذا البلاء بظهور السمك يوم السبت نبتليهم ونعاملهم معاملة المختبر لحال من يراد إظهار حاله ليترتب الجزاء على عمله بسبب فسقهم المستمر على أمر ربهم واعتدائهم حدود شرعه ، فقد جرت سنة الله بأن من أطاعه سهل له أمور الدنيا وأجزل له الثواب فى الآخرة ، ومن عصاه : ابتلاه بأنواع المحن والبلاء.

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً؟) أي واسألهم عن حال أهل تلك القرية حين قالت جماعة منهم هذه المقالة ، وفى ذلك دلالة على أن الذين كانوا يعدون فى السبت بعض أهل القرية لا جميعهم وأن أهلها كانوا فرقا ثلاثا :

(١) فرقة العادين فى السبت التي أشير إليها فى الآية الأولى.

(٢) فرقة الواعظين لهؤلاء العادين لينتهوا عن عدوانهم ويكفّوا عنه.

(٣) فرقة اللائمين للواعظين التي قالت لهم : لم تعظون قوما قد قضى الله عليهم بالهلاك بالاستئصال أو بعذاب شديد دون الاستئصال ، أو المراد مهلكهم فى الدنيا ومعذبهم فى الآخرة.

(قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي قال الواعظون للائمين لهم : نعظكم عظة اعتذار نعتذر بها إلى ربكم عن السكوت على المنكر ، فإذا طولبنا بإقامة فريضة النهى عن المنكر قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين ـ إلى أنا نرجو أن ينتغعوا بالموعظة فيحملهم ذلك على اتقاء الاعتداء الذي اقترفوه ، إذ نحن لم نيأس من رجوعهم إلى الحق كما أنتم منهم يائسون.

٩٤

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي إنهم لما تركوا ما ذكّرهم به الصالحون وأعرضوا عنه حتى صار كالمنسىّ فى كونه لا تأثير له.

(أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) أي أنجينا الذين ينهون عن العمل السيء وهما الفريقان الآخران.

(وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي وأخذنا الذين ظلموا أنفسهم بشديد العذاب بسبب تماديهم فى الفسق حتى صار ديدنهم وهجّيراهم.

والخلاصة ـ إنه لما ذكّر المذكّرون ولم يتذكر المعتدون أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين.

وقد جرت سنة الله بألا يؤاخذ الظالم فى الدنيا بكل ما يقع منه من ظلم ولو كان قليلا فى الصفة أو العدد كما يدل على ذلك قوله : «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» وقوله : «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» ولكنه يؤاخذ الأمم والشعوب فى الدنيا قبل الآخرة بما يقع منها من ظلم يظهر أثره بالاستمرار عليه كما قال : «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» كما عاقب الله بنى إسرائيل كافّة بتنكيل البابليين ثم النصارى بهم وسلبهم ملكهم حين عم فسقهم ولم يدفع ذلك وجود بعض الصالحين فيهم.

وعلى الجملة فالآية صريحة فى هلاك الظالمين الفاسقين ونجاة الصالحين الذين نهوهم عن عمل السوء وارتكاب المنكر ، وسكت عن الفرقة التي أنكرت على الواعظين وعظهم وإنكارهم ، وهى ناجية أيضا لأنها كانت منكرة للمنكر مستقبحة له بدليل أنها تفعله ، وإنما لم تنه عنه ليأسها من فائدة النهى واعتقادها أن القوم قد استحقوا عقاب الله بإصرارهم على الفسق فلا يفيدهم الوعظ وهذا رأى ابن عباس.

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي فلما تمردوا وتكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهاهم عنه الواعظون قلنا لهم كونوا قردة صاغرين أذلاء بعداء عن الناس : أي تعلقت إرادتنا بأن يكونوا كذلك.

٩٥

وهذا الجزاء تفصيل للعذاب البئيس الذي ذكر فى الآية السالفة ، وقيل إنه عذاب آخر ، فقد عاقبهم أولا بالبؤس والشقاء فى المعيشة ، إذ من الناس من لا يربيه ولا يهذبه إلا الشدة والبؤس ، ولما لم يزدهم البؤس إلا عتوّا وإصرارا على الفسق والظلم مسخهم مسخ خلق وجسم فكانوا قردة على الحقيقة وهذا ما يراه جمهرة العلماء ، أو مسخ خلق ونفس فكانوا كالقردة فى الطيش والشر والإفساد لما تصل إليه أيديهم وهذا رأى مجاهد قال : مسخت قلوبهم فلم يوفّقوا لفهم الحق.

وفى الآية إيماء إلى أن هذا المسخ كان لمخالفتهم الأوامر وتماديهم فى العصيان ولم يكن لاصطياد الحيتان فحسب

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١))

تفسير المفردات

قال سيبويه : أذّن : أعلم ، وأذّن : نادى وصاح للإعلام ومنه «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ» ومثله تأذن ، ليبعثن : أي ليسلّطن ، ويسومهم : يذيقهم ويوليهم ، وقطعناهم : فرقناهم

٩٦

أمما : أي جماعات ، دون ذلك : أي منحطون عنهم ، وبلوناهم : امتحناهم ، والحسنات النعم ، والسيئات : النقم ، والخلف : (بسكون اللام) يستعمل فى الأشرار (وبالتحريك) فى الأخيار ، والكتاب : التوراة ، والعرض (بالتحريك) متاع الدنيا وحطامها ، والأدنى : أي الشيء الأدنى والمراد به الدنيا ، ودرسوا ما فيه : أي قرءوه فهم ذاكرون له ، ويمسكون : أي يتمسكون به ويعملون ، ونتقنا الجبل : أي رفعناه كما روى عن ابن عباس ، أو زلزلناه وهو مرفوع ، يقال نتق السقاء : إذا هزه ونفضه ليخرج منه الزبد ، أو اقتلعناه كما هو رأى كثير من العلماء ، والظلة : كل ما أظلك من سقف بيت أو سماء أو جناح طائر والجمع ظلل وظلال.

المعنى الجملي

بعد أن بيّن سبحانه قبائح طائفة من اليهود وذكر عقابهم على ذلك بالمسخ قردة ـ ذكر هنا أنه كتب على اليهود جميعا الذلة والصغار إلى يوم القيامة عقابا على أفعالهم ، وهذه سنة الله فى عقاب الأمم التي تفسق عن أمره وتخالف أوامر دينه ، وهى كما تنطبق على اليهود تنطبق على غيرهم من الأمم التي لا ترعوى عن غيها ، بل تتمادى فى فجورها وطغيانها وتسير قدما فى غوايتها وضلالها.

الإيضاح

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي واذكر أيها الرسول إذ أعلم ربك هؤلاء القوم مرة إثر أخرى أنه قضى عليهم فى علمه وفقا لما قامت عليه نظم الاجتماع ، ليسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يوقع بهم العقاب الشديد على ظلمهم وفسقهم وفسادهم فى الأرض ، والآية بمعنى قوله فى سورة الإسراء «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» إلى أن قال : «وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا» أي وإن عدتم بعد عقاب

٩٧

المرة الآخرة إلى الإفساد عدنا إلى التعذيب والإذلال ، وقد عادوا فسلط الله عليهم النصارى فسلبوا ملكهم الذي أقاموه بعد أن نجوا من سبى البابليين وقهرهم واستذلالهم إلى أن جاء الإسلام ، فعاداه منهم الذين هربوا من الذل والنكال ولجئوا إلى بلاد العرب فعاشوا فيها آمنين أعزّاء لكنهم نكثوا العهد الذي أعطوه للنبى صلى الله عليه وسلم وبه أمّنهم على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم فنصروا المشركين عليه فسلطه الله عليهم فقاتلهم ونصره عليهم فأجلى بعضهم وقتل بعضا وأجلى عمر البقية الباقية منهم إلى سورية ولما فتحها انتقل اليهود من حكم الروم الجائر إلى سلطة الإسلام العادلة ولكنهم فقدوا الملك والاستقلال فى جميع الحالات.

(إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) أي إن ربك سريع العقاب للأمم التي تفسق عن أمره وتفسد فى الأرض ، فلا يتخلف عقابه عنها كما يتخلف عن بعض الأفراد ، يؤيد هذا قوله : «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً» أي وإذا أردنا هلاك قرية من القرى أمرنا سادتها وكبراءها بالحق والعدل والرحمة فعصوا أمر ربهم وأفسدوا وظلموا فى الأرض فحق عليهم القول بمقتضى سنته فى خلقه فحل بهم الهلاك وخاق بهم النكال جزاء بما كانوا يعملون.

(وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن أقلع عن ذنبه ، وأناب إليه ، وأصلح ما كان قد أفسد فى الأرض قبل أن يحل به عذابه.

والآية بمعنى قوله : «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى».

وقلما ذكر عذاب الفاسقين إلا قرنه بذكر الرحمة والمغفرة للمحسنين حتى لا ييأس صالح مصلح من رحمة ربه بذنب عمله بجهالة ، ولا يأمن مفسد من عقابه اغترارا بعفوه وكمه وهو مصر على ذنبه.

وقد فصل سبحانه عقابهم فذكر بدء إذلالهم بإزالة وحدتهم وتمزيق جامعتهم فقال :

٩٨

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) أي وفرقنا بنى إسرائيل فى الأرض وجعلنا كل فرقة منهم فى قطر من أقطارها فلا يخلو منهم قطر وليس لهم شوكة ولا دولة ، وهذا من معجزات الكتاب الكريم.

(مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي منهم الصالحون كالذين نهوا من اعتدوا فى السبت عن ظلمهم ، والذين كانوا يؤمنون بالأنبياء من بعد موسى ، والذين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ، ومنهم من دونهم فى الصلاح لم يبلغوا مبلغهم ، ومنهم الغلاة فى الكفر والفسق كالذين كانوا يقتلون النبيين بغير حق ، ومنهم السماعون للكذب الأكّالون للسحت والرشا لتبديل الأحكام والقضاء بغير ما أنزل الله كما هو شأن الأمم ، فإنها تفسد تدريجا لا دفعة واحدة كما نشاهد ذلك فى المسلمين.

(وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وامتحناهم واختبرنا استعدادهم بالنعم التي تحسن فى عيونهم وتقرّبها أفئدتهم ، وبالنقم التي تسوءهم وإن كانت قد تحسن بالصبر عاقبتها لديهم ، رجاء أن يرجعوا عن ذنبهم ، وينيبوا إلى ربهم ، فيعود إليهم فضله ورحمته.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) أي نبتت من أولئك الذين منهم الصالح والطالح نابتة ورثوا التوراة : أي وقفوا على ما فيها وكانوا عالمين بأحكامها بعد أسلافهم والحال أنهم يؤثرون حطام الدنيا ومتاعها بما يأكلونه من السحت والرشا والاتجار بالدين والمحاباة فى الحكم ، ويقولون سيغفر لنا ولا يؤاخذنا بما فعلنا ، فإننا أبناء الله وأحباؤه وسلائل أنبيائه وشعبه الذي اصطفاه من سائر البشر إلى نحو ذلك من الأمانى والأضاليل ، وهم والغون فى خطاياهم مصرّون على ذنوبهم ، فإن يأتهم عرض آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل يأخذوه ولا يتعفّفوا عنه ـ وهم يعلمون أن الله إنما وعد بالمغفرة التائبين الذين يقلعون عن ذنبهم ندما وخوفا من ربهم ويصلحون ما كانوا قد أفسدوا.

٩٩

ثم رد الله عليهم ما زعموه بقولهم : سيغفر لنا ، وهم مقيمون على ظلمهم وفسادهم وحبهم للدنيا فقال :

(أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ) أي وقد أخذ الله العهد والميثاق عليهم فى كتابه ألا يقولوا عليه غير الحق الذي بينه فيه ، فمنعهم من تحريفه وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشا ، وهم قد درسوا الكتاب وفهموا ما فيه فهم ذاكرون لما أخذ عليهم من تحريم أكل أموال الناس بالباطل والكذب على الله إلى نحو أولئك.

(وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي والدار الآخرة وما فيها من نعيم للذين يتقون المعاصي ما ظهر منها وما بطن ـ خير من حطام الدنيا الفاني الذي يؤخذ بالرّشا والسحت وغير ذلك ، أفلا تعقلون ذلك وهو واضح لا يخفى على كل ذى عقل لم تطمسه الشهوات ، ولم يعم بصيرته حطام الدنيا العاجل ، وبذا يرجّح الخير على التسر والنعيم المقيم على المتاع الزائل.

وفى هذا إيماء إلى أن الطمع فى متاع الدنيا هو الذي أفسد على بنى إسرائيل أمرهم ، واستحوذ عليهم حبّ العاجلة فأذهب عنهم رشدهم.

وفى هذا عبرة للمسلمين الذين سرى إليهم كثير من هذا الفساد وغلب عليهم الطمع وحب الدنيا وعرضها الزائل وهم قد درسوا كتابهم الكريم ، لكن التحلي بلقب الإسلام والتعلل بأمانى المغفرة مع الإصرار على الذنوب اتكالا على الشفاعات والمكفّرات ـ هو الذي غرّهم وجعلهم يتمادون فى غيّهم وكتابهم ينهاهم عن الأمانى والأوهام وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن الله لمن رضى عنه كما قال : «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ».

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) أي والذين يستمسكون بأوامر الكتاب ويعتصمون بحبله فى جميع شئونهم ، ويقيمون

١٠٠