تفسير المراغي - ج ٩

أحمد مصطفى المراغي

(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أي وما رميت أيها الرسول أحدا من المشركين فى الوقت الذي رميت فيه القبضة من التراب بإلقائها فى الهواء فأصابت وجوههم فإن ما فعلته لا يكون له من التأثير مثل ما حدث ، ولكن الله رمى وجوههم كلهم بذلك التراب الذي ألقيته فى الهواء على قلته أو بعد تكثيره بمحض قدرته.

فقد روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب وقال : شاهت الوجوه ثلاثا ، فأعقبت رميته هزيمتهم».

وروى على بن أبي طلحة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال فى استغاثته يوم بدر «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض أبدا» قال له جبريل : خذ قبضة من التراب فارم بها وجوههم ، ففعل فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولّوا مدبرين.

والفرق بين قتل المسلمين للكفار وبين رمى النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالتراب : أن الأول فعل من أفعالهم المقدورة لهم بحسب سنن الله فى الأسباب الدنيوية ، وأن الثاني لم يكن سببا عاديا لإصابتهم وهزيمتهم ، لا مشاهدا كضرب أصحابه لأعناق المشركين ، ولا غير مشاهد ، إذ هو لا يكون سببا لشكاية أعينهم وشوهة وجوههم لقتله وبعده عن راميه وكونهم غير مستقبلين له كلهم ، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى بيان نقص الأول وعدم استقلاله بالسببية وبيان أنه لو لا تأييد الله ونصره لما وصل كسبهم المحض إلى هذا القتل ؛ لأنك قد علمت ما كان من خوفهم وكراهتهم للقتال وبمجادلة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم لو ظلوا على هذه الحال مع قلتهم وضعفهم لكان مقتضى الأسباب العادية أن يمحقهم المشركون محقا.

فالفرق بين فعله تعالى فى القتل وفعله فى الرمي ـ أن الأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل كما هو الحال فى جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل فى حصول غاياتها إلا بفعل الله وتسخيره لهم ، وللأسباب التي لا يصل إليها كسبهم عادة كما بين ذلك سبحانه بقوله «أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ

١٨١

أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» فالإنسان يحرث الأرض ويلقى فيها البذر ولكنه لا يملك إنزال المطر ولا إنبات الحب وتغذيته بمختلف عناصر التربة ولا دفع الجوائح عنه.

وأن الثاني من فعله تعالى وحده بدون كسب عادى للنبى صلى الله عليه وسلم فى تأثيره ، فالرمى منه كان صوريا لتظهر الآية على يده صلى الله عليه وسلم ، فما مثله فى ذلك إلا مثل أخيه موسى صلى الله عليه وسلم فى إلقائه العصا «فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى».

(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي فعل الله ما ذكر لإقامته حجته وتأييد رسوله ، وليبلى المؤمنين منه بلاء سنا بالنصر والغنيمة وحسن السمعة.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى سميع لما كان من استغاثة الرسول والمؤمنين ربهم ودعائهم إياه وحده ولكل نداء وكلام ، عليم بنياتهم الباعثة عليه والعواقب التي تترتب عليه.

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي ذلكم البلاء الحسن هو الذي سمعتم ـ إلى أنه تعالى مضعف كيد الكافرين ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ومحاولتهم القضاء على دعوة التوحيد والإصلاح قبل أن يقوى أمرها وتشتد.

وبعد أن ذكر خذلانهم وإضعاف كيدهم ـ انتقل منه إلى توبيخهم على استنصارهم إياه على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أيّنا كان أقطع للرحم ، وأتى بما لا يعرف فأحنه الغداة فكان ذلك منه استفتاحا. وقال السدى : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين ، فأجابهم الله بقوله :

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما فقد جاءكم الفتح ونصر أعلاهما وأهداهما.

وهذا من قبيل التهكم بهم ؛ لأنه قد جاءهم الهلاك والذلة.

١٨٢

(وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي وإن تنتهوا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وقتاله فالانتهاء خير لكم ؛ لأنكم قد ذقتم من الحرب ماذقتم من قتل وأسر بسبب ذلك العدوان.

(وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) أي وإن تعودوا إلى حربه وقتاله نعد إلى مثل ما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجىء الفتح الأعظم الذي به تدول الدّولة للمؤمنين عليكم ، وبه يذل شرككم وتذهب ريحكم.

(وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) أي ولن يدفع عنكم رهطكم شيئا من بأس الله وشديد نقمته ولو كثرت عددا ، إذ لا تكون الكثرة وسيلة من وسائل النصر أمام القلة إلا إذا تساوت معها فى أمور كثيرة كالصبر والثبات والثقة بالله تعالى ، فهو الذي بيده النصر والقوة.

(وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بمعونته وتوفيقه فلا تضرهم قلتهم ولا كثرة عددكم ، فهو يؤتى النصر من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

المعنى الجملي

بعد أن هدد الله المشركين بقوله : وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ـ قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال فى سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف فى طريق تبليغ دعوته.

١٨٣

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أي أطيعوا الله ورسوله فى الإجابة إلى الجهاد وترك المال إذا أمر الله بتركه ، ولا تعرضوا عن طاعته ، وعن قبول قوله ، وعن معونته فى الجهاد ، وأنتم تسمعون كلامه الداعي إلى وجوب طاعته وموالاته ونصره ، ولا شك أن المراد بالسماع هنا سماع الفهم والتصديق بما يسمع ، كما هو شأن المؤمنين الذين من دأبهم أن يقولوا «سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) وهؤلاء القائلون فريقان : فريق الكفار المعاندين ، وفريق المنافقين الذين قال فى بعض منهم «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً؟».

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) الدواب ، واحدها دابة :

وهى كل مادبّ على الأرض كما قال «وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» وقلّ أن يستعمل فى الإنسان بل الغالب أن يستعمل فى الحشرات ودواب الركوب ، فإذا استعمل فيه كان ذلك فى موضع الاحتقار ، أي إن شر مادب على الأرض فى حكم الله وقضائه هم الصم الذين لا يصغون بأسماعهم ليعرفوا الحق ويعتبروا بالموعظة الحسنة ، فهم بفقدهم لمنفعة السمع كانوا كأنهم فقدوا حاسته ، البكم الذين لا يقولون الحق ، ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا النطق الذين لا يعقلون الفرق بين الحق والباطل والخير والشر ؛ إذ هم لو عقلوا لطلبوه واهتدوا إلى ما فيه المنفعة والفائدة لهم كما قال «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ».

والخلاصة ـ إنهم حين فقدوا منفعة السمع والنطق والعقل كانوا كأنهم فقدوا هذه المشاعر والقوى ، بأن خلقوا خداجا ناقصى هذه المشاعر ، أو طرأت عليهم آفات

١٨٤

أذهبت هذه القوى بل هم شر منهم ، لأن هذه المشاعر خلقت لهم فأفسدوها على أنفسهم ، إذ لم يستعملوها فيما خلقت لأجله حين التكليف.

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي ولو علم الله فيهم استعدادا للإيمان والهداية بنور النبوة ولم يفسد قبس الفطرة سوء القدوة وفساد التربية ، لأسمعهم بتوفيقه الكتاب والحكمة سماع تدبر وتفهم ، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم فهم ممن ختم الله على قلوبهم وأحاطت بهم خطاياهم.

(وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي ولو أسمعهم ـ وقد علم أنه لا خير فيهم ـ لتولوا عن القبول والإذعان وهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به كراهة وعناد للداعى إليه ولأهله فقد فقدوا الاستعداد لقبول الحق والخير فقدا تاما لا فقدا عارضا موقوتا.

والخلاصة ـ إن للسماع درجات باعتبار ما يطالب الله به من الاهتداء بكتابه :

(١) أن يتعمد من يتلى عليه ألا يسمعه مبارزة له بالعدوان بادئ ذى بدء خوفا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم.

(٢) أن يستمع وهو لا ينوى أن يفهم ويتدبر كالمنافقين الذين قال الله فيهم : «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً»

(٣) أن يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض ، كما كان يفعل المعاندون من المشركين وأهل الكتاب وقت التنزيل وفى كل حين إذا استمعوا إلى القرآن أو نظروا فيه.

(٤) أن يسمع ليفهم ويتدبر ثم يحكم له أو عليه ، وهذا هو المنصف ، وكم من السامعين أو القارئين آمن بعد أن نظر وتأمل ؛ فقد نظر طبيب فرنسى فى ترجمة القرآن فرأى أن كل النظريات الطبية التي فيه كالطهارة والاعتدال فى المآكل والمشارب وعدم

١٨٥

الإسراف فيهما ونحو ذلك من المسائل التي فيها محافظة على الصحة ـ توافق أحدث النظريات التي استقر عليها رأى الأطباء فى هذا العصر ـ فرغب فى هذا كله وأسلم ؛ ورأى ربّان بارجة إنكليزية ترجمة القرآن واستقصى كل ما فيها من الكلام عن البحار والرياح فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كبار الملاحين فى البحار ، وبعد أن سأل عن ذلك وعرف أنه لم يركب البحر قط ، وهو مع ذلك أمّىّ لم يقرأ كتابا ولا تلقى عن أحد درسا قال : الآن علمت أنه كان بوحي من الله لأن فيه حقائق لا يعلمها إلا من اختبر البحار بنفسه ، أو تلقاها عن غيره من المختبرين ، ثم أسلم وتعلم العربية.

وكثير من المسلمين يستمعون القراء ويتلون القرآن فلا يشعرون بأنهم فى حاجة إلى فهمه وتدبر معناه ، بل يستمعونه للتلذذ بتجويده وتوقيع التلاوة على قواعد النغم ، أو يقصدون بسماعه التبرك فقط ، ومنهم من يحضر الحفّاظ عنده فى ليالى رمضان ، ويجلسهم فى حجرة البوّابين أو غيرهم من الخدم تشبها بالأكابر والوجهاء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعدم التولي حين الجهاد ، أردفه الأمر بالاستجابة له إذا دعاهم لهدى الدين وأحكامه عامة ، لما فى ذلك من

١٨٦

تكميل الفطرة الإنسانية وسعادتها فى الدنيا والآخرة ، وكرر النداء بلفظ المؤمنين تنشيطا لهم إلى الإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي ، وإيماء إلى أنهم قد حصّلوا ما يوجب عليهم الاستجابة وهو الإيمان.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) أي إن الرسول دعاكم بأمر ربكم لما فيه حياتكم الروحية : من علم بسننه فى خلقه ومن حكمة وفضيلة ترفع نفس الإنسان وترقى بها إلى مراتب الكمال حتى تحظى بالقرب من ربها وتنال رضوانه فى الدار الآخرة ـ فأجيبوا دعوته بقوة وعزم. كما قال فى آية أخرى : «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» وطاعته صلى الله عليه وسلم واجبة فى حياته ، وبعد مماته فيما علم أنه دعا إليه دعوة عامة من أمور الدين الذي بعثه الله به كبيانه لصفة الصلاة وعددها قولا أو فعلا ؛ فقد صلى بأصحابه وقال : «صلّوا كما رأيتمونى أصلى» وقال «خذوا عنّى مناسككم» وبيانه لمقادير الزكاة وغيرها من السنن العملية المتواترة وأقواله كذلك ، فكل من ثبت لديه شىء منها ببحثه أو بحث العلماء الذين يثق بهم وجب عليه الاهتداء به.

أما الإرشادات النبوية فى أمور العادات كاللباس والطعام والشراب والنوم ، فلم يعدّها أحد من الأئمة دينا يجب الافتداء به فيه.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) نبهنا الله فى هذه الآية لأمرين لهما خطرهما فى سعادة الإنسان الأخروية ، وهما :

(١) أنه قد جرت سنة الله فى البشر أن يحول بين المرء وقلبه ، وهو مركز الإحساس والوجدان والإدراك الذي له السلطان على الإرادة والعمل ، أي إنه تعالى يميت القلب فتفوت الفرصة التي هو واجدها من التمكن من معالجة أدوائه وعلله ، ورده سليما كما يريده الله ، وهذا أخوف ما يخافه المتقى على نفسه إذا غفل عنها وفرّط فى جنب الله ،

١٨٧

وكذلك هو أرجى شىء يرجوه المسرف إذا لم ييأس من روح الله ، فإنا لنشاهد أن كثيرا من الناس يسيرون على الهدى ويتقون الطرق التي تصل بهم إلى مهاوى الهلاك والردى فإذا بقلوبهم قد تقلبت بعواصف تميل بهم عن الصراط المستقيم كشبهة تزعزع الاعتقاد أو شهوة يغلب بها الغىّ الرشاد فيطيعون أهواءهم ويسيرون وراء وساوس الشيطان.

وفى ذلك إيماء إلى أن الطائع المجدّ لا يأمن مكر الله فيغتر بطاعته ويعجب بنفسه ، والعاصي المنصرف عن الطاعة لا ييأس من روح الله فيسترسل فى اتباع هواه ، حتى تحيط به خطاياه ومن لم يأمن عقاب الله ولا ييأس من روح الله كان جديرا بأن يراقب قلبه ، ويحاسب نفسه على خواطره ويعاقب نفسه على هفواته ، لتظل على الصراط المستقيم.

والخلاصة ـ إن من سننه تعالى فى البشر أن من يتبع هواه فى أعماله تضعف إرادته فى مقاومته فلا تؤثر فيه المواعظ القولية ولا العبر المبصرة ولا المعقولة.

روى البخاري وأصحاب السنن قال : كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم «لا ومقلّب القلوب».

(٢) أن نتذكر حشرنا إليه ومحاسبته إيانا على أعمالنا القلبية والبدنية ، ومجازاته إيانا بالعذاب أو النعيم ، فلا نألو جهدا فى انتهاز الفرصة لنعمل صالح الأعمال.

وبعد أن أمرنا سبحانه بتلك الأوامر ونهانا عن النواهي التي تخص أعمال الإنسان الاختيارية ، أمرنا أن نتقى الفتن الاجتماعية التي لا تخص الظالمين ، بل تتعداهم إلى غيرهم ، وتصل إلى الصالح والطالح فقال :

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الفتنة : البلاء والاختبار ، أي اتقوا وقوع الفتن التي لا تختص إصابتها بمن يباشرها وحده ، بل تعمه وغيره كالفتن القومية التي تقع بين الأمم فى التنازع على المصالح العامة من الملك والسيادة أو التفرق فى الدين والشريعة والانقسام إلى الأحزاب الدينية والأحزاب السياسية ، ونحو ذلك

١٨٨

من ظهور البدع والتكاسل فى الجهاد وإقرار المنكر الذي يقع بين أظهرهم والمداهنة فى الأمر بالمعروف ونحو ذلك من الذنوب التي جرت سنة الله بأن تعاقب عليها الأمم فى الدنيا قبل الآخرة.

أخرج ابن جرير من طريق الحسن قال : لقد خوّفنا بهذه الآية ، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ظننا أننا خصصنا بها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر فى الآية قال : نزلت فى علىّ وعثمان وطلحة والزبير ، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : علم والله ذوو الألباب من أصحاب محمد حين نزلت هذه الآية أن سيكون فتن. وروى عن ابن عباس قال : أمر الله المؤمنين ألا يقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله. بالعذاب. وقال عدىّ بن عميرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ، وهم قادرون على أن ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة». وروى أحمد والبزار وابن مردويه عن مطرّف قال : قلنا للزبير يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة (عثمان) حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه فقال : إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت.

وعلى الجملة ففتنة عثمان كانت أول الفتن التي اختلفت فيها الآراء ، فاختلفت أعمال أهل الحل والعقد ، وخلا الجو للمفسدين من زنادقة اليهود والمجوس وغيرهم ، ثم أعقبتها فتنة الجمل بصفّين ، ثم فتنة ابن الزبير مع بنى أمية ، ثم قتل الحسين بكربلاء ، إلى نحو ذلك من الفتن التي كان لها آثارها فى الإسلام ، ولو تداركوها كما تدارك أبو بكر رضي الله عنه أهل الردة لما كانت فتنة تبعتها فتن كثيرة أكبرها فتن الخلافة والملك وفتن الآراء والمذاهب الدينية والسياسية.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إنه تعالى شديد عقابه للأمم والأفراد

١٨٩

خالفت سنته التي لا تبديل لها ولا تحويل أو خالفت هدى دينه المزكّى للأنفس المطهر للقلوب.

وهذا العقاب منه ما هو فى الدنيا وهو مطرد فى الأمم ، وقد أصيبت به الأمة الإسلامية فى القرن الأول الذي كان أهله خير القرون بعده ، إذ فصّروا فى درء الفتنة الأولى فعاقبهم الله عقابا شديدا على ذلك ، ثم تسلسل العقاب فى كل جيل وقع فيه ذلك ، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية على الملك والسلطان حتى دالت الخلافة التي تنافسوا فيها وتقاتلوا لأجلها.

وقد يقع هذا العقاب للأفراد لكنهم ربما لا يشعرون به ، لأنه يقع تدريجيا فلا يكاد يحسّ به ، وأما العقاب الأخروى فأمره إلى الله العالم بالسر والنجوى والذي جعل العقاب آثارا طبيعية للذنوب التي تجترحها الأفراد والأمم.

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) هذا خطاب المهاجرين يذكرهم فيه سبحانه بما كان من ضعفهم وقلتهم ، وقد يكون الخطاب للمؤمنين عامة فى عصر التنزيل يذكّرهم فيه بما كان من ضعف أمتهم العربية فى الجزيرة بين الدول القوية من فارس والروم.

(تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أي تخافون من مبدإ الإسلام إلى حين الهجرة أن يتخطفكم مشركو العرب من قريش وغيرها ، والمراد أن ينتزعوكم بسرعة فيفتكوا بكم كما كان يتخطف بعضهم بعضا فى خارج الحرم وتتخطفهم الأمم من أطراف جزيرتهم كما قال تعالى : «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ».

(فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فآواكم أيها المهاجرون إلى الأنصار وأيدكم وإياهم بنصره فى غزواتكم ، وسيؤيدكم على من سواكم من فارس والروم وغيرهما كما وعدكم بذلك فى كتابه الكريم ، ورزقكم من الطيبات

١٩٠

رجاء أن تشكروا هذه النعم وغيرها مما يؤتيكم من فضله كما وعد فى كتابه : «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ».

وقد أخرج ابن جرير عن قتادة فى قوله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) الآية. قال : كان هذا الحي أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالة ، معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم ، لا والله ما فى بلادهم ما يحسدون عليه ، من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات منهم ردّى فى النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منهم منزلا ، حتى جاء الله بالإسلام فمكّن به فى البلاد ووسّع به فى الرزق ، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا لله نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر فى مزيد من نعم الله عز وجل.

وفى الآية من العبرة التي يجب على المؤمنين أن يتذكروها أنه أورث من اهتدى بهديه سعادة الدنيا وبسطة السلطان ومكّن لأهله فى الأرض وأنا لهم ما لم يكونوا يرجونه لو لا هدى الدين ، وأورثهم فى الآخرة فوزا ورضوانا من ربهم وروحا وريحانا وجنة نعيم هذا حين كانوا يعملون بهديه ، فلما أعرضوا عنه ونأوا بجانبهم عاقبهم الله بما جرت به سننه فى الأرض فأضاعوا ملكهم وسلّط عليهم أعداءهم ، فليعتبر المسلمون بما حل بهم ، وليرجعوا إلى تاريخ أسلافهم ، وليستضيئوا بنورهم وليثوبوا إلى رشدهم ، لعله يعيد إليهم تراثهم الغابر وعزهم الماضي:«إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨))

١٩١

تفسير المفردات

الخيانة : لغة تدل على الإخلاف والخيبة بنقص ما كان يرجى ويؤمل من الخائن ، فقد قالوا خانه سيفه إذا نبا عن الضّربية ، وخانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي ، ومنه قوله : «عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ» أي تنقصونها بعض ما أحل لها من اللذات ، ثم استعمل فى ضد الأمانة والوفاء لأن الرجل إذا خان الرجل فقد أدخل عليه النقصان. والأمانة : كل حق مادّى أو معنوى يجب عليك أداؤه إلى أهله قال تعالى : «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً» والفتنة : الاختبار والامتحان بما يشقّ على النفس فعله أو تركه أو قبوله أو إنكاره ، فهى تكون فى الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء ، فيمتحن الله المؤمنين والكافرين والصادقين والمنافقين ، ويجازيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق والباطل وعمل الخير أو الشر.

المعنى الجملي

روى أن أبا سفيان خرج من مكة : (وكان لا يخرج إلا فى عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين) فأعلم الله رسوله بمكانه ، فكتب رجل من المنافقين إلى أبى سفيان : إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) الآية.

وروى أنها نزلت فى أبي لبابة وكان حليفا لبنى قريظة من اليهود ، فلما خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد إجلاء إخوانهم من بنى النّضير ، أرادوا بعد طول الحصار أن ينزلوا من حصنهم على حكم سعد بن معاذ وكان من حلفائهم من قبل غدرهم ونقضهم لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فأشار إليهم أبو لبابة ألا تفعلوا وأشار إلى حلقه (يريد أن سعدا سيحكم بذبحهم) فنزلت الآية.

قال أبو لبابة : ما زالت قدماى عن مكانهما حتى علمت أنى خنت الله ورسوله ،

١٩٢

وروى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل امرأته : أيصوم ويصلى ويغتسل من الجنابة؟ فقالت إنه ليصوم ويصلى ويغتسل من الجنابة ويحب الله ورسوله».

وقد روى «أن أبا لبابة شدّ نفسه على سارية من المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علىّ ، ثم مكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ، ثم تاب الله عليه ، فقيل له : قد تيب عليك ، فقال : والله لا أحلّ نفسى حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلّنى فجاء فحله بيده».

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أي لا تخونوا الله فتعطّلوا فرائضه أو تتعدوا حدوده وتنتهكوا محارمه التي بينها لكم فى كتابه ، ولا تخونوا الرسول فترغبوا عن بيانه لكتابه إلى بيانه بأهوائكم أو آراء مشايخكم أو آبائكم أو أوامر أمرائكم ، أو ترك سنته إلى سنة آبائكم وزعمائكم زعما منكم أنهم أعلم بمراد الله ورسوله منكم.

(وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) أي ولا تخونوا أماناتكم فيما بين بعضكم وبعض من المعاملات المالية وغيرها حتى الشئون الأدبية والاجتماعية ، فإفشاء السر خيانة محرمة ويكفى فى العلم بكونه سرا قرينة قولية كقول محدثك : هل يسمعنا أحد؟ أو فعلية كالالتفات لرؤية من عساه يجىء ، وآكد أمانات السر وأحقها بالحفظ ما يكون بين الزوجين.

كذلك لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولى الأمر من شئون سياسية أو حربية فتطلعوا عليها عدوكم وينتفع بها فى الكيد لكم.

والخيانة من صفات المنافقين ، والأمانة من صفات المؤمنين ، قال أنس بن مالك : قلما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال : «لا إيمان لمن لا عهد له» رواه الإمام أحمد.

١٩٣

وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله لها وسوء عاقبتها فى الدنيا والآخرة ، وقد يكون المعنى ـ وأنتم تعلمون أن ما فعلتموه خيانة لظهوره ، فإن خفى عليكم حكمه فالجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين ضرورة ، أو مما يعلم ببداهة العقل ، أو باستفتاء القلب كفعلة أبي لبابة التي كان سببها الحرص على المال والولد ، ومن ثم فطن لها قبل أن يبرح مكانه.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي إن فتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذوى الألباب ، إذ أموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته ودفع كثير من المكاره عنه ، من أجل ذلك يتكلف فى كسبها المشاق ويركب الصعاب ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام ويرغّبه فى القصد والاعتدال ، ويتكلف العناء فى حفظها وتتنازعه الأهواء فى إنفاقها ، ويفرض عليه الشارع فيها حقوقا معينة وغير معينة : كالزكاة ونفقات الأولاد والأزواج وغيرهم.

وأما الأولاد فحبهم مما أودع فى الفطرة ، فهم ثمرات الأفئدة وأفلاذ الأكباد لدى الآباء والأمهات ، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل كل ما يستطاع بذله فى سبيلهم من مال وصحة وراحة. وقد روى عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «الولد ثمرة القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة».

فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الذنوب والآثام فى سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة لهم ، وكل ذلك قد يؤدى إلى الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الأمة أو الدين وإلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة والحقوق الثابتة ؛ كما يحملهم ذلك على الحزن على من يموت منهم بالسخط على المولى والاعتراض عليه

١٩٤

إلى نحو ذلك من المعاصي كنوح الأمهات وتمزيق ثيابهن ولطم وجوههن ؛ وعلى الجملة ففتنة الأولاد أكثر من فتنة الأموال ، فالرجل يكسب المال الحرام ويأكل أموال الناس بالباطل لأجل الأولاد.

فيجب على المؤمن أن يتقى الفتنتين ، فيتقى الأولى بكسب المال من الحلال وإنفاقه فى سبيل البر والإحسان ، ويتقى خطر الثانية من ناحية ما يتعلق منها بالمال ونحوه بما يشير إليه الحديث. ومن ناحية ما أوجبه الدين من حسن تربية الأولاد وتعويدهم الدين والفضائل وتجنيبهم المعاصي والرذائل.

(وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فعليكم أن تؤثروا ما عند ربكم من الأجر العظيم بمراعاة أحكام دينه فى الأموال والأولاد على ما عساه قد يفوتكم فى الدنيا من التمتع بهما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

تفسير المفردات

التقوى : ترك الذنوب والآثام ، وفعل ما يستطاع من الطاعات والواجبات الدينية ، وبعبارة أخرى : هى اتقاء ما يضر الإنسان فى نفسه وفى جنسه ، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة ، والفرقان : أصله الفرق والفصل بين الشيئين أو الأشياء ، ويراد به هنا نور البصيرة الذي به يفرق بين الحق والباطل والضّارّ والنافع ، وبعبارة ثانية : هو العلم الصحيح والحكم الرجيح ، وقد أطلق هذا اللفظ على التوراة والإنجيل والقرآن وغلب على الأخير قال تعالى «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» من قبل أن كلامه تعالى يفرق فى العلم والاعتقاد بين الإيمان والكفر ، والحق والباطل ، والعدل والجور ، والخير والشر.

١٩٥

المعنى الجملي

لما حذر الله تعالى من الفتنة بالأموال والأولاد ، قفى على ذلك بطلب التقوى التي ثمرتها ترك الميل والهوى فى محبة الأموال والأولاد.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أي إن تتقوا الله فتتبعوا أوامر دينه وتسيروا بمقتضى سننه فى نظام خلقه يجعل لكم فى نفوسكم ملكة من العلم تفرقون بها بين الحق والباطل ، وتصلون بين الضار والنافع ، وهذا النور فى العلم الذي لا يصل إليه طالبه إلا بالتقوى هو الحكمة التي قال الله تعالى فيها «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ».

واتقاء الله يتحقق بمعرفة سننه فى الإنسان وحده أو فيه وهو فى المجتمع الإنسانى كما ترشد إلى ذلك آيات الكتاب الحكيم فى مواضع متفرقة منه ، ومن ثم كانت ثمرة التقوى حصول ملكة الفرقان التي بها يفرق صاحبها بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكمة وعمل فيفصل فيها بين ما ينبغى فعله وما يجب تركه.

وعلى الجملة فالمتقى لله يؤتيه الله فرقانا يميز به بين الرشد والغى ، ومن ثم كان الخلفاء والحكام من الصحابة والتابعين من أعدل حكام الأمم فى الأرض ، حتى لقد قال بعض المؤرخين من الإفرنج ؛ ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.

(وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي ويمح بسبب ذلك الفرقان وتأثيره ما كان من دنس الآثام فى النفوس ، فتزول منها داعية العودة إليها ، ويغطيها فيسترها عليكم فلا يؤاخذكم بها ، والله الذي يفعل ذلك بكم له الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه.

١٩٦

وفى قوله (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) إيماء وتنبيه إلى أن ما وعد به المتقين من المثوبة فضل منه وإحسان تفضل به علينا بدون واسطة وبدون التماس عوض.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١))

تفسير المفردات

ليثبتوك : أي ليشدوك بالوثاق ويرهقوك بالقيد والحبس حتى لا تقدر على الحركة ، والمكر : هو التدبير الخفي لإيصال المكروه إلى الممكور به من حيث لا يحتسب ، والغالب أن يكون فيما يسوء ويذم من الكذب والحيل ، وإذا نسب إلى الله كان من المشاكلة فى الكلام بتسمية خيبة المسعى فى مكرهم أو مجازاتهم عليه باسمه ، والأساطير : واحدها أسطورة كأرجوحة وأراجيح وأحدوثة وأحاديث وهى الأقاصيص التي سطّرت فى الكتب بدون تمحيص ولا تثبيت من صحتها. وفى القاموس : الأساطير الأحاديث لا نظام لها واحدها إسطار وأسطير وأسطور وبالهاء فى الكل ، وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر ا ه.

المعنى الجملي

لما ذكر المؤمنين عامة بنعمه عليهم بقوله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) ذكر هنا نعمه على رسوله خاصة بدفع كيد المشركين ومكر الماكرين بنصره عليهم وخيبة مسعاهم فى إيقاع الأذى به بعد أن تآمروا عليه وقطعوا برأى معين فيه.

١٩٧

الإيضاح

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي واذكر أيها الرسول نعمته تعالى عليك فى ذلك الزمن القريب الذي يمكر بك فيه قومك الذين كفروا بما يدبّرون فى السر من وسائل الإيقاع بك ، فإنّ فى ذلك القصص على المؤمنين والكافرين فى عهدك ومن بعدك لأكبر الحجج على صدق دعوتك ووعد ربك بنصرتك.

(لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) أي إن كلمتهم قد اتفقت على إيقاع الأذى بك بإحدى خلال ثلاث : إما الحبس الذي يمنعك من لقاء الناس ودعوتهم إلى الإسلام ، وإما القتل بطريق لا يكون ضررها عظيما عليهم كما سيأتى ، وإما الإخراج والنفي من الوطن.

وقد روى أن أبا طالب قال للنبى صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر بك قومك؟ قال : يريدون أن يسجنونى أو يقتلونى أو يخرجونى ، قال من حدّثك بهذا؟ قال ربى ، قال نعم الرب ربك فاستوص به خيرا. قال أنا أستوصى؟ بل هو يستوصى بي فنزلت (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.

وقد تحدثوا بهذا الحديث فسمعه أبو طالب فبلّغه للنبى صلى الله عليه وسلم ، ولكن إجماع الرأى عليه والشروع فى تنفيذه قد وقع بعد موت أبي طالب.

(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ ، وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي إن دأبهم معك ومع من اتبعك من المؤمنين تدبير الأذى لكم والله محبط ما دبروا ، فقد أخرجك من بينهم إلى دار الهجرة ، ووطن السلطان والقوة ، والله خير الماكرين ، لأن مكره نصر للحق ، وإعزاز لأهله ، وخذلان للباطل وحزبه.

وفى الآية إيماء إلى أن هذه حالهم الدائمة فى معاملته صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من المؤمنين.

١٩٨

وحديث ذلك المكر الذي ترتبت عليه الهجرة إلى المدينة ، وبها ظهر الإسلام وخذل الشرك روى من طرق عدة أقربها رواية ابن إسحاق فى سيرته قال :

إن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة واعتراضهم إبليس فى صورة شيخ جليل ، فلما رأواه قالوا من أنت؟ قال شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم منى رأى ونصح ، قالوا أجل فادخل ، فدخل معهم ، فقال : انظروا فى شأن هذا الرجل فو الله ليوشكنّ أن يؤاتيكم فى أمركم بأمره ، فقال قائل : احبسوه فى وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء : زهير والنابغة فإنما هو كأحدهم ، فقال عدو الله الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأى والله ليخرجن رائد من محبسه لأصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ثم يمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم ، فانظروا فى غير هذا الرأى ، فقال قائل : فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع ، وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه ، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وكان أمره فى غيركم ، فقال الشيخ النجدي : لا والله ما هذا لكم برأى ، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه ، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجمعنّ إليه ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم ، قالوا صدق والله ، فانظروا رأيا غير هذا ، فقال أبو جهل والله لأشيرن عليكم برأى لا أرى غيره قالوا وما هذا؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه به ضربة رجل واحد ، فإذا قتلتموه تفرق دمه فى القبائل كلها ، فلا أظن هذا الحي من بنى هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم ، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل (الدية) واسترحنا وقطعنا عنا أذاه ، فقال الشيخ النجدي : هذا والله هو الرأى ، القول ما قال الفتى لا أرى غيره وتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له ، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره ألا يبيت

١٩٩

فى مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم ، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك فى الخروج وأمره وصحبه بالهجرة. وافترض عليهم القتال فأنزل «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ» الآيتين فكان أول ما أنزل فى الحرب وأنزل بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيتين.

ولما قص الله مكرهم فى ذات محمد قص علينا مكرهم فى دين محمد فقال :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أي وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آيات كتاب الله الواضحة لمن شرح الله صدره لفهمه قالوا جهلا منهم وعنادا للحق وهم يعلمون أنهم كاذبون : لو نشاء لقلنا مثل هذا الذي تلى علينا ، وقد نسب هذا القول إلى النضر بن الحارث من بنى عبد الدار وكان يختلف إلى أرض فارس فيسمع أخبارهم عن رستم وإسفنديار وكبار العجم ، ويمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل.

ثم عللوا هذه الدعوة الكاذبة بما هو أصرح منها فى الكذب فقالوا :

(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إن أخبار القرآن عن الرسل وأقوامهم تشبه قصص أولئك الأمم ، فهم يستطيعون أن يأتوا بمثلها فما هى من خبر الغيب الدالّ على أنه وحي من الله.

وقد يكون النضر أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره ، ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلفة وأن محمدا هو الذي افتراها ، إذ لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما قال تعالى : «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ». ونحو الآية قوله : «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً» وهم ما كانوا يعتقدون صدق هذه المقالة ، لأنهم يعلمون أنه أمي لا يتعلم شيئا ، بل قالوا ذلك ليصدّوا العرب عن القرآن وقد كذبهم الله فيه فما استطاعوا له إثباتا.

٢٠٠