تفسير المراغي - ج ٩

أحمد مصطفى المراغي

الصلاة التي هى عماد الدين وركن منه متين كعبد الله بن سلام وأصحابه ـ لا نضيع أجرهم لأنهم قد أصلحوا أعمالهم ، والله لا يضيع أجر المصلحين ، وهى بمعنى قوله : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً».

ثم ختم سبحانه هذه القصة مذكّرا ببدء حالهم فى إنزال الكتاب عليهم عقب بيان مخالفتهم لأمور دينهم والخروج عنه فقال :

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أي واذكر أيها الرسول إذ رفعنا جبل الطور فوقهم كما روى عن ابن عباس ، أو اقتلعناه وجعلناه فوقهم كأنه غمامة وأيقنوا أنهم إن خالفوا أوامر دينهم وقع لا محالة عليهم.

ذاك أنه أخذ عليهم الميثاق ليأخذنّ الشريعة بقوة وعزم فخالفوا الميثاق فرفع فوقهم الطور وأوقع فى قلوبهم الرعب خوف وقوعه بهم ، فخرّ كل واحد منهم ساجدا لربه وقبل العمل بالميثاق.

روى أن بنى إسرائيل أبوا أن يقبلوا التوراة ، فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم إن قبلتم العمل بها وإلا ليقعنّ عليكم ، فوقع كل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه ، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون هى السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة حين امتثلنا ما أمرنا به ا ه.

وفى الآية تعريض بأنهم إذا كانت حالهم فى مبدإ أمرهم بمخالفتهم لكتابه ما عرفت ـ فلا عجب إذا آل أمرهم إلى ترك العمل به بعد طول الأمد وقساوة القلوب والأنس بالمعاصي والذنوب.

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي وقلنا لهم فى هذه الحال : خذوا ما أعطيناكم من أحكام الشريعة بعزم واحتمال للمشاقّ والتكاليف.

(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي واذكروا ما فيه من الأوامر والنواهي ، فإن ذلك يعدّكم للتقوى ويجعلها مرجوة لكم ، فإن قوة العزيمة فى إقامة الدين تزكى

١٠١

النفوس وتهذب الأخلاق ، كما أن التهاون فيها يدسّيها ويغريها على اتباع الشهوات «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها».

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))

تفسير المفردات

الظهور : واحدها ظهر ، وهو ما فيه العمود الفقرى لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته فيصح أن يعبر به عن جملة الجسد ، والذرية : سلالة الإنسان من الذكور والإناث ، والشهادة تارة قولية كما قال : «قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا» الآية ، وتارة تكون حالية كما قال : «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» أي حالهم شاهدة عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه هدايته للبشر بإرسال الرسل وإنزال الكتب فى قصة بنى إسرائيل ـ قفّى على ذلك بذكر هدايته لهم بما أودع فى فطرتهم وركّب فى عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره منذ النشأة الأولى ـ فهو سبحانه بعد أن أظهر تمادى هؤلاء اليهود فى الغى بعد أخذ الميثاق الخاص الذي دل عليه قوله :

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) وقوله : «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا

١٠٢

فَوْقَكُمُ الطُّورَ» ذكر هنا أنهم نقضوا أيضا الميثاق العام الذي أخذه على بنى آدم جميعا وهم فى صلب آدم وأشركوا بالله وقالوا : عزير ابن الله.

الإيضاح

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا) أي واذكر أيها الرسول للناس كافة ما أخذه الله من ميثاق الفطرة على البشر عامة ، إذ استخرج من بنى آدم ذريتهم بطنا إثر بطن ، وخلقهم على فطرة الإسلام بما أودع فى قلوبهم من غريزة الإيمان اليقيني بأن كل فعل لا بد له من فاعل وأن فوق كل العوالم القائمة على سنة الأسباب والمسببات سلطانا أعلى على جميع الكائنات هو المستحق للعبادة وحده ، وأشهد كل واحد من هؤلاء الذرية الحادثة جيلا بعد جيل على نفسه بما أودعه فى غريزته واستعداده قائلا لهم قول إرادة وتكوين لا قول وحي وتبليغ : ألست بربكم؟ فقالوا بلسان الحال لا بلسان المقال : بلى أنت ربنا المستحق وحدك للعبادة ، فالكلام من قبيل التمثيل ، وله نظائر فى القرآن الكريم وأساليب العرب كقوله تعالى بعد ذكر خلق السماء : «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» وقوله : «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» وقول بعض العرب : قال الجدار للوتد لم تشقّنى؟ قال سل من يدّقنى ، فإن الذي ورائي ، ما خلّانى ورائي : أي ورأيى.

وقال ابن كثير فى تفسير الآية : يخبر الله تعالى أنه استخرج ذرية بنى آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو ، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه ، قال تعالى : «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ» وفى الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة» وفى رواية :

١٠٣

«على هذه الملة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء»؟ وفى صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» ا ه.

وقال ابن القيم فى كتاب الروح فى سياق البحث فى خلق الأرواح قبل الأجساد ما خلاصته : إن الله سبحانه استخرج صور البشر وأمثالهم ، فميّز شقيّهم وسعيدهم ومعافاهم من مبتلاهم ، والآثار متظاهرة به مرفوعة ، وإن الله أقام عليهم الحجة حينئذ وأشهدهم بربوبيته واستشهد عليهم ملائكته كما تدل على ذلك الآية.

قال أبو إسحق : جائز أن يكون الله سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به كما قال : «قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ» وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير. وقال ابن الأنبارى : مذهب أهل الحديث وكبراء العلم فى هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم فى صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون له ، فاعترفوا بذلك وفعلوا ، وذلك بعد أن ركّب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب ، وكما فعل بالبعير لما سجد ، وبالنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت ا ه.

وقال الحسن بن يحيى الجرجاني : إنه سبحانه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن يبلغ وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم ، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها فى نفسه وفى العالم وبالرسل المنفذة إليهم مبشّرين ومنذرين ، وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إليهم أخبارها ، غير أنه عز وجل لا يطالب أحد منهم بالطاعة إلا بقدر ما لزمه من الحجة ، وركّب فيهم من القدرة ، وآتاهم من الأدلة ، وبيّن سبحانه ما هو عامل فى البالغين الذين أدركوا الأمر والنهى ، وحجب عنا علم ما قدره فى عير البالغين ، إلا أنا نعلم أنه عدل لا يجور فى حكمه ، وحكيم لا تفاوت فى صنعه ، وقادر لا يسئل

١٠٤

عما يفعل ، له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين ا ه.

ثم بين سبحانه سبب هذا الإشهاد وعلته فقال :

(أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) أي إنا فعلنا هذا منعا لاعتذاركم يوم القيامة ، بأن تقولوا إذا أشركتم إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين ، إذ لم ينبهنا إليه منبّه ، ومآل هذا أنه لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل لأنهم نهّوا بنصب الأدلة وجعلوا مستعدّين لتحقيق الحق وإبعاد الشرك عن قلوبهم.

(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) أي أو تقولوا فى ذلك اليوم : إن آباءنا اخترعوا الإشراك وسنّوه من قبل زماننا وكنا جاهلين ببطلان شركهم ، فلم يسعنا إلا الاقتداء بهم ولم نهتد إلى التوحيد ، أفتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب بما فعله المبطلون من آبائنا المضلين ، فتجعل عذابنا كعذابهم ، مع عذرنا بتحسين الظن بهم؟.

والخلاصة ـ إن الله لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد الآباء والأجداد ، إذ التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا يركن إليه ولا ينبغى لعاقل أن يلجأ إليه ، كما أن الاعتذار بالجهل بعد ما أقام عليهم من البينات الفطرية والعقلية مما لا يقبل. (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ومثل ذلك التفصيل المستتبع للمنافع الجليلة ـ نفّصل لبنى آدم الآيات والدلائل ليستعملوا عقولهم فى التبصر فيها والتدبر فى أمرها ، لعلهم يرجعون بها عن جهلهم وتقليد آبائهم وأجدادهم.

وفى الآية إيماء إلى أن من لم تبلغه بعثة رسول لا يعذر يوم القيامة فى الشرك بالله تعالى ولا بفعل الفواحش والموبقات التي تنفر منها الفطر السليمة وتدرك ضررها العقول الحصيفة ، بل يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه ألا يعرف إلا منهم وهو تفصيل العبادات وعالم الغيب وما سيكون فى اليوم الآخر من أحوال العاصين وشئون النبيين والصديقين من عقاب وثواب وكنه ذلك على الحقيقة

١٠٥

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧))

تفسير المفردات

التلاوة : القراءة ، والنبأ : الخبر الذي له شأن ، وانسلاخه منها : كفره بها ونبذه لها من وراء ظهره ، ويقال لكل من فارق شيئا بحيث لا تحدّثه نفسه بالرجوع إليه : انسلخ منه ، وأتبعه : أدركه ولحقه ، قال الجوهري يقال أتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم ، ومن الغاوين : أي الراسخين فى الغواية بعد أن كان مهتديا ، أخلد إلى الأرض. أي ركن إلى الدنيا ومال إليها واللهث (بالفتح) واللهاث (بالضم) التنفس الشديد مع إخراج اللسان ويكون لغير الكلب من شدة التعب والإعياء أو من العطش وللكلب فى كل حال سواء أصابه ذلك أم لا ، وتحمل عليه. أي تشدّ عليه وتطرده ، وساء الشيء : يسوء فهو سىء إذا قبح ، وساءه يسوءه مساءة ، والمثل : الصفة :

المعنى الجملي

بعد أن ذكر تقدست أسماؤه أخذ العهد والميثاق على بنى آدم جميعا وأشهدهم على أنفسهم بأن الله ربهم لا يكون لهم العذر يوم القيامة فى الإشراك بالله جهلا أو تقليدا ـ

١٠٦

قفى على ذلك بضرب المثل للمكذبين بآياته المنزلة على رسوله بعد أن أيدها بالأدلة العقلية والكونية ، وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها قادرا على بيانها والجدل بها لكنه لم يؤت العمل مع العلم بل كان عمله مخالفا لعلمه فسلبها لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض.

الإيضاح

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) أي واتل على اليهود ذلك النبأ العجيب ، نبأ ذلك الذي آتيناه حجج التوحيد وأفهمناه أدلته حتى صار عالما بها فانسلخ منها وتركها وراءه ظهريا ولم يلتفت إليها ليهتدى بها ، وفى التعبير بالانسلاخ إيماء إلى أنه كان متمكنا منها ظاهرا لا باطنا.

(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي وبعد أن انسلخ منها باختياره لحقه الشيطان فأدركه وتمكن من الوسوسة له ، إذ لم يبق لديه من نور البصيرة ولا أمارات الهداية ما يحول بينه وبين قبول وسوسته وسلوك فهمه ، فصار من الضالين المفسدين.

والخلاصة ـ إنه أوتى الهدى فانسلخ منه إلى الضلال ومال إلى الدنيا فتلاعب به الشيطان وكانت عاقبته البوار والخذلان وخاب فى الآخرة والأولى.

وفى الآية عبرة وموعظة للمؤمنين وتحذير لهم من اتباع أهوائهم حتى لا ينزلقوا فى مثل تلك الهوة التي انزلق إليها صاحب المثل بحبه للدنيا وركونه إلى شهواتها ولذاتها.

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات والعمل بها إلى درجات الكمال والعرفان لفعلنا ، بأن نخلق له الهداية خلقا ونلزمه العمل بها طوعا أو كرها ، إذ لا يعجزنا ذلك ولكنه مخالف لسنتنا.

١٠٧

(وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي ولكنه ركن إلى الدنيا ومال إليها وجعل كل حظه من حياته التمتع من لذائذها الجسدية ، ولم يوجّه إلى الحياة الروحية عزما ، وركب رأسه فلم يراع الاهتداء بشىء مما آتيناه من آياتنا.

وقد قضت سنة الله فى الإنسان أن يجعله مختارا فى عمله المستعد له بحسب فطرته ، ليكون جزاؤه كفاء ما قدمت يداه من خير أو شر ، وأن يمتحنه بما خلق فى هذه الأرض من زينة ومتعة كما قال : «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» ثم يوّلى كل امرئ منهم وجهة هو مولّيها فيختار منها ناحية بحسب استعداده وميله الفطري كما قال : «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» كما مضت سنته أيضا بأن جعل ميل الإنسان مع شهواته فى جميع أعماله دون رعاية للفائدة يضله عن السبيل الموصلة إلى السعادة الأخروية وينحرف به إلى سبل الغواية المردية فى التّهلكة كما قال تعالى مخاطبا داود عليه السلام : «وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» وقال مخاطبا خاتم أنبيائه : «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً؟».

وخلاصة ذلك ـ إن من شأن من يؤتى الآيات أن تسمو نفسه وتصعد فى سلم الكمال لما فيها من الهداية إلى سبيل الخير الحاضّة على عمل النافع وما فيه فائدة روحية له ، على شريطة أن يتلقاها بعزيمة ونية صادقة كما جاء فى الحديث : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».

أما من تلقاها بغير قصد أو بنية كسب المال والجاه وفى نفسه ما يصرفه عنها فلن يستفيد منها شيئا وسرعان ما ينسلخ منها.

١٠٨

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي إن هذا الرجل كالكلب فى صفته هذه وهى أقبح حالاته وأخسها ، فهو لإخلاده وميله إلى الدنيا واتباعه هواه يكون كذلك فى أسوإ حال ، فهو فى همّ دائب وشغل شاغل فى جمع عرض الدنيا وزخرفها ، يعنى بخسيس أموره وجليلها كشأن عبّاد الأهواء وطلاب الأموال ترى المرء منهم كاللاهث من الإعياء والتعب وإن كان ما يعنى به حقيرا لا يتعب ولا يعيى ، وتراه كلما أصاب سعة وبسطة فى الدنيا زاد طمعا فيها كما قال الأول :

فما قضى أحد منها لبانته

ولا انتهى أرب إلا إلى أرب

(ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ذلك المثل البالغ الحد فى الغرابة مثل هؤلاء القوم الذين جحدوا بآياتنا واستكبروا عنها جهلا بها وتقليدا للآباء والأجداد ، فهم قد ظنوا أن إيمانهم بها يسلبهم العزة ويحط من أقدارهم ويحول بينهم وبين ما يتمتعون به من اللذات ، فكان ذلك حجابا حائلا بينهم وبين النظر فيها نظر تبصر واستدلال ، وإن كانوا نظروا إليها من تلك الناحية التي تروق لهم وهى : حرمانهم من التمتع بالحظوظ والشهوات ، إلى ما فيها من الاعتراف بضلال السلف من الآباء والأجداد فما أشبه حالهم بحال من أوتى الآيات فانسلخ منها ، وذلك ليس بعيب فيها بل العيب عليه باتباعه هواه الذي حرمه من الانتفاع بها.

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفمّ طعم الماء من سقم

(فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي فاقصص أيها الرسول الكريم قصص ذلك الرجل الذي تشبه حاله حال أولئك المكذبين بما جئت به من الآيات البينات رجاء أن يتفكروا فيه فيحملهم سوء حالهم وقبح مثلهم على إطالة التأمل والتفكر فى المخلص مما هم فيه ، والنظر فى الآيات بعين البصيرة لا بعين الهوى والعداوة.

وفى الآية إيماء إلى تعظيم ضرب شأن تلك الأمثال فى الإقناع وكونها أقوى أثرا

١٠٩

من سوق الحجج والأدلة دون أن تكون هى من بينها ـ كما أن فيها رمزا إلى تعظيم شأن التفكر وأنه مبدأ العلم والسبيل للوصول إلى الحق ، ومن ثم حث الله عليه فى مواضع كثيرة من كتابه كقوله : «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» وقوله «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي قبحت صفة أولئك القوم فى الصفات ، وساء مثلهم فى الأمثال بإعراضهم عن التفكر فى الآيات والنظر إليها نظر عداوة وبغضاء ، وهم بعملهم هذا إنما يظلمون أنفسهم وحدها بحرمانها من الاهتداء بها وجعلها السبيل الموصلة إلى السعادة فى الدنيا والآخرة.

ولم يعيّن الكتاب الكريم اسم من ضرب به المثل ولا جنسه ولا وطنه ولا جاء فى السنة الصحيحة شىء من ذلك ، فلا حاجة لنا فى العظة إلى بيانه.

ولرواة التفسير بالمأثور روايات كثيرة فى شأنه.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن آتاه الله آياته فتركها ، وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو أنه هو أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وفى لفظ : نزلت فى صاحبكم أمية بن أبي الصلت ، وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال قال : أمية بن أبي الصلت :

ألا رسول لنا منا يخبّرنا

ما بعد غايتنا من رأس نجرانا

قال : ثم خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام أمية بالبحرين ثمانى سنين ، ثم قدم فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جماعة من أصحابه فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى فرغ منها فوثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول : ما تقول يا أمية قال أشهد إنه على الحق ، قالوا فهل تتبعه؟ قال حتى أنظر فى أمره ، فخرج أمية إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم ، فلما أخبر بقتلى بدر ترك الإسلام ورجع ،

١١٠

إلى الطائف فمات بها ، قال ففيه أنزل الله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها).

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشّعبى فى هذه الآية : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) قال : قال ابن عباس هو رجل من بنى إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء ، وكانت الأنصار تقول هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق ، وكانت ثقيف تقول هو أمية بن أبي الصلت.

وذكر البستاني فى دائرة المعارف العربية ملخص قصة بلعام ثم قال : وبعض مفسرى الكتاب المقدس المدققين ذهب إلى أن قصة بلعام المدرجة فى سفر العدد من الإصحاح ٢٢ ـ ٢٤ دخيلة ، وعلى الجملة فهذه الروايات الإسرائيلية لا يعتدها كما لم يعتد بها ابن جرير.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩))

تفسير المفردات

الذرء : لغة الخلق ، يقال ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم ، والخلق : التقدير أي إيجاد الأشياء بتقدير ونظام لا جزافا ، والجن : الأحياء العاقلة المكلفة الخفيّة غير المدركة بالحواس ، والقلب يطلق أحيانا على المضغة الصنوبريّة الشكل فى الجانب الأيسر من جسد الإنسان ـ وأحيانا على العقل والوجدان الروحي الذي يسمونه أحيانا (بالضمير) وهو محل الحكم فى أنواع المدركات والشعور الوجدانى لما يلائم

١١١

أو يؤلم وهو كثير بهذا المعنى فى الكتاب الكريم : «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ـ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ ـ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ».

وسر استعمال القلب فى هذا المعنى ما يراه الإنسان من انقباض أو انشراح حين الخوف والاشمئزاز أو حين السرور والابتهاج ، والفقه : العلم بالشيء والفهم له ، وفسره الراغب بالتوصل بعلم شاهد إلى علم غائب ، وقد استعمله القرآن فى مواضع كثيرة بمعنى دقة الفهم والتعمق فى العلم ليترتب عليه أثره وهو الانتفاع به ، ومن ثم نفاه عن الكفار والمنافقين لأنهم لم يدركوا كنهه المراد مما نفى فقهه عنهم فقاتتهم المنفعة مع العلم المتمكن من النفس.

المعنى الجملي

بعد أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقص قصص المنسلخ عن آيات الله على أولئك الضالين الذين حالهم كحاله ليتفكروا فيه ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة ويعودوا إلى حظيرة الحق ـ قفى على ذلك ببيان أن أسباب الهدى والضلال ينتهيان للمستعد لأحدهما إلى إحدى الغايتين بتقدير الله والسير على سنته فى استعمال مواهبه وهداياته الفطرية من العقل والحواس فى أحد السبيلين كما قال : «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» «إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً».

الإيضاح

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) أي من يوفقه الله لسلوك سبل الهداية باستعماله عقله وحواسه فيما خلقا له بمقتضى الفطرة وإرشاد الدين فهو المهتدى الذي شكر نعم الله عليه وأدى حقه عليه ففاز بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

١١٢

(وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن يخذله ويحرمه التوفيق فيتبع شيطانه وهواه ويترك استعمال عقله وحواسه فى فقه آياته وشكر ما أنعم به عليه ، فهو الكفور الضال الذي خسر سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ، إذ هو قد خسر تلك المواهب التي كان بها إنسانا مستعد للسعادتين الدنيوية والأخروية.

ولا شك أن الهداية الإلهية نوع واحد وهو الإيمان الذي ثمرته العمل الصالح أما أنواع الضلال فلا حصر لها ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى فى سورة الأنعام : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

ثم فصل سبحانه ما أجمله فى الآية السالفة مع بيان سببه فقال :

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي نقسم إنا قد خلقنا فى العالم كثيرا من الجن والإنس لسكنى جهنم والمقام فيها ، وخلقنا للجنة مثل ذلك بمقتضى استعداد الفريقين كما قال : «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ» وقال : «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ».

ثم بين سبب كونهم معدّين لجهنم وصفاتهم المؤهلة لذلك فقال :

(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أي إنهم لا يفقهون بقلوبهم ما تزكو به أنفسهم من توحيد الله المبعد لها عن الخرافات والأوهام وعن الذلة والصغار ، فإن من يعبد الله وحده تسمو نفسه بمعرفته فلا تذل بدعاء غيره ولا الخوف منه ولا الرجاء فيه والاتكال عليه ، بل يطلب من الله ما يحتاج إليه ، فإن كان مما أقدر الله عليه خلقه بإعلامهم بأسبابه وتمكينهم منها طلبه بسببه مع مراعاة سننه فى خلقه ، وإن لم يكن كذلك توجه إلى الله لهدايته إلى العلم بما لم يعلم من سببه وإقداره على ما يقدر عليه من وسائله أو تسخير من شاء من خلقه لمساعدته عليه كالأطباء لمداواة الأمراض ، وأقوياء الأبدان لرفع الأثقال ، والعلماء الراسخين للفتوى فى المسائل العلمية وحل إشكال ما غمض من حقيقتها ، ولا يتوجه فى طلبه إلى غير ما يعرف البشر من الأسباب المطّردة كالرّقى

١١٣

والعزائم والتبخيرات وكرامات الصالحين من الأحياء والأموات والدعاء إليهم بما يعدّ من العبادات فالله يقول : «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً» ويقول : «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ».

كما لا يفقهون بقلوبهم الحياة الروحية واللذات المعنوية الموصلة إلى السعادة الأبدية :«يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ».

ولا يفقهون أن ترك الشرور والمنكرات والحرص على فعل الخيرات هو مناط السعادة فى الدنيا والآخرة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتربية البدنية الصحيحة.

ولا يفقهون سنن الله فى الاجتماع وتأثير العقائد الدينية فى جمع الكلمة وقوة الجماعة ولا سيما فى عهد النبوات ورمن المعجزات ، ولا يفقهون معنى الآيات الإلهية فى الأنفس والآفاق ولا آياته التي يؤيد بها رسله من علمية وكونية وما أودعه منها كتابه.

(وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أي وكذلك لهم أبصار وأسماع لا يوجهونها إلى التأمل والتفكر فيما يرون من آيات الله فى خلقه ، وفيما يسمعون من آياته المنزلة على رسله ومن أخبار التاريخ الدالة على سنته تعالى فى خلقه ، فيهتدوا بكل منها إلى ما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم.

فالآذان إنما خلقت للإنسان ليستفيد من كل ما يسمع ، والأبصار خلقت لينتفع بكل ما يبصر ، وإنما يكون ذلك بتوجيه الإرادة إلى استعمال كل منهما فيما خلق له كما قال تعالى : أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إنّ فى ذلك لآيات أفلا يسمعون. أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون.

ولكن المسلمين وا أسفا أصبحوا أشد الناس إهمالا لاستعمال أسماعهم وأبصارهم

١١٤

وأفئدتهم فى النظر فى آيات الله فى الأنفس والآفاق ، وصاروا أجهل الشعوب بالعلوم التي تعرف بها آياته فى مشاعر الإنسان وانفعالاته النفسية وقواه العقلية ، وآياته فى الحيوان والنبات والجماد والهواء والماء والبخار وسنن النور والكهرباء والعلوم الفلكية.

ومن أصاب منهم حظا من معرفتها فإنما يعرفها للانتفاع بها فى الحياة الدنيا من غير مراعاة أنها آيات دالة على أن لها ربّا خالقا مدبّرا عليما قديرا رحيما يجب أن يعبد وحده وأن يخشى ويحب فوق كل أحد ، وأن تكون معرفته منتهى كل غاية من هذه الحياة.

(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أي أولئك الذين اتصفوا بما ذكر من الصفات : كالأنعام من إبل وبقر وغنم ، فهم لا حظ لهم من عقولهم إلا استعمالها فيما يتعلق بمعيشتهم فى هذه الحياة ، بل هم أضل سبيلا منها ، إذ هذه لا تجنى على أنفسها بتجاوز سنن الفطرة وحدود الحاجة الطبيعية فى أكلها وشربها وجميع حاجاتها ، لكن عبيد الشهوات يسرفون فى كل ذلك إسرافا عظيما قد تتوالد منه الأمراض الكثيرة ، كما قد يجاهدون هذه الشهوات جهادا يفرّطون فيه بحقوق البدن ، فلا يعطونه ما يكفيه من الغذاء أو يقصرون فى الحقوق الزوجية فيجنون على أشخاصهم أو على النوع كله بالتفريط كما يجنى عليهما عبيد الشهوات بالإفراط ، وهداية الإسلام تحظر هذا وذاك وتوجب الأكل من الطيبات بشرط عدم الإسراف ، ولو سلك الناس مسلك الاهتداء بالقرآن فى فهم أسرار الخلق ومعرفة منافعه لاستفادوا السعادة فى معاشهم والاستعداد لمعادهم ، وأولئك هم الغافلون عما فيه صلاحهم فى الحياتين.

وهم فى الغفلة على درجات ، فمنهم الغافلون عن آيات الله فى الأنفس والآفاق التي تهدى العبد إلى معرفة ربه ، والغافلون عن استعمال مشاعرهم وعقولهم فى أفضل ما خلقت لأجله ، والغافلون عن ضروريات حياتهم الشخصية والقومية والدينية.

والخلاصة ـ إن أهل النار هم الأغبياء الجاهلون الغافلون الذين لا يستعملون

١١٥

عقولهم فى فقه حقائق الأمور ، وأبصارهم وأسماعهم فى استنباط المعارف واستفادة العلوم ، ولا فى معرفة آيات الله الكونية وآياته التنزيلية ، وهما سبب كمال الإيمان والباعث النفسىّ على كمال الإسلام.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠))

تفسير المفردات

الأسماء : واحدها اسم ، وهو اللفظ الدالّ على الذات أو عليها مع صفة من صفاتها ، والجنسي : مؤنث الأحسن ، فادعوه بها. أي سمّوه ونادوه بها للثناء عليه أو للسؤال وطلب الحاجات ، وذروا : اتركوا ، والإلحاد : الميل عن الوسط حسا أو معنى ، والأول هو الأصل فيه ، ومنه لحد القبر : وهو ما يحفر فى جانب القبر مائلا عن وسطه وألحد السهم الهدف : أي مال فى أحد جانبيه ولم يصب وسطه ، ومن الثاني ألحد فلان : مال عن الحق ، سيجزون أي سيلقون جزاء عملهم.

المعنى الجملي

بعد أن بين عز اسمه فى الآية السالفة أن المخلوقين لجهنم لم يستعملوا عقولهم ومشاعرهم فى الاعتبار بالآيات والتفقه فى تزكية أنفسهم بالعلم النافع ، فأورثهم ذلك الإهمال الغفلة التامة عن صلاح أنفسهم بذكر الله وشكره والثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال ـ قفّى على ذلك بذكر الدواء لتلك الغفلة والوسائل التي تخرج إلى ضدها وهى ذكر الله ودعاؤه فى السر والعلن بكرة وعشيا.

١١٦

الإيضاح

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) أي ولله دون غيره جميع الأسماء الدالة على أحسن المعاني وأكمل الصفات ، فاذكروه ونادوه بها إما للثناء عليه نحو : «اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ونحو : «هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» وإما لدى السؤال وطلب الحاجات.

وللذكر فوائد : منها تغذية الإيمان ، ومراقبة الله تعالى والخشوع له والرغبة فيما عنده ، واحتقار آلام الدنيا ، وقلة المبالاة بما يفوت المؤمن من نعيمها ، ومن ثم جاء فى الحديث «من نزل به غمّ أو كرب أو أمر مهمّ فليقل لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش الكريم» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

وروى الحاكم فى المستدرك عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة «ما يمنعك أن تسمعى ما أوصيك به؟ أن تقولى إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حىّ يا قيّوم برحمتك أستغيث ، أصلح لى شأنى ، ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين». وأسماء الله كثيرة ، وكلها حسنى لدلالة كل منها على منتهى كمال معناه وتفضيلها على ما يطلق منها على المخلوقين : كالرحيم والحكيم والحفيظ والعليم.

وروى الشيخان من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة» وفى رواية له : «إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة ، وإن الله وتر يحب الوتر» وقد سرد الأسماء التسعة والتسعين الترمذي والحاكم من طريق الوليد بن مسلم قال :

«هو الله الذي لا إله إلا هو : الرحمن الرحيم الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفّار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل

١١٧

اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلى. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوى. المتين. الولي. الحميد. المحصى. المبدئ. المعيد. المحيي. الميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرءوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغنى. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور».

وقد اختلف المحدّثون فى سرد هذه الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج فى الحديث من بعض الرواة؟ والثاني هو الراجح ومن ثم لم يخرّجه الشيخان لتفرد الوليد به واحتمال الإدراج كما قاله الحافظ ابن حجر فى الفتح.

(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) أي ادعوه أيها المؤمنون واتركوا جميع الذين يلحدون فى أسمائه بالميل بألفاظها أو معانيها عن نهج الحق الوسط إلى متفرّق السبل من تحريف أو تأويل أو شرك أو تكذيب أو زيادة أو نقصان أو ما ينافى وصفها بالحسنى كأن يوصف بما لا يصح وصفه به أو تتأول أوصافه على ما لا يليق به.

ثم بين العلة فى تركهم فى خوضهم يلعبون فقال :

(سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لأنهم سيلقون جزاء عملهم وتحل بهم العقوبة فى الدنيا قبل الآخرة ، فاجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم مثل ما يصيبهم.

والإلحاد ضربان : إلحاد إلى الشرك بالله وهو ينافى الإيمان ويبطله ، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب كأن ينظر إليها مع الغفلة عن كونها من خلق الله وتسخيره أو يعتقد أنها مؤثرة بذاتها لا بفعله تعالى ، وهذا يوهن عرا الإيمان ولا يبطله.

والخلاصة ـ إن الإلحاد فى أسمائه الحسنى أقسام :

(١) تسميته تعالى بما لم يسمّ به نفسه فى كتابه أو ما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم

١١٨

فقد اتفق أهل الحق على أن أسماءه وصفاته تعالى توقيفية : أي تحتاج إلى إذن من الشارع لصحة إطلاقها عليه تعالى ، وكل ما ورد فى الكتاب والأحاديث الصحيحة دعاء ووصفا له وإخبارا عنه يصح إثباته له ، ويمنع كل ما دلت على منعه ، قال فى الكشاف كقول أهل البدو : يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه ، يا سخى.

(٢) ترك تسميته بما سمى به نفسه أو وصفها به أو ترك إسناد ما أسنده تعالى إلى نفسه من الأفعال بناء على أن ذلك لا يليق به تعالى أو أنه يوهم نقصا فى حقه ؛ كأن هؤلاء الملحدين أعلم منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم بما يليق به وما لا يليق.

(٣) تغيير أسمائه بوضعها لغيره مما عبد من دونه كاللات والعزّى.

(٤) تحريف أسمائه وصفاته تعالى عما وضعت له بضرب من التأويل ، فقد ذهب جماعة من المسلمين إلى جعل الرب القدوس الذي ليس كمثله شىء ـ كرجل من خلقه لأنه تعالى وصف نفسه بصفات يدل مجموعها على ذلك : كالسمع والبصر والكلام والوجه واليد والرجل والضحك والرضا والغضب ، وذهب آخرون إلى تأويل جميع صفاته تعالى حتى جعلوها كالعدم.

(٥) إشراك غيره فيما هو خاص به من أسمائه باللفظ كاسم الجلالة (الله) والرحمن ورب العالمين ، وما فى معناه كرب السماء والأرض أو رب الكعبة أو رب البيت (الكعبة) كما قال : «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ».

(٦) إشراك غيره فى كمال أسمائه كمن يزعم أو يعتقد أن لغيره رحمة كرحمته ورأفة كرأفته وغير ذلك من معانى أسمائه كالمجيب مثلا كما قال تعالى : «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ».

وبعض الذين يدعون غير الله تعالى من الموتى يعتقدون أنهم أسرع وأقرب فى إجابتهم من الله تعالى فيجمعون بذلك بين شركين : شرك دعاء غير الله مع اعتقاد

١١٩

إجابته للدعاء ، وشرك الكفر به بتفضيل غيره عليه سبحانه فى سرعة الإجابة مع أن الله يقول : «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ» أي لا يجيب المضطر إلا هو فهو المستحق وحده للعبادة.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))

تفسير المفردات

الاستدراج : إما مأخوذ من درج الكتاب والثوب وأدرجه : إذا طواه ، وإما : من الدرجة وهى المرقاة ، فعلى الأول سنستدرجهم : أي سنطويهم طىّ الكتاب ونغفل أمرهم كما قال : «وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا» وعلى الثاني سنأخذهم درجة بعد درجة بإدنائهم من العذاب شيئا فشيئا كالمراقى والمنازل فى ارتقائها ونزولها ، والإملاء : الإمداد فى الزمن والإمهال والتأخير من الملوة والملاوة ، وهى الطائفة الطويلة من الزمن ، والملوان : الليل والنهار والكيد كالمكر : هو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهى إلى ما يسوءه ، وأكثره احتيال مذموم ، ومنه ما هو محمود يقصد به المصلحة : ككيد يوسف لأخذ

١٢٠