تفسير المراغي - ج ٣

أحمد مصطفى المراغي

١

٢

الجزء الثّالث

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣))

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في بيان سنة الله في خلقه ، أن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل ، وأنه لا بد أن يقيّض له أعوانا يدافعون عنه ، ويكتب لهم الغلبة والفوز مهما كان للباطل من صولة ، وقد ضرب لذلك مثل جالوت جبّار الفلسطينيين الذي استولى على ملك بنى إسرائيل واستحوذ على خيرات بلادهم ، فقام أولو الرأى فيهم وطلبوا من نبيهم صموئيل أن يختار لهم ملكا يقوم بأمرهم ، ويعدّ لهم جيشا يقاوم به

٣

عدوهم فاختار لهم طالوت ملكا ، فجيّش الجيوش وذهب بهم إلى ساحة القتال ، وكتب لهم الظفر على العدوّ بإذن الله ، وقتل داود ـ وكان في عسكر طالوت ـ جالوت وانهزم العدو وولّى الأدبار ، وكان الفوز للمؤمنين على الوثنيين الكافرين.

وما تمّ هذا إلا بفضل داود الذي آتاه الله الملك والنبوة ، وعلّمه كل ما ينفع من عتاد الحرب كالدروع والآلات الأخرى.

ثم ذكر بعد هذا أنه لو لا فضل الله ورحمته وسابق حكمته بأن يدفع أهل الخير والإصلاح في الأرض أهل الفساد والشرور والآثام فيها لا ختل نظام العالم وفسد أمره.

وبعدئذ ذكر أن ذلك القصص الذي تلاه على رسوله قصص أمم قد خلت لم يكن له سابق علم بحالها من قبل ، فمعرفته إياها لم تكن إلا بوحي من لدن حكيم خبير ، وهذا دليل على أنه من المرسلين.

وهنا ذكر أن أولئك المرسلين قد ميز الله بعضهم على بعض ، فآتى بعضا مزايا ومناقب ليست لغيره كما فصل ذلك في الآية الكريمة ، وقد خص بالذكر من بقي لهم أتباع ، وذكر ما كان من أمر أتباعهم من بعدهم في الاختلاف والاقتتال.

الإيضاح

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي هؤلاء الرسل المشار إليهم بقوله : «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» فضلنا بعضهم على بعض في مراتب الكمال ، فخصصناه بمآثر جليلة خلا عنها غيره ، مع استوائهم جميعا في اختياره تعالى لهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

وخلاصة هذا ـ إنهم كلهم رسل الله ، فهم جديرون أن يقتدى بهم ويهتدى بهديهم ، وإن امتاز بعضهم عن بعض بخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم.

ثم بين هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال :

٤

(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام ، كما قال تعالى في سورة النساء «وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً» وفي سورة الأعراف «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ» وفي الآية بعدها «قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي».

(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أي ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل بمراتب متباعدة في الكمال والشرف ، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن جرير عن مجاهد ، ويؤيده السياق أيضا ، فإن الكلام في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل ، والتشنيع عليهم في اختلافهم واقتتالهم ، مع أن دينهم واحد في جوهره ، والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والمسلمون ، فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر وقد ذكر موسى أولا وعيسى آخرا ومحمدا في الوسط ، إشعارا بأن شريعته وأمته وسط.

ومن هذه الدرجات ما هو خصوصية في أخلاقه الشريفة كما يرشد إلى ذلك قوله فى سورة القلم «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ومنها ما هو في كتابه وشريعته كما يدل على ذلك قوله في فضل القرآن «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» وقوله : «اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ».

ومنها ما هو في أمته الذين اتبعوه وعضوا على دينه بالنواجذ كما قال : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ».

ولو لم يؤت من المعجزات إلا القرآن وحده لكفى به فضلا على سائر ما أوتى الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات ، وقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال : «ما من نبىّ من الأنبياء إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن

٥

على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

وروى عنه أنه قال : «فضّلت على الأنبياء بست : أوتيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلّت لى الغنائم ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون».

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البينات هى ما يتبين به الحق من الآيات والدلائل كما قال : «وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ» وأيدناه : أي قوّيناه ، وروح القدس هو روح الوحى الذي يؤيد الله به رسله كما قال للنبى صلى الله عليه وسلم «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ».

وخصّ عيسى بإيتاء البينات تقبيحا لإفراط اليهود في تحقيره ، إذ أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من البينات القاطعة الدالة على صدقه ، ولإفراط النصارى في تعظيمه حيث أخرجوه من مرتبة الرسالة وزعموا أنه إله لا رسول مؤيد بآيات الله.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) قوله : من بعدهم أي من بعد الرسل من الأمم المختلفة ، أي ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل الذين جاءوا بالحق من ربهم ، وقوله من بعد ما جاءتهم البينات : أي من بعد ما جاءهم الرسل بالمعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على الحق الموجبة لاتباعهم ، والزاجرة عن الإعراض عن سننهم ، وقوله : ولكن اختلفوا : أي إنه لم يشأ عدم اقتتالهم ، لأنهم اختلفوا اختلافا كبيرا ، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل ، ومنهم من كفر بذلك كفرانا لا أمل معه في هداية.

وإيضاح هذا أن الله جعل للإنسان عقلا يتصرف به في أنواع شعوره ، وفكرا يجول به في طرق معيشته ومعرفة ما يصلح له في شئونه النفسية والبدنية ، وجعل ارتقاءه

٦

فى إدراكه وأفكاره كسبيا ، فهو ينشأ ضعيف الإدراك ثم يقوى بالتربية والتعليم وتجارب السنين ، كما جعل هداية الدين له أمرا اختياريا يأخذ منها بقدر استعداده وفكره كما هو شأنه في الاستفادة من منافع الكون ، وهذا هو منشأ الاختلاف.

ولو شاء الله أن يجعل الدين من إلهاماته العامة ، وشعوره الفطري كشعور الحيوان وإلهامه لكان الناس في هدايته سواء يسعدون به أجمعين ، فتمنعهم بيناته أن يختلفوا فيقتتلوا ، لكنه خلق الإنسان على غير ما عليه الحيوان ، وكان هذا سبب اختلاف أهل الأديان ، فمنهم من آمن إيمانا صحيحا فأخذ الدين على وجهه وفهمه حق فهمه ، ومنهم من حكّم هواه في تأويله فكان كافرا به في الحقيقة ، وهذا هو منشأ التخاصم ، وسبب التنازع والقتال ، وقد اختلف اليهود في دينهم فاقتتلوا ، والنصارى كانوا أشد منهم في ذلك ، فتفرقوا طرائق قددا ، وكان أهل المذهب الواحد يتشعبون شعبا يقاتل بعضها بعضا.

وقد نهى الله المسلمين عن مثل هذا الخلاف ، وأمرهم بالاتحاد والوئام ، فامتثلوا أمره فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وزمنا قليلا بعده فكانوا خير أمة أخرجت للناس ، ثم تفرّقوا في الدين مذاهب واقتتلوا فيه ، وما زالت الحال تتفاقم حتى صاروا أبعد الأمم عن الاتفاق والائتلاف.

وقد جرت سنة الله بأن أهل الدين الواحد يقاتل بعضهم بعضا باسم الدين ، ولحماية الدين من طغيان الملحدين ، ولله في خلقه شئون.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) أي ولو شاء الله أن يعذر بعض المختلفين بعضا ، ويقتصر كل فريق على الانتصار لرأيه بالحجة ـ لما اقتتلوا على ما يختلفون فيه ، لكنه أودع فى غرائزهم النضال عن مصلحتهم بكل ما قدروا عليه من قول أو فعل ، فمنهم من يقارع الحجة بالحجة ، ومنهم القوىّ الذي يقاوم بالسيف ، فكان الاختلاف في الرأى والمصالح مع عدم العذر مؤديا إلى الاقتتال لا محالة.

(وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) أي إن اختصاص الناس بهذه المزايا أثر من آثار

٧

إرادته تعالى فلا مرد له ، فإن أراد الله التوفيق لبعض عباده آمن به وأطاعه ، وإن أراد الخذلان لبعض آخر كفر به وعصاه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

تفسير المفردات

المراد باليوم هنا يوم الحساب ، لا بيع فيه : أي لا فداء فيتدارك المقصّر تقصيره ، ولا خلّة : أي ولا صداقة ولا مودة بنافعة ، والمراد بالكافرين تاركو الزكاة ، والظالمون : هم الذين وضعوا المال في غير موضعه وصرفوه في غير وجهه.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا فيما كان من الرسل ، ومن أقوامهم بعدهم من الاختلاف والاقتتال ـ وهنا عاد إلى الأمر بالإنفاق بأسلوب آخر غير ما تقدم ، فالأول كان خطابا بالترغيب لمن لطف وجدانه وشعوره ، وبلغ في مراتب الكمال منازل الصديقين ، ولكن الأكثرين من الناس يفعل في نفوسهم الترهيب أكثر مما يفعل فيهم الترغيب ، فهم لا ينفقون في سبيل الله إلا خوفا من العقاب ، أو طمعا في الثواب ، وقد يجول بخاطر بعض الضعفاء أن يركنوا إلى شفاعة تغنى عن العمل ، أو فدية تقى صاحبها عاقبة ما كان منه من الزلل ، أو خلة بها يسامح صاحب الكبيرة مما ألمّ به من الخطل ـ فمثل هؤلاء يخاطبون بنحو ما في هذه الآية.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) الإنفاق هنا يشمل الإنفاق الواجب بالزكاة ، والإنفاق المستحب أيضا.

٨

ذاك أنه إذا اضطرب حبل الأمن في الأمة ، أو انتشر المرض في أبنائها ، أو كثر الجهل في أفرادها ، ولا سبيل لدرء هذا إلا ببذل المال ـ وجب على الأغنياء أن يبذلوه لدفع هذه المفاسد ، وإزالة هذه الطوارئ لحفظ المصالح العامة.

وفي قوله «مِمَّا رَزَقْناكُمْ» حث على الإنفاق وإشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه.

وقوله «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ...» إلى آخره أي من قبل أن يأتي يوم الحساب الذي لا يفدى فيه مقصّر بمال ، ولا تنفع فيه الصداقة ، ولا تجدى الشفاعة.

وخلاصة ذلك ـ إن الإنفاق في سبيل البر هو الذي ينجيكم في ذلك اليوم الذي لا ينجّى فيه الأشحة الباخلين من عذاب الله فداء يفتدون به أنفسهم ، ولا خلة يحمل فيها الخليل شيئا من أوزار خليله ، أو يهبه شيئا من حسناته ، ولا شفاعة يؤثر بها الشفيع فيما أراده الله ، فيحولها عن مجازاة الكافر بالنعمة الباخل بالصدقة ، المستحق للمقت والعقوبة بما دنّس به نفسه في الدنيا ودسّاها به من المعاصي والآثام ، ويجعله يترك عقوبته مرضاة له.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ».

وفي الآية إيماء إلى أن أمور الآخرة لا تقاس على ما هو حاصل في الدنيا ، فلا يظن امرؤ أنه ينجو فيها بفداء يفتدى به أو شفاعة تناله من النبيين والربانيين كما كانت فى الدنيا تناله من الأمراء والسلاطين ، وإن كان في هذه الحياة فاسقا ظالما فاسد الأخلاق منّاعا للخير معتديا أثيما.

(وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم ، إذ وضعوا المال في غير موضعه ، وصرفوه في غير وجهه ، وقد سماهم الله كافرين تغليظا وتهديدا كما قال في آخر آية الحج «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» مكان

٩

ومن لم يحج ، وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار كقوله : «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ».

ذاك أن العلة في منع الزكاة ونحوها من النفقات الواجبة ، أن حب المال أعلى فى قلب المانع من حب الله تعالى ، وشأنه أعظم في نفسه من حقوقه عز وجل ، والنفس تدعن دائما لما هو أرجح لديها نفعا ، وأعظم في وجدانها وقعا.

وظلم الباخل بفضل ماله على ملهوف يغبثه ، أو مضطر يكشف ضرورته ، أو على المصالح العامة التي تقى أمته مصارع السوء ، أو ترفع من قدرها ، أو تزيل العقبات من طريقها ـ من أقبح أنواع الظلم ، فلا يعذر صاحبه بوجه من الوجوه التي يتعلل بها سواه ممن ظلموا أنفسهم.

وإن حال المسلمين اليوم لتوجب الأسى والحزن ، فترى أغنياءهم يعرفون حاجة أمتهم إلى بذل المال في إنشاء دور العلم ، لينشلوها من بحار الجهل التي هى غارقة فيها وإلى رفع مستوى أخلاقها التي وصلت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط ، حتى عمّ الفقر والشقاء ، ثم هم بعد ذلك يبخلون بفضلة مما أعطاهم الله من رزقه ، لتكون بلسما تداوى به تلك النفوس المكلومة ، وعلاجا لهذه الأمراض التي انتابتها.

ومثل هؤلاء لا يستحقون أن ينسبوا إلى الإسلام ، ولا أن يكونوا من المسلمين ، إذ ليس في أحدهم عرق ينبض أو يتألم لمصايب المسلمين ، فمن كان يرى أن ماله أفضل من دينه في الوجدان والعمل ، وهو أرجح من رضوان ربه ، فهو كافر بنعمته وإن سمى نفسه مؤمنا ، فما إيمانه إلا كإيمان من نزل فيهم «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ».

وقد أنذر الله مثل هؤلاء بقوله : «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ».

١٠

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))

تفسير المفردات

الله هو المعبود بحق ، والعبادة استعباد الروح وإخضاعها لسلطة غيبية لا تحيط بها علما ، ولا تدرك كنهها وحقيقتها ، وكل ما ألّهه البشر من جماد ونبات وحيوان وإنسان ، فقد اعتقدوا فيه هذا السلطان الغيبى استقلالا أو تبعا لسواه ، والحي هو ذو الحياة ، والحياة هى مبدأ الشعور والإدراك والحركة والنمو ، وهى بهذا المعنى مما يتنزه عنها الله سبحانه ، فالمراد بها بالنسبة إليه تعالى الوصف الذي يعقل معه الاتصاف بالعلم والإرادة والقدرة ، والقيوم القائم على حلقه بتدبير آجالهم وأعمالهم وأرزاقهم كما قال تعالى «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» والأخذ : الغلبة والاستيلاء ، والسّنة : النعاس ، وهو فتور يسبق النوم ، قال عدىّ بن الرقاع :

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت

فى عينه سنة وليس بنائم

والنوم : حال تعرض للحيوان بها تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس والشعور ، والكرسي : هو العلم الإلهى ، وآده الشيء : يئوده إذا أثقله ولحقه منه مشقة ، والعلىّ : هو المتعالي عن الأشباه والأنداد ، والعظيم : هو الكبير الذي لا شىء أعظم منه.

المعنى الجملي

أمرنا سبحانه قبل هذا بالإنفاق في سبيله قبل أن يأتي اليوم الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين ، ولا يغنى مال يعطى فدية عن العاصين ، ولا تنفع صداقة لدي الرؤساء

١١

وذوى الثراء كما كانت تجدى في الدنيا نفعا ، وبها تحلّ كل مهمة ـ هنا انتقل إلى تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه حتى يستشعر العبد عظيم سلطانه ، ووجوب الطاعة لأمره ، والإذعان لحكمه ، والوقوف عند حدوده ، وبذل المال في سبيله ، وعدم الركون إلى شفاعة الشافعين ولا الفدية بمال ولا بنين.

الإيضاح

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أي الإله الحق الذي يستحق أن يعبد هو الله الواحد الصمد ، ذو الملك والملكوت ، الحي الذي لا يموت ، القائم بتدبير أمر عباده ، يكلؤهم ويحفظهم ويرزقهم.

(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) أي لا يعتريه نوم ولا مقدماته ، وإذا كان كذلك كان قائما بتدبير شئون عباده في جميع الأوقات آناء الليل وأطراف النهار.

وقد جاء النظم الكريم بحسب الترتيب الطبيعي في الوجود ، فنفى ما يعرض أولا وهو السّنة ، ثم ما يتبعها وهو النوم ، وبعبارة أخرى ـ هو ترقّ في نفى النقص عنه ، فإن من لا تغلبه السنة قد يغلبه النوم لأنه أقوى ، فذكر النوم بعد السنة ترقّ من نفى الأضعف إلى نفى الأقوى.

والخلاصة ـ إن هذه الجملة مؤكدة لما قبلها ، مقررة لمعنى الحياة والقيومية على أتمّ وجه ، إذ من تأخذه السنة والنوم يكون ضعيف الحياة ، ضعيف القيام بشئون نفسه ، وبشئون غيره.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فكل من فيهما وما فيهما ملكه وعبيده ، خاضعون لمشيئته ، وهو المصرف لشئونهم والحافظ لوجودهم.

وهذه الجملة تأكيد ثان لقيوميته واحتجاج بها على تفرده في الألوهية. لأنه تعالى خلقهما بما فيهما.

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي من ذا الذي يستطبع من عبيده

١٢

أن يغيّر ما مضت به سنته ، وقضت به حكمته ، وأوعدت به شريعته ، من تعذيب ذوى العقائد الباطلة ، والأخلاق السافلة الذين أفسدوا في الأرض ، وانحرفوا عن جادة الدين إلا إذا أذن له ربه ، ونحو هذا قوله. «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ».

وهذا تمثيل لانفراده بالملك والسلطان في ذلك اليوم ، وأن أحدا من عباده لا يجرؤ على الشفاعة أو التكلم بدون إذنه ـ وإذنه غير معروف لأحد من خلقه ـ وفي ذلك قطع لأمل الشافعين ، والذين يركنون إلى الشفاعة التي كان يقول بها المشركون وأهل الكتاب.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم أمور الدنيا التي خلفوها ، وأمور الآخرة التي يستقبلونها.

وهذه الجملة مؤكدة لنفى الشفاعة ، إذ من كان عالما بكل شىء فعله العباد في الماضي وفيما هو حاضر بين أيديهم وفيما يستقبلهم ، وكان ما يجازيهم به مبنيا على هذا العلم ، كانت الشفاعة على هذا النحو المعروف ، مما يستحيل عليه تعالى ، لأنها لا تتحقق إلا بإعلام الشفيع المشفوع عنده من أمر المشفوع له وما يستحقه ما لم يكن يعلم.

وما ورد من أحاديث الشفاعة ، فهو محمول على الدعاء الذي يفعل الله تعالى عقبه ما سبق في علمه الأزلى أنه سيفعله ، مع أنا نقطع بأن الشافع لا يغيّر شيئا من علمه ، ولا يحدث تأثيرا في إرادته ، وبذلك تظهر كرامة الله لعبده بما أوقع من الفعل عقب دعائه ، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.

(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) أي إن أحدا من خلقه لا يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء ذلك ، والشفاعة تتوقف على إذنه تعالى ، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه ، وإنما يعرف إذنه تعالى بما حدده من الأحكام في كتابه ، فمن بيّن أنه مستحق لعقابه ، فلا يجرؤ أحد أن يدعو له بالنجاة ، ومن بيّن أنه مستحق لرضوانه على هفوات ألمّ بها

١٣

لم تحوّل وجهه عن الله تعالى إلى الباطل والفساد ، ولم تدسّ روحه حتى تسترسل فى الخطايا ، فهو واصل إليه على ما وعد به في كتابه وما تفضل به على عباده.

(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي إن علمه تعالى محيط بما يعملون مما عبر عنه بقوله : «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» وبما لا يعلمون من شئون سائر الكائنات ، ويرى جمع من المفسرين منهم القفال والزمخشري أن الكلام تصوير لعظمته وتمثيل لكبريائه ، ولا كرسىّ ولا قيام ولا قعود ، وقد خاطب سبحانه عباده في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم.

والخلاصة ـ إن الكرسي شىء يضبط السموات والأرض ، نسلم به بدون بحث فى تعينه ، ولا كشف عن حقيقته ، ولا كلام فيه بالرأى دون نص عن المعصوم.

(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) أي ولا يثقله حفظ هذه العوالم بما فيها ، ولا يشق عليه ذلك ، وإنما لم يذكر ما فيهما ، لأن حفظهما مستتبع لحفظه.

(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أي وهو المتعالي عن الأنداد والأشباه ، العظيم على كل شىء سواه ، فهو المنزّه بعظمته عن الاحتياج إلى من يعلمه بحقيقة أحوالهم ، أو يستنزله عما يريد من مجازاتهم على أعمالهم.

والخلاصة ـ إن هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وجلاله وكماله ، حتى لا تدع موضعا للغرور بالشفعاء الذين يعظمهم المغرورون ويتكلون على شفاعتهم ، فأوقعهم ذلك فى ترك المبالاة بالدين ، فخويت القلوب من ذكر الله ، وخلت من خشيته جهلا منها بما يجب من معرفته ، وأفسدت فطرتهم الأهواء والجهالات ، فلا يجدون ما يلهون به إلا كلمة (الشَّفاعَةَ) ومن اغترّ بها فشيطانه هو الذي يوسوس له ، ويمده في الغى.

فهذه النفوس لم تعرف عظمة الله ، ولم تستشعر بالحياء منه ، ولم تحترم دينها وشريعتها ، إذ آية ذلك بذل المال والروح في إعلاء كلمته ، لا تعظيمه بالقول دون أن بصدق ذلك العمل.

١٤

وإنك لترى المسلمين يترنمون بهذه الآيات ، وقلّما تحدث لأحد منهم ذكرا يصرفه عن الشفاعات ، ويرجو النجاة بعمل الصالحات وهو مؤمن كما وعد الله بذلك في كتابه ، وقد حذوا حذو أهل الكتاب من قبلهم ، واتكلوا في نجاتهم على شفاعة سلفهم ، وتركوا المبالاة بالدين.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

تفسير المفردات

لا إكراه في الدين : أي لا إكراه في دخول الدين ، وبان الشيء واستبان : وصح وظهر ، ومنه المثل : تبيّن الصبح لذى عينين ، والرشد : بالضم والتحريك ، والرشاد :

الهدى وكل خير ، وضده الغى ، والجهل كالغى إلا أن الأول في الاعتقاد ، والثاني فى الأفعال ، ومن ثم قيل زوال الجهل بالعلم ، وزوال الغى بالرشد ، والطاغوت : من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد في الشيء ، ويجوز تذكيره وتأنيثه وإفراده وجمعه بحسب المعنى كما قال تعالى : «أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ» وقال : «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» والعروة من الدلو والكوز ونحوهما : المقبض الذي يمسك به من يأخذهما ، والوثقي : مؤنث الأوثق ، وهو الحبل الوثيق المحكم ، والانفصام. الانكسار أو الانقطاع ، من قولهم فصمه فانفصم أي كسره أو قطعه ، والولي : الناصر والمعين ، والظلمات : هى الضلالات التي نعرض للإنسان في أطوار حياته ،

١٥

كالكفر والشبهات التي تعرض دون الدين فتصدّ عن النظر فيه أو تحول دون فهمه ، والإذعان له كالبدع والأهواء التي تحمل على تأويله وصرفه عن وجهه والشهوات التي تشغل عنه.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه وانفراده بالملك والسلطان في السموات والأرض ، وبيان أن علمه محيط بكل شىء وأنه العلى العظيم.

والكلام هنا في بيان أن الاعتقاد بهذا أمر تهدى إليه الفطرة ، وترشد إليه المشاهدات الكونية ، فأماراته واضحة ، والنّصب عليه جلية لا لبس فيها ولا إبهام ، فمن هدى إليه فقد فاز بالسعادة ، ومن أعرض عنه خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين.

وسبب نزول الآية ما رواه ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس : أن رجلا من الأنصار يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلما ، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما؟ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله الآية ، وفي بعض الروايات أنه حاول إكراههما ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال يا رسول الله : أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ، فنزلت فخلّاهما.

الإيضاح

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أي لا إكراه في الدخول فيه ، لأن الإيمان إذعان وخضوع ، ولا يكون ذلك بالإلزام والإكراه ، وإنما يكون بالحجة والبرهان.

وكفى بهذه الآية حجة على من زعم من أعداء الدين ، بل من أوليائه ، أن الإسلام ما قام إلا والسيف ناصره ، فكان يعرض على الناس ، فإن قبلوه نجوا ، وإن رفضوه حكم فيهم السيف حكمه.

١٦

والتاريخ شاهد صدق على كذب هذا الافتراء ، فهل كان السيف يعمل عمله فى إكراه الناس على الإسلام حين كان النبي يصلى مستخفيا والمشركون يفتنون المسلمين بضروب من التعذيب ، ولا يجدون زاجرا حتى اضطر النبي وصحبه إلى الهجرة؟ أو كان ذلك الإكراه في المدينة بعد أن اعتز الإسلام؟ وقد نزلت هذه الآية في مبدأ هذه العزة ، فإن غزوة بنى النضير كانت في السنة الرابعة للهجرة ، اللهم لا هذا ولا ذاك.

هذا ، وقد كان معهودا عند بعض الملل ولا سيما النصارى إكراه الناس على الدخول فى دينهم.

ثم أكد عدم الإكراه بقوله :

(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) أي قد ظهر أن في هذا الدين الرشد والفلاح ، وأن ما خالفه من الملل الأخرى غىّ وضلال.

ثم فصل ذلك فقال :

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) أي فمن يكفر بما تكون عبادته والإيمان به سببا في الطغيان والخروج عن الحق من عبادة مخلوق ، إنسانا كان أو شيطانا أو وثنا أو صنما ، أو تقليد رئيس ، أو طاعة هوى ، ويؤمن بالله فلا يعبد إلا إياه ، ولا يرجو شيئا من أحد سواه ، ويعترف بأن له رسلا أرسلهم للناس مبشرين ومنذرين بأوامره ونواهيه التي فيها مصلحة للناس كافة ـ فقد تحرى باعتقاده وعمله أن يكون ممسكا بأوثق عرا النجاة ، وأمتن وسائل الحق ، وإنما يكون ذلك بالاستقامة على الطريق القويم الذي لا يضل سالكه ، فمثله مثل الممسك بعروة الحبل المحكم المأمون الانقطاع لدى حمل جسم كبير ثقيل.

ثم أتى بما يفيد الترغيب والترهيب فقال :

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لأقوال من يدعى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، عليم بما يكنه قلبه مما يصدق هذا أو يكذبه ، فمن اعتقد أن جميع الأشياء مسيرة بقدرة الله لا تأثير فيها لأحد سواه ، فهو المؤمن حقا وله الجزاء الأوفى ، ومن انطوى قلبه

١٧

على شىء من نزعات الوثنية ، ونسب ما جهل سره من عجائب الخلق إلى قوة غير طبيعية يتقرب بها إلى الله زلفى ، فقد حق عليه العذاب ، وكان جزاؤه جزاء الدين يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين.

وجاء بمعنى الآية قوله : «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟».

وقد جعل المسلمون قوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أسّا من أسس الدين ، وركنا عظيما من أركان سياسته ، فلم يجيزوا إكراه أحد على الدخول فيه ، كما لم يجيزوا لأحد أن يكره أحدا على الخروج منه.

وإنما يتم ذلك إذا كانت لنا المنعة والقوة التي نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتتنا فيه أو الاعتداء علينا ، وقد أمرنا الله بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نجادل المخالفين بالتي هى أحسن مع حرية الدعوة وأمن الفتنة.

وإنما فرض علينا الجهاد ليكون سياجا ووقاية لصدّ من يقاوم هذه الدعوة ، ويمنع نشر هذا النور في أرجاء المعمورة ، وكف شر الكافرين عن المؤمنين ، كيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن يتمكن الإيمان من قلبه ، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه ، كما كانوا يفعلون ذلك في مكة جهرا ، ومن ثم قال سبحانه : «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي حتى يكون الدين كله خالصا لله غير مزعزع ولا مضطرب ، ولن يكون كذلك إلا إذا كفّت الفتن عنه وقوى سلطانه حتى لا يجرؤ على أهله أحد.

والفتن تكفّ بأحد أمرين :

(١) بإظهار المعاندين الإسلام ولو باللسان ، وبدا لا يكونون من خصومنا ولا يناصبوننا العداء ، ولا يمنعون أحدا من الدعوة إليه.

(٢) بقبول الجزية وهى جزء من المال يؤخذ من أهل الكتاب جزاء حمايتنا لهم بعد أن يخضعوا لنا فنكفى شرهم.

١٨

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي إن المؤمن لا ولىّ له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله تعالى ، فهو يهديه إلى استعمال ضروب الهدايات التي وهبها له (الحواس والعقل والدين) على الوجه الصحيح ، وإذا عرضت له شبهة لاح له شعاع من نور الحق يطرد هذه الظلمة حتى يخلص منها كما قال : «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ».

فنظر الحواس في الأكوان وإدراكها ما فيها من بديع الإتقان ينير هذه الحواس ، ونظر العقل في المعقولات يزيده نورا على نور ، والنظر فيما جاء به الدين من الآيات يتمم له ما يصل به إلى أوج سعادته ومنتهى فوزه وفلاحه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) أي والكافرون لا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة التي تسوقهم إلى الطغيان ، فإن كانت من الأحياء الناطقة ورأت أن عابديها قد لاح لهم شعاع من نور الحق نبههم إلى فساد ما هم فيه ـ بادرت إلى إطفائه وصرفه عنهم بإلقاء حجب الشبهات ، وإن كانت من غير الأحياء فسدنة هياكلها وزعماء حزبها لا يقصّرون في تنميق هذه الشبهات ، ببيان أن الواجب الاعتقاد بتلك السلطة وبما ينبغي لأربابها من التعظيم ، وهو لا شك عبادة وإن سموه توسلا أو استشفاعا أو غير ذلك من الأسماء.

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فإن ما يكون في الآخرة ما هو إلا جزاء لما كان عليه الإنسان في الدنيا ، ولا يليق بأهل الظلمات الذين لم يبق لنور الحق مكان فى نفوسهم إلا تلك الدار التي وقودها الناس والحجارة.

ونحن لا نبحث عن حقيقتها ، وإن كنا نعتقد مما جاء فيها من نصوص الدين أنها دار شقاء وعذاب ، جزاء ما قدمته أيدى العاصين من سيئ أعمالهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ

١٩

فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨))

تفسير المفردات

الاستفهام للتعجيب والإنكار ، وحاجّ جادل وقابل الحجة بالحجة ، فبهت : أي صار مبهوتا دهشا وأخذه الحصر من سطوع نور الحجة فلم يجد جوابا ، الظالمين : أي المعرضين عن قبول الهداية بالنظر في الدلائل القاطعة التي توصل إلى معرفة الحق.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت فيما سلف أن الله ولىّ الذين آمنوا ، وأن الطاغوت ولىّ الكافرين ضرب هنا مثلا يؤيد تلك القضية ويكون شاهدا على صدقها ودليلا على صحتها ، فبيّن أن إبراهيم كيف وفقه الله وتولاه بولايته إلى الحجج القيمة التي أزال بها تلك الشبهات التي عرضها عليه خصمه حتى فاز عليه وفلج بحجته ، وأن الذي حاجّه كيف عمى عن نور الحق ، فانتقل من ظلمة من ظلمات الشكوك والأوهام إلى أخرى ، وتردّى في مهاوى الهلاك بولاية الطاغوت له.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) أي ألم ينته إلى علمك الذي يبلغ مرتبة اليقين قصص ذلك الملك الذي تجبر وادعى الربوبية ، وعارض إبراهيم في ربوبية ربه ـ ويقال إنه نمروذ بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام.

(أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي إن الذي أورثه الكبر والبطر ، وحمله على الإسراف فى الغرور والإعجاب بقدرته حتى حاجّ إبراهيم ـ هو إيتاء الله إياه الملك.

ثم بين تفصيل تلك المحاجة فقال :

٢٠