تفسير المراغي - ج ٨

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء الثامن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣))

تفسير المفردات

قبلا : مواجهة ومعاينة ، وقيل إن واحده قبيل كرغف ورغيف ـ أي قبيلا قبيلا وصنفا صنفا أي كل صنف منه على حدة. قال ابن عباس : كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان ـ الإيحاء : الإعلام بالأشياء من طريق خفى سريع كالإيماء ، والزخرف : الزينة كالأزهار للرياض والذهب للنساء وما يصرف السامع عن الحقائق إلى الأوهام ـ والغرور : الخداع بالباطل ـ صغى إليه : كرضى يصغى : ، مال ، ومثله أصغى ـ

٣

ويقول صغى فلان وصغوه معك : أي ميله وهواه كما يقال ضلعه معك ، واقترف المال : اكتسبه ، والذنب : اجترحه ـ والعدو : ضد الصديق ـ ويستعمل للواحد والجمع والمذكر والأنثى. قال تعالى : «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ».

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السابقة أن مقترحى الآيات الكونية أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها وبما تدل عليه من صدق الرسول فى دعوى الرسالة ، وأن المؤمنين كانوا يودون لو أجيب اقتراحهم ظنا منهم أن ذلك مفض إلى إيمانهم ، وذكر لهم خطأهم بقوله : «وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» فأفاد أن سنته فيهم وفى أمثالهم من المعاندين أنهم إذا رأوا آية تدل على خلاف ما يعتقدون نظروا إليها نظرة إنكار وجحود ، وحملوها على أنها إما خديعة وسحر ، وإما أنها من أساطير الأولين.

ذكر هنا ما هو أبلغ من ذلك وفصل الإجمال الماضي فى قوله : «وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» فأيأس النبي صلّى الله عليه وسلم من إيمانهم ، ولو جاءهم بكل آية وأتى لهم بكل دليل.

الإيضاح

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) فرأوهم بأعينهم المرة بعد المرة والكرّة بعد الكرّة وسمعوا بآذانهم شهادتهم لك بالرسالة.

(وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) بأن نحييهم لهم ونجعلهم حجة على صدق ما جئت به من الرسالة.

(وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) أي وجمعنا كل شىء من الآيات والدلائل غير الملائكة والموتى وأرسلناه إليهم معاينة ومواجهة ليكون ذلك دليلا على ضحة دعواك

٤

(ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي ما كان شأنهم ، ولا مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا ـ ذلك لأنهم لا ينظرون فى الآيات نظر هداية واعتبار ، وإنما ينظرون إليها نظر العدو إلى من يعاديه ، لا نظر الولي إلى من يعينه ويواليه ، فيخيّل إليهم الوهم أن ما جئتهم به لا يهديهم إلى سواء السبيل ، وإنما تسحر به عقولهم وتسلب به ألبابهم.

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي لكن إن شاء الله إيمان أحد منهم آمن ـ والمراد أنهم ما داموا على صفاتهم التي هم عليها من اقتراح الآيات فهم لا يؤمنون ـ لكن إن شاء الله أن يزيلها فعل.

والخلاصة : إن فقد هؤلاء للاستعداد للإيمان ، جار بحسب مشيئته تعالى ككل ما يجرى فى الوجود ، ولو شاء غير ذلك لكان ، ولكنه لا يشاء لأنه تغيير لسنته وتبديل لطباع الإنسان.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أي ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمانهم عند مجىء الآيات ، لجهلهم سنة الله تعالى فى عباده وانطباقها على الأفراد والجماعات ، لذلك يتمنى بعض المؤمنين لو يؤتى مقترحو الآيات ما اقترحوا ، ظنّا منهم أن ذلك يكون سبب إيمانهم ، مع أن الآيات لا تلزمهم الإيمان ولا تغيّر طباع البشر فى اختيار ما يترجّح لدى كل منهم بحسب ما يؤدّيه إليه فكره وعقله : ولو شاء الله لخلق الإيمان فى قلوبهم خلقا بحيث لا يكون لهم فيه عمل ولا اختيار ـ وحينئذ لا يكونون محتاجين إلى الرسل كما أنه لو شاء ـ جعل الآيات مغيّرة لطبائع البشر وملزمة لهم أن يؤمنوا فيكون الإيمان إلجاء وقسرا ، لا اختيارا وكسبا ، ولكنه لم يشأ ذلك بدليل قوله تعالى : «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ».

قال ابن عباس كان المستهزءون بالقرآن خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاصي ابن وائل السهمي ، والأسود بن يغوث الزهري ، والأسود بن المطلب ، والحرث بن حنظلة. أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى رهط من أهل مكة وقالوا أرنا الملائكة

٥

يشهدوا بأنك رسول الله ، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم (أحق ما تقول أم باطل؟) أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ، فنزلت الآية.

ثم أراد بعدئذ تسلية نبيه صلّى الله عليه وسلم ببيان أن سنته فى الخلق أن يكون للنبيين أعداء من الجن والإنس فقال :

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) أي كما جعلنا هؤلاء ومن لفّ لفّهم أعداء لك جعلنا لكل نبى جاء قبلك أعداءهم شياطين الإنس والجن ـ قال مجاهد وقتادة والحسن : إن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين – وأيده ابن جرير بما رواه أبو ذرّ ، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له عقب صلاة : «يا أبا ذر هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال : قلت يا رسول الله وهل للإنس شياطين؟ قال نعم» وجاء فى سورة البقرة «وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ» الآية.

ومعنى جعلهم أعداء للأنبياء : أن سنة الله قد جرت بأن يكون الشرّير الذي لا ينقاد للحق كبرا وعنادا أبو جمودا على ما تعود ـ عدوا للداعى إليه من الأنبياء وورثتهم وناشرى دعوتهم ، وهكذا الحال فى كل ضدين يدعوا أحدهما إلى خلاف ما عليه الآخر ، فى الأمور الدينية أو الاجتماعية ، وهذا ما يعبر عنه بسنة تنازع البقاء بين المتقابلات التي تدعو إلى التنافس والجهاد وتكون العاقبة انتصار الحق ، وبقاء الأمثل الأصلح كما قال تعالى : «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» فالحياة جهاد لا يثبت فيه إلا الصابرون المجدّون ، وليس العمل للآخرة إلا كذلك ، «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ».

ثم بين بعدئذ أن من أثر عداء هؤلاء الشياطين للأنبياء ـ مقاومتهم للهداية والدعوة التي كلفوا بها فقال :

٦

(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) أي يلقى بعضهم إلى بعض القول الموّه الذي به يظنون أنهم يسترون قبيح باطلهم ، ويؤدونه بطرق خفية لا يفطن إلى باطلها كل أحد حتى يغرّوا غيرهم ويخدعوه ويميلوه إلى ما يريدون.

وأول مثل لهذا الغرور ما وسوس به الشيطان للانسان الأول وزوجه الكريم (آدم وحواء) فزين لهما الأكل من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها كما قال : «وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ».

وهكذا يوسوس شياطين الإنس والجن لمن يجترحون السيئات ويرتكبون المعاصي فيزينون لهم ما فيها من عظيم اللذة والتمتع بالحرية ، ويمنّونهم بعفو الله ورحمته ، وشفاعة أنبيائه وأوليائه حتى ليترنم أحدهم بقوله :

تكثّر ما استطعت من الخطايا

فإنك واجد ربّا غفورا

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) أي ولو شاء ربك ألا يفعلوا هذا الغرور ما فعلوا ، ولكنه لم يشأ أن يغيّر خلقهم أو يجبرهم على خلاف ما تزينه لهم أهواؤهم ، بل شاء أن يكون الإنس والجن على استعداد لقبول الحق والباطل والخير والشر ، وأن يكونوا مختارين سلوك أي الطريقين كما قال «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ».

(فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) من الكذب ويخترعون من الإفك ، صرفا للناس عن سبيل الحق ، وسعيا فى إضلالهم وصدهم عن طريق الرشاد ، وامض لشأنك كما أمرت فعليك البلاغ ، وعلينا الحساب والجزاء ، وسترى سنتنا فيهم وفى أمثالهم ، وقد أراه عاقبة أمرهم فأهلك المستهزئين بالقرآن ونصره على أعدائه المشركين «وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ».

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي يوحى بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المموّه من القول به ليغروا المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم ، ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، لأنه الموافق لأهوائهم ؛ إذ هم يميلون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ، ومموّهات الأباطيل.

٧

أما الذين ينظرون إلى عواقب الأمور فيعلمون بطلانها ، فلا تغرنهم تلك الزخارف ولا تعجبهم تلك الأباطيل.

(وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي وليترتب على ذلك أيضا أن يرضوه لأنفسهم بلا بحث ولا تمحيص فيه ، وأن يكتسبوا معه من الآثام والمعاصي ما هم مكتسبون بغرورهم به ورضاهم عنه.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥))

تفسير المفردات

الحكم : من يتحاكم إليه الناس ويرضون حكمه ـ مفصلا : مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام ، إلى غير ذلك من الأحكام ـ الممترين : المترددين الشاكّين ، والكلمة هنا : القرآن ، وتمام الشيء كما قال الراغب : انتهاؤه إلى حد لا يحتاج معه إلى شىء خارج عنه ، وتمامها هنا : أنها كافية وافية فى الإعجاز والدلالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلم ، والصدق يكون فى الأخبار ومنها المواعيد ، والعدل : يكون فى الأحكام. والتبديل : التغيير بالبدل.

المعنى الجملي

بعد أن بين فى سابق الآيات أن الذين اقترحوا الآيات الكونية ، وأقسموا أنهم يؤمنون إذا جاءتهم ـ كاذبون فى أيمانهم وأنهم ما هم إلا من شياطين الإنس الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، وأن دأبهم صرف الناس عن اتباع الحق وتزيين الباطل ، فيغتر بهم من لا يؤمن بالآخرة ويرضى بهم لموافقتهم أهواءه.

٨

ذكر هنا الآية الكبرى ، وهى القرآن الكريم فهو أقوى الأدلة على رسالة نبيه من جميع ما اقترحوا ، هو الذي يجب الرجوع إليه فى أمر الرسالة واتباع حكمه فيها ، دون أولئك الضالين المبطلين ، من شياطين الإنس والجن.

الإيضاح

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) أي ليس لى أن أتعدى حكم الله ولا أن أتجاوزه ؛ لأنه لا حكم أعدل من حكمه ، ولا قائل أصدق منه ، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ، فيه كل ما يصح به الحكم ، وإنزاله مشتملا على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرهما على لسان رجل منكم أمي مثلكم هو أكبر دليل وأظهر آية على أنه من عند الله ، لا من عنده ، كما جاء فى قوله : «فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ» أي جاوزت الأربعين ولم يصدر عنى مثله فى علومه ولا فى أخباره بالغيب ولا فى فصاحته وبلاغته.

والخلاصة ـ إنكم تتحكمون فى طلب المعجزات ، لان الدليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم ، قد حصل بوجهين :

(١) إنه أنزل إليكم الكتاب المفصل المشتمل على علوم كثيرة ، بأسلوب عجز الخلق عن معارضته ، فيكون هذا دليلا على أن الله قد حكم بنبوته.

(٢) ما ذكر بعد ، من أن التوراة والإنجيل تشتملان على الآيات الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم رسول حق وأن القرآن كتاب حق من عند الله.

ثم ذكر ما يؤكد ما سبق فقال :

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) أي إن أنكر هؤلاء المشركون أن يكون القرآن حقا وكذّبوا به ، فالذين أعطيناهم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود والنصارى يعلمون أنه منزل من ربك بالحق.

٩

ذاك أنهم يعلمون أنه من جنس الوحى الذي نزل على أنبيائهم وأن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتى بمثله ـ إلى أن كتبهم تشتمل على بشارات بذلك النبي لم تكن لتخفى على علمائهم فى عصر التنزيل كما قال تعالى : «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

وقد اعترف بذلك من أنار الله بصيرتهم من أهل الكتاب فآمنوا ، وأنكر بعضهم الحق وكتمه بغيا وحسدا فباء بالخسران المبين.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الخطاب إما للنبى صلّى الله عليه وسلم والمراد به غيره على طريق التعريض كقوله : «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وتقدم الكلام على مثل هذا وإما ـ له والمراد النهى عن الشك فى أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل بالحق ـ أو الخطاب لكل من يتأتى منه الامتراء على مثال قوله : «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ».

 (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) قد تطلق الكلمة على الجملة والطائفة من القول فى غرض واحد ؛ فإذا كتب أحد أو خطب فى موضوع ما قيل كتب أو قال كلمة ، وكانوا يسمون القصيدة كلمة ، وقالوا كلمة التوحيد يعنون (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) والمراد بها هنا ما أريد بها فى قوله : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»

 والمعنى ـ وتمت كلمة ربك فيما وعدك به من نصرك ، وأوعد به المستهزئين بالقرآن من الخذلان والهلاك ، كما تمت فى الرسل وأعدائهم من قبلك كما قال : «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ».

وتمامها صدقا هو حصولها على الوجه الذي أخبر به ، وتمامها عدلا باعتبار أنها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون ، وللمؤمنين بما يستحقون أيضا ، وقد يزادون على ذلك فضلا من الله ورحمة ، والمراد بالخبر هنا لازمه وهو تأكيد ما تضمنته الآيات من تسلية النبي صلّى الله عليه وسلم على كفر هؤلاء المعاندين وإيذائهم له ولأصحابه ، وإيئاس للطامعين من المسلمين فى إيمانهم حين إيتائهم الآيات المقترحة.

١٠

وخلاصة المعنى ـ كما أن سنتى قد مضت بأن يكون للرسل أعداء من شياطين الإنس والجن ، تمت كلمتى بنصر المسلمين وخذلان الأعداء المفسدين.

(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي إن كلمة الله في نصرك وخذلان أعدائك قد تمت وأصبحت واقعة نافذة حتما لا مرد لها ، لأن كلمات الله لا مبدل لها ، ولا يستطيع أحد من خلقه أن يزيلها بكلمات أخرى تخالفها وتمنع صدقها على من وردت فيهم ، كأن يجعل الوعد وعيدا أو الوعيد وعدا ، أو يصرفهما عن الموعود بالثواب أو الموعد بالعقاب إلى غيرهما ، أو يحول دون وقوعهما.

والخلاصة ـ إنه لا مغيّر لما أخبر عنه من خبر أنه كائن فيبطل مجيئه ، وكونه على ما أخبر جل ثناؤه.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه تعالى سميع لتلك الأقوال الخادعة عنهم ، عليم بما فى قلوبهم من المقاصد والنيات ، وبما يقترفون من الذنوب والسيئات.

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ

١١

لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))

المعنى الجملي

بعد أن أجاب سبحانه عن شبهات الكفار وبين بالدليل صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ـ ذكر هنا أنه لا ينبغى الالتفات إلى ما يقوله هؤلاء الجهال ، لأنهم يسلكون سبيل الضلال والإضلال ، ويتبعون الظنون الفاسدة الناشئة من الجهل والكذب على الله ، فلا ينبغى الركون إليهم والعمل بآرائهم.

وفى سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم فى عهد بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم كانوا ضلالا يغلب عليهم الشرك ، بعد أن أبان ضلال مشركى العرب ومن على شاكلتهم فى عقائدهم ثم أردف ذلك بيان مسألة هامة لها خطرها وهى من أصول الشرك ، تلك هى مسألة الذبائح لغير الله.

الإيضاح

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي وإن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرعه الله ، وأودعه كلماته المنزلة عليك ، يضلوك عن الدين الحق ، وعن نهج الصواب ، فلا تتبع أنت ومن اتبعك حكما غير الذي أنزل إليك من الكتاب مفصلا ، فهو الهداية التامة الكاملة ، فادع إليه الناس كافة.

ثم أكد ما سبق بقوله :

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الخرص : القول بالظن قول من لا يستيقن ، أي إن هؤلاء لا يتبعون فى عقائدهم وأعمالهم إلا الظن الذي ترجحه لهم أهواؤهم ـ وما هم إلا يخرصون فى ترجيح بعض منها على بعض ، كما يخرص أرباب النخيل والكروم ثمرات نخيلهم وأعنابهم ، ويقدرون ما تجود به من التمر والزبيب تخمينا وحدسا

١٢

دون تحقيق لذلك ، ولا برهان لهم على ما يقولون ، فهم يكذبون على الله فيما ينسبونه إليه من اتخاذ الولد ، وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه ، وتحليل المينة والبحائر ونحو ذلك.

وتاريخ تلك العصور يؤيد الحكم القطعي الذي فى الآية من ضلال أكثر أهل الأرض ، واتباعهم للخرص والظن ؛ فأهل الكتاب من اليهود والنصارى قد تركوا هداية أنبيائهم ، وضلوا ضلالا بعيدا ، وكذلك الأمم الوثنية ، التي كانت أبعد عهدا عن هداية الرسل والأنبياء.

وهذا من علم الغيب الذي أوتيه ذلك النبي الأمى ، وهو لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا النذر اليسير من شئون الأمم المجاورة لبلاد العرب.

ثم أعقبه بتأكيد آخر زيادة فى التحذير فقال :

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك الذي رباك وعلمك بما أنزله إليك ، وبين لك ما لم تكن تعلم من الحق ومن شئون الخلق ـ هو أعلم منك ومن سائر عباده ، بمن يضل عن سبيله القويم ، وبمن هو من المهتدين ، السالكين صراطه المستقيم ، ففوّض أمرهم إلى خالقهم فهو العليم بالضال والمهتدى ، ويجازى كلا بما يليق بعمله.

وبعد أن أبان لرسوله صلّى الله عليه وسلم أن أكثر أهل الأرض يضلّون من أطاعهم ، لأنهم ضالون خرّاصون ، وأنه تعالى هو العليم بالضالين والمهتدين ـ أمر رسوله وأتباعه بمخالفة أولئك الضالين ، من قومهم ومن غيرهم فى مسألة الذبائح وترك جميع الآصار والآثام ، فقال :

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كان حال أكثر هؤلاء الناس ما بينته لكم من الضلال فكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح دون غيره ، إن كنتم بآياته التي جاءتكم بالهدى والعلم مؤمنين ، وبما يخالفها من الضلال والشرك مكذبين.

١٣

وقد كان مشركو العرب وغيرهم من أرباب الملل والنحل يجعلون الذبائح من أمور العبادات ، ويقرنونها بأصول الدين والاعتقادات ، فيتعبدون بذبح الذبائح لآلهتهم ومن قدّسوا من رجال دينهم ، ويهلون لهم عند ذبحها ، وهذا شرك بالله ، لأنه عبادة يقصد بها غيره ، سواء سمّوه إلها أو معبودا أو لم يسموه ، وقد وقع كثير من المسلمين فى مثل ما كان عليه أولئك الضالون المشركون من مشركى العرب وسواهم فذبحوا باسم بعض الأولياء والصالحين ، وسيّبوا لهم السوائب ، فتراهم ينذرون العجول والخراف للسيد البدوي وغيره من أرباب الأضرحة والقبور ممن يستشفعون بهم إلى ربهم فى زعمهم ، وهذا شرك صريح.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) العرب تقول مالك ألا تفعل كذا ، على معنى وأي شىء يمنعك من ذلك؟ والمراد هنا وأي شىء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟

(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي وقد فصل لكم ما حرمه عليكم وبينه بما سيأتى فى قوله : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ» ومعنى أهلّ لغير الله به أي ذكر عليه اسم غيره عند ذبحه كالأصنام والأنبياء والصالحين الذين وضعت التماثيل ذكرى لهم.

(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي إلا ما دعتكم الضرورة إلى أكله بأن لم يوجد من الطعام عند شدة الجوع إلا المحرم فحينئذ يزول التحريم. والقاعدة الشرعية «الضرورات تبيح المحظورات» والقاعدة الأخرى «الضرورة تقدّر بقدرها» فيباح للمضطر ما تزول به الضرورة ويتّقى به الهلاك أكثر منه.

(وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي وإن كثيرا من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم الزائغة وشهواتهم الفاسدة من غير علم منهم بصحة ما يقولون ، ولا برهان على ما فيه يجادلون ، اعتداء وخلافا لأمر الله ونهيه وطاعة للشياطين ، كعمرو بن لحىّ

١٤

وقومه الذين اتخذوا البحائر والسوائب ، وأحلوا أكل الميتة ، وما أهل به لغير الله بذكر اسم ذلك من نبى أو وثن أو صم.

وأصل عبادة الأوثان أنه كان فى القوم الذين أرسل إليهم نوح رجال صالحون ، فلما ماتوا وضعوا لهم أنصابا ليتذكروهم بها ويقتدوا بهم ، ثم صاروا يكرمونها لأجلهم ، ثم خلف من بعدهم خلف جهلوا حكمة وضعها لكنهم حفظوا تكريمها ، والتبرك بها ، تدينا وتوسلا إلى الله ، فكان ذلك عبادة لها وتسلسل فى الأمم بعدهم ، وقد روى البخاري عن ابن عباس : إن المضلين يبنون شبهاتهم على جميع أنواع العبادة التي عبدوا بها غير الله كالتوسل به ودعائه ، وطلب الشفاعة منه ، وذبح القرابين باسمه ، والطواف حول تمثاله أو قبره والتمسح بأركانهما ، وكل ذلك شرك فى العبادة ، شبهته تعظيم المقربين من الله تعالى للتقرب بهم إليه.

وقد انتشرت هذه الشبهات الوثنية فى أرباب الكتب الإلهية ، وأولوا لأجلها النصوص القطعية وأنكروا تسمية ذلك عبادة ، أو أن هذه العبادة إذا كانت لغير الله لجعله واسطة ووسيلة إليه لا تعد شركا به ، وما الشرك فى العبادة إلا هذا.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) أي إن ربك الذي أرشدك وهداك هو أعلم منك ومن سائر خلقه بالمعتدين الذين يتجاوزون ما أحله إلى ما حرمه عليهم ، أو يتجاوزون حد الضرورة عند وقوعها. وفى هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى.

وفى الآية إيماء إلى تحريم القول فى الدين بالتقليد لأن ذلك من اتباع الأهواء ، بغير علم ، إذ المقلد غير عالم بما قلّد فيه.

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) الإثم لغة ما قبح ، وشرعا ما حرمه الله ، والله لم يحرم على عباده إلا ما كان ضارا بالأفراد فى أنفسهم أو فى أموالهم أو فى عقولهم أو فى أعراضهم أو فى دينهم ، أو ضارا بالجماعات فى مصالحهم السياسية أو لاجتماعية.

والظاهر منه ما تعلق بأفعال الجوارح ، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب ، كالكبر والحسد وتدبير المكايد الضارة والشرور للناس ، ومنه الاعتداء فى أكل المحرم الذي

١٥

يباح للمضطر بأن يتجاوز فيه حد الضرورة كما بينه الله بقوله : «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وهذه الجملة من جوامع الكلم والأصول العامة فى تحريم الآثام ، ومن ثم قال ابن الأنبارى : المراد بذلك ترك الإثم من جميع جهاته كما تقول ما أخذت من هذا المال لا قليلا ولا كثيرا تريد ما أخذت منه بوجه من الوجوه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي إن الذين يكسبون نوعا من الآثام الظاهرة أو الباطنة سيلقون جزاء إنهم وعاقبة كسبهم للذنوب التي أفسدت فطرتهم ودست نفوسهم بإصرارهم عليها ومعاودتها المرة بعد المرة.

أما الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويمحو تأثير الإثم فى قلوبهم ، بما يفعلونه من الحسنات كما قال تعالى : «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» وبذلك تعود نفوسهم زكية وتلقى ربها سليمة نقية من أدران السوء التي كانت قد وقعت منها لما ما.

واتفق المسلمون على أن التوبة تمحو الحوبة : أي أن التوبة الصحيحة بالعزم الصادق والندم على مافات تمحو آثار الذنب الماضي ، فإن الله قد يعفو عن المذنب فيغفر له ما فرط منه من الذنوب كما قال : «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ».

ثم صرح سبحانه بالنهى عن ضد ما فهم من الأمر السابق وهو قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) لشدة العناية به لأنه من أظهر أعمال الشرك فقال :

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أي ولا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات فلم تذبحوه ، ولا ما أهل لغير الله به مما ذبحه المشركون لأوثانهم فإن أكل ذلك فسق ومعصية كما جاء فى الآية الأخرى «أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ».

[تنبيه] : قال مالك : كل ما ذبح ولم يذكر اسم الله تعالى عليه فهو حرام ، ترك لذكر

١٦

عمدا أو سهوا ، وقال أبو حنيفة إن ترك الذكر عمدا حرم ، وإن ترك نسيانا حل ، وقال الشافعي : متروك التسمية عمدا أو سهوا حلال إذا كان الذابح مسلما.

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) أي وإن شياطين الإنس والجن الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ليوحون إلى أوليائهم بالوسوسة والتلقين الخادع ما يجادلونكم به من الشبهات ، وإن أطعتموهم فيها فجاريتموهم فى هذه العبادة الوثنية الباطلة إنكم لمشركون مثلهم ، فإن التعبد لغير الله شرك كدعاء غير الله وسائر ما يتوجه به من العبادات لغيره وإن كان لأجل التوسل بذلك الغير إليه ليقرّب المتوسّل إليه زلفى ويشفع له عنده كما يفعل أهل الوثنية.

وأولياء الشياطين لم يجادلوا أحدا من المؤمنين فيما لم يذكر اسم الله عليه ولا اسم غيره عليه من الذبائح المعتادة التي لا يقصد بها العبادة ، فمن يأكل هذه الذبائح لا يكون مشركا ، وكذلك من يأكل الميتة ، بل يكون عاصيا إن لم يكن مضطرا.

قال عكرمة : وإن الشياطين يعنى مردة المجوس ، ليوحون إلى أوليائهم من مشركى قريش زخرف القول ليصل إلى نبى الله وأصحابه ممن أكل الميتة ، ذلك أنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة : إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه الله حرام. فوقع فى أنفس ناس من المسلمين من ذلك شىء فأنزل الله هذه الآية ثم قال : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) يعنى فى استحلال الميتة (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) قال الزجاج : وفيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله تعالى ، أو حرّم شيئا مما أحل الله تعالى فهو مشرك ، لأنه أثبت مشرّعا سوى الله ، وهذا هو الشرك بعينه.

وما يذبح عند استقبال ملك أو أمير أو وزير أفتى بعض الحنفية بتحريم أكله لأنه مما أهلّ به لغير الله. وقال بعض الشافعية : هم إنما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو

١٧

كذبح العقيقة لولادة المولود ، ومثل هذا لا يوجب التحريم ، وهذا هو الراجح الذي عليه المعوّل.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣))

تفسير المفردات

المثل : الصفة والنعت. الأكابر واحدهم أكبر أو كبير : وهو الرئيس ، والمجرمون : فاعلو الإجرام ، والإجرام : هو ما فيه الفساد والضرر من الأعمال ، والقرية. البلد الجامع للناس (العاصمة فى عرف هذا العصر) وقد تطلق بمعنى الشعب أو الأمة ، ويرادفها البلد فى اصطلاح هذا العصر فيقولون ثروة البلد ، مصلحة البلد ويريدون الأمة ، والمكر : صرف المرء غيره عما يريده إلى غيره بضرب من الحيلة فى الفعل ، أو الخلابة فى القول.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون للظن ، والحدس ، وأن كثيرا منهم يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم ، وأن الشياطين منهم العاتين عن أمر ربهم يوحون إلى أوليائهم ما يجادلون به المؤمنين ليضلوهم ويحملوهم على اقتراف الآثام ، ويحملوهم أيضا على الشرك بالله بالذبح لغيره والتوسل به إليه وهو عبادة له ـ ضرب هنا مثلا يستبين به الفرق بين المؤمنين المهتدين للاقتداء بهم ، والكافرين الضالين للتنفير من طاعتهم والحذر من غوايتهم مع ذكر السبب فى استحسان الكافرين لأعمالهم وهو

١٨

تزيين الشيطان لهم ما يعملون ، ومن ثم انغمسوا فى ظلمات لا خلاص لهم منها ، وأصبحوا فى حيرة وتردد على الدوام.

الإيضاح

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟) أي أأنتم أيها المؤمنون كأولئك الشياطين أو كأوليائهم الذين يجادلونكم بما أوحوه إليهم من زخرف القول الذي غرّوهم به؟ أفمن كان ميتا بالكفر والجهل فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس وهو نور القرآن المؤيد بالحجة والبرهان ، يمشى به فى الناس على بصيرة من أمر دينه وآدابه ومعاملاته للناس كمن مثله المبين لحاله مثل السائر فى ظلمات بعضها فوق بعض (ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة المطر) وهو ليس بخارج منها لأنه يبقى متحيرا لا يهتدى إلى وجه صلاحه ، فيستولى عليه الخوف والفزع والعجز والحيرة الدائمة. وكذلك الخابط فى ظلمات الجهل والتقليد الأعمى وفساد الفطرة ليس بخارج منها ، لأنها قد أحاطت به وألفتها نفسه فلم يعد يشعر بالحاجة إلى الخروج منها إلى النور ، بل ربما شعر بالألم من هذا النور المعنوي كما يألم الخفّاش بالنظر إلى النور الحسى.

والخلاصة ـ إنه ينبغى للمسلم أن يكون حيا عالما على بصيرة فى دينه وأعماله وحسن سيرته ، وأن يكون القدوة والأسوة للناس فى الفضائل والخيرات والحجة على فضل دينه على سائر الأديان.

(كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي مثل هذا التزيين الذي تضمنه المثل السابق ، وهو تزيين نور الهدى والدين لمن أحياه الله حياة عالية ، وتزيين ظلمات الضلال والكفر لموتى القلوب ، قد زيّن للكافرين ما كانوا يعملون من الآثام كعداوة النبي صلى الله عليه وسلم وذبح القرابين لغير الله وتحريم مالم يحرمه الله وتحليل ما حرمه بمثل تلك الشبهات التي تقدم ذكرها.

١٩

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) أي وكما أن أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا فى كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، فزين لهم بحسب سننا فى البشر سوء أعمالهم فى عدوان الرسل ومقاومة الإصلاح اتباعا للهوى ، واستكبارا فى الأرض.

ومجمل القول : إن سنة الله فى الاجتماع البشرى قد قضت أن يكون فى كل عاصمة لشعب أو أمة بعث فيها رسول أو لم يبعث ـ زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبسائر المصلحين من بعدهم ، وهكذا كان الحال فى أكثر أكابر الأمم والشعوب ولا سيما فى العصور التي تكثر فيها المطامع ويعظم حب الرياسة والكبرياء فتراهم يمكرون بالأفراد والجماعات ، فيحفظوا رياستهم ويعززوا كبرياءهم كما يمكرون بغيرهم من الساسة والرؤساء إرضاء لمطامع أمتهم وتعزيز نفوذ حكومتهم بين الشعوب والدول.

والمراد بالأكابر المجرمين من يقاومون دعوة الإصلاح ويعادون المصلحين من الرسل وورثتهم ، وكان أكثر أكابر مكة كذلك ، وتخصيص الأكابر بذلك لأنهم أقدر على المكر واستتباع الناس لهم.

(وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل فى عصرهم ودعاة الإصلاح من ورثتهم من بعدهم ـ إلا بأنفسهم. وهكذا شأن من يعادون الحق والعدل ليبقى لهم ما هم عليه من فسق وفساد ، لأن سنة الله قد جرت بأن عاقبة المكر السيء تحيق بأهله فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فبما ثبت فى القرآن من نصر المرسلين وهلاك الكافرين المعاندين ، ومن علو الحق على الباطل ، ومن هلاك القرى الظالمة ، وبما أيده الاختبار ودلّت عليه نظم العمران من أن تنازع البقاء يقضى ببقاء الأمثل والأصلح «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ».

وقد أشارت الآيات إلى أن هذا كان سنة الله فى الأولين فقال : «وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ

٢٠