تفسير المراغي - ج ٢١

أحمد مصطفى المراغي

١

٢

الجزء الحادي والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))

تفسير المفردات

الجدل : الحجاج والمناظرة ، مسلمون : أي خاضعون مطيعون ، والجحد : نفى ما فى القلب ثبوته أو إثبات ما فى القلب نفيه ؛ والمراد به هنا الإنكار عن علم ، والارتياب : الشك ، الظالمون : أي الذين ظلموا أنفسهم وجحدوا وجه الحق.

٣

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول ، والمبالغة فى تسفيه آرائهم وتوهين شبههم بنحو قوله : «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» وقوله : «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» إلى أشباه ذلك ـ أردف هذا ذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسنى ، ولا يسفّه آراءهم ، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم.

ذاك أن المشركين جاءوا بالمنكر من القول ونسبوا إلى الله ما لا ينبغى من الشريك والولد ، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا بالله وأنبيائه ، لكنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن شريعتهم باقية على وجه الدهر لا تنسخ بشريعة أخرى ، فينبغى إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول ، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته وصدق رسالته بما يكون لهم فيه مقنع ، وبما لو تأملوا فيه وصلوا إلى الصواب ، وأدركوا الأمر على الوجه الحق ، إلا من ظلموا منهم وعاندوا ولم يقبلوا النصح والإرشاد ، فاستعملوا معهم الغلظة فى القول ، والأسلوب الجافّ فى الحديث ، لعلهم يثوبون إلى رشدهم ، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين.

ثم أمر رسوله أن يقول لهم : آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن ، وأنزل إليكم من التوراة والإنجيل ، وإن إلهنا وإلهكم واحد ، ونحن مطيعون له.

ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن ، كما أن من أهل مكة من يؤمن به ، وما يجحد به إلا من توغل فى الكفر ، وعدم حسن التأمل والفكر ، إذ لا ريب فى صدق رسوله ، وأن كتابه منزل من عند ربه ، فإن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ولم يتعلم العلم ، ولم يدارس إنسانا مدى حياته ، يأتى بهذه الحكم والأحكام ، وجميل الآداب ، ومكارم الأخلاق ، مما لم يكن له مثيل فى محيط نشأ به ، ولا فى بلد كان يأويه ـ لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر ، بل أوتيه من لدن حكيم خبير.

٤

الإيضاح

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي ولا تجادلوا من أراد الاستبصار فى الدين من اليهود والنصارى إلا باللين والرفق ، وقابلوا الغضب بكظم الغيظ ، والشّغب بالنصح ، والسّورة بالأناة.

ونحو الآية قوله : «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» وقوله : «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» وقوله لموسى وهرون حين بعثهما إلى فرعون «فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى».

إلا من ظلموا منهم وحادوا عن وجه الحق ، وعموا عن واضح الحجة ، وعاندوا وكابروا ، ولم يجد فيهم الرفق ، فمثل هؤلاء لا ينفع فيهم إلا الغلظة :

ووضع الندى فى موضع السيف بالعلا

مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى

قال سعيد بن جبير ومجاهد : المراد بالذين ظلموا منهم ـ الذين نصبوا القتال للمسلمين وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجدالهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.

(وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي إذا حدّثكم أهل الكتاب عن كتبهم ، وأخبروكم عنها بما يمكن أن يكونوا صادقين فيه وأن يكونوا كاذبين ، ولم تعلموا حالهم فى ذلك ـ فقولوا لهم : آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا والتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم ، ومعبودنا ومعبودكم واحد ونحن خاضعون له ، منقادون لأمره ونهيه والطاعة له.

روى البخاري والنسائي عن أبى هريرة قال : «كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ،

٥

وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذّبوا بحق ، وإما أن تصدّقوا بباطل» وفى البخاري عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدّث رهطا من قريش بالمدينة ، وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب.

ثم بين أنه لا عجب فى إنزال القرآن على الرسول فهو على مثال ما أنزل من الكتب من قبل فقال :

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي كما أنزلنا الكتب على من قبلك أيها الرسول ـ أنزلنا إليك هذا الكتاب ، فالذين آتيناهم الكتب ممن تقدم عهدك من اليهود والنصارى يؤمنون به ، إذ كانوا مصدقين بنزوله بحسب ما علموا عندهم من الكتاب ، ومن كفار قريش وغيرهم من يؤمن به.

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) أي وما يكذّب بآياتنا ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل ، ويغطّى ضوء الشمس بالوصائل ، ويغمط حق النعمة عليه ، وينكر التوحيد عنادا واستكبارا.

ثم ذكر ما يؤيد إنزاله ويزيل الشبهة فى افترائه فقال :

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي وما كنت من قبل إنزال الكتاب إليك تقدر أن تتلو كتابا ولا تخطه بيمينك : أي ليس من دأبك وعادتك ذلك ، إذ لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادهما لارتاب المشركون وقالوا لعله التقط ذلك من كتب الأوائل ، ولما لم يكن أمرك هكذا لم يكن لارتيابهم وجه.

٦

قال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون فى كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية.

وخلاصة ما سلف ـ إنك قد لبثت فى قومك عمرا طويلا قبل أن تأتى بهذا القرآن ، لا تقرأ ولا تكتب ، وكل واحد من قومك يعرف أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب ، وهذه صفتك فى الكتب المتقدمة كما قال : «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ».

فلا وجه إذا للشك فى أن هذا القرآن منزّل من عند الله وليس مفتعلا من صنع يدك تعلمته من الكتب المأثورة عمن قبلك كما حكى سبحانه عنهم من نحو قولهم :

«وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً».

ثم أكد ما سلف وبين أنه منزل من عند الله حقا فقال :

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي بل هذا القرآن آيات واضحات الدلالة على الحق ، يسّر الله حفظها وتفسيرها للعلماء كما قال : «(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟».

روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما من نبى إلا وقد أعطى ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا».

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) أي وما يكذب آياتنا ويبخس حقها ويردها إلا المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه.

ونحو الآية قوله : «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ».

٧

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الدليل على أن القرآن من عند الله وليس بمفترى من عند محمد صلى الله عليه وسلم ـ أردف هذا شبهة أخرى لهم ، وهى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتى لهم بمعجزة محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى ، فأجابهم بأن أمر ذلك إلى الله لا إليه ، فلو علم أنكم تهتدون بها لأجابكم إلى ما طلبتم ، ثم بين سخف عقولهم وطلبهم الآيات الدالة على صدقه بعد أن جاءهم بالمعجزة الباقية على وجه الدهر وهى القرآن يتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار ، فيه خبر من قبلهم ونبأ من بعدهم وحكم ما بينهم ، وفيه بيان الحق ودحض الباطل ، وفيه ذكرى حلول العقاب بالمكذبين والعاصين.

ثم أبان أن الله شهيد على صدقه وهو العليم بما فى السموات والأرض ، ثم هدد الكافرين بأن كل من يكذب رسل الله بعد قيام الأدلة على صدقهم ، ويؤمن بالجبت والطاغوت فقد خسرت صفقته ، وسينال العقاب من ربه جزاء وفاقا على جحوده وإنكاره.

أخرج الدارمي وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال : جاء ناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم»

٨

فنزلت «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ» الآية. وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلى الله عليه وسلم «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» أي يستغن به عن غيره. وعن عبد الله ابن الحرث الأنصاري قال : دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط ، فقال عبد الله بن الحارث لعمر : أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، فسرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتمونى لضللتم ، أنا حظكم من النبيين ، وأنتم حظى من الأمم» أخرجه عبد الرزاق.

الإيضاح

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) أي وقال كفار قريش تعنتا وعنادا : هلا أنزل على محمد آية من الآيات التي أنزل مثلها على رسل الله الماضين كناقة صالح وعصا موسى وأشباههما من المعجزات المحسوسة التي ترى رأى العين ، فيكون ذلك أقبل لدى النفوس وأدهش للعقول ، فتلجئ إلى التصديق بمن تظهر على يده المعجزة.

فأمره الله أن يجيبهم بقوله :

(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي قل لهم : إنما أمر الآيات ونزول المعجزات إلى لله ، ولو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى ما سألتم ، لأن ذلك سهل يسير عليه ، ولكنه يعلم أنكم إنما قصدتم بذلك التعنت والامتحان ، فهو لا يجيبكم إلى ما طلبتم كما قال سبحانه «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها».

(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وليس من شأنى إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات ، لا الإتيان بما اقترحتموه منها ، فعلىّ أن أبلغكم رسالة ربى وليس علىّ هداكم كما قال :

٩

«مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» وقال. «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ».

ثم بين سبحانه سخفهم وجهلهم ، إذ كيف يطلبون الآيات مع نزول القرآن عليهم فقال :

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي أما كفاهم دليلا على صدقك أنزلنا الكتاب عليك ، يتلونه ويتدارسونه ليل نهار ، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب ، وقد جئتهم بأخبار ما فى الصحف الأولى ، وبينت الصواب فيما اختلفوا فيه كما قال : «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى».

ثم بين فضائل هذا الكتاب ومزاياه فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى هذا الكتاب الباقي على وجه الدهر ـ لرحمة لمن آمن به ، ببيان الحق وإزالة الباطل ، وتذكرة بعقاب الله الذي حل بالمكذبين قبلكم ، وبما سيحل بهم من النكال والوبال ، وبما سيكون لمن اتبع سنتهم وكذب بالآيات بعد وضوحها.

وبعد أن أقام الأدلة على صدق رسالته ، وبين أن المعاندين من أهل الكتاب والمشركين لم يؤمنوا به ـ أمره أن يكل علم ذلك إلى الله وهو العليم بصدقه وكذبه فقال :

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أي كفى الله عالما بما صدر منى من التبليغ والإنذار ، وبما صدر منكم من مقابلة ذلك بالتكذيب والإنكار ، وهو المجازى كلّا بما يستحق ، وإنى لو كنت كاذبا عليه لا نتقم منى كما قال : «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» بل إنى صادق فيما أخبرتكم به ، ومن ثمّ أيدنى بالمعجزات الواضحات ، والدلائل القاطعات.

١٠

ثم علل كفايته وأكدها بقوله :

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو العليم بكل ما فيهما ، ومن جملته شأنى وشأنكم ، فيعلم ما تنسبونه إلىّ من التقوّل عليه ، وبما أنسبه إليه من القرآن الذي يشهد لى به عجزكم عن الإتيان بمثله ، فهو حجتى الفالجة عليكم ، التي لم تستطيعوا لها ردا ولا دفعا.

ولما بين طريق الجدل مع كلّ من أهل الكتاب والمشركين ـ عاد إلى تهديد المشركين وبين مآل أمرهم ، فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين يعبدون الأوثان والأصنام ويكفرون بالله ، مع تظاهر الأدلة التي فى الآفاق والأنفس على الإيمان به ، ويكفرون برسوله مع تعاضد البراهين على صدقه ، أولئك هم الأخسرون أعمالا ، المغبونون فى صفقتهم ، من حيث اشتروا الكفر بالإيمان ، فاستوجبوا العقاب حين الوقوف بين يدى الملك الديّان.

وخلاصة ذلك : إن الله سيجزيهم على ما صنعوا من تكذيبهم بالحق ، واتباعهم للباطل ، وتكذيبهم برسول الله ، مع قيام الأدلة على صدقه «ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى».

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)).

١١

المعنى الجملي

بعد أن أنذر المشركين بالعذاب ، وهدّدهم أعظم تهديد قالوا له تهكما واستهزاء : إن كان هذا حقا فأتنا به ، وهم يقطعون بعدم حصوله ، فأجابهم بأنه لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجّل باستعجالكم ، لأن الله أجّله لحكمة ، ولو لا ذلك الأجل المسمى ، الذي قتضته حكمته ، وارتضته رحمته ، لعجّله لكم ولأوقعه بكم ، وإنه ليأتينّكم فجأة وأنتم لا تشعرون به ، ثم تعجب منهم فى طلبهم الاستعجال ، وهو سيحيط بهم فى جميع نواحيهم ، ويقال لهم على طريق الإهانة والتوبيخ : ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون :

الإيضاح

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) أي ويستعجلك كفار قريش بنزول العذاب ، بنحو قولهم «مَتى هذَا الْوَعْدُ» وقولهم : «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ولو لا أجل مسمى ضربه الله لعذابهم ، لجاءهم حين استعجالهم إياه.

(وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وليأتينهم العذاب فجأة ، وهم لا يشعرون بمجيئه ، بل يكونون فى غفله عنه ، واشتغال بما ينسيهموه.

ثم زاد فى التعجيب من جهلهم بقوله :

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي يطلبون منك إيقاع العذاب ناجزا فى غير ميقاته ، ويلحقون فى ذلك ، ولو علموا ما هم صائرون إليه ، لتمنّوا أنهم لم يخلقوا ، فضلا عن أن يستعجلوا ، ولأعملوا جميع جهدهم فى الخلاص منه.

ثم بين السبب فى جهلهم وحمقهم ، فقال :

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي وإن جهنم ستحيط بالكافرين المستعجلين للعذاب يوم القيامة.

١٢

ثم ذكر كيف تحيط بهم ، فقال :

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يوم يجلّلهم العذاب ، ويكون من الأهوال والأحوال ، ما لا يفى به المقال ، ويقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ونحو الآية قوله : «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» وقوله «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» وقوله : «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ» الآية ، وقوله : «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» وقوله : «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ».

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)).

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أحوال المشركين ، وأنذرهم بالخسران ، وجعلهم من أهل النار ـ اشتد عنادهم للمؤمنين وكثر أذاهم لهم ومنعوهم من العبادة ، فأمرهم الله بالهجرة إلى دار أخرى إن تعذرت عليهم العبادة فى ديارهم.

١٣

ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس كريهة لديها ، بين لهم أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت ، فأولى بكم أن يكون ذلك فى سبيل الله لتنالوا جزاءه ومرجعكم إلى ربكم ، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فهنالك الغرف التي تجرى من تحتها الأنهار ، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين المتوكلين على ربهم ، الذين يعلمون أن الله قد تكفل بأرزاقهم ، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته ، وهو السميع لدعائهم ، العليم بحاجتهم.

روى أن الآية نزلت فى قوم تخلفوا عن الهجرة ، وقالوا : نخشى إن نحن هاجرنا عن الجوع وضيق المعيشة.

الإيضاح

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي يا عبادى الذين وحّدونى وآمنوا بي وبرسولى محمد صلى الله عليه وسلم ، إنّ أرضى لم تضق عليكم فتقيموا منها بموضع لا يحل لكم المقام فيه ، فإذا انتشرت فى موضع ما معاصى الله ، ولم تقدروا على تغييرها ، فاهربوا منه إلى موضع آخر تتمكنون من القيام فيه بشعائر دينكم.

روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، فحيثما أصبت خيرا فأقم» ومن ثم لما ضاق على المستضعفين مقامهم بمكة خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك ، فوجدوا خير المنزلين لدى أصحمة النجاشي ملك الحبشة ، فآواهم وأيدهم بنصره ، وأنزلهم ضيوفا مكرمين ببلاده ، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة.

والخلاصة : إن الله أمر المؤمنين بالهجرة إن لم يتسنّ لهم إقامة شعائر دينهم ، إلى أرض يستطيعون ذلك فيها.

١٤

ثم حث على إخلاص العبادة له والهجرة من الوطن ، فبين أن الدنيا ليست دار بقاء ، وأن وراءها دار الجزاء ، التي يؤتى فيها كل عامل جزاء عمله فقال :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي أينما تكونوا يدرككم الموت ، فكونوا فى طاعة الله وافعلوا ما أمركم به ، فذلك خير لكم ، فإن الموت لا محالة آت ، ولله در القائل :

الموت فى كل حين ينشد الكفنا

ونحن فى غفلة عما يراد بنا

لا تركننّ إلى الدنيا وزهرتها

وإن توشحت من أثوابها الحسنا

أين الأحبة والجيران ما فعلوا

أين الذين هم كانوا لها سكنا؟

سقاهم الموت كأسا غير صافية

صيّرتهم تحت أطباق الثرى رهنا

ثم إلى الله مرجعكم ، فمن كان مطيعا له جازاه خير الجزاء وآتاه أتم الثواب.

والخلاصة : لا يصعبنّ عليكم ترك الأوطان ، مرضاة للرحمن ، بل هاجروا إلى أوفق. البلاد وإن بعدت ، فإن مدى الدنيا قريب ، والموت لا محيص منه ، ثم إلى ربكم ترجعون ، فيوفيكم جزاء ما تعملون ، فقدموا له خير العمل تفوزوا بنعيم مقيم ، وجنة عرضها السموات والأرض.

ثم بيّن جزاء المؤمن بربه ، المهاجر بدينه ، فرارا من شرك المشركين ، فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي والذين صدّقوا الله ورسوله فيما جاء به من عنده ، عملوا بما أمرهم به ، فأطاعوه وانتهوا عما نهاهم عنه لنزلنهم من الجنة علالىّ وقصورا ، تجرى من تحت أشجارها الأنهار ، ما كثين فيها إلى غير نهاية ، جزاء لهم على ما عملوا ونعم الجزاء.

ثم بين صفات هؤلاء العاملين الذين استحقوا تلك الجنات بقوله :

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي هؤلاء العاملون هم الذين صبروا على

١٥

أذى المشركين ، وشدائد الهجرة وغيرهما من الجهود والمشاقّ ، وتوكلوا على ربهم فيما يأتون وما يذرون ، كأرزاقهم وجهاد أعدائهم ، فلا ينكلون عنهم ، ولا يتراجعون ثقة منهم بأن الله معل كلمتهم ، وموهن كيد الكافرين ، وأنّ ما قسم لهم من الرزق من يفوتهم.

ثم ذكر سبحانه أن مما يعين على التوكل عليه معرفة أنه الكافي أمر الرزق فى الوطن والغربة فقال :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي هاجرو أيها المؤمنون بالله ورسوله ، وجاهدوا أعداءه ، ولا تخافوا عيلة ولا إقتارا ، فكم من دابة ذات حاجة إلى الغذاء والمطعم لا تطيق جمع قوتها ولا حمله ، فترفعه من يومها لغدها عجزا منها عن ذلك ، الله يرزقها وإياكم يوما بيوم وساعة فساعة ، وهو السميع لقولكم نخشى من فراق أوطاننا العيلة ، العليم بما فى أنفسكم ، وإليه يصير أمركم وأمر عدوكم من إذلال الله إياه ونصرتكم عليه ولا تخفى عليه خافية من أمور خلقه.

روى ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون : اخرجوا إلى المدينة وهاجروا ، ولا تجاوروا الظلمة ، قالوا ليس لنا بها دار ولا عقار ، ولا من يطعمنا ، ولا من يسقينا ، فنزلت الآية».

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣)).

١٦

المعنى الجملي

لما بين الأمر للمشركين وذكر لهم سوء مغبة أعمالهم ـ خاطب المؤمنين بما فيه مدّكر لهم ، وإرشاد للمشرك لو تأمله وفكر فيه ، ومثل هذا مثل الوالد له ولدان : أحدهما رشيد والآخر مفسد ، فهو ينصح المفسد أوّلا ، فإن لم يسمع يعرض عنه ، ويلفت إلى الرشيد قائلا : إن هذا لا يستحق أن يخاطب ، فاسمع أنت ولا تكن كهذا المفسد ، فيكون فى هذا نصيحة للمصلح ، وزجر للمفسد ، ودعوة له إلى سبيل الرشاد.

الإيضاح

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله : من خلق السموات والأرض فسواهن ، وسخر الشمس والقمر يجريان دائبين لمصالح خلقه؟ ليقولنّ : الذي خلق ذلك وفعله هو الله.

(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي فيكف يصرفون عن توحيده ، وإخلاص العبادة له ، بعد إقرارهم بأنه خالق كل ذلك.

والخلاصة ـ إنهم يعترفون بأنه هو الخالق للسموات والأرض ، والمسخر للشمس والقمر ، ثم هم مع ذلك يعبدون سواه ، ويتوكلون على غيره ، فكما أنه الواحد فى ملكه ، فليكن الواحد فى عبادته ، وكثيرا ما يقرر القرآن توحيد الألوهية بعد الاعتراف بتوحيد الربوبية التي كانوا يدينون بها بنحو قولهم : لبّيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.

ولما ذكر اعترافهم بالخلق ذكر حال الرزق ، من قبل أن كمال الخلق ببقائه ، ولا بقاء له إلا بالرزق فقال :

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي إن الله يوسع رزقه على من يشاء من خلقه ، ويقتّر على من يشاء ، فالأرزاق وقسمتها بيده تعالى لا بيد أحد سواه ،

١٧

فلا يؤخّرنكم عن الهجرة وجهاد عدوكم خوف العيلة والفقر ، فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن أرزاقها.

ونحو الآية قوله : «إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ».

ثم علل التفاوت فى الرزق بين عباده بعلمه بالمصلحة فى ذلك فقال :

(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه هو العليم بمصالحكم ، فيعلم من يصلحهم البسط ومن يفسدهم ، ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء.

ثم ذكر اعترافهم بهذا بقوله :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي ولئن سألتهم من ينزل من السحاب ماء فيحيى به الأرض القفر فتصير خضراء تهتز بعد أن لم تكن كذلك ـ لم يجدوا إلا سبيلا واحدة ، هى الاعتراف الذي لا محيص عنه بأنه الله ، فهو الموجد لسائر المخلوقات ، ومن عجب أنهم بعد ذلك يشركون به بعض مخلوقاته التي لا تقدر على شىء من ذلك.

ولما أثبت أنه الخالق بدءا وإعادة ـ نبّه إلى عظمة صفاته التي يلزم من إثباتها صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فقال :

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي قل متعجبا من حالهم : الحمد لله على إظهار الحجة ، واعترافهم بأن النعم كلها منه تعالى ، ولكن أكثر المشركين لا يعقلون ما لهم فيه من النفع فى دينهم وما فيه الضر لهم ، فهم لجهلهم يحسبون أنهم لعبادتهم الآلهة دون الله ينالون بها الزلفى والقرب عنده.

والخلاصة ـ إن أقوالهم تخالف أفعالهم ، فهم يقرون بوحدانية الله وعظيم قدرته وجلاله ، ثم هم يعبدون معه سواه مما هم معترفون بأنه خلقه.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ

١٨

لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦))

تفسير المفردات

اللهو : الاستمتاع باللذات ، واللعب : هو العبث وما لا فائدة فيه ، الحيوان : أي الحياة التامة التي لا فناء بعدها.

المعنى الجملي

لما ذكر فيما سلف أنهم يعترفون بأن الله هو الخالق وأنه هو الرزاق ، وهم بعد ذلك يتركون عبادته ، ويعبدون من دونه الشركاء اغترارا بزخرف الدنيا وزينتها ـ أردف ذلك أن هذه الدنيا باطل وعبث زائل ، وإنما الحياة الحقة هى الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها ؛ فلو أوتوا شيئا من العلم ما آثروا تلك على هذه.

ثم أرشد إلى أنهم مع إشراكهم بربهم سواه فى الدعاء والعبادة ، إذا هم ابتلوا بالشدائد ، كما إذا ركبوا البحر وعلتهم الأمواج من كل جانب ، وخافوا الغرق نادوا الله ، معترفين بوحدانيته ، وأنه لا منجّى سواه ، وليتهم استمروا على ذلك ، ولكن سرعان ما يرجعون القهقرى ، ويعودون سيرتهم الأولى ، كما هو دأب من يعمل للخوف لا للعقيدة.

الإيضاح

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي وما هذه الحياة الدنيا التي يتمتع بها هؤلاء المشركون إلا شىء يتعلّل به ، ثم هو منقض عما قريب ، لا بقاء له ولا دوام ، ومن ثم قيل : الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها ، وأنشدوا :

تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت

وتحدث من بعد الأمور أمور

وتجرى الليالى باجتماع وفرقة

وتطلع فيها أنجم وتغور

١٩

فمن ظن أن الدهر باق سروره

فذاك محال لا يدوم

سرور عفا الله عمن صيّر الهمّ واحدا

وأيقن أن الدائرات تدور

(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي وإن الدار الآخرة لهى دار الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع.

(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون أن ذلك كذلك لما آثروا عليها الحياة الدنيا السريعة الزوال ، الوشيكة الاضمحلال.

ثم أخبر بأن تلك حال المشركين فى الرخاء ، فإذا ابتلوا بالشدائد دعوا الله وحده ليخلصهم منها كما قال :

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي فإذا ركب هؤلاء المشركون فى السفينة وخافوا الغرق ، دعوا الله وحده ، وأفردوا له الطاعة ، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم ، ليخلصوهم من تلك الشدة ، فهلا يكون هذا منهم دائما؟

ثم بين سرعة رجوعهم وعودتهم إلى ما كانوا عليه وشيكا فقال :

(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي فلما خلّصهم مما كانوا فيه من الضيق ، ونجاهم من الهلاك ، ووصلوا إلى البر ، رجعوا القهقرى ، وعادوا سيرتهم الأولى ، وجعلوا مع الله الشركاء ، ودعوا الآلهة والأنداد.

ونحو الآية قوله «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً».

روى محمد بن إسحاق فى السيرة عن عكرمة بن أبى جهل قال : «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهبت فارّا منها ، فلما ركبت البحر إلى الحبشة اضطربت بنا السفينة ، فقال أهلها : يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء ، فإنه لا منجّى هاهنا إلا هو ، فقال عكرمة : لئن كان لا ينجى فى البحر غيره فإنه لا ينجى فى البر أيضا غيره ، اللهم لك علىّ عهد ، لئن خرجت لأذهبنّ فلأضعن يدى فى يد محمد فلأجدنّه رءوفا رحيما فكان كذلك».

٢٠