تفسير المراغي - ج ٩

أحمد مصطفى المراغي

(٢) ومنها ما علمنا كذبه بما دل الدليل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا.

(٣) ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون فى روايته بقوله عليه السلام «حدّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج» وهو لا يصدّق ولا يكذّب لقوله : «فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم».

ثم بين سبحانه فساد رأيهم وسخافة عقولهم لهذا الشرك فقال :

(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي أيشركون به سبحانه وهو الخالق لهم ولأولادهم ولكل مخلوق ما لا يخلق شيئا وإن كان حقيرا كما قال : إنّ الّذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له بل هم مخلوقون أيضا ولا يليق بذي العقل السليم أن يجعل المخلوق العاجز شريكا للخالق القادر.

والآية وما بعدها حكاية لشرك عبّاد الأصنام عامة ، وينتظم فيهم مشركو مكة وأمثالهم ممن نزل القرآن فى عهدهم ، وتوبيخ لهم بتفصيل أحوال أولئك الشركاء التي تنافى ما اعتقدوه.

(وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي ولا يستطيعون لعابديهم معونة إذا حزبهم أمر مهمّ وخطب ملمّ كما لا يستطيعون لأنفسهم نصرا على من يعتدى عليهم بإهانة لهم أو أخذ شىء مما عندهم من طيب أو حلى كما قال تعالى : «وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».

والخلاصة ـ إنهم يحتاجون إليكم فى تكريمهم وفى النضال عنهم وأنتم لا تحتاجون إليهم.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به رغباتكم أو تنجون به من المكاره التي تحيق بكم ، لا يتبعوكم فلا يستجيبوا لكم ولا ينفعوكم.

ثم أكد عدم نفعهم فقال :

(سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) أي مستولديكم دعاؤكم إياهم وبقاؤكم

١٤١

على صمتكم ، فإنه لا يتغير حالكم فى كلتا الحالين ، إذ هم لا يفهمون دعاءكم ولا يسمعون أصواتكم ولا يعقلون ما يقال لهم.

والخلاصة ـ إنه لا ينبغى أن يعبد من كانت هذه صفته ، وإنما الرب المعبود هو النافع من يعبده ، الضار من يعصيه ، الناصر وليّه ، الخاذل عدوّه ، الهادي إلى الرشاد من أطاعه ، السامع دعاء من دعاه.

ولا شك أن هذه الحجة قائمة على من يقصدون قبور الأولياء والصلحاء ويعظمونها ويطلبون منها قضاء الحاجات ، لأن هذه الأوصاف التي سيقت فى معرض التوبيخ والإنكار تنطبق على حالهم أشد الانطباق ، فهم لا ينفعون ولا يضرون و (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) وقد روى البخاري عن ابن عباس فى أصنام قوم نوح التي انتقلت إلى العرب ، أنها لم تنصب إلا للتذكير بأناس من الأولياء والصالحين وقد كانت اللات لرجل يلتّ عليها السويق ويطعم الناس.

والخلاصة ـ إن الأصنام والتماثيل والقبور التي تعظّم تعظيما دينيا ، عمل لم يأذن به الله ، وكلها سواء فى كونها وضعت للتذكير بأناس عرفوا بالصلاح وكانوا هم المقصودين بالدعاء تخيلا من عابديها بأن لها تأثيرا فى إرادة الله أو التصرف الغيبى فى ملك الله ، وذلك من أفحش الشرك وأقبحه ولا فرق بين إشراك الصنم والوثن وإشراك الولي أو النبي أو الملك.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ

١٤٢

الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨))

المعنى الجملي

هذه الآيات الكريمة من تتمة ما قبلها مؤكدة له ومقررة لما تتضمنه وهو إثبات التوحيد ونفى الشرك ، وهو رأس الإسلام وركنه المتين ، فلا غرو أن يتكرر الكلام فيه فى القرآن ، نفيا وإثباتا ليتأكد فى النفوس ، ويثبت فى القلوب ، وبه تخلع جذور الوثنية ، ويحل محلها نور الوحدانية.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) الدعاء هو النداء لدفع الضر وجلب النفع الذي يوجه إلى من يعتقد الداعي أن له سلطانا يمكنه أن يجيبه إلى ما طلبه إما بذاته وإما بحمله الربّ الخالق على ذلك : أي إن الذين تدعونهم من دون الله هم عباد أمثالكم فى كونهم مخلوقين لله خاضعين لإرادته وقدرته ، وإذا كانوا أمثالكم كان من المستحيل عقلا أن تطلبوا منهم مالا يستطيعون نيله بأنفسكم ولا بمساعدة أمثالكم وإنما يدعى الرب الخالق لما وراء الأسباب المشتركة بين الخلق ، والذي تخضع لإرادته الأسباب وهو لا يخضع لها ، ولا لإرادة أحد يحمله على ما لا يشاؤه منها.

(فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كنتم صادقين فى زعمكم أنهم قادرون على ما تعجزون عنه بقواكم البشرية من نفع أو ضر فادعوهم فليستجيبوا لكم إما بأنفسهم وإما بحملهم الرب تبارك وتعالى على إعطائكم ما تطلبون.

ثم ارتقى سبحانه فى الرد عليهم وأثبت أنهم ليسوا أمثالهم ، بل أحط منهم منزلة ودونهم رتبة ، ووبخهم وأنبهم على عبادة هذه الأحجار والأصنام فقال :

١٤٣

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟) أي إن هؤلاء فقدوا وسائل الكسب التي يناط بها النفع والضر فى هذه الحياة ، فليس لهم أرجل يسعون بها إلى دفع ضر أو جلب نفع ، وليس لهم أيد يبطشون بها فيما ترجون منهم من خير أو تخافون من شر ، وليس لهم أعين يبصرون بها حالكم ولا آذان يسمعون بها أقوالكم ويعرفون بها مطالبكم ، فهم ليسوا مثلكم ، بل دونكم فى الصفات والقوى التي أودعها الله فى الخلق ، فكيف ترفعونهم عن مماثلتكم وهم دونكم بالاختبار والمشاهدة.

وإنكم تستكبرون عن قبول الهدى والرشاد من الرسول ويقول بعضكم لبعض : «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ».

فما بالكم تأبون قبول الحق والخير من مثلكم وقد فضله الله عليكم بالعلم والهدى ، ثم ترفعون مادونه ودونكم إلى مقام الألوهية مع انحطاطه عن درجة المثلية.

ثم أمر رسوله أن يبين لهم حقارة شأنهم فقال :

(قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين تحتقرون نعم الله عليهم : نادوا شركاءكم الذين اتخذتموهم أولياء ، ثم تعاونوا على كيدى جميعا وأوقعوا الضر بى سريعا فلا تنظرون أي لا تؤخرونى ساعة من نهار.

والحكمة فى مطالبتهم بهذا ، أن العقائد الموروثة يتضاءل دونها كل برهان ولا يجدى معها دليل ، ومن ثم طالبهم بأمر عملى ينزع هذا الوهم من أعماق القلوب ، وهو أن ينادوا هؤلاء الشركاء ويستنجدوا بهم لصدّ دعوة الداعين إلى الكفر بها وإثبات العجز لها وإنكار مالها من سلطان غيبى وتدبير كامن ، فإن كان لها حقا سلطان فى أنفسها أو من عند الله فهذا إبّان ظهوره ، وإلا فمتى يظهر ليساعد أبطال عبادتها وينصر عابديها ومعظّمى شأنها ، ومن الجلى أن القوم كانوا ينكرون البعث فكل ما يرجونه منها من خير أو يخافونه منها من شر فهو فى هذه الحياة.

١٤٤

ثم زاد الأمر بيانا وبالغ فى حقارة هذه المعبودات وعابديها على ما كان به من ضعف وقلة ناصر وهو بمكة حين نزول هذه السورة فقال :

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي إن متولى أمرى وناصرى هو الله الذي نزّل علىّ الكتاب المؤيد لوحدانيته ووجوب عبادته ودعائه عند الشدائد والملمات ، والناعي على المشركين عبادة غيره من وثن أو صنم ، وهو يتولى نصر الصالحين من عباده ، وهم من صلحت أنفسهم بصحيح العقائد ، وسلمت من الأوهام والخرافات ، والأعمال التي تصلح بها شئون الأفراد والجماعات ، فينصرهم على ذوى الخزعبلات والأوهام ، وفاسدى العقائد والأحلام تصديقا لقوله : «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ».

ثم أكد ما سلف بقوله.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي وإن من تدعونهم لنصركم وجلب النفع لكم ودفع الضر عنكم عاجزون ، فلاهم بالمستطيعين نصركم ولا نصر أنفسهم على من يحقّر شأنهم أو يسلبهم شيئا مما وضع عليهم من طيب أو حلى ، فقد كسّر إبراهيم صلوات الله عليه الأصنام فجعلهم جذاذا فما استطاعوا أن يدفعوه عن أنفسهم ولا أن ينتقموا منه لها.

وقد روى عن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ـ وكانا شابين من الأنصار قد أسلما لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ـ أنهما كانا يعدوان فى الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل ، ليعتبر قومهما بذلك ويرتئوا لأنفسهم رأيا آخر.

وكان لعمرو بن الجموح ـ وكان سيد قومه ـ صنم يعبده فكانا يجيئان فى الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة فيجىء عمرو فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ويقول له انتصر ، ثم يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيغه أيضا ،

١٤٥

حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ودلياه فى حبل فى بئر هناك ، فلما جاء ورأى ذلك علم أن ما كان عليه من الدين باطل وأنشد :

تالله لو كنت إلها مستدن

لم تك والكلب جميعا فى قرن

ثم أسلم وحسن إسلامه ، وقتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه.

وبعد أن نفى عنهم القدرة على النصرة قفى على ذلك بنفي قدرتهم على الإرشاد إلى الهدى والرشاد فقال :

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تحصّلون به مقاصدكم وتنتصرون به : من أسباب خفية أو ظاهرة ـ لا يسمعوا دعاءكم فضلا عن مدّ يد المعونة والمساعدة.

والآية كقوله : «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ».

(وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي وتراهم أيها المخاطب ينظرون إليك بما وضع لهم من أعين صناعية وحدق زجاجية أو جوهرية موجهة إلى من يدخل عليها كأنها تنظر إليه وهم لا يبصرون بها ؛ لأن حاسة الإبصار لا تحصل بالصناعة ، وإنما هى من خواصّ الحياة التي استأثر الله بها.

وهم إذ فقدوا السمع لا يسمعون نداء ولا دعاء ممن يعبدونهم ولا من غيرهم وإذ فقدوا البصر لا يبصرون حاله وحال خصمه ، فكيف يرجى منهم نصر وشد أزر أو أىّ معونة أخرى ، أو كيف يخشى منهم إيصال ضر وأذى لمن يحتقرهم؟.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه هو الذي يتولى أمر رسوله وينصره ، وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على إيذائه وإيصال الضر إليه ـ بيّن فى هذه الآية النهج القويم والصراط المستقيم فى معاملة الناس.

١٤٦

وهذه الآية تشمل أصول الفضائل فهى من أسس التشريع التي تلى فى المرتبة أصول العقيدة المبنية على التوحيد الذي تقرر فيما سلف بأبلغ وجه وأتم برهان.

الإيضاح

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أمر الله نبيه فى هذه الآية بثلاثة أشياء هى أسس عامة للشريعة فى الآداب النفسية والأحكام العملية :

(١) العفو : وهو السهل الذي لا كلفة فيه : أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم وتسهّل من غير كلفة ، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى ينفروا ، وهذا كما جاء فى الحديث «يسّروا ولا تعسّروا» وقال الشاعر :

خذى العفو منى تستديمى مودتى

ولا تنطقى فى سورتى حين أغضب

وقيل إن المعنى خذ العفو وما تسهّل من صدقاتهم.

والخلاصة ـ إن من آداب الدين وقواعده اليسر وتجنب الحرج وما يشق على الناس ، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما.

(٢) الأمر بالمعروف : وهو ما تعرفه النفس من الخير وتأنس به وتطمئن إليه ، ولا شك أن هذا مبنى على اعتبار عادات الأمة الحسنة وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة فى مصالحها.

وإجمال القول فيه ـ إنه اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس.

وقد ذكر المعروف فى السور المدينة فى الأحكام الشرعية العملية كوصف الأمة الإسلامية وحكومتها كقوله : «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» وقوله : «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

١٤٧

وعند ذكر الحقوق الزوجية كقوله «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» وفى أحكام الطلاق كقوله : «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» وقوله «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» ومن ذلك ترى أن هذا اللفظ (المعروف) لم يذكر إلا فى الأحكام الهامة ، وأن المراد به ما هو معهود بين الناس فى المعاملات والعادات ، ولا شك أنه يختلف باختلاف الشعوب والبلاد والأوقات ، ومن ثم قال بعض الأئمة : المعروف ما يستحسن فى العقل فعله ، ولا تنكره العقول الصحيحة ، ويكفى المسلمين المحافظة على النصوص الثابتة ، إذ لا يمكن المؤمن أن يستنكر ما جاء عن الله ورسوله ، وليكن للجماعة الإسلامية بعده رأى فيما يعرفون وينكرون ، ويستحسنون ويستهجنون ، ويكون عمدتهم فى ذلك جمهور العقلاء وأهل الفضل والأدب فى كل عصر.

(٣) الإعراض عن الجاهلين ، وهم السفهاء بترك معاشرتهم وعدم مماراتهم ، ولا علاج للوقاية من أذاهم إلا الإعراض عنهم ، وقد روى عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال : ليس فى القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها ،وروى الطبري وغيره عن جابر «أنه لما نزلت هذه الآية سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عنها فقال : لا أعلم حتى أسأل ثم رجع فقال : إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطى من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك» وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال :

خذ العفو وأمر بعرف كما

أمرت وأعرض عن الجاهلين

ولن فى الكلام لكل الأنام

فمستحسن من ذوى الجاه لين

وقال بعض العلماء : هذه الآية قد تضمنت قواعد الشريعة ، فلم يبق فيها حسنة إلا وعتها ، ولا فضيلة إلا شرحتها ؛ فقوله : خذ العفو إيماء إلى جانب اللين ونفى الحرج فى الأخذ والإعطاء وأمور التكليف ، وقوله : وأمر بالعرف تناول جميع المأمورات والمنهيات ، وأنهما ما عرف فى الشريعة حكمه ، واتفقت القلوب على علمه ، وقوله :

١٤٨

وأعرض عن الجاهلين تناول جانب الصفح بالصبر الذي يتأتى للعبد به كل مراد فى نفسه وغيره ا ه.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢))

تفسير المفردات

النزع كالنخس والنغز والوكز : إصابة الجسد برأس محدّد كالإبرة والمهماز والرمح ، والمراد به هنا نزع الشيطان بإثارته داعية الشر والفساد فى النفس بغضب أو شهوة بحيث تلجئ صاحبها إلى العمل بتأثيرها كما تنخس الدابة بالمهماز لتسرع ، والاستعاذة بالله : الالتجاء إليه ، ليقيك من شر هذا النزع ، والطوف والطواف بالشيء : الاستدارة به أو حوله ، وطيف الخيال : ما يرى فى النوم من مثال الشخص ، والمس : يراد به هنا ما ينال الإنسان من شر وأذى ، فقد ذكر فى التنزيل مس الضر والضراء والبأساء والسوء والعذاب. والمد والإمداد : الزيادة فى الشيء من جنسه ، واستعمل فى القرآن فى الخلق والتكوين كقوله : «وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ» وقوله : «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» وفى مدّ الناس فيما يذم ويضر كقوله : «قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» والإقصار : التقصير ، ويقال أقصر عن الأمر : تركه وكف عنه وهو قادر عليه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السابقة أمثل الطرق فى معاملة الناس بعضهم بعضا مما لو عملوا بهديه لم يجد الفساد إلى نفوسهم سبيلا ـ قفى على ذلك بالوصية التي تتضمنها

١٤٩

هذه الآيات الثلاث ، وهى اتقاء إفساد الشياطين : أي شياطين الجن المستترة ـ فالآية السالفة أمرت بالإعراض عن الجاهلين وهم السفهاء اتقاء لشرهم ـ وهذه الآيات أمرت بالاستعاذة بالله من الشياطين اتقاء لشرهم.

الإيضاح

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي وإن يثر فيك الشيطان داعية الشر والفساد بسبب غضب أو شهوة ، فيجعلك تتأثر وتتحرك للعمل بها كما تتأثر الدابة إذا نخست بالمهماز فتسرع ـ فالجأ إلى الله وتوجه إليه بقلبك ليعيذك من شر هذا النزغ ، حتى لا يحملك على ما يزعجك من الشر وعبّر عن ذلك بلسانك فقل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فإنه سميع لما تقول عليم بما تحدثك به نفسك ويجيش به صدرك ، فهو يصرف عنك تأثير نزغه بتزيين الشر ، وقد دلت التجربة على أن الالتجاء إلى الله تعالى وذكره بالقلب واللسان يصرف عن النفس وسوسة الشيطان كما قال تعالى : «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» والخطاب فى الآية وما ماثلها من الآيات موجه إلى كل مكلف يبلغه ، وأولهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقيل إنه موجه إلى الرسول والمراد أمته ، وقد روى مسلم عن عائشة وابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن ـ قالوا وإياك يا رسول الله؟ قال : وإياى إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم منه».

ثم بين سبحانه طريق سلامة من يستعذ من الشيطان من الوقوع فى المعصية فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي إن خيار المؤمنين وهم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ـ إذا ألمّ بهم طائف من الشيطان ليحملهم بوسوسته على المعصية أو إيقاع البغضاء بينهم ، تذكروا أن هذا من إغواء الشيطان عدوهم الذي أمر الله بالاستعاذة منه والالتجاء إليه

١٥٠

فى الحفظ من غوايته ، فإذا هم أولو بصيرة يربئون بأنفسهم أن تطيعه ، فهو إنما تأخذ وسوسته الغافلين عن ربهم الذين لا يراقبونه فى شئونهم وأعمالهم ، ولا شىء أقوى على طرد وساوس الشيطان من ذكر الله ومراقبته فى السر والعلن ، من قبل أنه يقوّى فى النفس حب الحق وداعى الخير ، ويضعف فيها الميل إلى الشرور والآثام ، فما مثل المؤمن المّتقى الذي لا يتمكن الشيطان من إغوائه وإن تمكن من مسه ، إلا مثل الصحيح الجسم القوى المزاج النظيف البدن والثوب والمكان لا تجد النسم (الميكروبات) طريقا لإفساد مزاجه وإصابته بالأمراض ، فإن مسه شىء منها بدخوله فى جمسه فتكت بها نسم الصحة فحالت دون فتكها به ، وهذا ما يسميه الأطباء (المناعة).

فقوىّ الروح بالإيمان والتقوى غير قابل لتأثير الشيطان فى نفسه ، لكن الشيطان دائما يتحين الفرص وعروض بعض الأهواء النفسية من شهوة أو غضب أو داعية حسد أو انتقام ، حتى إذا وجد الفرصة سانحة افترصها ولا بس النفس وقوىّ فيها داعى الشر كالحشرات القذرة التي تعرض للنظيف إذا أهملها بالغفلة عنها فعلت فعلها ، وإذا تداركها نجا من شرها وضرها ، وما سر هذا إلا المناعة النفسية أو الروحية.

وإن الإنسان ليشعر بتنازع دواعى الخير والشر فى نفسه ، وإن لداعية الخير والحق ملكا يقوّيها ، ولداعية الشر والباطل شيطانا يقويها ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله «إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ)».

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أي إن إخوان الشياطين وهم الجاهلون الذين لا يتقون الله ـ يتمكن الشياطين من إغوائهم فيمدونهم فى غيهم وإفسادهم ، لأنهم لا يذكرون الله إذا شعروا بالنزوع إلى الشر ولا يستعيذون به من تزع الشيطان ومسه ، إما لأنهم لا يؤمنون بالله وإما لأنهم لا يؤمنون بأن للإنسان شيطانا

١٥١

من الجن يوسوس إليه ويغريه بالشر ـ ثم لا يقصرون ولا يكفون عن إغوائهم وإفسادهم ، فلذلك يصرون على الشر والفساد لفقد الوازع النفسي والواعظ القلبي.

والخلاصة ـ إن المؤمنين إذا مسهم طائف من الشيطان يحملهم على المعاصي تذكروا فأبصروا وحذروا وسلموا ، وإن ذلوا تابوا وأنابوا ، وإن إخوان الشياطين تتمكن الشياطين من إغوائهم فيمدونهم فى غيهم ، ولا يكفون عن ذلك ، ومن ثم تراهم يستمرون فى شرورهم وآثامهم لفقد الوازع النفسي.

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن شياطين الجن والإنس لا يقصرون فى الإغواء والإضلال ـ قفّى على ذلك بذكر نوع خاص من هذا الإغواء وهو طلبهم آيات معينة ومعجزات مخصوصة تعنتا كما قال تعالى حكاية عنهم : «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» أي إذا لم تأتهم بما طلبوا قالوا هلا افتعلتها وأتيت بها من عند نفسك ، لأنهم كانوا يقولون : «ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً».

الإيضاح

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) قال الفرّاء تقول العرب : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك : أي وإذا لم يأتهم الرسول بآية قرآنية بأن تراخى نزول الوحى زمنا ما ـ قالوا لو لا افتعلت نظمها وتأليفها واخترعتها

١٥٢

من تلقاء نفسك ، وقد يكون المعنى : وإذا لم تأتهم بآية مما اقترحوا عليك قالوا : هلّا حباك الله بها بأن مكنك منها فاجتبيتها وأبرزتها لنا ، إن كنت صادقا فى أن الله يقبل دعاءك ويجيب التماسك.

(قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي إنه ليس لى أن أقترح على ربى أمرا من الأمور ، وإنما أنتظر الوحى ، فكل شىء أكرمنى به قلته وإلا وجب علىّ السكوت وترك الاقتراح.

وفى معنى الآية قوله تعالى : «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ».

وقد يكون المعنى ما أنا بقادر على إيجاد الآيات الكونية ولا بمفتات على الله فى طلبها ، وإنما أنا متبع لما يوحى إلىّ فضلا من ربى علىّ إذ جعلنى مبلّغا عنه.

وقد وصف الله تعالى القرآن بثلاثة أوصاف :

(١) (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) بصائر أي حجج بينة وبراهين نيرة للعقول فى الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد : أي إن هذا القرآن الذي أوحاه الله إلىّ بصائر وحجج من ربكم ، من يتأملها حق التأمل يكن بصير العقل بما تدل عليه من الحق ، فهى أدل عليه مما تطلبون من الآيات الكونية.

ونحو الآية قوله : «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها».

(٢) (وَهُدىً) أي وهو هدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

(٣) (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ورحمة فى الدنيا والآخرة للذين يؤمنون به كما قال تعالى : «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

وهذه الأوصاف له بالنسبة إلى معتنقيه ، ذاك أن منهم من بلغ فى معارف التوحيد

١٥٣

والنبوة والمعاد مرتبة أصبح بها كالمشاهد لها وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والقرآن لهؤلاء بصائر ، ومنهم من دون ذلك والقرآن لهم هدى ، وهو فى حق المؤمنين عامة رحمة ، لا جرم قال «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

تفسير المفردات

الاستماع : أخص من السمع ، لأنه إنما يكون بقصد ونية أو توجيه الحاسة إلى الكلام لإدراكه ، أما السمع : فيحصل ولو بغير قصد ، والإنصات : السكوت للاستماع حتى لا يكون شاغل عن الإحاطة بكل ما يقرأ ، والتضرع : إظهار الضراعة ، وهى الذلة والضعف والخضوع ، والخيفة : حالة الخوف والخشية ، ودون الجهر : أي ذكرا دون الجهر برفع الصوت وفوق التخافت والسر : بأن يذكر ذكرا وسطا ، والغدو : جمع غدوة ، وهى ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس ، والآصال : جمع أصيل ، وهو العشى من وقت العصر إلى غروب الشمس ، ويسبحونه : ينزهونه عما لا يليق به ؛ ويسجدون أي يصلون.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه مزايا القرآن الكريم وأنه آيات بينات للمؤمنين وهدى ورحمة لهم ـ قفّى على ذلك بذكر الدلائل على الطريق الموصلة لنيل الرحمة به ، والفوز بالمنافع الجليلة التي ينطوى عليها وهى الإنصات له إذا قرئ.

١٥٤

الإيضاح

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وإذا قرئ القرآن عليكم أيها المؤمنون فأصغوا له أسماعكم ، لتتفهموا آياته وتعتبروا بمواعظه ، وأنصتوا له لتعقلوه وتتدبروه ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه ، ليرحمكم ربّكم باتعاظكم بمواعظه ، واعتباركم بعبره ، واستعمالكم ما بينه لكم من فرائضه فى آيه ؛ فمن استمع وأنصت كان جديرا أن يفهم ويتدبر ، ومن كان كذلك كان حريّا أن يرحم.

والآية تدل على وجوب الاستماع والإنصات للقرآن إذا قرئ سواء أكان ذلك فى الصلاة أو فى خارجها وهو المروي عن الحسن البصري ، لكن الجمهور خصوه بقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم فى عهده وبقراءة الصلاة والخطبة من بعده ، ذلك أن إيجاب الاستماع والإنصات فى غير الصلاة والخطبة فيه حرج عظيم ، إذ يقتضى أن يترك له المشتغل بالعلم علمه والمشتغل بالحكم حكمه وكل ذى عمل عمله.

أما قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعضها تبليغا للتنزيل وبعضها وعظا وإرشادا ، فلا يسع أحدا من المسلمين يسمعه يقرأ أن يعرض عن الاستماع أو يتكلم بما يشغله أو يشغل غيره عنه ، وهكذا شأن المصلى مع إمامه وخطيبه ، إذ هذا هو المقصود من الصلاة والواجب فيها.

وما يفعله جماهير الناس فى المحافل التي يقرأ فيها القرآن كالمآتم وغيرها من ترك الاستماع والاشتغال بالأحاديث المختلفة ـ فمكروه كراهة شديدة ولا سيما لمن كانوا على مقربة من التالي ، ولا يجوز لقارئ أن يقرأ على قوم لا يستمعون له ، وإن كان أكثرهم يستمع وينصت فشذ بعضهم بمناجاة صاحبه بالجنب بلا تهويش على القارئ ولا على المستمعين كانت المخالفة سهلة لا تقتضى ترك القراءة ولا تنافى الاستماع.

والواجب على كل مؤمن بالقرآن أن يحرص على استماعه عند قراءته كما يحرص على تلاوته وأن يتأدب فى مجلس التلاوة.

١٥٥

وجملة الأمر فى ذلك ألا يصدر من السامع ما يعدّ فى اعتقاده أو فى عرف الناس أنه مناف للأدب : ولا بأس بقراءة القرآن حال القيام والقعود والاضطجاع والمشي والركوب ، ولا تكره مع حدث أصغر ولا مع نحاسة ثوب أو بدن ، وإن كان يستحب الوضوء حين القراءة حال الحدث ولا سيما للقارئ فى المسحف.

وتستحب القراءة بالترتيل والنغم الدالة على التأثير والخشوع من غير تكلف ولا تصنع ، فقد روى أبو هريرة مرفوعا «ما أذن (استمع) الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن» رواه الشيخان.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي واذكر ربك الذي خلقك وربّاك بنعمه فى نفسك بأن تستحضر معنى أسمائه وصفاته وآلائه وفضله عليك وحاجتك إليه ، متضرعا له خائفا منه راجيا نعمه ، واذكره بلسانك مع ذكره فى نفسك ذكرا دون الجهر برفع الصوت من القول وفوق التخافت والسر ، بل ذكرا قصدا وسطا كما قال تعالى : «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً».

وذكر اللسان وحده دون ذكر القلب وملاحظة معانى القول لا يجدى نفعا ، فكم رأينا من ذوى الأوراد والأدعية الذين يذكرون الله كثيرا بالمئين والآلاف ولا يفيدهم ذلك معرفة بالله ولا مراقبة له ، لأن ذلك أصبح عادة لهم تصحبها عادات أخرى منكرة ، ومن ثم كان الواجب الجمع بين ذكر القلب وذكر اللسان.

وأجمل الأوقات لهذا الذكر وقتان أول النهار وآخره لأنهما طرفا النهار ، ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به كان جديرا بأن يراقب الله ولا ينساه فيما بينهما ، ويكون هذا الذكر فى صلاتى الفجر والعصر اللتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدان عند الله بما وجدا عليه العبد كما ورد فى صحيح الآثار.

(وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر الله بل أشعر قلبك الخضوع له والخوف من

١٥٦

قدرته عليك إذا أنت غفلت عن ذلك ، ومن غفل عن ذكره تعالى مرض قلبه ، وضعف إيمانه ، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه نفسه.

ثم ختم سبحانه هذه الآيات بما يؤكد به الأمر والنهى السابقين فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي إن ملائكة الرحمن المقرّبين عنده لا يستكبرون عن عبادته كما يستكبر عنها هؤلاء المشركون ، وينزهونه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه وجلاله ، وعن اتخاذ الندّ والشريك كما يفعل الذين اتخذوا من دون الله شفعاء وأندادا يحبونهم كحبه ، وله وحده يصلون ويسجدون ، فلا يشركون معه أحدا ، فالواجب على كل مؤمن أن يجعل خواص الملائكة والمقربين إليه تعالى من حملة عرشه والحافّين به أسوة حسنة له فى صلاته وسجوده وسائر عبادته.

وقد شرع الله لنا السجود عند تلاوة هذه الآية أو سماعها ، إرغاما لمن أبي ذلك من المشركين ، واقتداء بالملائكة المقربين ، ومثلها آيات أخرى ستأتى فى مواضعها ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول فى سجوده لذلك : «اللهم لك سجد سوادى ، وبك آمن فؤادى ، اللهم ارزقني علما ينفعنى ، وعملا يرفعنى».

وفى الآية إرشاد إلى أن الأفضل إخفاء الذكر ، وقد روى أحمد قوله صلى الله عليه وسلم : «خير الذكر الخفي» فأين هذا مما يفعله جهلة زماننا الذين يجأرون فى ذكرهم بأصوات منكرة يستقبحها الدين والعقل والعرف ، ولا علاج لمثل هذا إلا حملة نكراء من رجال الدين عليهم حتى يتفهموا ما طلبه الدين وما رمى إليه من التضرع إليه تعالى خفية ودون الجهر بالقول. وصل الله على سيدنا محمد النبي الأمى وعلى آله وصحبه وسلم.

خلاصة ما اشتملت عليه السورة من الأغراض والمقاصد

يمكن إجمال القول فى الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة فيما يلى :

(١) التوحيد : وهو يتضمن دعاء الله وحده وإخلاص الدين له وتخصيصه بالعبادة ، فإنه شارع الدين فيجب اتباع ما أنزله ولا يجوز اتباع الأولياء من دونه

١٥٧

فى العقائد والعبادات ولا التحليل والتحريم الديني كما قال «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ».

وإن القول عليه بغير علم بتشريع أو غيره لا يجوز لأحد كما قال : «أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟».

وإن جميع ما يشرعه لعباده حسن وما سواه قبيح : «قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» ونحن مأمورون بذكره تضرعا وخفية سرا وجهرا.

(٢) الوحى والكتب ، ويتضمن ذلك إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم للإنذار به ، والأمر باستماعه والإنصات له رجاء الرحمة بسماعه والاهتداء به وأمر المؤمنين باتباع المنزل عليهم من ربهم.

(٣) الرسالة والرسل ، ويشمل ذلك بعثة الرسل إلى جميع بنى آدم كما قال : «يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي» وسؤالهم يوم القيامة عن التبليغ وسؤال الأمم عن الإجابة ـ ومجىء الرسل بالبينات من الله تعالى تأييدا منه لهم ـ وعقاب الأمم على تكذيب الرسل كما ذكر فى قصص نوح وهود وصالح وشعيب.

(٤) عالم الآخرة : ويتضمن ذلك البعث والإعادة فى الآخرة كما قال : «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» ووزن الأعمال يوم القيامة وترتيب الجزاء على ثقل الموازين وخفتها وأن الجزاء بالعمل ، وإقامة أهل الجنة الحجة على أهل النار ، والحجاب بين أهل الجنة وأهل النار ونداء أصحاب النار أصحاب الجنة ، واعتراف أهل النار فى الآخرة بصدق الرسل ، وصفة أهل النار ، وقيام الساعة وكونها تأتى بغتة.

(٥) أصول التشريع : ويتضمن هذا وجوب اتباع الدين على أنه قربة يثاب فاعلها عليها ويعاقب تاركها فى الآخرة ، وتحريم التقليد فيه ، والأخذ بآراء البشر وتعظيم شأن النظر العقلي ، والتفكر لتحصيل العلم بما يجب الإيمان به ومعرفة آيات الله وسننه

١٥٨

فى خلقه والأمر بالعدل فى الأحكام والأعمال كما قال «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» وحصر أنواع المحرمات الدينية العامة فى قوله «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» إلخ ، وبيان أصول الفضائل الأدبية والتشريعية فى قوله «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ».

(٦) آيات الله وسننه فى الكون ـ ويتضمن ذلك خلق السموات والأرض فى ستة أيام واستواءه على العرش ونظام الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره ـ وخلق الرياح والمطر وإحياء الأرض به وإخراجه الثمرات من الأرض ـ خلق الناس من نفس واحدة وخلق زوجها منها ليسكن إليها وإعداد الزوجين للتناسل ـ وتفضيل الإنسان على من فى الأرض جميعا ـ خلق بنى آدم مستعدين لمعرفة الله وإشهاد الرب إياهم على أنفسهم أنه ربهم وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم بما منحوه من العقل وحجته تعالى عليهم بذلك ـ خلقهم مستعدين للشرك وما يتبعه من الخرافات ـ ضرب الأمثال لاختلاف الاستعداد لكل من الخير والشر وعلامة كل منهما فيهم يكون بما يرى من ثماره ـ وفى ذلك تعليم لنا بطلب معرفة الشيء بأثره ومعرفة الأثر بمصدره ـ عداوة إبليس والشياطين من نسله لبنى آدم وإغوائهم بالفساد مع ذكر حكمة ذلك ، بيان أن الشياطين أولياء للمجرمين الذين لا يؤمنون ـ منّة الله على البشر بتسهيل أسباب المعاش لهم ـ آيات الله تعالى ونعمه على بنى إسرائيل إلى نحو أولئك مما فيه سعادة البشر فى دينهم ودنياهم.

(٧) سننه تعالى فى الاجتماع والعمران البشرى ـ ويتضمن ذلك إهلاك الله الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها وأن للأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عنها بما اقتضته السنن الإلهية العامة ـ ابتلاء الله الأمم بالبأساء والضراء تارة وبالرخاء والنعماء أخرى ـ وأن الإيمان بما دعا إليه والتقوى فى العمل بشرعه فعلا وتركا سبب لكثرة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة كما قال تعالى : «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» وأن لله فى إرث الأرض واستخلاف الأمم والسيادة

١٥٩

على الشعوب سننا لا تتبدل كما قال : «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» أي إن الأرض ليست رهن تصرف الملوك والدول بقدرتهم الذاتية فتدوم لهم وإنما هى لله ، ولله سنن فى سلبها من قوم وجعلها إرثا لقوم آخرين ـ وقد جعل العاقبة للمتقين الذين يتقون أسباب الضعف والتخاذل والفساد فى الأرض ويتصفون بضدها وبسائر ما تقوى به الأمم من الأخلاق والأعمال كالصبر على المكاره والاستعانة بالله الذي بيده ملكوت كل شىء.

وإنا نرى أن بعض الشعوب الإسلامية المستضعفة فى هذا العصر باستعمار الدول الأوربية لها يائسة من استقلالها وعزتها لما ترى من رجحان ذوى السيادة عليها فى القوى المادية جهلا منهم بسنة الله التي بينها للناس فإن رجحان فرعون وقومه على بنى إسرائيل كان فوق رجحان قوى السائدين وقهرهم إياهم.

وقد كان ينبغى للمسلمين أن يتقوه تعالى باتقاء كل ما قصه عليهم من ذنوب الأمم التي هلك بها من كان قبلهم حتى دالت دولتهم وزال ملكهم ولله الأمر من قبل ومن بعد.

١٦٠