تفسير المراغي - ج ١٨

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء الثامن عشر

سورة المؤمنون

هى مكية وقد نزلت بعد سورة الأنبياء ، وآيها ثمانى عشرة ومائة.

روى أن بعض الصحابة قالوا لعائشة : كيف كان خلق رسول الله؟ قالت.

كان خلقه القرآن ، ثم قرأت : «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ـ حتى انتهت إلى ـ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها من وجوه :

(١) إنه تعالى ختم السورة السابقة بخطاب المؤمنين وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات لعلهم يفلحون ـ وحقق فلاحهم فى بدء هذه السورة.

(٢) إنه تكلم فى كل من السورتين فى النشأة الأولى وجعل ذلك دليلا على البعث والنشور.

(٣) إن فى كل من السورتين قصصا للأنبياء الماضين وأممهم ذكرت عبرة للحاضرين والآتين.

(٤) إنه نصب فى كل منهما أدلة على وجود الخالق ووحدانية.

٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

تفسير المفردات

الفلاح : الظفر بالمراد ، وأفلح : دخل فى الفلاح ؛ كأبشر دخل فى البشارة ، والمؤمن : هو المصدّق بما جاء عن ربه على لسان نبيه من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، والخاشع : هو الخاضع المتذلل مع خوف وسكون للجوارح ، واللغو : هجر القول وقبيحه ، والزكاة : تزكية النفس وطهارتها بفعل العبادة المالية. والفرج : سوءة الرجل والمرأة ، وحفظه : التعفف عن الحرام ، وابتغى : طلب ، وراء ذلك : أي غير ذلك ، والعادون : أي المتناهون فى العدوان ومجاوزة الحدود الشرعية ، والأمانات : واحدها أمانة ، وهى ما ائتمن المرء عليه من قبل الله كالتكاليف الشرعية أو من قبل الناس كالأموال المودعة لديه والنذور والعقود ونحوها ، والعهد : ما عقده الإنسان على نفسه مما يقربه إلى ربه ، وما أمر به الله كما قال : «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا» والرعي : الحفظ. والراعي : القائم على الشيء لحفظه وإصلاحه ، يحافظون : أي يواظبون عليها ، والفردوس : أعلى الجنة.

٤

الإيضاح

حكم الله سبحانه بالفلاح لمن كان جامعا لخصال سبع من خصال الخير :

(١) الإيمان (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي فاز وسعد المصدّقون بالله ورسله واليوم الآخر.

(٢) الخشوع فى الصلاة (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) أي الذين هم مخبتون لله أذلاء منقادون له خائفون من عذابه ، روى الحاكم أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلى رافعا بصره إلى السماء ، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده

أي موضع سجوده ، والخشوع واجب على المرء فى الصلاة لوجوه :

(١) للتدبر فيما يقرأ كما قال : «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» والتدبر لا يكون بدون الوقوف على المعنى كما قال : «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً» أي لتقف على عجائب أسراره وبديع حكمه وأحكامه.

(ب) لتذكر الله والخوف من وعيده كما قال : «أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي».

(ج) إن المصلى يناجى ربه ، والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة البتة ، ومن ثم قالوا : صلاة بلا خشوع جسد بلا روح ، وجمهور العلماء على أن الخشوع ليس شرطا للخروج من عهدة التكليف وأداء الواجب ، وإنما هو شرط لحصول الثواب عند الله وبلوغ رضوانه.

(٣) الإعراض عن اللغو (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) أي والذين يعرضون عن كل ما لا يعنيهم ، وعن كل كلام ساقط حقّه أن يلغى كالكذب والهزل والسب ، إذ لهؤلاء من الجدّ ما يشغلهم ، فهم فى صلاتهم معرضون عن كل شى إلا عن خالقهم ، وفى خارجها معرضون عن كل ما لا فائدة فيه ، فهم متجهون للجد وصالح العمل ، فهم قد استفادوا من خشوع الصلاة درسا انتفعوا منه بعدها ، وتخلقوا بأخلاق للنبيين والصديقين.

٥

(٤) تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي والذين هم لأجل طهارة أنفسهم وتزكيتها يؤدون المفروض للفقير والمسكين كما قال : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» وقال : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» (٥) حفظ الفرج (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) أي والذين يحفظون فروجهم فى كافة الأحوال إلا فى حال تزوجهم أو تسرّيهم (قربان الأمة بالملك) فإنهم حينئذ يكونون غير ملومين ، والمراد بهذا الوصف مدحهم بنهاية العفة والإعراض عن الشهوات.

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي فمن طلب غير أربع من الحرائر وما شاء من الإماء فأولئك هم المتناهون فى العدوان والمتعدّون لحدود الله.

(٦) رعاية الأمانة والعهد (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي والذين إذا ائتمنوا لم يخونوا ، بل يؤدون الأمانة لأهلها ، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بما عاهدوا عليه ، إذ الخيانة وخلف العهد من صفات المنافقين كما جاء فى الحديث : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذ ائتمن خان» وقصارى ذلك ـ إنهم يؤدون ما ائتمنوا وعوهدوا عليه من الرب أو العبد كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والعقود التي عاقدوا الناس عليها.

(٧) المحافظة على الصلوات (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يواظبون عليها على أكمل وجه فى الأوقات التي رسمها الدين ، روى عن ابن مسعود أنه قال : «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله : أىّ العمل أحب إلى الله؟ قال : الصلاة على وقتها ، قلت ثم أىّ؟ قال : بر الوالدين قلت ثم أىّ؟ قال : الجهاد فى سبيل الله» رواه الشيخان.

وقد افتتح سبحانه هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة ، دلالة على عظيم فضلها ، وكبير مناقبها ، وقد ورد فى الحديث : «اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن».

٦

ولما كان الجزاء فى الآخرة نتيجة للعمل فى الدنيا ، وما فيها من نعيم حصّاد لما زرع فيها ، رتب على ذلك قوله :

(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك المؤمنون الذين تحلّوا بتلك الخلال السامية جديرون بأن يتبوءوا أرفع مراتب الجنات ، كفاء ما زينوا به أنفسهم من الأخلاق الفاضلة ، والآداب العالية ، ويبقون خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها ولا يموتون.

وقصارى ما سلف ـ إن فلاح المؤمن موقوف على اتصافه بتلك الصفات السامية العالية القدر ، العظيمة الأثر فى حياته الروحية ، وكمالاته النفسية.

روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال : «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يسمع عند وجهه دوىّ كدوىّ النحل ، فأنزل عليه يوما ، فمكث ساعة ثم سرّى عنه ، فاستقبل القبلة فقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا ، ثم قال لقد أنزل علىّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ : قد أفلح المؤمنون حتى ختم العشر».

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦))

تفسير المفردات

السلالة : ما سلّ من الشيء واستخرج منه ، وتارة تكون مقصودة كخلاصات الأشياء كالزّبد من اللبن ، وتارة تكون غير مقصودة كقلامة الظفر وكناسة البيت

٧

وقرار : أي مستقر ، مكين : أي متمكن ، والعلقة : الدم الجامد ، والمضغة : قطعة اللحم قدر ما يمضغ ، تبارك الله : أي تعالى وتقدس.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أحوال السعداء المفلحين ـ قفّى على ذلك بذكر مبدئهم ومآل أمرهم وأمر غيرهم من بنى الإنسان ، وفى هذا إعظام للمنة ، وحث على الاتصاف بحميد الصفات ، وتحمل مئونة التكاليف ، ثم ذكر أن كل ذلك منته إلى غاية هى يوم القيامة الذي تبعثون وتحاسبون فيه على أعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

الإيضاح

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) أي ولقد خلقنا أصل هذا النوع وأول أفراده ، وهو آدم عليه السلام من صفوة طين لا كدر فيه.

ويرى جماعة من المفسرين : أن المراد بالإنسان هنا ولد آدم وهم يقولون : إن النطف تتوالد من الدم الحادث من الأغذية وهى إما حيوانية وإما نباتية ، والحيوانية تنتهى إلى نباتية ، والنبات يتوالد من صفو الأرض والماء ، فالإنسان على الحقيقة متوالد من سلالة من طين ، ثم تواردت على تلك السلائل أطوار الخلقة إلى أن صارت نطفا (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي ثم جعلنا نسله نطفا فى أصلاب الآباء ، ثم قذفت إلى الأرحام ، فصارت فى حرز حصين من وقت الحمل إلى حين الولادة.

ونحو الآية قول : «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ».

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي ثم خولنا النطفة من صفتها الثانية إلى صفة العلقة وهى الدم الجامد.

(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي ثم جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم بمقدار ما يمضغ.

٨

(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أي فصيرناها كذلك ، وميزنا بين أجزائها ، فما كان منها من العناصر الداخلة فى تكوين العظام جعلناه عظاما ، وما كان من مواد اللحم جعلناه لحما ، والمواد الغذائية شاملة لذلك ومنبثة فى الدم ، ومن ثم قال :

(فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي فجعلنا اللحم كسوة لها ، من قبل أنه يستر العظام ، فأشبه بالكسوة الساترة للجسم.

(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) مباينا للخلق الأول ، إذ نفخنا فيه الروح وجعلناه حيوانا بعد ما كان أشبه بالجماد ، ناطقا سميعا بصيرا ، وأودعنا فيه من الغرائب ظاهرها وباطنها ما لا يحصى.

وقد قال العلماء : إن جميع أعضاء الإنسان مقسمة تقسيما دقيقا على نسب معينة مقيسة بشبره ، فطوله ثمانية أشبار بشبره ، وإذا مدّ يديه إلى أعلى كان عشرة أشبار بقياسه ، وإذا مد يديه إلى الجانبين كان طولهما كطوله على السواء ، ومن ثمّ جعل المصريون أصل المقاييس الشبر ، وجعلوا كل ضلع من أضلاع الهرم الأكبر بالجيزة ألف شبر بشبر الإنسان.

(فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي فتنزه ربنا جلت قدرته ، وهو أحسن المقدّرين المصورين.

عن أنس قال : قال عمر «وافقت ربى فى أربع ، قلت يا رسول الله لو صلينا خلف المقام فأنزل الله «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» وقلت يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجابا ، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر فأنزل الله «إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لتنتهنّ أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن فنزلت «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ» الآية ونزلت «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ ـ إلى قوله ـ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فقلت : فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : هكذا أنزلت يا عمر أخرجه الطيالسي.

٩

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) أي ثم إنكم بعد النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) من قبوركم للحساب ثم المجازاة بالثواب والعقاب.

إذ يوفّى كل عامل جزاء عمله ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

وخلاصة ما تقدم ـ إنه تعالى بعد أن ذكر أنه كلف عباده بما كلف ـ بين أن هذه التكاليف شكر من الإنسان لربه الذي أنشأه النشأة الأولى وقلّبه فى أطوار مختلفة حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله ، فأصبح قادرا على تكليفه بتلك التكاليف ، ولا بد له من طور يستحق فيه الجزاء على ما كلّف به ، وهو طور البعث بعد الموت يوم القيامة.

ويقول الدكتور أحمد محمد كمال فى مجلة الدكتور ، إن كلمة (تراب) أو (طين) الواردة فى القرآن وردت بمعناها المجازى ، فالإنسان بل جميع الكائنات الحية تتركب كيميائيا من عناصر أولية جمعها الخالق سبحانه وتعالى وركبها فى شكل مادة كيميائية معقدة هى البروتوبلازم أي المادة الحيوية التي تتركب منها الخلايا والأنسجة الحيوانية والنباتية ، وهذه المادة الحيوية تتركب من عناصر الأكسجين والأيدروجين والكربون والأزوت والكبريت والفسفور والكالسيوم والصديوم والكلور والحديد والنحاس واليود إلخ.

فإذا نظرنا إلى التراب وقمنا بتحليل عينات منه وجدنا أنه يحتوى على نفس العناصر لأولية المذكورة.

وليس أدل على أن التعبير مجازى من أن جسم الإنسان أو الحيوان أو النبات عند ما يتحلل بعد الوفاة يتحول إلى رماد أو تراب بنفس العناصر.

ويقول الدكتور سالم محمد فى هذه المجلة إن الخلق فى قوله (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) ويكون إشارة إلى خلق آدم نفسه وقد يكون بمعنى أن النطفة فى كل من الذكر والأنثى ليدة عملية التغذية التي يتغذى بها الإنسان أو الجسم ، وأصل هذه التغذية ومنشؤها من تراب ، والنطفة هى الحيوان المنوي للذكر والبويضة للأنثى ، فإذا تم التلقيح بدأت البويضة فى الانقسام بدأ تطور العلقة وهى مجموعة من الخلايا الحية تنقسم إليها بويضة بعد تلقيحها. وإنما سميت فى هذا الطور علقة للشبه الكبير بينها وبين علق الماء

١٠

وطور العلقة فى حياة الجنين يبلغ أربعة أسابيع ، ثم تتطور العلقة إلى مضغة للشبه الكبير بينها وبين قطعة اللحم الممضوغة ويبلغ طور المضغة بضعة أسابيع ، ثم يبدأ ظهور خلايا العظام ، فاللحم أي العضلات التي تكسو هذه العظام.

وقوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي انه من هذه الخلايا ومن هذه الأطوار المتعددة يخرج الله لنا هذه الصورة الإنسانية الجميلة التي تشهد بقدرة الخالق وعظمته.

وقوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) فالقرار المكين هو الرحم ، ومن يدرس تشريح الرحم وموضعه المكين الأمين فى أسفل بطن المرأة ويرى ذلك الوعاء ذا الجدار المريض السميك ثم ترى هذه الأربطة العريضة والأربطة المستديرة ، وهذه الأجزاء من البريتون التي تشده إلى المثانة والمستقيم ، وكلها تحفظ توازن الرحم وتشد أزره ، وتحميه من الميل أو السقوط ، وتطول معه إذا ارتفع عند تقدم الحمل ، وتقصر إلى طولها الطبيعي تدريجا بعد الولادة. وكذلك من يدرس تكوبن الحوض عظامه يعرف جليا صدق قوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) وكذلك فى الرحم سائل أمينوس داخل جيب المياه يعوم فيه الجنين بحرية ويدفع عن الجنين ما قد تلاقيه الأم من صدمات وهزات عنيفة قد تصل إليه فتؤذيه إن لم يهدىء هذا السائل من قوتها ويضعف من شدتها. ثم هو يحتفظ للجنين بحرارة مناسبة حيث أنه موصل ردىء للحرارة ، وكذلك هو يقوم بعملية تحديد عنق الرحم وتوسيعه وقت الولادة (القرن) كما يقوم بعملية التطهير أمام الجنين بما فيه من خواص مطهرة ، فكل ذلك يزيد الرحم مكنة وأمنا.

وهكذا يبدو أن مصير هذا الكتاب العجيب الخالد لا يفنى ، وأن معين العلم والإلهام فيه لا يضمحل ولا يغيض ، وأن الدنيا ستظل تكشف فيه آفاقا بعد آفاق كلما تقدم العلم فتلقى ما بهذا الكتاب الكريم من إيحاءات وإشراقات (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).

١١

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧))

تفسير المفردات

الطرائق : السموات واحدها طريقة أي مطروق بعضها فوق بعض ؛ من قولهم طارق بين ثوبين : إذا لبس ثوبا فوق ثوب ، قال الخليل والزجاج : وهذا كقوله «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» وقوله : «اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً» والخلق : أي المخلوقات التي منها السموات السبع ، غافلين : أي مهملين أمرها كما قال : «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان فى أطواره المختلفة ، واستدل بذلك على قدرته وتفرده بالتصرف فى الملك والملكوت ـ أردفه بيان ما يحتاج إليه فى بقائه لما فيه من المنافع التي لا غنى له عنها

الإيضاح

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي ولقد خلقنا فوقكم سبع سموات بعضها فوق بعض وهى أيضا طرق الكواكب المعروفة عند البشر قديما ، وهناك طرائق أخرى عرفها الناس حديثا.

(وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي وما كنا عن المخلوقات ـ سواء كانت هذه الطرائق أو غيرها ـ غافلين عن أمرها ، إذ تسير الكواكب فى تلك الطرائق بحساب منتظم ، ولو أهملناها لاختل توازنها وسار كل كوكب فى غير مداره أو زلّ نجم عن سنن سيره ، ففسد النظام العام للعالم العلوي والعالم الأرضى.

١٢

والخلاصة ـ إنا خلقنا السموات لمنافعهم ، ولسنا غافلين عن مصالحهم ، بل نفيض عليهم ما تقتضيه الحكمة ، فخلقها دال على كمال قدرتنا ، وتدبير أمرها دال على كمال علمنا.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠))

تفسير المفردات

السماء : هنا السحاب ، بقدر : أي بتقدير خاص وهو مقدار كفايتهم ، فأسكناه فى الأرض : أي جعلناه ثابتا قارا فيها ، والذهاب : الإزالة إما بإخراجه من المائية أو بتغويره فى الأرض بحيث لا يمكن استخراجه ، والشجرة : هى الزيتون ، وطور سيناء : هو جبل الطور الذي ناجى فيه موسى ربه ، ويسمى طور سينين أيضا ، والصبغ : ما يصبغ فيه الخبز أي يغمس فيه للائتدام ، قال فى المغرب : يقال صبغ الثوب بصبغ حسن ، وصباغ حسن ، ومنه الصّبغ والصباغ من الإدام ، لأن الخبز يغمس فيه ويلوّن به كالخل والزيت.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن من دلائل قدرته خلق الطرائق السبع ـ قفى على ذلك ببيان ما فيها من منافع للإنسان ، فمنها ينزل الماء الذي به تنشأ الجنات من النخيل والأعناب وكثير من أشجار الفاكهة التي تؤكل ، وينبت به شجر الزيتون الذي يؤخذ من ثمره الزيت الذي يتّخذ دهنا للأجسام ، وإداما فى الطعام.

١٣

الإيضاح

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي وأنزلنا من السحاب مطرا بقدر الحاجة ، لا هو بالكثير فيفسد الأرض ، ولا هو بالقليل فلا يكفى الزرع والثمار ، حتى إن الأرضين التي تحتاج إلى ماء كثير لزرعها ولا تحتمل تربتها إنزال المطر عليها يساق إليها الماء من بلاد أخرى كما فى أرض مصر ، ويقال لمثلها (الأرض الجرز) فيساق إليها ماء النيل حاملا معه الطين الأحمر (الغرين) يجترفه من بلاد الحبشة فى زمن الأمطار فيستقر فيها ويكون سمادا لها ونافعا لزرعها.

وبعض هذا الماء يسكن فى الأرض فيتغذى به ما فيها من الحب والنوى ، ومنه تتكون الآبار والعيون التي تمر على معادن مختلفة ، فتتشكل بأشكالها وتتصف بصفاتها فيكون ماؤها حاويا إما للنوشادر وإما للكبريت وإما للأملاح وهكذا.

(وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي وإنا على ذهابه وإزالته لقادرون بحيث يتعذر استخراجه ، كما كنا قادرين على إنزاله ، ولو شئنا ألا يمطر السحاب لفعلنا ، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى جهات أخرى لا تستفيد منه كالأرضين السبخة والصحارى ، ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فى الأرض يغور فيها إلى مدى بعيد لا تصلون إليه ولا تنتفعون به ، ولكن بلطفنا ورحمتنا ننزل عليكم الماء العذب الفرات ، ونسكنه فى الأرض ونسلكه ينابيع فيها ، لتسقوا به الزرع والثمار ، وتشربوا منه أنتم ودوابكم وأنعامكم.

(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أي فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء بساتين فيها نخيل وأعناب.

(لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) أي لكم فى الجنات فواكه كثيرة تتمتعون بها زيادة على ثمرات النخيل والأعناب.

(وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي ومن زروع الجنات وثمارها ترزقون وتحصّلون معايشكم ،

١٤

كما يقال فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن تجارة يتربح بها أي إنها طعمته وجهته التي منها يحصّل رزقه.

(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي وأنشأنا لكم شجرة الزيتون التي تنبت فى هذا الجبل بتلك البقعة المباركة ، وتثمر زيتونا تصنع منه الزيوت التي يدّهن بها ، وتتخذ إداما للآكلين.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكرنا سبحانه بنعمة إنزال الماء من السماء الذي ينبت به جنات النخيل والأعناب والفواكه المختلفة والزيتون ـ أردفها ذكر النعم المختلفة التي سخّرها لنا من خلق الحيوان.

الإيضاح

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي إن فى خلق الأنعام لعبرة فضلا عن كونها نعمة ، ووجه العبرة فيها أن الدم المتوالد من الأغذية يتحول فى الغدد التي فى الضّرع إلى شراب طيب لذيذ الطعم صالح للتغذية ، وهذا من أظهر الدلائل على قدرة الخالق لها.

ثم فصّل منافعها وذكر منها أريعا فقال :

(١) (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) فتنتفعون بألبانها على ضروب شتى ، فتتخذون منها الققشدة والسمن والجبن ونحوها.

(٢) (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) فتأخذون أصوافها وأشعارها وأوبارها ، وتتخذونها ملابس وفرشا للدفء وبيوتا فى الصحارى ونحوها مما يجرى هذا المجرى.

(٣) (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي وتأكلون منها بعد ذبحها ، فكما انتفعتم بها وهى حية تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.

١٥

(٤) (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي وتركبون ظهورها وتحمّلونها الأحمال الثقيلة إلى البلاد النائية كما قال فى آية أخرى : «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» وقال : «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ؟».

وقصارى ذلك ـ إن فى خلق الأنعام عبرا ونعما من وجوه شتى ، ففيه دلائل على قدرة الخالق بخلق الألبان من مصادر هى أبعد ما تكون منها ـ ونعما لنا فى مرافقها وأعيانها ، فننتفع بألبانها وأصوافها ولحومها ونجعلها مطايا لنا فى أسفارنا إلى نحو أولئك من شتى المنافع.

قصة نوح عليه السلام

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠))

١٦

تفسير المفردات

الملأ : أشراف القوم ، يتفضل : أي يدعى الفضل والسيادة ، جنة : أي جنون ، فتربصوا : أي انتظروا ، بأعيننا : أي بحفظنا ورعايتنا ، وفار : نبع ، والتنور : وجه الأرض ، استويت : أي علوت ، لآيات : أي عبرا ، لمبتلين : أي لمختبرين ممتحنين لهم : أي لمعامليهم معاملة من يختبر.

المعنى الجملي

بعد أن عدد سبحانه ما أنعم به على عباده فى نشأتهم الأولى وفى خلق الماء لهم لينتفعوا به ، وفى خلق الحيوان كذلك ـ ذكر هنا أن كثيرا من الأمم قد أهملوا التدبر والاعتبار فى هذا ، فكفروا بهذه النعم ، وجهلوا قدر المنعم بها ، وعبدوا غيره ، وكذبوا رسله الذين أرسلوا إليهم ، فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ، وأهلكهم بعذاب من عنده ، فأصبحوا كأمس الدابر ، والمثل السائر ، وفى هذا تخويف لقريش ، وإنذار لهم على ما يفعلون ، وأنه سيحل بهم ما داموا على تكذيب رسولهم والكفر به مثل ما حل بمن قبلهم.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه منذرا لهم عذاب الله وشديد بأسه وانتقامه على إشراكهم به وتكذيب رسوله ، فقال لهم متعطفا عليهم مستميلا لهم لقبول الحق : يا قوم اعبدوا الله وحده وأطيعوه ، ولا تشركوا معه ربا سواه ، فإنه لا رب لكم غيره ، ولا معبود سواه.

(أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي أفلا تخشون عقابه فتحذروا أن تعبدوا معه سواه؟.

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي فقال أشراف قومه ورؤساؤهم من العريقين فى الكفر ومن ذوى الكلمة المسموعة والرأى المطاع : ما نوح إلا رجل منكم ليس له ميزة عليكم فى فضل ولا خلق فيكون

١٧

أهلا للنبوة وتلقى الوحى من ربه وما هو إلا رجل يريد أن يسودكم ويكون له الصّولة والسلطان عليكم ، وقد ادعى الرسالة ليصل إلى ما تصبو إليه نفسه وليس له من حقيقتها شىء.

وبعد أن بينوا أن لا مقتضى لاختصاصه بالنبوة ذكروا الموانع التي تحول بينه وبينهما فذكروا أمورا ثلاثة :

(١) (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي ولو شاء الله ألا نعبد سواه لأرسل بالدعاء إلى ما يدعوكم إليه نوح ملائكة تؤدى إليكم رسالته.

(٢) (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي ما سمعنا فى القرون الغابرة عهود الآباء والأجداد بمثل هذا الذي يدعو إليه نوح من أنه لا إله إلا إله واحد لا ربّ غيره ولا معبود سواه.

وفى هذا إيماء إلى أنهم قوم لا رأى لهم ، وإنما يعولون على التقليد وقول الآباء والأجداد ، فلما لم يجدوا عن آبائهم شيئا مثل هذا أنكروا نبوّته ، وفيه إشارة أيضا إلى أنهم قد بلغوا الغاية فى العناد والتكذيب والانهماك فى الغى والضلال.

(٣) (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي وما نوح إلا رجل به خبل فى عقله ، فمزاعمه لا تصدر إلا من رجل لا يزن قوله ، ولا يدعم رأيه بحجة ناصعة ، فلا يلتفت إذا إلى ما يدّعى ، ولا ينبغى أن نضيع الوقت فى محاجّته ، ودحض مزاعمه فى صدق دعوته.

وبعد أن ذكروا موانع نبوّته ذكروا الطريقة المثلى فى إبطال دعوته فقالوا :

(فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي فتلبثوا وانتظروا ، لعله يضيق مما هو فيه فيعود سيرته الأولى ، ويرجع من تلقاء نفسه إلى دينكم ودين آبائكم وأجدادكم.

وهذا من مكابراتهم لفرط عنادهم ، إذ هم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا ، وأرزنهم قولا.

ولم يردّ سبحانه على هذه الشبه لسخافتها ووضوح فسادها ، إذ كل عاقل يعلم أن الرسول يتميز من غيره بالمعجزات التي تأتى على يديه سواء أكان ملكا أم بشرا

١٨

وإرادته التفضل عليهم إن كانت لأجل أن يستبين فضله حتى ينقادوا له فلا ضير فى ذلك بل هو واجب ، وإن أرادوا أنه يبغى التجبر عليهم فالأنبياء منزهون عن ذلك ، وقولهم : ما سمعنا بهذا فى آبائنا الأولين ، اعتناق للتقليد وهو لا يصلح حجة تدفع بها حجج المعارضين الواضحة وضوح الشمس فى رائعة النهار ، وقولهم : به جنة كذب صراح.

لأنهم يعلمون ذكنه ، وعظيم فطنته ، وما أوتيه من أصالة الرأى ، وثاقب الفكر.

ولما استبان لنوح إصرارهم على ضلالهم وتماديهم فى غيّهم ويأسه من إيمانهم وأوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ـ طلب إلى ربه أن ينصره عليهم :

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي قال رب انصرني بإنجاز ما أوعدتهم به من العذاب بقولي «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

ونحو الآية قوله : «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» وقوله : «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً».

وقد أجاب الله دعاءه فقال :

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي فقلنا حين استنصرنا على كفرة قومه : اصنع السفينة بحفظنا ورعايتنا لك ، من التعدي عليك ، وتعليمنا إياك كيفية صنعها.

(فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي فإذا جاء قضاؤنا من قومك بعذابهم وهلاكهم ، ونبع الماء من وجه الأرض ـ فأدخل فيها من كل طائفة من الحيوان فردين مزدوجين كناقة وجمل ، وحصان ورمكة ، وأدخل ولدك ونساءهم إلا من سبق عليه القول منا بأنه هالك فيمن يهلك ، فلا تحمله معك وهو كنعان وأمه.

(وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي ولا تسألنى أن أنجّى الذين كفروا بالله من الغرق. فإن كلمتى قد حقت عليهم أجمعين.

١٩

ثم أمره بحمده والثناء عليه إذا هو استوى على الفلك فقال :

(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فإذا اطمأننت فى السفينة أنت ومن معك ممن حملته من أهلك ، فقل الحمد لله الذي نجانا من هؤلاء المشركين الظلمة.

وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى المسرة بمصيبة أحد ولو عدوّا إلا إذا اشتملت على دفع ضرره أو تطهير الأرض من دنس شركه وإضلاله.

قال ابن عباس : كان فى السفينة ثمانون إنسانا نوح وامرأته غير التي غرقت وثلاثة بنين سام وحام ويافث ، وثلاث نسوة لهم واثنان وسبعون إنسانا ، وكل الخلائق من نسل من كان فى السفينة.

ثم أمر نوح أن يدعو ربه حين خروجه من السفينة.

(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي وقل إذا سلمت وخرجت من السفينة : رب أنزلنى من الأرض منزلا مباركا وأنت خير من أنزل عباده المنازل.

قال قتادة : علمكم الله أن تقولوا حين ركوب السفينة : «بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها» وحين ركوب الدابة : «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» وحين النزول : «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) أي إن فيما فعلنا بقوم نوح من إهلاكهم إذ كذبوا رسولنا وجحدوا وحدانيتنا وعبدوا الآلهة والأصنام ـ لعبرا لقومك من مشركى قريش ، وحججا لنا عليهم يستدلون بها على سنننا فى أمثالهم فينزجرون عن كفرهم ، ويرتدون عن تكذيبهم حذر أن يصيبهم مثل الذي أصاب من قبلهم من العذاب ، وقد كنا مختبريهم بالتذكير بهذه الآيات لننظر ماذا يفعلون قبل أن ننزل بهم عقوبتنا.

ونحو الآية قوله : «وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» وقد تقدم هذا القصص بتفصيل فى سورة هود عليه السلام.

٢٠