تفسير المراغي - ج ١٥

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء الخامس عشر

سورة الاسراء ـ سورة بنى إسرائيل

هى مكية كما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس ، وقال مقاتل إلا ثمانى آيات من قوله : وإن كادوا ليفتنونك إلى آخر هنّ.

وآيها عشر ومائة. أخرج أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم «عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزّمر» وأخرج البخاري وابن مردويه «عن ابن مسعود أنه قال فى هذه السورة والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادى».

ووجه مناسبتها لسورة النحل وذكرها بعدها أمور :

(١) إنه سبحانه ذكر فى سورة النحل اختلاف اليهود فى السبت ، وهنا ذكر شريعة أهل السبت التي شرعها لهم فى التوراة ، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : «إن التوراة كلها فى خمس عشرة آية من سورة بنى إسرائيل».

(٢) إنه لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم بالصبر ونهاه عن الحزن وضيق الصدر من مكرهم فى السورة السالفة ـ ذكر هنا شرفه وعلو منزلته عند ربه.

(٣) إنه ذكر فى السورة السالفة نعما كثيرة حتى سميت لأجلها سورة النعم ، ذكر هنا أيضا نعما خاصة وعامة.

٣

(٤) ذكر هناك أن النحل يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ـ وهنا ذكر : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.

(٥) إنه فى تلك أمر بإيتاء ذى القربى ، وكذلك هنا مع زيادة إيتاء المسكين وابن السبيل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١))

تفسير المفردات

سبحان الله : أي تنزيها له من كل ما لا يليق بجلاله وكماله ، والإسراء كالسرى :

السير بالليل خاصة ، والمسجد الحرام : مسجد مكة ، والمسجد الأقصى : بيت المقدس وهو أقصى وأبعد بالنظر إلى من بالحجاز.

الإيضاح

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أي تنزيها للذى أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلّم ، فى جزء من الليل من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ورجع فى ليلته ، وتبرئة له مما يقوله المشركون من أن له من خلقه شريكا وأن له صاحبة وولدا.

(الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أي الذي جعلنا حوله البركة لسكانه فى معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم.

٤

(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) أي كى نرى عبدنا محمدا من عبرنا وأدلتنا ، ما فيه البرهان الساطع والدليل القاطع ، على وحدانيتنا وعظم قدرتنا.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي إن الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة فى سرى محمد صلى الله عليه وسلّم من مكة إلى بيت المقدس ، البصير بما يفعلون ، لا تخفى عليه خافية من أمرهم ، ولا يعزب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء ، فهو محيط به علما ، ومحصيه عددا ، وهو لهم بالمرصاد ، وسيجزيهم بما هم له أهل.

تحقيق ما قيل فى الإسراء والمعراج

اعلم أن هاهنا أمرين :

(١) إسراء النبي صلى الله عليه وسلّم من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ، وهذا هو الذي ذكر فى هذه السورة.

(٢) العروج به والصعود إلى السماء الدنيا ثم إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام بعد وصوله إلى بيت المقدس ، ولم يذكر ذلك هنا ، وسيأتى بيانه فى سورة النجم ونفصل فيه القول تفصيلا إن شاء الله.

آراء العلماء فى الاسراء

وهاهنا أمور ـ مكان الإسراء ـ زمانه ـ هل كان الإسراء بالروح والجسد أو بالروح فحسب؟ :

(١) يرى جمع من العلماء أن الإسراء كان من المسجد الحرام ـ وقيل أسرى به من دار أم هانىء بنت أبى طالب.

(٢) أما زمانه فقد كان ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة ، وعن أنس والحسن البصري أنه كان قبل مبعثه صلى الله عليه وسلّم.

٥

(٣) أكثر العلماء على أن الإسراء كان بالروح والبدن يقظة لا مناما ، ولهم على ذلك أدلة :

(ا) إن التسبيح والتعجب فى قوله : سبحان الذي أسرى بعبده ـ إنما يكون فى الأمور العظام ـ ولو كان ذلك مناما لم يكن فيه كبير شأن ولم يكن مستعظما.

(ب) إنه لو كان مناما ما كانت قريش تبادر إلى تكذيبه ، ولما ارتد جماعة ممن كانوا قد أسلموا ، ولما قالت أم هانىء لا تحدّث الناس فيكذبوك ، ولما فضّل أبو بكر بالتصديق ، وجاء فى الحديث عن أبى هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لقد رأيتنى فى الحجر وقريش تسألنى عن مسراى ، فسألتنى عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها (لم أعرفها حق المعرفة) فكربت كربا ما كربت مثله قط ، فرفعه الله لى أنظر إليه ، فما سألونى عن شىء إلا أنبأتهم به» الحديث.

(ج) إن قوله (بعبده) يدل على مجموع الروح والجسد.

(د) إن ابن عباس قال فى قوله «وما جعلنا الرّؤيا الّتى أريناك إلّا فتنة للنّاس» هى رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة أسرى به ، ويؤيده أن العرب قد تستعمل الرؤيا فى المشاهدة الحسية ألا ترى إلى قول الراعي يصف صائدا :

وكبّر للرؤيا وهشّ فواده

وبشّر قلبا كان جمّا بلابله

(ه) إن الحركة بهذه السرعة ممكنة فى نفسها ، فقد جاء فى القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة فى الأوقات القليلة ، فقد قال تعالى فى صفة سير سليمان عليه السلام. «غدوّها شهر ورواحها شهر» وجاء فيه أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام فى مقدار لمح البصر كما قال تعالى : «قال الّذى عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك» وإذا جاز هذا لدى طائفة من الناس جاز لدى جميعهم.

٦

ويرى آخرون أن الإسراء كان بالروح فحسب ، ولهم على ذلك حجج :

(ا) إن معاوية بن أبى سفيان كان إذا سئل عن سرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : كان رؤيا من الله صادقة ـ وقد ضعّف هذا بأن معاوية يومئذ كان من المشركين فلا يقبل خبره في مثل هذا.

(ب) إن بعض آل أبى بكر قال : كانت عائشة تقول ما فقد جسد ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ولكن أسرى بروحه ، ونقدوا هذا بأن عائشة يومئذ كانت صغيرة ولم تكن زوجا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.

(ج) إن الحسن قال فى قوله (وما جعلنا الرؤيا) الآية إنها رؤيا منام رآها (والرؤيا تختص بالنوم).

قال أبو جعفر الطبري : الصواب من القول فى ذلك عندنا أن يقال : إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلّم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده ، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الله حمله على البراق حتى أتاه به وصلى هناك بمن صلى من الأنبياء والرسل فأراه ما أراه من الآيات ، ولا معنى لقول من قال أسرى بروحه دون جسده ، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن فى ذلك ما يوجب أن يكون دليلا على نبوته ، ولا حجة له على رسالته ، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه ، إذ لم يكن منكرا عندهم ولا عند أحد من ذوى الفطرة الصحيحة من بنى آدم أن يرى الرائي منهم فى المنام ما على مسيرة سنة ، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل ـ وبعد فإن الله إنما أخبر فى كتابه أنه أسرى بعبده ، ولم يخبرنا بأنه أسرى بروح عبده ، وليس جائزا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره ـ إلى أن الأدلة الواضحة ، والأخبار المتتابعة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الله أسرى به على دابة يقال لها البراق ، ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق ، إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجساد اه.

٧

والخلاصة ـ إن الذي عليه المعوّل عند جمهرة المسلمين أنه أسرى به عليه السلام يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق ، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ، ودخله يصلى فى قبلته تحية المسجد ركعتين ، ثم ركب البراق وعاد إلى مكة بغلس.

المامة فى المعراج

يرى بعض العلماء أن عروج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى السموات السبع كان بجسده وروحه يقظة لا مناما لدليلين :

(ا) آية الإسراء إذ صرح فيها بأنه أسرى بعبده ، والعبد مجموع الروح والجسد ، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا بهما.

(ب) الحديث المروي فى الكتب الصحاح كالبخارى ومسلم وغيرهما ، وهو يدل على أن الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم منه إلى السموات العلى ثم إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام.

وأنكره آخرون وأثبتوا أن المعراج كان بالروح فحسب لوجوه :

(١) إن الحركة البالغة فى السرعة إلى هذا الحد غير معقوله.

(٢) إنه لو صح ذلك لكان أعظم المعجزات وكان يجب أن يظهر حين اجتماع الناس حتى يستدلّ به على صدقه فى ادعاء النبوة ، فأما أن يحصل ذلك فى وقت لا يراه فيه أحد ، ولا يشاهده فيه مشاهد ، فإن ذلك عبث لا يليق بحكمة الحكيم.

(٣) إن الصعود بالجسم إلى العالم العلوي فوق طبقات معينة مستحيل ، لأن الهواء معدوم ، فلا يمكن أن يعيش فيه الجسم الحي أو يتنفس فيه.

(٤) إن حديث المعراج اشتمل على أشياء فى غاية البعد :

(ا) شق بطنه وتطهيره بماء زمزم ، والذي يغسل بالماء هو النجاسات العينية ، ولا تأثير لذلك فى تطهير القلب من العقائد الزائفة ، والأخلاق المذمومة.

٨

(ب) ركوب البراق ولا حاجة له بذلك لأن العالم العلوي فى غنى عن ذلك.

(ج) إنه تعالى أوجب خمسين صلاة ، ولم يزل محمد صلى الله عليه وسلّم يتردد بين الله وموسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه السلام ـ وهذا غير جائز كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني لأنه يقتضى نسخ الحكم قبل العمل به ، وهذا بداء محال على الله.

(د) لم يقل أحد من المسلمين بأن الأنبياء أحياء بأجسادهم فى العالم العلوي ، وإنما الحياة هناك حياة روحية لا جسمانية ، والتخاطب والكلام معهم والصلاة بهم من الأمور الروحية لا الجسمية ، إذ لا يعقل غير هذا ـ وبهذا يثبت المعراج الرّوحى لا الجسماني.

ويمكن أن يجيب الأولون عن الاستبعادات العقلية بأن هذه معجزة ، والله تعالى قادر على خرق سننه بسنة أخرى ، ككل معجزات الأنبياء ، من انقلاب العصا حية ثم عودتها فى مدة قصيرة عصا صغيرة كما كانت.

ويبقى أمر الحديث ، واشتماله على أمور غريبة ، لا حاجة إليها فى تصديق النبوة ، والمحاورة فى فرض الصلوات وانتقالها من خمسين إلى خمس مما يستدعى رد الحديث وعدم النظر إليه لاضطراب متنه كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني وإن صححه رواة الحديث باعتبار سنده.

عظة وذكرى

إنا لنقف قليلا لدى هذين الحادثين الجليلين لنستخلص منهما أمورا هى الغاية فى العظة والاعتبار :

(١) إن هاتين الرحلتين الرحلة الأرضية (الإسراء) والرجلة السماوية (المعراج) حدثتا فى ليلة واحدة قبل الهجرة بسنة ، ليمحّص الله المؤمنين ، ويبين منهم صادق الإيمان ومن في قلبه منهم مرض ، فيكون الأول خليقا بصحبة رسوله الأعظم إلى دار

٩

الهجرة والانضواء تحت لوائه ، وجديرا بما يحتمله من أعباء عظام ، وتكاليف شاقة ، من حروب دينية ، وقيام بدعوة عظيمة تستتبع همة قعساء ، وإنشاء دولة تبتلع المعمور فى ذلك الحين شرقا وغربا.

(٢) إن الله أطلع رسوله على ما فى هذا الكون أرضيّه وسماويّه من العظمة والجلال ، ليكون ذلك درسا عمليا لتعليم رسوله بالمشاهدة والنظر ، فإن التعليم بالمشاهدة أجدى أنواع التعليم ، فهو وإن لم يذهب إلى مدرسة ، أو يجلس إلى معلم ، أو يسح فى أرجاء المعمورة ، أو يصعد بالآلات العلمية إلى السماء ـ فقد كفل له ربه ذلك بما أراه من آياته الكبرى وما أطلعه عليه من مشاهدة تلك العوالم التي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهما إلا بضرب من التخيل والتوهم ، فأنّى لنا أن نصل إلى ذلك وقد حبس عنا الكثير من العلم ولم نؤت إلا قليله «وما أوتيتم من العلم إلّا قليلا».

(٣) إن ما يجدّ كل يوم من ضروب المخترعات ، والتوسل بها إلى طى المسافات ، بوسائل الطيارات ، وقطع المحيطات فى قليل الساعات ، من قارة إلى قارة ، ومن قطر إلى قطر ، ليجعلنا نعتقد أن ما جاء فى وصف هاتين الرحلتين من الأمور الميسورة التي ليست بالعزيزة الحصول أو الأمور المستحيلة.

(٤) إن روحانية الأنبياء تتغلب على كثافة أجسامهم ، فما يخيّل إلينا من العوائق العملية ، من صعوبة الوصول إلى الملأ الأعلى ، لتخلخل الهواء ، واستحالة الوصول إلى الطبقات العليا من السماء ، فهو إنما يكون بالنظر إلى الأجرام والأجساد المشاهدة فى عالم الحس ، وإن لروحانية الأنبياء والملائكة أحكاما لم يصل العقل البشرى إلى تحديدها وإبداء الرأى فيها ، وإنها لفوق مستوى إدراكه ، فأجدر بنا ألا نطيل البحث فيها ولا التعمق فى استقصاء آثارها.

(٥) إن ما جاء فى الحديث من أن الرسول صلى الله عليه وسلّم صلى إماما بالأنبياء فى عالم السموات ليرشد إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلّم جاء بشريعة ختمت الشرائع

١٠

السالفة كلها ، وأئمتها ومن أوتوها ألقوا الزعامة إليه ، وصاروا مؤتمين به.

(٦) إن فى هذا مغزى جديرا بطويل التأمل والتفكير ، وهو أن جميع الأنبياء كانوا فى وفاق ووثام فى الملكوت الأعلى بالقرب من ربهم الذي أرسلهم ـ أفلا يجدر بمتبعيهم أن يقتفوا سنة رسلهم ، وأن يجعلوا أمرهم بينهم سلما لا حربا ، وأن يجعلوا الشريعة الأخيرة ، والقانون الذي جاءت ، به هو الشريعة التي يقضى بها بين الناس ، كما هو المتبع فى القوانين الوضعية ، فإن الذي يجب العمل به هو القانون الأخير ، وهو يلغى جميع ما سبقه.

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))

١١

تفسير المفردات

الكتاب : هو التوراة ، وكيلا : أي كفيلا تكلون إليه أموركم ، شكورا أي كثير الشكر ، وقضينا : أي أعلمنا بالوحى ، لتعلن : أي لتستكبرنّ عن طاعة الله ، والوعد أي الموعد به وهو العقاب ، والبؤس والبأس والبأساء : الشدة والمكروه كما قال الراغب إلا أن البؤس كثر استعماله فى الفقر والحرب ، والبأس والبأساء فى النكاية بالعدو ، جاسوا خلال الديار : توسطوها وترددوا بينها ، والكرة : الدّولة والغلبة ؛ وأصل الكر العطف والرجوع ، والنفير والنافر : من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته ، والتتبير : الهلاك وهى كلمة نبطية كما روى عن سعيد بن جبير وكل شىء كسرته وفتته فقد تبرته ، ما علوا : أي ما غلبوا واستولوا عليه من بلادكم ، والحصير : السجن كما قال ابن عباس.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآية الأولى أنه أكرم عبده ورسوله بالإسراء من مكة إلى بيت المقدس ـ أردف ذلك ذكر ما أكرم به موسى قبله من إعطائه التوراة وجعلها هدى لبنى إسرائيل ، ليخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والهدى ، ثم قفّى على ذلك ببيان أنهم ما عملوا بهديها ، بل أفسدوا فى الأرض فسلط الله عليهم البابليين أثخنوا فيهم وقصدوهم بالقتل والنهب والسلب.

ولما تابوا أزال عنهم هذه المحنة ، وأعاد لهم الدّولة ، وأمدهم بالأموال والبنين ، وجعلهم أكثر عددا مما كانوا ، ثم عادوا إلى عصيانهم وقتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام ، فسلط الله عليهم من أدال دولتهم مرة أخرى ، فأعمل فيهم السيف ، وسلب ونهب ، وجاس خلال ديارهم ، فدخل بيت المقدس كرة أخرى بالقهر والغلبة والإذلال ، وأهلك ما أهلك مما قد جمعوه وكنزوه ، ثم أوعدهم على عصيانهم بالعقاب فى الآخرة بنار جهنم ، وبئس السجن هى لمن عصى الله وخالف أوامر دينه.

١٢

الإيضاح

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أي وأعطينا موسى التوراة وجعلنا فيها هداية لبنى إسرائيل ، وقلنا لهم : لا تتخذوا من دونى وليا ولا نصيرا تكلون إليه أموركم ، وهذه مقالة أوحى الله بها إلى كل نبى أرسله ، أمرهم جميعا أن يعبدوه وحده لا شريك له ، وألا يعوّلوا فى أمر إلا عليه.

وقد جاءت هذه الآية عقب ذكر آية الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلّم من قبل أن موسى أوتى التوراة بمسيره إلى الطور ، كما أسرى بمحمد إلى بيت المقدس.

ثم نبّه إلى عظيم شرف بنى إسرائيل ، وإتمام نعمته عليهم ، ليكون فى ذلك تهييج لهم ، وبيان لعظيم المنة عليهم فقال :

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) أي يا سلالة ذلك النبي الكريم الذي شمله الله بجميل رعايته ، وأنجاه من غرق الطوفان ، بما ألهمه من عمل السفينة التي حمل فيها من كل زوجين اثنين ، أنتم من حفدة أبنائه ، فتشبهوا بأبيكم ، واقتدوا به ، فإنه كان عبدا شكورا أي مبالغا فى الشكر ، بصرفه كل ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله ، فاللسان لذكر الله ، والعقل للفكر فيما خلق الله ، والبصر للتأمل فيما صنع الله ، وهكذا بقية الحواس وأعضاء الجسم.

أخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : «إن نوحا كان إذا أمسى وأصبح قال سبحان (اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ).

وأخرج ابن جرير والبيهقي والحاكم عن سلمان الفارسي قال : «كان نوح إذا لبس ثوبا أو أطعم طعاما حمد الله تعالى فسمّى عبدا شكورا».

وفى هذا إيماء إلى أن إنجاء من كان معه كان ببركة شكره ، وفيه حث للذرية على الاقتداء به ، وزجر لهم عن الشرك الذي هو أفظع مراتب الكفر.

١٣

ثم بين سبحانه أنه أنعم على بنى إسرائيل بالتوراة ، وجعلها هدى لهم لكنهم لم يهتدوا بها فقال :

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) أي وأوحينا إلى بنى إسرائيل فيما أنزلناه فى التوراة على موسى فأعلمهم به : لتعصنّ الله ولتخالفنّ أمره مرتين : أولا هما تغيير التوراة وقتل شعيا عليه السلام وحبس إرميا حين أنذرهم سخط الله. والثانية قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام ولتستكبرنّ عن طاعة الله ، ولتبغنّ على الناس ، ولتظلمنهم ظلما شديدا ، تفرطون فيه ، وتبلغون أقصى الغاية.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود أرسلنا عليكم لمؤاخذتكم بجنايتكم عبادا لنا أولى بطش شديد فى الحروب ، هم سنحاريب ملك بابل وجنوده ، أوغلوا فى البلاد ، وترددوا بين الدور والمساكن ، للقتل والسلب والنهب ، وقتلوا علماءكم وكبراءكم ، وأحرقوا التوراة وخرّبوا بيت المقدس ، وسبوا منكم عددا كثيرا ، وكان ذلك وعدا نافذا لا مردّ له.

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي ثم رجعت لكم الدّولة والغلبة على الذين فعلوا بكم ما فعلوا ، حين تبتم ورجعتم عما كنتم عليه من الإفساد والعلوّ ، فغزوتم البابليين واستنقذتم الأسرى والأموال ، ورجع الملك إليكم ، وكثرت أموالكم بعد أن نهبت ، وأولادكم بعد أن سبيت ، وصرتم أكثر عددا ، وأعظم قوة مما كنتم من قبل ، وذلك بفضل طاعته تعالى والإخبات إليه ومن ثم قال :

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي إن أحسنتم فأطعتم الله ولزمتم أمره وتركتم نهيه ـ أحسنتم لأنفسكم ، لأنكم تنفعونها بذلك فى دنياها وآخرتها ؛ أما فى الدنيا فإن الله يدفع عنكم أذى من أرادكم بسوء ، ويرد كيده فى نحره ، وينمّى

١٤

لكم أموالكم ، ويزيدكم قوة إلى قوتكم ، وأما فى الآخرة فإن الله يثيبكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ، ويرضى عنكم (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ).

وإن عصيتم ربكم وفعلتم ما نهاكم عنه فإلى أنفسكم تسيئون ، لأنكم تسخطونه ، فيسلط عليكم فى الدنيا أعداءكم ، ويمكّن منكم من يبغى بكم السوء ، ويلحق بكم فى الآخرة العذاب المهين.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) أي فإذا جاء وقت حلول العقاب على المرة الآخرة من مرّتى إفسادكم فى الأرض ، بعثنا أعداءكم ، ليجعلوا آثار المساءة والكآبة بادية فى وجوهكم (فإن الأعراض النفسية تظهر فى الوجوه فالفرح يظهر فيها النضارة والإشراق ، والحزن والخوف يظهر فيها الغبرة والقترة) وليدخلوا المسجد قاهرين فاتحين مذلّين لكم كما دخلوه أول مرة ، وليهلكوا ما ادخر تموه وخزنتموه تتبيرا شديدا ، فلا يبقون منه شيئا.

قال البيضاوي : سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف ويسمى بيردوس أو خردوس اه.

والذي أثبته اليهود فى تواريخهم أن الذي أغار عليهم أولا وخرّب بيت المقدس هو بختنصّر وكان ذلك فى زمن إرميا عليه السلام ، وقد أنذرهم مجيئه صريحا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام ، فحبسوه فى بئر وجرحوه ـ وأن الذي أغار عليهم ثانيا هو أسبيانوس قيصر الروم ، وكان بين الإغارتين نحو من خمسمائة سنة.

وعلى الجملة فمعرفة من بعث إليهم بأعيانهم وتواريخ البعوث مما لا يتعلق به غرض كبير ، لأن المراد أنه كلما كثرت معاصيهم سلط الله عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى.

وظاهر الآية يدل على اتحاد المبعوثين أولا وثانيا.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد البعث الثاني إن تبتم وازدجرتم عن المعاصي ، وقد حقق الله لهم وعده ، فكثر عددهم وأعزهم بعد الذلة وجعل منهم الملوك والأنبياء.

١٥

(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) أي وإن عدتم لمعصيتى وخلاف أمرى وقتل رسلى ـ عدنا عليكم بالقتل والسّباء وإحلال الذل والصغار بكم ، وقد عادوا فعاد الله عليهم بعقابه ، فقد كذّبوا النبي صلى الله عليه وسلّم وهمّوا بقتله فسلطه الله عليهم ، فقتل قريظة وأجلى بنى النضير وضرب الجزية على الباقين ، فهم يعطونها عن يد وهم صاغرون ، ولا ملك لهم ولا سلطان.

(وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) قال الحسن : الحصير هو الذي يبسط ويفرش والعرب تسمى البساط الصغير حصيرا ، أي إنه تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا كما قال : «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» وقال ابن عباس وغيره :

جعلناها سجنا محيطا بهم حابسا لهم ، لا رجاء لهم فى الخلاص منه.

وخلاصة ذلك ـ إن لهم فى الدنيا ما تقدم وصفه من العذاب ، وفى الآخرة ما يكون محيطا بهم من عذاب جهنم فلا يتخلصون منه أبدا.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما أكرم به من اصطفاه من النبيين والمرسلين ، فأكرم محمدا صلى الله عليه وسلّم بالإسراء ، وأكرم موسى بالتوراة ، وجعلها هدى لبنى إسرائيل ، ثم بين أنهم لم يعملوا بها فحلّ بهم عذاب الدنيا والآخرة ـ قفّى على ذلك بالثناء على القرآن الكريم وبيان أنه يهدى للصراط المستقيم ، ويبشر الصالحين بالأجر والثواب

١٦

العظيم ، وينذر الكافرين بالعذاب الأليم ، ثم أردف ذلك بذكر طبيعة الإنسان وأنه حلق عجولا ، قد يدعو على نفسه بالشر أي بالموت والهلاك ، والدمار واللعنة كما يدعو لنفسه بالخير.

الإيضاح

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً. وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) مدح الله سبحانه كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلّم ووصفه بصفات ثلاث :

(١) إنه يرشد من اهتدى به للسبيل التي هى أقوم السبل ، وهى ذلك الدين القيم والملة الحنيفية السمحاء ، التي أهم دعائمها الإخبات لله والإنابة إليه واعتقاد أنه واحد لا شريك له ، وأنه صاحب الملك والملكوت ، وهو الحي الذي لا يموت ، وهو الفرد الصمد ؛ الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.

(٢) إنه يبشر المؤمنين بالله ورسوله الذين يعملون صالح الأعمال فيأتمرون بما أمر به ، وينتهون عما نهاهم عنه ، بالأجر العظيم يوم القيامة كفاء ما قدّموا لأنفسهم من عمل صالح.

(٣) إنه ينذر الذين لا يصدّقون بالمعاد ، ولا يقرون بالثواب والعقاب فى الدنيا ، فلا يتحاشون ركوب المعاصي ـ بالعذاب الأليم الموجع جزاء ما دنّسوا به أنفسهم من.

الكفر واجتراح الآثام ، ويدخل فى هؤلاء أهل الكتاب ، لأن بعضهم ينكر الثواب والعقاب الجسمانيين ، وبعضهم يقول : لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ، وإطلاق البشارة على العقاب من قبيل التهكم كما فى قوله : «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ».

وبعد أن بين حال الهادي وهو الكتاب الكريم بين حال المهدىّ وهو لإنسان فقال :

١٧

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي ويدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشر حين الغضب فيقول : اللهم العنّى اللهم أهلكنى ، كدعائه ربه بالخير أي بأن يهب له العافية ويرزقه السلامة ، ولو استجيب له فى دعائه بذاك كما يستجاب له فى هذا لهلك ، ولكن الله بفضله ومنته لا يستجيب دعاءه كما قال «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ» وفى الحديث «لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها».

وروى أن النبي صلى الله عليه وسلّم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئنّ بالليل ، فقالت له مالك تئن فشكا ألم القدّ (سير من جلد غير مدبوغ تربط به يدا الأسير ورقبته) فأرخت له من كتافه ، فلما نامت أخرج يده وهرب ، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلّم دعا به فأعلم بشأنه ، فقال عليه الصلاة والسلام «اللهم اقطع يدها» فرفعت سودة يدها يتوقع أن يقطع الله يدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «إنى سألت الله أن يجعل دعائى على من لا يستحق عذابا من أهلى رحمة ، لأنى بشر أغضب كما تغضبون ، فلتردّ سودة يدها».

وقد يكون المعنى فى الآية ـ إن الإنسان قد يبالغ فى الدعاء طلبا لشىء يعتقد أن فيه خيره ، مع أن ذلك قد يكون سبب بلائه وشره لجهله بحاله ، وإنما يقدم على ذلك العمل لكونه عجولا مغترّا بظواهر الأمور ، غير متفحص لحقائقها وأسرارها ، ومن ثم قال :

(وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يسارع إلى طلب كل ما يخطر بباله متعاميا عن ضرره.

وفى الآية إيماء إلى أن القرآن يدعو للتى هى أقوم ، ويأبون إلا التي هى ألوم.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))

١٨

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الهداية والإرشاد بالقرآن الكريم ـ قفّى على ذلك بالاستدلال بالآيات والدلائل التي فى الآفاق ، وهى برهان نير لا ريب فيه ، وطريق بيّن لا يضلّ من ينتحيه.

الإيضاح

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي وجعلنا الليل والنهار دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا ، أما فى الدين فلأن كلا منهما مضادّ للآخر ومخالف له ، مع تعاقبهما على الدوام ، وهذا من أقوى الأدلة على أنه لا بد لهما من فاعل مدبر يقدّرهما بمقادير مخصوصة ، وأما فى الدنيا فلأن مصالحه لا تتم إلا بهما ، فلولا الليل لما حصل السكون والراحة ، ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرف فى وجوه المعاش.

(فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي فمحونا آية هى الليل أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلمة لا يستبين فيه شىء ، كما لا يستبين ما فى اللوح الممحوّ ، روى ذلك عن مجاهد.

(وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي وجعلنا الآية التي هى النهار مضيئة ومبصرة أي يبصر أهلها فيها.

(لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي فعلنا ذلك ، لتطلبوا لأنفسكم فيه رزقا من ربكم ، إذ لا يتسنى ذلك فى الليل ، وفى التعبير عن الرزق بالفضل ، وعن الكسب بالابتغاء ، مع ذكر صفة الربوبية الدالة على الوصول إلى ذلك شيئا فشيئا ـ دلالة على أنه ليس للمرء فى تحصيل الرزق سوى الطلب بالأسباب العادية ، وفى الخبر «يطلبك رزقك ، كما يطلبك أجلك» وقيل :

ولقد علمت وما الإشراف من خلقى

أن الذي هو رزقى سوف يأتينى

أسعى إليه فيعيينى تطلّبه

ولو قعدت أتانى لا يعنّينى

١٩

(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي ولتعلموا بمحو آية الليل ، وجعل آية النهار مبصرة ، عدد السنين التي تتوقف عليها مصالحكم الدينية والدنيوية ، ولتعلموا الحساب أي حساب الأشهر والليالى والأيام وغير ذلك مما نيط به شىء من تلك المصالح ، إذ لو كان الزمان كله نسقا واحدا لما عرف شىء من هذا كما قال تعالى «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» وقال : «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ».

ولا شك أن فى ذكر منافعهما ، وبيان ما فيهما من الدلالة على وجود الخالق تفصيلا لتلك الفوائد ، لا جرم قال :

(وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي وكل شىء لكم إليه حاجة فى مصالح دينكم ودنياكم قد فصلناه تفصيلا بينا ، ونحو الآية قوله «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» وقوله «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ».

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها

٢٠