تفسير المراغي - ج ١٢

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء الثاني عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

تفسير المفردات

الدابة : اسم لكل نسمة حية تدبّ على الأرض زحفا ، أو على قوائم ثنتين فأكثر ، وغلب عرفا على ما يركب من الخيل والبغال والحمير ، والدبّ والدبيب : الانتقال لخفيف البطيء كدبيب الطفل والشيخ المسنّ والعقرب والمستقر : مكان الاستقرار

٣

من الأرض ، والمستودع : حيث كان مودعا قبل الاستقرار فى صلب أو رحم أو بيضة ، والعرش : مركز نظام الملك ومصدر التدبير ، والبلاء : الاختبار والامتحان ، والأمة : الطائفة أو المدة من الزمن كما قال تعالى : «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» وأصلها الجماعة من نوع واحد أو دين واحد أو زمن واحد ، مصروفا عنهم : أي مدفوعا ومجبوسا ، وحاق : نزل وأحاط.

المعنى الجملي

بعد أن بين فى الآيات السالفة شمول قدرته تعالى لكل شىء وإحاطة علمه بما يسرون وما يعلنون بما فى الصدور ـ قفى على فى ذلك بذكر ما يهمّ الناس من آثار قدرته ومتعلقات علمه ، وهو ما يتعلق بحياتهم وشئونهم المختلفة ، ثم بذكر خلقه للعالم كله ، ومكان عرشه قبل هذا من ملكه ، وبلاء البشر بذلك ليظهر أيّهم أحسن عملا ، ثم بعثه إياهم بعد الموت لينالوا جزاء أعمالهم مع إنكار الكفار لذلك وطلب استعجال العذاب الذي أوعدهم به مع بيان أنه واقع بهم لا محالة إن أصرّوا على كفرهم.

الإيضاح

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) أي وما من دابة من أي نوع من أنواع الدواب فى الأرض إلا على الله رزقها ، لا فرق فى ذلك بين الجنّة (المكروبات) التي لا ترى بالأبصار ، وبين ضخام الأجسام ، والوسطى بين هذه وتلك ، وقد أعطى كلا خلقه المناسب لمعيشته ، ثم هداه إلى تحصيل غذائه بالغريزة والفطرة ، ولله تعالى حكم فى خلق كل نوع منها ، فإن خفى علينا أمر خلق الحيات والسنانير ونحوها ، فلنا أن نقول مثلا إنه لولاها لضاقت الأرض بكثرة إحيائها ، أو لأنتنت من كثرة أمواتها.

ومعنى كفالته تعالى لرزقها أنه سخره لها وهداها إلى طلبه وتحصيله كما قال : «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» وقد علم بنصوص القرآن وسنن

٤

الله فى الخلق وأسباب الرزق أن مشيئته تعالى لا تكون إلا بمقتضى سننه فى ارتباط الأسباب بالمسببات مع الحكمة فى ذلك ، لا أنه يأتيها بمحض قدرته سواء طلبته أم لا.

(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) أي ويعلم حيث تستقر وتقيم ، وحيث كانت مودعة إلى حين ، ويرزقها فى كلتا الحالين.

(كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كل الدواب وأرزاقها ومستقرها ومستودعها ثابت مرقوم فى كتاب مبين أي فى لوح محفوظ كتب الله فيه مقادير الخلق كلها.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي فى ستة أيام من أيام الله فى الخلق والتكوين وما شاء من الأطوار ، لا من أيامنا فى هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق لا قبله ، فلا يصح أن تقدر أيام الله بأيامنا ، ويؤيد هذا قوله تعالى : «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» وقوله : «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ».

وقد أثبت علماء الفلك أن أيام غير الأرض من الكواكب التابعة لنظام شمسنا تختلف عن أيام هذه الأرض فى طولها بحسب أجرامها وأبعادها وسرعتها فى دورانها ، وأن أيام التكوين بخلقه تعالى من الدخان الذي يعبرون عنه بالسديم شموسا مضيئة تتبعها كواكب منيرة ـ يقدر اليوم منها بألوف الألوف من سنينا هذه.

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي وكان سرير ملكه فى أثناء هذا الطور من خلق هذا العالم أو من قبله على الماء ، وعرش الرحمن من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا ، لا نستطيع تصويره بأفكارنا ، فلا نعلم كنه استوائه عليه ولا صدور تدبيره لأمر هذا الملك العظيم ، ومن ثم روى عن أمّ سلمة رضى الله عنها وعن مالك وربيعة قولهم : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول.

ومن الآية نعلم أن الذي كان دون العرش من مادة الخلق قبل تكوين السموات والأرض هو الماء الذي جعله الله أصلا لخلق جميع الأحياء كما قال : «أَوَلَمْ يَرَ

٥

الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟» أي إنه يجب عليهم أن يعلموا أن السموات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة لا فتق فيها ولا انفصال ، وهى ما تسمى لدى علماء الفلك السديم ، ويسميها القرآن الدخان ، ففتقناهما بفصل بعضهما من بعض فكان منها ما هو سماء ومنها ما هو أرض ، وجعلنا من الماء كل شىء حى ، أفلا يؤمنون بأن الرب الذي خلق كل هذا هو الذي يعبد وحده ولا يشرك به شىء ، وأنه قادر على إعادة الخلق كما بدأه أول مرة؟

والخلاصة ـ إن الماء أصل جميع الأحياء وهو الذي يتنزل إليه أمر التدبير والتكوين.

ثم علل خلقه بما ذكر ببعض حكمه الخاصة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن فقال :

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي ليجعل ذلك ابتلاء واختبارا لكم فيظهر أيّكم أحسن إتقانا لما يعمله لنفسه وللناس ، ذاك أنه تعالى سخر لنا ما فى الأرض وجعلنا مستعدين لإبراز ما أودعه فيها من منافع وفوائد مادية ومعنوية ، ومستعدين للإفساد والضرر ، ليجزى كل عامل بما يعمل ، وإنما يتم ذلك ويظهر فى الآخرة.

(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ولئن أخبرت هؤلاء المشركين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم ، ليجزيهم فيما بلاهم به كما قال : «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» ليجيبنّك الذين كذبوا بلقاء الله قائلين : ما هذا الذي جئتنا به من هذا القرآن لتسحرنا لطاعتك وتمنعنا عن لذات الدنيا ـ إلا سحر بين ظاهر تسحر به العقول وتسخّر به الضمائر والقلوب وبعد أن ذكر ما يقوله المنكرون للبعث ذكر ما يقوله المنكرون لإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم عذاب الدنيا والآخرة بتكذيبهم له فقال :

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ؟) أي ولئن أخرنا

٦

عنهم عذابنا الذي توعّدهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حين من الزمن مقدر فى علمنا وهو مقتضى سنتنا فى خلقنا ، وبيناه فى كتابنا بقولنا «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» ليقولن استهزاء ، أي شىء يمنع هذا العذاب من الوقوع إن كان حقا.

(ثم توعدهم نزوله فقال (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) أي ألا إن له يوما يأتيهم فيه حين تنتهى المدة المضروبة دونه ، ويومئذ لا يصرفه صارف ، ولا يحبسه حابس.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وسيحيط بهم يومئذ من كل جانب ما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه ، فلا هو يصرف عنهم ، ولا ينجون منه.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

تفسير المفردات

الإذاقة هنا : الإعطاء القليل ، والنزع : السلب والحرمان ، واليئوس : شديد اليأس من عود تلك النعمة ، والكفور : كثير الكفران والجحود لما سلف عليه من النعم ، والنعماء والنعمة والنّعمى : الخير والمنفعة ، ويقابلها الضراء والضّر ، وفرح : بطر مغتر بهذه النعمة ، فخور : متعاظم على الناس بما أوتى من النعم ، مشغول بذلك عن القيام بشكرها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه خلق السموات والأرض ليبلو الإنسان أيشكر أن يكفر؟ ـ قفّى على ذلك بذكر طبيعة الإنسان فى ذلك ، وهى أنه إذا أصابته نعماء ثم نزعت منه

٧

قنط من روح الله وكفر بها ، وإذا أذاقه نعمة بعد بؤس بطر وفخر ـ هكذا شأن الإنسان ـ إلا من صبر وشكر وعمل صالحا.

الإيضاح

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) أي ولئن أعطينا الإنسان نوعا من أنواع النعم كرخاء عيش وبسطة رزق وصحة وأمن وولد بارّ ، رحمة مبتدأة منا أذقناه لذاتها فكان شديد الاغتباط بها ، ثم سلبنا ذلك بما يحدث من الأسباب التي قدرها الله فى الخليقة كالمرض والموت والعسر ، إنه ليظل فى هذه الحال شديد اليأس من الرحمة ، قاطعا للرجاء من عود تلك النعمة ، كثير الكفران لغيرها من النعم التي لا يزال يتمتع بها فضلا عما سلف منها.

والخلاصة ـ إنه يجمع بين اليأس بعودة ما نزع منه والكفر بما بقي له ، لحرمانه من فضيلتى الصبر والشكر.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أي ولئن كشفنا عنه الضراء التي أصابته وحل محلها نعماء ، كشفاء من مرض ، وزيادة قوة ، وخروج من عسر إلى يسر ، ونجاة من خوف وذل ، إنه ليقولن : ذهب ما كان يسوءنى من المصايب والضراء ولن يعود ، وما هى إلا سحابة صيف قد تقشّعت ، وعلىّ أن أنساها وأتمتع بتلك اللذات ، وإنه حينئذ لشديد الفرح بما يهيجه البطر بتلك النعمة ، وإنه ليغالى فى الفخر والتعالي على الناس والاحتقار لمن دونه فيها.

والخلاصة ـ أنا إذا منحنا هذا الإنسان اليئوس الكفور نعماء أذقناه لذتها بعد ضراء مسته باقترافه أسبابها لم يقابلها بشكر الله عليها ، بل يبطر ويفخر على الناس ولا يقوم بما يجب عليه من مواساة البائسين الفقراء وعمل الخير لبنى الإنسان كفاء ما هو متمتع به من تلك النعم.

ثم استثنى سبحانه من جنس الإنسان فيما ذكر من حاليه السالفتين قبل الصابرين الذين يعملون الصالحات فقال :

٨

(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إلا الذين صبروا على ما أصابهم من الضراء إيمانا بالله واحتسابا للأجر عنده ، وعملوا الصالحات حينما يكشفها ويبدّل النعماء بها ويشكره باستعمالها فيما يرضيه من عمل البر والخير لعباده ، أولئك لهم مغفرة من ربهم تمحو ما علق بأنفسهم من ذنب أو تقصير ، وأجر كبير فى الآخرة على ما وفّقوا لعمله من بر وخير كثير.

والخلاصة ـ إن الإنسان وإن كان مؤمنا حق الإيمان لا يسلم من ضيق صدر حين حلول الضراء والمصايب ، وذلك مما ينافى كمال الرضا ، كما لا يسلم حين النعماء من شىء من الزّهو والتقصير فى الشكر ، فيغفر له كل منهما بصبره وشكره وإنابته إلى ربه.

وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى : «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ».

ووصف الأجر بالكبير ـ لما حواه من نعيم سر مدى وأمن من العذاب ورضا من الله عز وجل ونظر إلى وجهه الكريم «وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ».

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

تفسير المفردات

لعل هنا للاستفهام الإنكارى الذي يفيد النهى ، وضيق الصدر : يراد به الغم والحزن ، والكنز : ما يدّخر من المال فى الأرض ، والوكيل : الرقيب الحفيظ للأمور ،

٩

الموكّل بحراستها ، والاستجابة للداعى : إجابته ، والإسلام : الإذعان والخضوع والانقياد :

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه فى بدء السورة قولهم فى القرآن : إنه سحر مبين ، وأنهم يستغشون ثيابهم كى لا يسمعوه ـ قفّى على ذلك بذكر تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن وبيان أن همه وحزنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من كلامهم كل مبلغ ، ثم أعقبه بتحدّيه لهم بالقرآن كى يأتوا بعشر سور مثله ، حتى إذا ما عجزوا علم أنه وحي من عند الله.

روى عن ابن عباس أن الآية نزلت حين قال رؤساء مكة : يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا ، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك فقال لا أقدر على ذلك.

الإيضاح

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي أفتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك ، مما يشقّ سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد والنهى عن الشرك والإنذار والوعيد لهم ، والنعي على معبوداتهم وتسفيه أحلامهم ، وضائق به صدرك أن تبلّغهم إياه كما أنزل.

ذاك أنهم كانوا يتهاونون به فيضيق صدره أن يلقى إليهم ما لا يقبلون وما يضحكون منه ، فاستحثه سبحانه على أداء الرسالة وعدم المبالاة باستهزائهم ، وطرح مقالاتهم الساخرة وراءه ظهريا.

وخلاصة ذلك ـ تحمّل أخف الضررين وهو تحمل سفاهتهم ، على ترك بعض الوحى والوقوع فى الخيانة فيه

١٠

(أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) أي كراهة أن يقولوا : هلا أعطاه ربه كنزا من عنده يغنيه ويمتاز به عن غيره ، أو جاء معه ملك يؤيده فى دعوته كما حكى الله عنهم فى سورة الفرقان «وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها».

وجملة المعنى ـ إن عنادهم وجحودهم وإعراضهم عن الإيمان وشدة اهتمامك بأمرهم مما من شأنه أن يقتضى ضيق الصدر بحسب الطباع البشرية أو أن يخطر على البال ترك بعض الوحى ، ولو لا عصمتنا إياك وتثبيتنا لك لاجترحت ذلك واستسلمت لما لمثله جرت العادة ، ولكن الله حفظك حتى تؤدى رسالته وترحم العالمين بنور نبوتك كما قال : «وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً».

وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقوله : «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» وقوله : «المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ».

(إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحى إليك غير مبال بما يصدر منهم ويطلق ألسنتهم ، والله هو الرقيب على عباده وليس عليك من أعمالهم شىء.

وقد جاء بمعنى الآية قوله : «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وقوله «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله : «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ».

١١

وبعد أن ذكر ضيق صدره لتكذيب المشركين له ، قفى على ذلك بذكر ما قالوه فى القرآن فقال :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل مكة إن محمدا قد افترى هذا القرآن؟ فقل لهم إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم لا تدّعون أنها من عند الله ، فإنكم أهل اللّسن والبيان والمران على المفاخرة بالفصاحة والبلاغة وفنون الشعر والخطابة ، ولم يسبق لى مع العمر الطويل الذي عشته بينكم أن أزاول شيئا من ذلك ، فإن كان من كلام البشر فأنتم على مثله أقدر ، وإنكم لتعلمون أنى لم أكذب على بشر قط ، فكيف أفترى على الله ، وإن زعمتم أن لى من يعيننى على تأليفه ووصفه ، فادعوا من استطعتم ممن تعبدون غير الله ، ومن جميع خلقه ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر ، ولتكن مثله مفتريات تشتمل على مثل ما فيه من تشريع دينى ومدنى وحكم ومواعظ ، وآداب وأنباء غيبية إخبارا عن ماض ، وأنباء غيبية إخبارا عن مستقبل ، بمثل هذا النظام البديع والأسلوب البالغ حد الإعجاز ، والبلاغة الساحرة للألباب ، والسلطان الحاكم على الأنفس والأرواح ـ إن كنتم صادقين فى دعواكم.

والخلاصة ـ إن مشركى مكة المعاندين لم يجدوا شهة فى القرآن بعد شبهة السحر التي لم تجد آذانا صاغية عند العرب ، لأنهم أرباب الفصاحة واللسن فعرفوا فضله على سائر الكلام ـ إلا زعمهم أن محمدا قد افتراه جملة وليس بوحي من عند الله ، فتحداهم بالإتيان بعشر سور مثله فى النظم والأسلوب ، محتوية على التشريع القيّم من دينى ومدنى وسياسى ، وحكم ومواعظ وآداب ، وكلّفهم دعوة من استطاعوا من دون الله ليظاهروهم ويعاونوهم على ذلك ، فعجزوا ولم يجدوا من فصحائهم من يستجيب لهم ، فقامت الحجة عليهم وعلى غيرهم إلى يوم الدين ، وهذا معنى قوله :

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) أي فإن لم يستجب لكم من

١٢

تدعونهم من دون الله ليعاونوكم على الإتيان بالعشر السور المماثلة للقرآن من فحول الكتاب ومصاقع الخطباء وعلماء أهل الكتاب العارفين أخبار الأنبياء ، فاعلموا أنما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمقتضى علم الله وإرادته أن يبلغه لعباده على لسان رسوله ولا يقدر عليه محمد ولا غيره ممن تدّعونه زورا أنهم أعانوه ، لأنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا من أعلمه الله به.

(وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي واعلموا أنه لا إله يعبد بحق إلا هو ، إذ من خصائص الإله أن يعلم ما لا يعلمه غيره ، وأن يعجز من عداه عن مثل ما يقدر عليه.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي فهل أنتم بعد أن قامت عليكم الحجة داخلون فى الإسلام الذي أدعوكم إليه بهذا القرآن ، مؤمنون بما فيه من عقائد ووعد ووعيد وأحكام وحكم وآداب.

والخلاصة ـ إنه لم يبق لكم بعد أن دحضت شبهتكم وانقطعت معاذيركم إلا جحود العناد وإعراض الاستكبار ، والعاقل المنصف لا يرضى لنفسه بمثل هذا دعاء المشركين.

افتراء النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن

افتراء القرآن يشمل ناحيتين :

(١) افتراء فى جملته بإسناده إلى الله ادعاء أنه من كلامه أوحاه إليه.

(٢) افتراء أخبار الغيب التي يدّعى أنها من عند الله ولا يعلمها إلا هو وبها استدل على نبوته ، وقد حكى الله عنهم ادعاء الأمرين فى سورة الفرقان بقوله : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً».

وأساطير الأولين : هى قصصهم وأكاذيبهم التي سطروها ، وكانت العرب تسلّى نفسها عن جهلها بالأديان والتواريخ بزعمهم أنها أساطير الأولين.

١٣

وأنباء الغيب ضربان :

(ا) أنباء الغيب الماضية ، وتشمل قصص الرسل مع أقوامهم ، وأخبار التكوين كخلق السموات والأرض وما بينهما كخلق الإنسان والجانّ.

(ب) أنباء الغيب الآتية ، وتشمل وعد الله بنصره لرسله والمؤمنين وجعل العاقبة لهم واستخلافهم فى الأرض وخذلان أعدائهم الكافرين ، والقيامة والبعث والحساب والجزاء على العقائد والأعمال ، وقد كانوا ينكرون ذلك ويستبعدونه.

ما حوته قصص القرآن

إن فى قصص القرآن لأشعة من ضياء العلم والهدى جاءت على لسان كهل أمي لم يكن منشئا ولا راوية ولا حافظا ، ويمكن أن بحمل أغراضها فيما يلى :

(١) بيان أصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء من الإيمان بالله وتوحيده وعلمه وحكمته وعدله ورحمته والإيمان بالبعث والجزاء.

(٢) بيان أن وظيفة الرسل تبليغ وحي الله لعباده فحسب ، ولا يملكون وراء ذلك نفعا ولا ضرا :

(٣) بيان سنن الله فى استعداد الإنسان النفسي والعقلي لكل من الإيمان والكفر والخير والشر.

(٤) بيان سنن الله فى الاجتماع وطباع البشر وما فى خلقه للعالم من الحكمة.

(٥) آيات الله وحججه على خلقه فى تأييد رسله.

(٦) نصائح الأنبياء ومواعظهم الخاصة بكل قوم بحسب حالهم كقوم نوح فى غوايتهم وغرورهم ، وقوم فرعون وملئه فى ثروتهم وعتوهم ، وقوم عاد فى قوتهم وبطشهم ، وقوم لوط فى فحشهم.

فإن أمكن أن يكون كل هذا حديثا مفترى ، فان مفتريه يكون أكمل منهم جميعا علما وعملا وهداية وإصلاحا ، فما أجدرهم أن يتبعوه ، وما أحقهم أن يهتدوا بهديه ،

١٤

ولن يكشف حقيقة أمره إلا من يستطيع أن يأتى بحديث مثله ولو مفترى فى صورته وموضوعه ، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.

ومن المعلوم أن الاحتذاء والاتباع ، أهون من الابتداء والابتداع.

ولكن افتراء الأمى لهذه العلوم الإلهية والنفسية والتشريعية محال ، فقد عجز عن مثلها حكماء العلماء ـ أفهكذا يكون الافتراء ، والحديث المفترى الذي ينهى عنه العقلاء وفى التحدي بهذه السور العشر توسيع على المنكرين إن حدثتهم أنفسهم أن يتصدّوا لمعارضته ، لكنهم لم يستطيعوا فقامت عليهم وعلى غيرهم الحجة إلى يوم القيامة.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))

تفسير المفردات

نوف إليهم : أي نوصّل إليهم ، ولا يبخسون : لا ينقصون ، وحبط : أي فسد وبطل ولم ينتفعوا به.

المعنى الجملي

بعد أن أقام الحجة على حقية دعوة الإسلام ، وعلى أن القرآن من عند الله وليس بالمفترى من عند محمد صلى الله عليه وسلم كما يدعيه المشركون ـ قفّى على ذلك ببيان أن الباعث لهم على المعارضة والتكذيب ليس إلا شهواتهم وحظوظهم الدنيوية والإسلام يدعو إلى إيثار الآخرة على الأولى.

١٥

الإيضاح

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي من كان حظهم من الدنيا التمتع بلذاتها من طعام وشراب ، وزينتها من اللباس والأثاث والرياش والأموال والأولاد دون استعداد للحياة الآخرة بعمل البر والإحسان وتزكية النفس بعمل الطاعات بباعث الإيمان ـ نؤد إليهم ثمرات أعمالهم وافية تامة بحسب سنتنا فى الأسباب ولا ينقصون شيئا من نتاج كسبهم لأجل كفرهم ، إذ مدار الأرزاق فيها على الأعمال لا على النيات والمقاصد ، وإن كان لهداية الدين أثر فى ذلك كالاستقامة والصدق ، واجتناب الخيانة والزور والغش ونحو ذلك.

والخلاصة ـ إن جزاء الأعمال فى الدنيا منوط بأمرين : كسب الإنسان ، وقضاء الله وقدره به ، وأما جزاء الآخرة فهو بفعل الله تعالى بلا وساطة أحد. «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً».

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هؤلاء الذين لا همّ لهم إلا الدنيا وزينتها ، ليس لهم فى الآخرة إلا النار ، لأن الجزاء فيها على الأعمال كالجزاء فى الدنيا ، وهم لم يعملوا للآخرة شيئا ، فإن العمل لها يكون بتزكية النفس بالإيمان وعمل الفضائل ـ وبالتقوى باجتناب المعاصي والرذائل ، وما صنعوه فيها مما ظاهره البر والإحسان كالصدقة وصلة الرحم ونحو ذلك لم يكن تزكية لأنفسهم تقرّبهم إلى ربهم ، بل كان لأغراض نفسية من شهواتها كالرياء والسمعة والاعتزاز بذوي القرابة على الأعداء ولو بالباطل ، فلا أجر له فيها وقد انقطع أثره الدنيوي.

وقد جاء فى معنى الآية قوله تعالى : «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ

١٦

وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً» وقوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

والخلاصة ـ أن الدين يبيح التمتع بالطيبات من المآكل والمشارب ، ويبيح الزينة فى غير سرف ولا خيلاء ، على شريطة ألا يجعلها المرء كل همه فى الحياة ، فيحتقر المواهب الإنسانية من عقلية وروحية وهى التي سما بها الإنسان على غيره من المخلوقات ، ألا ترى أن الثور يفضله فى كثرة الأكل ، والبعير فى كثرة الشرب ، والعصفور فى كثرة السّفاد ، والطاوس فى الزينة ولمعان اللباس.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

تفسير المفردات

البينة : ما يتبين به الحق كالبرهان فى الأمور العقلية ، والنصوص فى الأمور النقلية ، والتجارب فى الأمور الحسية ، والشهادة فى القضاء ، ويتلوه : يتبعه ، والشاهد : هو القرآن ، والموعد : مكان الوعد وهى النار يردها كما قال : «لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ» والمرية : الشك.

١٧

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه مآل من كان يريد الدنيا وزينتها ولا يهتمّ بالآخرة وأعمالها ـ قفى على ذلك بذكر من كان يريد الآخرة ويعمل لها ، وكان على بينة من ربه فى كل ما يعمل ومعه شاهد يدل على صدقه ، وهو القرآن ، ومآل من أنكر صحته وكفر به.

الإيضاح

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) أي أفمن كان على نور وبصيرة فى دينه ويؤيده نور غيبى يشهد بصحته وهو القرآن المشرق النور والهدى ، ويؤيده شاهد آخر جاء من قبله. وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام حال كونه إماما متّبعا فى الهدى والتشريع ، ورحمة لمن آمن وعمل به من بنى إسرائيل (وشهادة موسى لهذا النبي الكريم شهادة مقال بالبشارة بنبوته ، وشهادة حال وهى التشابه بين رسالتيهما) ـ أي أفمن كان على هذه الأوصاف كمن يريد الحياة الفانية وزينتها الموقوتة ، ويظل محروما من الحياة العقلية والروحية التي توصل إلى سعادة الآخرة الباقية.

ونحو الآية قوله : «أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» وإجمال المعنى ـ أفمن كان كامل الفطرة والعقل ، وعرف حقيقة الوحى وهو القرآن وما فيه من نور وهداية ، وعرف تأييده بالوحى السابق الذي اهتدى به بنو إسرائيل ، فتظاهرت لديه الحجج الثلاث فى الهداية (كمال الفطرة ، ونور القرآن والوحى الذي أنزل على موسى) كمن حرم من ذلك وكان همه مقصورا على الحياة الفانية ولذاتها.

(أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي أولئك الذين جمعوا بين البينة الوهبية ، والبينة الكسبية النقلية ، يؤمنون بهذا القرآن إيمان يقين وإذعان ، على علم بما فيه من الهدى والفرقان ، فيجزمون بأنه ليس بالمفترى من دون الله ولم يكن من شأنه أن يكون كذلك.

١٨

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أي ومن يكفر بهذا القرآن فيجحد أنه من عند الله ممن تحزبوا من أهل مكة وزعماء قريش للصدّ عنه. قال مقاتل هم بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي وآل طلحة بن عبيد الله ، والذين سيتحزبون لمثل ذلك من أهل الكتاب ـ فإنه يصير إلى جهنم من جرّاء تكذيبه لوعيده الذي جاء فى نحو قوله «أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ».

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي فلا تكن أيها المكلف فى شك من أمر هذا القرآن إنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه آتيا من ربك وخالقك الذي يربّيك بما تكمل به فطرتك ، ويوصلك إلى سعادتك فى دنياك وآخرتك.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون هذا الإيمان الكامل ، أما المشركون منهم فلاستكبار زعمائهم ورؤسائهم ، وتقليد مرءوسيهم وعامتهم لهم ، وأما أهل الكتاب فلتحريفهم دين أنبيائهم وابتداعهم فيه.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ

١٩

الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

تفسير المفردات

الأشهاد : واحدهم شاهد ، واللعنة : الطرد من الرحمة ، والصدّ عن سبيل الله : الصرف عنه ، والعوج : الالتواء ، ومعجزين فى الأرض ، أي لا يمكنهم أن يهربوا من عذابه ، وضل : أي غاب ، ولا جرم : أي حقا ، وأخبتوا : أي خشعوا وخضعوا وأصله من الخبت ، وهو الأرض المطمئنة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سبق أن الناس فريقان : فريق يريد الدنيا وزينتها وفريق على بينة من ربه ، قفّى على ذلك ببيان حال كل من الفريقين فى الدنيا وما يكون عليه فى الآخرة.

الإيضاح

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على الله كذبا فى أقواله أو أفعاله ، أو أحكامه أو صفاته ، أو فى اتخاذ الشفعاء والأولياء له بدون إذنه أو فى زعم أنه اتخذ له ولدا من الملائكة كالعرب الذين قالوا الملائكة بنات الله ، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله ، أو فى تكذيب ما جاء به رسله من دينه لصدّ الناس عن سلوك سبيله.

٢٠