تفسير المراغي - ج ١٧

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء السابع عشر

سورة الأنبياء

هى مكية وآيها اثنتا عشرة ومائة.

أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال : «بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادى».

وعن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب ، فأكرم مثواه ، وكلّم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه الرجل فقال : إنى استقطعت رسول الله واديا ما فى ديار العرب واد أفضل ، وقد أردت أن أقطع إليك قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك ، فقال عامر : لا حاجة لى فى قطعتك ، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا ، يريد هذه السورة.

ومناسبتها لما قبلها.

أن السورة السالفة ختمت بأن الناس قد شغلتهم زهرة الدنيا التي جعلها الله لهم فتنة ، وأن الله نهى رسوله أن يتطلع إليها ، وأمره بالصلاة والصبر عليها ، وأن العاقبة للمتقين ـ وبدئت هذه السورة بمثل ما ختمت به السالفة ، فذكر فيها أن الناس غافلون عن الساعة والحساب ، وأنهم إذا سمعوا القرآن استمعوه وهم لاعبون ، وقلوبهم لاهية عنه.

٣

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

تفسير المفردات

اقترب وقرب بمعنى ، والمراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه : وهو مجىء الساعة ، والناس : هم المكلفون ، معرضون : أي عن التأهب لهذا اليوم ، من ذكر : أي قرآن ، محدث : أي جديد إنزاله ، يلعبون : أي يسخرون ويستهزئون ، لاهية قلوبهم : أي غافلة قلوبهم عن ذكر الله ، النجوى : التناجي ، والمراد أنهم أخفوا تناجيهم ولم يتناجوا بمرأى من غيرهم ، أضغاث أحلام : أي تخاليط أحلام رآها فى النوم ، افتراه : اختلقه من تلقاء نفسه ، بل : كلمة تذكر للانتقال من غرض إلى آخر ، ولا تذكر فى القرآن إلا على هذا الوجه كما قال ابن مالك وسبقه إليه صاحب الوسيط ووافقه ابن الحاجب وهو الحق.

٤

الإيضاح

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) أي دنا حساب الناس على أعمالهم التي عملوها فى دنياهم ، وعلى النعم التي أنعمها عليهم ربهم فى أجسامهم وعقولهم ومطاعمهم ومشاربهم ، ماذا عملوا فيها؟ هل أطاعوه فيها فانتهوا إلى أمره ونهيه؟

أو عصوه فخالفوا أمره فيها ، وهم فى هذه الحياة فى غفلة عما يفعل الله بهم يوم القيامة ، ومن ثم تركوا الفكر والاستعداد لهذا اليوم والتأهب له ، جهلا منهم بما هم لاقوه حينئذ من عظيم البلاء وشديد الأهوال ؛ وآثر بيان اقتراب هذا اليوم مع أن الكلام مع المشركين المنكرين للبعث ، للإشارة إلى أن البعث لا ريب فيه ، وأن الذي يرجى بيانه ذكر ما يستتبعه من الأحوال والأهوال كالحساب الموجب للاضطراب على وجه أكيد ونهج سديد.

وخلاصة ذلك ـ أنه قد دنا وقت الساعة وهم غافلون عن حسابهم ، ساهون لا يتفكرون فى عاقبتهم ، مع أن قضية العقل تقضى بجزاء المحسن والمسيء ، وإذا هم نبّهوا من غفلتهم بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا ، وسدوا أسماعهم عن سماعه.

ثم ذكر ما يدل على غفلتهم وإعراضهم بقوله :

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي ما ينزل الله من قرآن ويذكّرهم به إلا استمعوه وهم لاهون لاعبون مستهزئون.

والخلاصة ـ إنه ما جدد لهم الذكر وقتا فوقتا ، وكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون ، إلا زادهم ذلك سخرية واستهزاء.

وفى هذا ذم لأولئك الكفار وزجر لغيرهم عن مثله ، فالانتفاع بما يسمع لا يكون إلا بما يرجع إلى القلب من تدبر وتفكر ، وإلا حصل مجرد الاستماع الذي تشارك البهيمة فيه الإنسان

٥

وبعد أن ذكر ما يظهرونه حين الاستماع من اللهو واللعب ، ذكر ما يخفونه بقوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي وأسرّ هؤلاء الذين اقتربت الساعة منهم وهم فى غفلتهم معرضون ـ التناجي بينهم وأخفوه عن سواهم.

ثم بين ما تناجوا به فقال :

(هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؟) أي قالوا فى تناجيهم متعجّبين من دعواه النبوة ، هل هذا الذي آتاكم بهذا الذكر إلا بشر مثلكم فى خلقه وأخلاقه ، يأكل كما تأكلون ويشرب كما تشربون ، ويموت كما تموتون ، فكيف يختص دونكم بالرسالة؟

(أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟) أي ما هذا الذي أتى به مما لا تقدرون عليه إلا سحر لا حقيقة له ، فكيف تعلمون ذلك ثم تذعنون له وتتبعونه وتجيبون دعوته؟.

وخلاصة ذلك ـ إنهم طعنوا فى نبوته بأمرين :

(١) إن الرسول لا يكون إلا ملكا.

(٢) إن الذي يظهر على يديه من قبيل السحر.

وإنما أسروا ذلك ، لأنه كالتشاور بينهم والتحاور لطلب الطريق الموصل إلى هدم دينه ، وقد جرت عادة المتشاورين فى خطب عظيم ألا يشركوا أعداءهم فى مشورتهم ، بل يجتهدون فى طىّ سرهم عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا كما جاء فى حكمهم : «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».

فأجابهم عليه السلام عما قالوا :

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فىّ ، فإن ربكم عليم بذلك وإنه معاقبكم عليه ، وهو السميع لجميع المسموعات ، العليم بجميع المعلومات.

وفى هذا من الوعيد والتهديد ما لا يخفى.

وإنما آثر كلمة (القول) التي تعم السر والجهر دون كلمة (السر) التي تقدمت

٦

فى الكلام ـ للإيذان بأن علمه تعالى بالأمرين على وتيرة واحدة ، لا تفاوت فيه بالجلاء والخفاء كما فى علوم العباد.

وخلاصة ذلك ـ إنه يعلم هذا الضرب من الكلام وأعلى منه وأدنى منه ، وفى هذا مبالغة فى علمه تعالى بكل ما يمكن أن يسمع أو يعلم.

ثم بين سبحانه أنهم اقتسموا القول فى النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيما يقوله فقال :

(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ، بَلِ افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أي إنهم لم يقتصروا على قولهم السابق (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وعلى قولهم فيما ظهر على يديه أنه سحر ـ بل قال بعضهم : أخلاط أحلام قد رآها فى النوم ، وقال آخرون : بل اختلقه من تلقاء نفسه ونسبه إلى الله ، وقال قوم : بل هو شاعر وما أتى به شعر يخيل إلى السامع معانى لا حقيقة لها.

وخلاصة ذلك ـ إنهم ما صدّقوا بحكمة هذا القرآن ، ولا أقروا أنه من عند الله ، ولا أنه وحي أوحاه الله إليه ، بل قالوا هذه المقالات.

وهذا الاضطراب والتردد فى القول دأب المحجوج المغلوب على أمره ، لا يتردد إلا بين باطل وأبطل منه ، ويتذبذب بين فاسد وأفسد منه.

وقد ذكرت هذه المقالات على هذا الوضع ، إشارة إلى ترقيها فى الفساد ، فإن كونها سحرا أقرب من كونها أضغاث أحلام ، فقد يقال : «إن من البيان لسحرا» ، بخلاف تخاليط الكلام التي لا تضبط ، ولا شبه لها بهذا النظم البديع ، وادّعاء كونها مفتريات أبعد وأبعد ، لأنه عليه الصلاة والسلام قد شهر بالأمانة والصدق ـ إلى أنهم أعرف الناس بالفرق بين المنظوم والمنثور ، وبين ما يساق له الشعر ، وما سيق له هذا الكلام ، إلى أنهم يعلمون من مخالطته مدى أربعين سنة أنه لا يتسهل له الشعر وإن أراده.

ولما قد حوا فى القرآن طلبوا آية أخرى غيره فقالوا :

(فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي إن كان صادقا فى أن الله بعثه رسولا إلينا ، وأن الذي يتلوه وحي أوحاه الله إليه ـ فليأتنا بحجة تدل على ما يقول ويدّعى كما جاء

٧

به الرسل الأولون من قبله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وناقة صالح وما أشبه ذلك من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله ولا يأتى بها إلا الأنبياء والرسل.

وفى التعبير بقولهم (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) بيان كونها آيات مسلمات تثبت الرسالة بمثلها ، ويترتب عليها المقصود ، وليس لأحد أن ينازع فيها.

ثم كذبهم سبحانه فيما تضمنته خاتمة مقالهم من الوعد بالإيمان حين إتيان الآية المقترحة ، وبين أن فى ترك إجابتهم عما طلبوا ـ إبقاء عليهم فإنهم لو أوتوها ولم يؤمنوا بها لاستؤصلوا بالعذاب كما هى سنة الله فى الأمم السالفة إذا كذبت رسلها بعد إتيانهم بما اقترحوا ، ولكن قد سبقت كلمة الله أن مشركى هذه الأمة لا يعذّبون بعذاب الاستئصال فقال :

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ؟) أي إن هؤلاء أشد عتوّا من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات ووعدوا أنهم يؤمنون حين مجيئها ، فلما جاءتهم نكثوا العهد وخالفوا ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، فلو أعطوا ما اقترحوا لكانوا أشد نكثا ، فينزل بهم عذاب الاستئصال ، وقد سبقت كلمة ربك أنه سيؤخر عذابهم إلى اليوم المعلوم.

قال قتادة : قال أهل مكة للنبى صلّى الله عليه وسلّم إذا كان ما تقوله حقا ويسرّك أن نؤمن ، فحوّل لنا الصفا ذهبا ، فأتاه جبريل فقال : إن شئت كان الذي سألك قومك ، ولكنه إن كان ، ثم لم يؤمنوا لم ينظروا ، وإن شئت استأنيت بقومك ، قال بل أستأنى بقومي فأنزل الله «ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ» الآية.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

٨

تفسير المفردات

أهل الذكر : هم أهل الكتاب ، الجسد : كالجسم إلا أنه لا يقال لغير الإنسان كما قال الخليل بن أحمد ، خالدين : أي باقين ، الوعد : هو نصرهم وإهلاك أعدائهم ، المسرفين : أي الكافرين ، ذكركم : أي عظتكم ، تعقلون : أي تتدبرون ما فى تضاعيفه من العبر والمواعظ.

المعنى الجملي

لما ذكر سبحانه فيما سلف إنكارهم لأن يكون الرسول بشرا بقولهم «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أجاب عن هذه الشبهة بأن هذه سنة الله فى الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو ليس ببدع بينهم ، وإن كنتم فى ريب من ذلك فاسألوا أهل الكتاب من قبلكم ؛ ثم ذكر أن الرسل كسائر البشر فى سنن الطبيعة البشرية يأكلون الطعام ولا يخلدون فى الأرض ، بل يموتون كما يموت سائر الناس ، وقد صدقهم الله وعده ، فينجّيهم ومن آمن بهم ويهلك المكذبين لهم ، وأعقب ذلك بأن فى القرآن عظة لهم لو كانوا يعقلون ما فى تضاعيفه من مواعظ وزواجر ، ووعد ووعيد.

الإيضاح

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي وما أرسلنا قبلك أيها الرسول رسولا إلى أمة من الأمم التي خلت من قبلك إلا رجلا مثلهم نوحى إليه ما نريد من أمرنا ونهينا ، لا ملكا نوحى إليه بوساطة الناموس ما نوحى من الشرائع والأحكام والقصص والأخبار ، فما بالهم لا يفهمون أنك لست بدعا من الرسل؟.

وجاء بمعنى الآية قوله : «(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) من أهل القرى» وقوله : «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» وقوله حكاية عمن تقدم من الأمم : «أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا»؟.

٩

ثم أمرهم سبحانه أن يسألوا فى ذلك أهل الكتاب من اليهود والنصارى تبكيتا لهم وإزالة لما علق بأذهانهم من الاستبعاد بعد أن بين لهم وجه الحق فقال :

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فاسألوا أهل الكتاب ممن يؤمن بالتوراة والإنجيل ـ يخبروكم عن ذلك إن كنتم لا تعلمون الحق ، ولا يستبين لكم الصواب.

وبعد أن بين أنه صلّى الله عليه وسلم على سنة من مضى من الرسل فى كونه رجلا ـ بين أنه على سنتهم فى سائر الأوصاف التي حكم بها على البشر فى معيشتهم وموتهم فقال :

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) أي وما جعلنا الرسل الذين أرسلناهم من قبلك إلى الأمم الماضية قبل أمتك ـ جسدا لا يأكلون الطعام : أي لم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام ، بل جعلناهم أجسادا مثلك يأكلون الطعام وتعرض لهم أطوار البشر جميعا من صحة ومرض وسرور وحزن ونوم ويقظة ، وما كانوا مخلّدين لا يموتون ولا يفنون ، ولكنهم غبروا حينا من الدهر وهم أحياء ثم طواهم الثرى وضمتهم القبور.

وخلاصة ذلك ـ إنا جعلنا الرسل أجساما تتغذّى حين الحياة ، ثم يصير أمرها إلى الفناء بعد استيفاء آجالها ، ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون ، وما كانوا مخلدين بأجسادهم ، بل يموتون كما مات الناس قبلهم وبعدهم ، وإنما امتازوا عن غيرهم من سائر الناس بما يأتيهم عن الله من الوحى والزلفى عنده.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) أي إنا أرسلنا رسلا من البشر وصدقناهم وعدنا فنصرناهم على المكذبين وأنجيناهم هم ومن آمن معهم وأهلكنا الذين أسرفوا على أنفسهم بتكذيبهم رسل ربهم.

١٠

ونحو الآية قوله : «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ».

وبعد أن حقق رسالته صلّى الله عليه وسلّم ببيان أنه كسائر الرسل الكرام ـ شرع يحقق فضل القرآن الكريم ويبين نفعه للناس بعد أن ذكر فى صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته واضطرابهم فى شأنه فقال :

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي ولقد آتيناكم كتابا فيه عظتكم بما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق ، وفاضل الآداب ، وسديد الشرائع والأحكام ، مما فيه سعادة البشر فى حياتهم الدنيوية والأخروية.

ثم حثهم على التدبر فى أمر هذا الكتاب فقال :

(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا تتفكرون فيما فى تضاعيفه من فنون المواعظ ، وقوارع الزواجر ، فتحذروا الوقوع فيما يخالف أمره ونهيه ، ولا يخفى ما فى هذا من الحث على التدبر ، لأن الخوف من لوازم العقل ، فمن لم يتدبر فكأنه لا عقل له.

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))

تفسير المفردات

كم : لفظ يفيد تكثير وقوع ما بعدها ، القصم : هو الكسر بتفريق الأجزاء وإذهاب التئامها ، والإحساس : الإدراك بالحساسة : أي أدركوا بحاسة البصر عذابنا

١١

الشديد ، والبأس : الشدة ، والركض : الفرار والهرب ؛ يقال ركض الرجل الفرس برجليه إذا كدّه بساقيه ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا ، ومنه «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» والإتراف : إبطار النعمة يقال أترف فلان أي وسّع عليه فى معاشه وقلّ فيه همه ، يا ويلنا : أي يا هلاكنا ، دعواهم : أي دعوتهم التي يردّدونها ، حصيدا : أي كالزرع المحصود بالمناجل ، خامدين : أي كالنار التي خمدت وانطفأت.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنه سبحانه أهلك المسرفين فى كفرهم بالله ، والعاصين لأوامره ونواهيه ـ بيّن هنا طريق إهلاكهم ، وكثرة ما حدث من ذلك فى كثير من الأمم ، ثم بين أنه أنشأ بعد الهالكين قوما آخرين ، وأنهم حينما أحسّوا بأس الله فروا هاربين ، فقيل لهم على ضرب من التهكم والسخرية فلترجعوا إلى ما كنتم فيه من الترف والنعيم وإلى تلك المساكن المشيدة والفرش المنجّدة ، فلعلكم تسألون عما جرى عليكم ، ونزل بأموالكم ومنازلكم ، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، ثم بعد أن يئسوا من الخلاص وأيقنوا بالعذاب قالوا هلاكا لنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا ، مستوجبين العذاب بما قدمنا ، وما زالوا يكررون هذه الكلمة ويرددونها ، وجعلوها هجّيراهم حتى صاروا كالنبات المحصود والنار الخامدة.

الإيضاح

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) أي وكثير من أهل القرى أهلكناهم بكفرهم بالله وتكذيبهم رسله ، ثم أنشأنا بعد إهلاكهم أمما أخرى سواهم.

ونحو الآية قوله : «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ» وقوله : «فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها».

١٢

ثم بين حالهم حين حلول البأس بهم فقال :

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي فلما أيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما أوعدهم أنبياؤهم ـ إذا هم يهربون سراعا عجلين يعدون منهزمين.

والخلاصة ـ إنهم لما علموا شدة بأسنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا فى ديارهم هاربين من قواهم بعد أن كانوا قد تجبروا على رسلهم وقالوا لهم «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا».

ثم ذكر أنهم فى ذلك الحين ينهون عن الهرب ويقال لهم :

(لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) أي يقال لهم على طريق الاستهزاء والتهكم : لا تركضوا هاربين من نزول العذاب ، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور ، والمساكن الطيبة ، والفرش المنجّدة الوثيرة ، لعلكم تقصدون للسؤال عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم ، فتجيبوا السائلين عما تشاهدون وتعلمون.

ثم حكى عنهم ما أجابوا به القائلين لهم لا تركضوا وارجعوا فقال :

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي قالوا حين يئسوا من الخلاص إذ نزل بهم بأس الله بظلمهم أنفسهم : هلاكا لنا ، لكفرنا بربنا ـ وهذا منهم اعتراف بالكفر المستتبع للعذاب ، وندم عليه حين لا ينفع الندم :

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) أي فما زالوا يرددون هذه المقالة ، ويجعلونها هجّيراهم حتى حصدوا حصدا ، وخمدت حركاتهم ، وهدأت أصواتهم ، ولم ينبسوا ببنت شفة.

وخلاصة هذا ـ إنهم صاروا يكررون الاعتراف بظلمهم أنفسهم ، ولكن لم ينفعهم ذلك كما قال : «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» حتى لم يبق لهم حس ولا حركة ، وأبيدوا كما يباد الحصيد ، وخمدوا كما تخمد النار.

١٣

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

تفسير المفردات

اللعب : الفعل لا يقصد به مقصد صحيح ، واللهو : الفعل يعمل ترويحا عن النفس ، ومن ثم تسمى المرأة والولد لهوا لأنه يستروح بكل منهما ، ويقال لا مرأة الرجل وولده ريحانتاه ، من لدنا : أي من عندنا ، القذف : الرمي البعيد ، وأصل الدمغ : كسر الشيء الرّخو ؛ ويراد به هنا القهر والإهلاك ، زاهق : أي زائل ذاهب ، الويل : الهلاك ، من عنده : هم الملائكة ، لا يستكبرون أي لا يتعظمون ، يستحسرون : أي يكلون ويتعبون ، يقال حسر البعير إذا أعيا وكلّ ، ومثل استحسر وتحسر ، لا يفترون : أي لا يضعفون ولا يتراخون.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر مطاعنهم فى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بتلك المقالات التي سلف ذكرها ـ قفّى على ذلك بذكر فساد تلك المطاعن وبيان أن من أنكر نبوته فقد جعل تلك المعجزات التي ظهرت على يديه من باب العبث واللعب. تنزه ربنا عن ذلك ، فإنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما إلا لعبادته ومعرفته ومجازاة من قام بهما بالثواب والنعيم ، ومن لم يقم بذلك بالعقاب الأليم ، ولن يتم علم هذا إلا بإنزال الكتب ، وإرسال الرسل صلوات الله عليهم ، فمنكر الرسالة جاعل خلق السماء والأرض لهوا ولعبا ، تعالى خالقهما علوّا كبيرا.

١٤

ثم أردف هذا بالرد على من ادعى أن المسيح ابن الله وعزير ابن الله ، بأنه لو اتخذ ولدا لا تخذه من الملائكة ، وعقّب على هذا بأن الغلبة للحق دائما مهما طال أمد الباطل ، وأن جميع من فى السموات والأرض كلهم عبيده لا يستكبرون عن عبادته ولا يملون.

الإيضاح

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي وما خلقنا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع ، وما بينهما من أصناف المخلوقات البديعة ـ للهو واللعب ، بل خلقناهما لفوائد دينية ، وحكم ربانية ، كأن تكون دليلا على معرفة الخالق لها ، ووسيلة للعظة والاعتبار ـ إلى ما فيها من منافع أخرى لا حصر لها.

وخلاصة ذلك ـ إن إيجاد العالم كله ، ولا سيما النوع الإنسانى واستخلافه فى الأرض ـ مبنى على بديع الحكم ، مستتبع لغايات جليلة لا تخفى على ذوى الألباب ، وقد علم بعضها من أنعموا النظر فى الكون وعجائبه ، وأوتوا حظا من صادق المعرفة ، فعرفوا بعض أسراره ، وانتفعوا ببعض ما أودع فى باطن الأرض وما على ظاهر سطحها ، مما كان سببا فى رقىّ الإنسان ، ولا يزال العلم يولّد لنا كل يوم عجيبا ، ويظهر لنا من كنوزها غريبا «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً».

ونحو الآية قوله تعالى : «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ».

ثم أكد نفى اللعب بقوله :

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) أي لو أردنا أن نتخذ لهوا كما يتخذ العباد لاتخذناه من عندنا من العوالم المجردة من المادة كالملائكة ، لكنا لا نتنزل لملابسة ما هو من شأنكم المادي كالزوج والولد ، إذ لا يجمل بنا ، لأنه

١٥

خارج عن سنن حكمتنا ، وقوانين نظامنا ، ورفعة قدرنا ، فنحن لا نلهو بالصور الجسمية ، ولا بالنفوس الروحية.

وخلاصة هذا ـ إنا خلقناكم لحكمة ، وصورناكم لغاية ، وجعلنا لكم السمع والأبصار لمنافع قدرناها لكم ، لا للهونا ولعبنا ، ومن ثم لا نترككم سدى ، بل نحاسبكم ونؤاخذكم ، والجدّ مطلبنا ، واللهو واللعب من شأن العبيد المخلوقين ، لا من شأن رب العالمين.

ونحو الآية قوله : «لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ».

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي إن من شأننا أن رمى الحق الذي من جملته الجدّ ، على الباطل الذي منه اللعب فيكسر دماغه بحيث يشق غشاءه فيؤدى ذلك إلى زهوق روحه فيهلك ـ وقد شبه الباطل بإنسان كسر دماغه فهلك ـ.

وإذا كان هذا شأننا فكيف نترككم بلا إنذار كأننا خلقناكم لنلهو بكم.

(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي ولكم العذاب الشديد من وصفكم ربكم بغير صفته ، وقيلكم إنه اتخذ ولدا وزوجة وافترائكم ذلك عليه.

ولما حكى كلام الطاعنين فى النبوات وأجاب عنها ، وبين أن غرضهم من تلك المطاعن إنما هو التمرد والعناد ـ بين فى هذه الآية أنه غنى عن طاعتهم ، لأنه هو المالك لجميع المخلوقات ، والملائكة على جلالة قدرهم مطيعون له خائفون منه ، فأجدر بالبشر على ضعفهم أن يطيعوه ، وما أخلقهم أن يعبدوه ، فقال :

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله تعالى جميع المخلوقات خلقا وملكا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة دون أن يكون لأحد فى ذلك سلطان لا استقلالا ولا استتباعا.

١٦

(وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي والملائكة الذين شرفت منزلتهم عند ربهم لا يستعظمون عن عبادته ولا يكلّون ولا يتعبون : وتخصيص الملائكة بالذكر للدلالة على رفعة شأنهم ، كما خصص جبريل من بين الملائكة فى قوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ».

ثم بين سبحانه كيف يعبدون ربهم فقال :

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) فهم دائبون فى العمل ليلا ونهارا ، مطيعون قصدا وعملا ، قادرون عليه كما قال فى الآية الأخرى : «لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ».

وخلاصة ذلك ـ المبالغة فى تنزيه الله وتسبيحه ، وهذا لا يمنع من تخلل فترات لا يفعلون فيها ذلك ، كما يقال : فلان لا يفتر عن ثنائك وشكر آلائك.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

١٧

تفسير المفردات

ينشرون : من أنشره. أي أحياه ، لفسدتا : أي لخرجتا عن نظامهما وخربتا ، فسبحان الله : أي تنزيها له عما وصفوه به ، هذا ذكر من معى : أي هذا الوحى المتضمن للتوحيد عظة أمتى ، وذكر من قبلى : أي وموعظتهم وإرشادهم ، لا يسبقونه بالقول : أي لا يتكلمون حتى يأمرهم ، مكرمون : أي مقربون عنده ، من خشيته : أي بسبب خوف عذابه ، مشفقون : أي حذرون.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فى سابق الآيات أن كثيرا من الأمم المكذبة لرسلها قد أبيدت وأنشئ بعدها أقوام آخرون ، وأنهم حين أحسوا بالبأس ارعووا وندموا حيث لا ينفع الندم ؛ ثم أردف ذلك ذكر أن من فى السموات والأرض عبيده ، وأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ، ولا يكلّون ولا يملون منها ـ ذكر هنا أنه كان يجب عليهم أن يبادروا إلى التوحيد ، لكنهم لم يفعلوا ذلك ، بل فعلوا ضده فكانوا جديرين بالتوبيخ والتعنيف ، ثم أقام البرهان على وحدانيته وأنه لو كان فى السموات والأرض إلهان لهلك من فيهما ، تنزه ربنا عما يقول هؤلاء المشركون ، وقد كذب من اتخذ آلهة لا دليل عليها ، وأن جميع الأديان جاءت بإخلاص التوحيد ، كما كذب من جعل لله ولدا فقال : الملائكة بنات الله ، والملائكة خلق مطيعون لربهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون به ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهم من خوفه حذرون ، ومن يقل منهم إنه إله فلا جزاء له إلا جهنم ، وهى جزاء كل ظالم.

الإيضاح

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى.

١٨

وإنهم ولا شك بمعزل عن ذلك ـ والمشركين وإن لم يقولوا ذلك صريحا ، فما ادّعوه لها من الألوهية يستدعى ثبوت إحياء الموتى لها ، لأنه من خصائصها.

ووصف الآلهة بكونها من الأرض ـ للإشارة إلى أنها من الأصنام التي تعبد فيها ، وللإيماء إلى ضعة شأنها ، وحقارة أمرها.

ثم أقام الدليل العقلي على التوحيد ونفى أن يكون هناك إله غير الله فقال :

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) أي لو كان فى السموات والأرض إله غير الله لخريتا وهلك من فيهما ـ ذاك أنه لو كان فيهما إلهان فإما أن يختلفا أو يتفقا فى التصرف فى الكون ، والأول ظاهر البطلان ، لأنه إما أن ينفذ مرادهما معا فيريد أحدهما الإيجاد والثاني لا يريده فيثبت الوجود والعدم لشىء اختلفا فيه ، وأما أن ينفذ مراد أحدهما دون الثاني ، فيكون هذا مغلول اليد عاجزا ، والإله لا يكون كذلك ، والثاني باطل أيضا ، لأنهما إذا أوجداه معا وجب توارد الخلق من خالقين على مخلوق واحد.

ولما أثبت بالدليل أن المدبر للسموات والأرض لا يكون إلا واحدا ، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله قال :

(فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي فتنزيها لله رب العرش المحيط بهذا الكون ومركز تدبير العالم عما يقول هؤلاء المشركون من أن له ولدا أو شريكا.

ثم أكد هذا التنزيه بقوله :

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) أي هو الحاكم الذي لا معقّب لحكمه ، ولا يعترض عليه أحد ، لعظمته وجلاله ، وعلمه وحكمته ، وعدله ولطفه ، وهو سائل خلقه عما يعملون كما قال : «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» وقال : «وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ».

١٩

ثم أعاد الإنكار مرة أخرى استفظاعا لشأنهم ، واستعظاما لكفرهم ، وإظهارا لجهلهم فقال : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي أبعد هذه الأدلة التي ظهرت تقولون : إن لله شركاء؟.

ثم أمرهم بإقامة الدليل على صحة ما يدّعون فقال :

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي بعد أن ثبت أنه لا إله غيره ، فهاتوا برهانكم على صحة اتخاذ الآلهة من الأصنام والأوثان ، ولا سبيل إلى ذلك ، لا بالدليل العقلي ، لأنه مر بطلانه ، ولا بالدليل النقلى ، لأن الكتب السماوية جميعا متفقة على هذا ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي هذا هو الكتاب المنزل على من معى ، وهذه هى الكتب المنزلة على من تقدمنى من الأنبياء كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى ، انظروا فيها هل تجدون إلا الأمر بالتوحيد والنهى عن الإشراك.

قال الزجاج : قيل لهم : هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله ، فهل فى ذكر من معى وذكر من قبلى إلا توحيد الله؟.

وفى هذا تبكيت لهم متضمن إثبات نقيض مدّعاهم ، وإذا فليس لهم إلا العجز مركبا.

ولما كانوا لا يجدون لهم شبهة فضلا عن حجة ، ذمهم على جهلهم بمواضع الحق فقال :

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) أي بل أكثر هؤلاء لا يميزون بين الحق والباطل ، فلا تؤثّر فيهم الحجة والبرهان ولا يقتنعون به.

ثم ذكر أن هذا كان سببا فى إعراضهم وتجافيهم عن سماع الحق فقال :

(فَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فهم لأجل هذا الجهل المستولى على أكثرهم أعرضوا عن

٢٠