تفسير المراغي - ج ١٦

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨))

تفسير المفردات

فلا تصاحبنى : أي فلا تجعلنى صاحبا لك. بلغت من لدنى عذرا : أي وجدت عذرا من قبلى ، قرية : هى أنطاكية كما روى عن ابن عباس أو الأبّلة أو الناصرة ، ولا يوثق بصحة شىء من هذا ، استطعما أهلها : أي طلبا منهم أن يطعموهما ، أن يصيفوهما : أي ينزلوهما أضيافا : يقال ، ضافه إذا كان له ضيفا ، وأضافه وضيّفه : أنزله لديه ضيفا ؛ وأصل ضاف : مال ، من قولهم ضاف السهم عن الهدف : أي مال ، جدارا : أي حائط

٣

أن ينقض : أي يسقط بسرعة ، وقد كثر فى كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم كما قال :

يريد الرمح صدر أبى براء

ويعدل عن دماء بنى عقيل

أقامه : أي مسحه بيده فقام كما روى عن ابن عباس ، والتأويل : من آل الأمر إلى كذا : أي صار إليه ، فإذا قيل ما تأويله : أي ما مصيره.

المعنى الجملي

لا يزال الكلام متصلا فى قصص موسى والخضر عليهما السلام ، ولكن لوحظ فى تقسيم القرآن الكريم إلى أجزائه الثلاثين جانب اللفظ لا جانب المعنى ، ولذا تجد نهاية جزء وبداءة آخر حيث لا يزال الكلام فى معنى واحد لم يتم بعد كما هنا.

الإيضاح

(قالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) زاد كلمة (لك) على سابقه لتشديد العتاب على رفض الوصية ، ووسمه بقلة الصبر والثبات حين تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار مع عدم الارعواء بالتذكير أول مرة.

قال البغوي : روى أن يوشع كان يقول لموسى : اذكر العهد الذي أنت عليه.

(قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) أي قال موسى عليه السلام للخضر : إن سألتك عن شىء بعدها من عجيب أفعالك التي أشاهدها وطلبت منك بيان حكمته ، فضلا عن المناقشة والاعتراض عليه ، فلا تجعلنى لك صاحبا.

(قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي قد بلغت الغاية التي تعذر بسببها فى فراقى ، إذ خالفتك مرة بعد أخرى ، وهذا كلام نادم أشد الندم قد اضطر ، الحال إلى الاعتراف ، وسلوك سبيل الإنصاف.

وقد روى فى الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : «رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب ، لكن أخذته من صاحبه ذمامة (حياء

٤

وإشفاق من الذم) فقال (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً)».

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) أي فانطلق الخضر وموسى بعد المرتين الأوليين حتى وصلا إلى قرية طلبا من أهلها أن يطعموهما فأبوا أن يضيفوهما ، وفى الحديث «كانوا أهل قرية لئاما بخلاء» وفى قوله (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) دون أن يقول فأبوا أن يطعموهما ـ زيادة تشنيع عليهم ، ووصفهم بالدناءة والشح ، فإن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب ، ولكن لا يرد الغريب المستضيف إلا لئيم ، ألا تراهم يقولون فى أهاجيهم. فلان يطرد الضيف.

وعن قتادة : شر القرى التي لا يضاف فيها ، ولا يعرف لا بن السبيل حقه (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) أي فوجدا فى القرية حائطا مائلا مشرفا على السقوط فمسحه بيده فقام واستوى ، وكان ذلك من معجزاته.

(قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أي قال موسى ذلك تحريضا للخضر وحثا له على أخذ الجعل (الأجر) على فعله ، لإنفاقه فى ثمن الطعام والشراب وسائر مهامّ المعيشة.

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي قال الخضر عليه السلام لموسى : هذا الاعتراض المتوالى منك هو سبب الفراق بينى وبينك بحسب ما شرطت على نفسك ، وإنما كان هذا سبب الفراق دون الأولين ، لأن ظاهرهما منكر فكان معذورا دون هذا ، إذ لا ينكر الإحسان إلى المسيء بل يحمد.

(سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي سأخبرك بعاقبة هذه الأفعال التي صدرت منى ، وهى : خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ، ومآلها خلاص السفينة من اليد الغاصبة ، وخلاص أبوى الغلام من شره مع الفوز ببدل حسن ، واستخراج اليتيمين للكنز.

وفى قوله : (بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) دون أن يقول بتأويل ما فعلت ، أو بتأويل ما رأيت ونحوهما ـ تعريض به عليه السلام وعتاب له :

٥

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

تفسير المفردات

المساكين : واحدهم مسكين ؛ وهو الضعيف العاجز عن الكسب ، لأمر فى نفسه وفى بدنه ، يعملون فى البحر ، أي يؤاجرون ويكتسبون ، أعيبها : أي أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها ، وراءهم : أي أمامهم ؛ وهو لفظ يستعمل فى الشيء وضده كما قال :

أليس ورائي أن أدبّ على العصا

فيأمن أعدائى ويسأمنى أهلى؟

وعن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ : أمامهم.

خشينا : أي خفنا ، أن يرهقهما : أي يحملهما ، طغيانا : أي مجاوزة للحدود الإلهية ، زكاة : أي طهارة من الذنوب ، رحما : أي رحمة كالكثر والكثرة ، عن أمرى : أي عن رأيى واجتهادي ، ما لم تسطع : أي تستطع ماضيه اسطاع ، الذي أصله استطاع.

٦

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الأمور التي رآها موسى عليه السلام حين صاحب الخضر ، وذكر ما كان من اعتراض موسى عليه مرة بعد أخرى ، وقد كان أعلمه من قبل أنه لا يستطيع معه صبرا ، وكان من جراء ذلك أنه فارقه ولم يستطع صحبته ـ أردف ذلك بتفسير ما أشكل عليه أمره ، مما ينكر ظاهره ، وقد أظهر الله الخضر على حكمة باطنة ، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم يحكمون بناء على الظواهر كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظواهر ، والله يتولى السرائر».

وأحكام هذا العالم مبنية على الأسباب الحقيقة الواقعة فى نفس الأمر ، وهذه لا يطلع الله عليها إلا بعض خواص عباده ، ومن ثمّ اعترض موسى على ما رأى ولم يعلم ما آتاه الله الخضر من قوة عقلية قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور ، ويطلع على حقائق الأشياء ، فكانت مرتبة موسى فى معرفة الشرائع والأحكام بناء على الظواهر ، ومرتبة هذا العالم الوقوف على بواطن الأمور وحقائق الأشياء ، والاطلاع على أسرارها الكامنة.

وخلاصة المسائل الثلاث ـ إنه حين يتعارض ضرران يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى ، فلو لم يغب تلك السفينة بالتخريق لغصبها الملك وفاتت منافعها بتاتا ، ولو لم يقتل ذلك الغلام لكان بقاؤه مفسدة لوالديه فى دينهم ودنياهم ، ولأن المشقة الحاصلة بإقامة الجدار أقل ضررا من سقوطه ، إذ بالسقوط كان يضيع مال أولئك الأيتام.

ومجمل الأمر فى ذلك ـ إن الله أطلع الخضر على بواطن الأشياء وحقائقها فى أنفسها ، وهذا لا يمكن تعلمه إلا بتصفية الباطن وتجريد النفس وتطهير القلب عن العلائق الجسمية ، ومن ثمّ قال فى صفة علمه : «وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» وموسى عليه السلام لما كملت مرتبته فى علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم ، ليعلمه أن كمال المعرفة فى أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على معرفة حقائق الأشياء على ما هى عليها فى الواقع

٧

الإيضاح

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) أي أما فعلى ما فعلت بالسفينة ، فلأنها كانت لقوم ضعفاء ، لا يقدرون على دفع الظّلمة ، وكانوا يؤاجرونها ويكتسبون قوتهم منها ، فأردت أن أعيبها بالخرق الذي خرقته ، وكان قدامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة للاستعمال غصبا ، ويدع كل معيبة ، فعبتها لأرده عنها.

وخلاصة ذلك ـ إن السفينة كانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها ، فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافون ويعجزون عن دفعه من غصب ملك قدامهم ، من عادته غصب السفن الصالحة.

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) أي وأما الغلام فإنه كان كافرا وكان أبواه مؤمنين فخفنا أن يحملهما حبه على متابعته على الكفر.

قال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي لكان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحبّ ، وفى الحديث «لا يقضى الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له»، وقال تعالى. «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ».

وخلاصة ذلك ـ إنا قد علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فأجاباه ودخلا معه فى دينه لفرط حبهما له.

(فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي قال هذا العالم :أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين ولدا يكون خيرا من هذا الولد دينا وصلاحا وأقرب عطفا ورحمة بأبويه ، وبرّا بهما وشفقة عليهما.

٨

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ، وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي إن الداعي إلى إقامة الجدار أنه كان تحته كنز ، وكان ليتيمين فى المدينة ، وكان أبوهما امرأ صالحا ، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز على ذينك اليتيمين رعاية لحقهما ولصلاح أبيهما ، فأمرنى بإقامة الجدار لتلك المصالح ؛ إذ لو سقط الجدار لضاع الكنز وقد كان مشرفا على السقوط.

(وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي وما فعلت الذي رأيتنى أفعله عن رأيى ، ومن تلقاء نفسى ، بل فعلته عن أمر الله إياى به ، لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم لا تجوز إلا بالوحى والنص القاطع.

(ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها ، هو بيان ما تئول إليه الأفعال التي ضقت بها ذرعا ، ولم تصبر حتى أخبرك بها ابتداء.

تنبيه

لذكر هذه القصة فى الكتاب الكريم فوائد :

(١) ألا يعجب المرء بعلمه ، وأ لا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه ، فلعل فيه سرا لا يعرفه.

(٢) إن فيها تأديبا لنبيه بترك طلب الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوه واستهزءوا به وبكتابه ، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف فى الدنيا ، واستحقاقهم من الله فى الآخرة الخزي والعذاب الدائم.

(٣) إن ما حدث فيها يجرى مثله كل يوم فى هذه الحياة ، ألا ترى أن قتل الغلام وهو صغير لا ذنب له يشبه الطاعون الذي يهلك الأمم ويفتك بها فتكا ذريعا ، والبهائم التي تفتك بها السباع أو تأكلها الناس ـ ولو تأمل الناس حكمة ذلك لعلموا

٩

أنهم لو بقوا على الأرض مائة عام أو نحوها ولم يمت منهم أحد لضاقت بهم الأرض ، ولماتوا جوعا ، ولأكل الابن أباه ، ولأصبحت الأرض منتنة قذرة ، ولهلك الناس جميعا ، وأن أكل كواسر الطير لصغارها ليخلوا الجو والأرض من الحيوان المزدحمة ، ولو لا ذلك لأصبحت الأرض مضرة بالناس والحيوان ، فاقتناصها رحمة ونعمة على الناس.

وأن خرق السفينة التي هى لمساكين أشبه بموت بقرة فلاح فقير بجانبه رجل غنى لم تصب بقرته بسوء ، وذلك إنما يكون لحكم لا يعلمها إلا الله ، وقد يكون منها أن الفقير حين موته يخرج من هذا العالم خفيفا لا يحزنه شىء ، وأن الغنى إذا لم يهذب نفسه تكون روحه مجذوبة إلى هذا العالم متطلعة إلى ما فيه ، فيصير فى حسرة حين موته.

وأن ذكر الجدار وإقامته تشيران إلى كل من نرى أنه ليس أهلا للنعمة ظاهرا وقد أغدقت عليه ، فأهل هذه القرية اللؤماء الأشحاء ليسوا أهلا للإكرام.

وخلاصة ما قاله الخضر : إن هذه الأعمال ليست من جنس أعمال الناس ، بل هى من أعمال الله ، وإنما كنت واسطة فيها ، فهى نماذج لفعل ربكم فى هذه الحياة.

قصص ذى القرنين ، ويأجوج ومأجوج وسدهما

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا

١٠

يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢))(حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧))(قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩))

تفسير المفردات

ذكرا : أي نبأ مذكورا وهو القرآن. ومكنه ومكن له ، كنصحه ونصح له : أي مهد له الأسباب وجعله قادرا على التصرف فى الأرض من حيث التدبير والرأى ، سببا : أي طريقا يوصله إليه من علم أو قدرة أو آلة ، حمئة : أي ذات حمأة وهى الطين الأسود ، حسنا : أي أمرا ذا حسن ، نكرا : أي منكرا فظيعا ، الحسنى : أي المثوبة الحسنى ، يسرا : أي سهلا ميسرا غير شلقّ ، سترا : أي بناء وكانوا إذا طلعت الشمس تغوّروا

١١

فى المياه ، وإذا غربت خرجوا ، خبرا أي علما يتعلق بظواهره وخفاياه. السدين أي الجبلين ، يفقهون : يفهمون ، خرجا أي جعلا من أموالنا على سبيل التبرع ، والخراج : ما لزمك أداؤه. بقوة أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات والناس ، ردما أي حاجزا حصينا ، والردم : أكبر من السد وأوثق ، يقال ثوب مردّم : أي فيه زقاع فوق رقاع ، وزبر : واحدها زبرة (بضم فسكون) كغرفة : وهى القطعة العظيمة ، والصدفين : واحدها صدف ، وهو جانب الجبل ، قطرا : أي نحاسا مذابا ، وقيل رصاصا مذابا ، أن يظهروه أي أن يعلوه ويرقوا فوقه لارتفاعه وملاسته. رحمة أي أثر رحمة : دكاء أي مثل دكاء وهى الناقة لا سنام لها ؛ والمراد بها الأرض المستوية ، حقا أي ثابتا واقعا لا محالة ، يموج أي يضطرب اضطراب البحر ، والصور : قرن ينفخ فيه.

المعنى الجملي

هذه القصة رابعة ثلاثة من القصص التي ذكرت فى هذه السورة ، وقد قدمنا أن كفار مكة بعثوا إلى أهل الكتاب يطلبون إليهم ما يمتحنون به النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا : سلوه عن رجل طوّاف فى الأرض ، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا ، وعن الروح؟ فنزلت سورة الكهف.

وقبل الشروع فى تفسير هذه الآيات الكريمة لا بد من بيان أمور تمس الحاجة إليها : من ذو القرنين؟ من يأجوج ومأجوج؟ أين سد ذى القرنين؟

ذو القرنين

يرى كثير من العلماء والمؤرخين أنه هو إسكندر بن فيلبس الرومي تلميذ أرسطاطاليس الفيلسوف المسمى بالمعلّم الاول الذي انتشرت فلسفته فى الأمة الإسلامية ، وقد كان قبل الميلاد بنحو ٣٣٠ سنة ، وكان من أهل مقدونيا ، وحارب الفرس واستولى

١٢

على ملك دارا وتزوج ابنته ، ثم سافر إلى الهند وحارب هناك ، ثم حكم مصر وبنى الاسكندرية ؛ والدليل على ذلك : أنه لم يعرف التاريخ أن أحدا من الملوك دوّخ العالم وسار شرقا وغربا وغلب أكثر المعمور غيره.

ويرى أبو الرّيحان البيروني المنجّم فى كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) أنه من حمير واسمه أبو بكر بن إفريقش ، وقد رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط ، فمر بتونس ومرّاكش وغيرهما ، وبنى مدينة إفريقيّة فسميت القارة كلها باسمه ، وهو الذي افتخر به أحد شعراء حمير حيث يقول :

قد كان ذو القرنين جدّى مسلما

ملكا تدين له الملوك وتسجد

بلغ المشارق والمغارب يبتغى

أسباب ملك من كريم مرشد

فرأى مآب الشمس عند غروبها

فى عين ذى خلب وثأط حرمد (١)

وسمى ذا القرنين لأنه بلغ قرنى الشمس.

والدليل على أنه حميرىّ أن الأذواء إنما يعرفون فى بلاد حمير دون بلاد اليونان ، وهو من الدولة الحميرية التي حكمت من سنة ١١٥ ق م إلى ٥٥٢ ب م من الطبقة الثانية منها ، وملوكها يسمون التبابعة واحدهم تبّع (بضم التاء وتشديد الباء).

يأجوج ومأجوج

يأجوج : هم التتر ، ومأجوج : هم المغول ، وأصلهما من أب واحد يسمى (ترك) وكانوا يسكنون الجزء الشمالي من آسيا ، وتمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المتجمد الشمالي ، وتنتهى غربا بما يلى بلاد التركستان وقد ذكر مؤرخو العرب والإفرنج أن هذه الأمم كانت تغير فى أزمنة مختلفة على الأمم المجاورة لها ، فكثيرا ما أفسدوا فى الأرض ، ودمّروا كثيرا من الأمم ، فمنهم الأمم المتوحشة التي انحدرت من الهضبات المرتفعة من آسيا الوسطى وذهبت إلى أوربا فى العهد القديم

__________________

(١) الخلب : الطين : والثأط : الحمأة. والحرمد : الأسود.

١٣

كأمة التحيت والسّمريان والهون ، وكثيرا ما أغاروا على بلاد الصين وآسيا الغربية التي كانت مقر الأنبياء.

ثم لم يزالوا فى حدود بلادهم لا يتجاوزونها بعد زمن النبوة ، إلى أن ظهر فيهم الداهية الرحالة (تموجين) الذي لقب نفسه (جنكيزخان ـ ملك العالم) بلغة المغول ؛ فخرج فى أوائل القرن السابع من الهجرة من الهضبات المرتفعة والجبال الشاهقة التي فى آسيا الوسطى ، فأخضع الصين الشمالية أولا ، ثم ذهب إلى البلاد الإسلامية فأخضع السلطان قطب الدين بن أرميلان من الملوك السلجوقية ملك خوارزم ، وفعل بهذه الدولة من الفظائع ما لم يسمع بمثله فى التاريخ.

ولما مات جنكيزخان قام مقامه ابنه (أقطاى) وأغار ابن أخيه (باتو) على بلاد الروس سنة ٧٢٣ ه‍ ودمر بولنيا وبلاد المجر وأحرق وخرّب.

وبعد أن مات أقطاى قام مقامه (جالوك) فحارب الروم وألزم ملكها دفع الجزية ثم مات (جالوك) فقام مقامه ابن أخيه (منجو) فكلّف أخويه (كيلاى) و (هولاكو) أن يستمرا فى طريق الفتح ، فأخضع كيلاى بلاد الصين ، وزحف هولاكو على الممالك الإسلامية ومقر الخلافة العباسية ، وكان الخليفة إذ ذاك المستعصم بالله ، فأخذ بغداد عنوة فى أواسط القرن السابع من الهجرة ، وأسلمت للسلب والنهب سبعة أيام سالت فيها الدماء أنهارا ، وطرحوا كتب العلم فى دجلة وجعلوها جسرا يمرون عليه بخيولهم وبذلك انتهت الخلافة العباسية ببغداد.

ولما استولت ذرية جنكيزخان على آسيا كلها وأوربا الشرقية ، اقتسموا بينهم ما فتحوه ، وأنشئوا أربع ممالك ، فاختصت أسرة كيلاى بالصين والمغول ، وملك جافاقاى أخو أقطاى تركستان ، وملكت ذرية باطرخان البلاد التي على شواطىء نهر فلجا ، وصارت الروسيا تدفع لها الجزية زمنا طويلا ، وأخذ هولاكو بلاد الفرس وبغداد حتى بلاد الشام ـ وقد لخصنا ذلك من دائرة المعارف وابن خلدون وابن مسكويه ورسائل إخوان الصفا.

١٤

سد ذى القرنين

كانت البلاد التي شرقى البحر الأسود يسكنها قوم من الصقالبة (السلاف) وكان هناك سد منيع بالقرب من مدينة (باب الأبواب) أو (دربت) بجبل قوقاف وقد كشفوه فى القرن الحاضر وهو غير السدّ الشهير الذي بناه ذو القرنين ، فإن هذا وراء جيحون فى عمالة (بلخ) واسمه (باب الحديد) بمقربة من مدينة (ترمذ) وقد اجتازه تيمور لنك بجيشه ، ومر به أيضا (شاه روخ) وكان فى بطانته العالم الألمانى (سيلدبرجر) وذكر السد فى كتابه وكان ذلك فى أوائل القرن الخامس عشر ، وكذلك ذكره المؤرخ الأسبانى (كلافيجو) فى رحلته سنة ١٤٠٣ وكان رسولا من ملك كستيل (قشتاله) بالأندلس إلى تيمور لنك ، وقال إن سد مدينة (باب الحديد) على الطريق الموصل بين سمرقند والهند انتهى ملخصا من مقتطف سنة ١٨٨٨ م.

وبذلك تعلم أن السد موجود فعلا ، وأن هذا معجزة للقرآن الكريم حقا ، وهى إحدى المعجزات التي أيدها التاريخ وعلم تقويم البلدان ، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «ويل للعرب ، من شرّ قد اقترب» وقد صدق رسوله ، فأزال هؤلاء المغول دولة العرب وانتهت بقتل المستعصم آخر ملوكها ، وبقي خليفة رسمى فى مصر ، وزال ملكهم بتاتا فى حدود الألف ، وتفرق ملك الإسلام شذر مذر ، ولم تحفظه إلا الدولة العثمانية بعد العرب وقد كوّن أولئك التتار أغلب المسلمين فى الهند والصّين وأغلب آسيا ، فهم كما ورثوا بلادهم ورثوا دينهم.

الإيضاح

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) أي تسألك قريش بتلقين اليهود سؤال اختبار وامتحان.

(قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) أي قل لهؤلاء المتعنتين : سأقص عليكم قصصا وافيا جامعا لما تريدون ، أعلمنيه ربى وأخبرنى به.

١٥

ثم فصّل ذلك فقال :

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ، وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) أي مكنا له أمره من التصرف فيها كيف يشاء ، بحيث يصل إلى جميع مسالكها ، ويظهر على سائر ملوكها ، وآتيناه من كل شىء أراده من مهامّ ملكه وبسطة سلطانه طريقا يوصله إليه ، فآتيناه العلم والقدرة والآلات التي توصله إلى ذلك.

(فَأَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي فأراد بلوغ المغرب فاتّبع طريقا يوصله إليه ، حتى إذا بلغ منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يمكن تجاوزه ، ووقف على حافة البحر المحيط الاطلانطى (المحيط الأطلسى) وجد الشمس تغرب فى عين ذات حمأة وطين أسود.

وخلاصة ذلك ـ إنه بلغ بلادا لا بلاد بعدها تغرب عليها الشمس ، إذ لم يكن عمران إلا ما عرفوه عند بحر الظلمات ، فهو قد سار إلى بلاد تونس ثم مرّاكش ووصل إلى البحر فوجد الشمس كأنها تغيب فيه ، وهو أزرق اللون كأنه طين وماء.

(وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) أي ووجد عند تلك العين قوما كفارا فخيّره الله بين أن يعذبهم بالقتل ، وأن يدعوهم إلى الإيمان ، وهذا تفصيل قوله :

(قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) أي قلنا له بطريق الإلهام : إما أن تقتلهم إن هم لم يقرّوا بوحدانيتى ويذعنوا لك فيما تدعوهم إليه من طاعتى ، وإما أن تأمر بتعليمهم طريق الهدى والرشاد ، وتبصيرهم بالشرائع والأحكام.

(قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي قال ذو القرنين لبعض خاصته وبطانته : أما من ظلم نفسه فأصرّ على الشرك بربه فسنعذبه بالقتل ، ثم يرجع إلى ربه فى الآخرة فيعذبه عذابا منكرا فى نار جهنم (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي وأما من صدّق بالله ووحدانيته وعمل عملا صالحا فى الدارين فله المثوبة الحسنى جزاء وفاقا على تلك الخلال الجميلة التي عملها فى دنياه ، وسنعلّمه فى الدنيا ما يتيسر لنا

١٦

تعليمه مما يقرّبه إلى ربه ، ويلين له قلبه ، ولا يشق عليه فعله مشقة كبيرة كالصلاة والزكاة والجهاد ونحوها.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) أي ثم قفل راجعا من مغرب الشمس وسلك طريقا موصلا إلى مشرقها ، حتى إذا بلغ الموضع الذي تطلع عليه الشمس أوّلا من المعمور ، وجدها تطلع على قوم ليس لهم بناء يكنّهم ، ولا أشجار تظلهم وتسترهم عن حر الشمس ، فليس لهم سقوف ولا جبال تمنع من وقوع أشعة الشمس عليهم ، لأن أرضهم لا تحمل بنيانا ، بل لهم سروب يغيبون فيها حين طلوع الشمس ، ويظهرون حين غروبها ، فهم حين طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف فى المعاش ، وحين غروبها يشتغلون بتحصيل مهماتهم ، وأحوالهم على الضد من أحوال الناس.

وخلاصة ذلك ـ إنه بلغ غاية المعمور من الأرض جهة المشرق ووجد قوما لا لباس لهم ولا بناء ، فهم عراة فى العراء أو فى سراديب فى الأرض.

(كَذلِكَ) أي إن أمر ذى القرنين كما وصفنا من قبل من بلوغه طرفى المشرق والمغرب ، ومن فعله الأفاعيل التي ذكرت ، فهو قد بلغ الغاية فى رفعة الشأن وبسطة الملك مما لم يتح لكثير غيره.

(وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) أي ونحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا شىء منها وإن تفرّقت أممهم وتقطعت بهم الأرض كما قال «لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ».

وخلاصة ذلك ـ إنه كما وصف ، وفوق ما وصف ، بما لا يحيط بعلمه إلا اللطيف الخبير.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أي ثم سلك طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من مطلع الشمس إلى الشمال.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً)

١٧

أي حتى إذا وصل بين الجبلين ، (وقد تقدم وصف مكانهما بالتحديد كما رآه السائحون فى القرن الخامس عشر الميلادى) وجد من دونهما أمة من الناس لا يكادون يفهمون كلام أتباعه ولا كلام غيرهم ، لبعد لغتهم عن لغات غيرهم ، مع قلة فطنتهم ، إذ لو كان لهم فطنة لفهموا ما يراد من القول بالقرائن وفحوى الحال.

(قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي قال مترجموهم إن يأجوج ومأجوج يفسدون أرضنا بالقتل والتخريب وأخذ الأقوات وسائر ضروب الإفساد (تقدم تحقيق القوم فى ذلك).

(فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟) أي فهل تحب أن تجعل لك جعلا من أموالنا فتجعل بيننا وبينهم حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا؟.

وخلاصة ذلك ـ إنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم ما لا يعطونه إياه حتى يجعل بينهم وبينهم سدا.

(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي قال ذو القرنين : إن ما مكننى فيه ربى من بسطة الملك والسلطان ووفرة المال ـ خير مما تبذلونه لى من الخراج ، فلا حاجة بي إليه ، وهذا نحو ما قاله سليمان عليه السلام «أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ».

والدول القوية يجب أن تحافظ على الدول الضعيفة ، ولا تأخذ منها مالا مادامت قادرة على إغاثتها.

وخلاصة ذلك ـ ما أنا فيه خير مما تبذلونه.

(فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) أي ولكن ساعدونى بفعلة وصنّاع يحسنون العمل والبناء ، أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج سدا منيعا ، وحاجزا حصينا أمنع مما تريدون.

ثم بين تلك القوة التي طلبها فقال :

(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ

١٨

ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي جيئونى بقطع الحديد ، فلما جاءوه بها أخذ يبنى شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين جانبى الجبلين من البنيان مساويا لهما فى العلو ، قال للعملة : انفخوا بالكيران فى زبر الحديد التي وضعت بين الصدفين ففعلوا ، ومازالوا كذلك حتى صارت كالنار اشتعالا وتوهجا ، فصب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض ، وسدّ الفجوات التي بين الحديد وصار جبلا صلدا.

(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) أي إن يأجوج ومأجوج ما قدروا أن يصعدوا من فوق السد لارتفاعه وملاسته ، ولا استطاعوا نقبه لصلابته وثخانته.

(قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي قال ذو القرنين لأهل تلك الديار : هذا السد نعمة من الله ورحمة بعباده ، إذ صار حاجزا بينكم وبين يأجوج ومأجوج يمنعهم من أن يعيثوا فى الأرض فسادا.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) اى فإذا دنا وقت خروجهم من وراء السد جعله ربى بقدرته وسلطانه أرضا مستوية ، فسلط عليهم منهم أو من غيرهم من يهدمه ويسوى به الأرض.

(وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أي وكان كل ما وعد به سبحانه حقا ثابتا لا ريب فى تحققه ، وقد جاء وعده تعالى بخروج جنكيزخان وسلائله فعاثوا فى الأرض فسادا من الشرق والغرب وفعلوا الأفاعيل بالدولة الإسلامية ، وأزالوا معالم الخلافة من بغداد كما علمت ذلك فيما سلف.

وقد ذكر المؤرخون أن سبب خروج جنكيز خان أن سلطان خوارزم السلجوقي قتل رسله وتجاره المرسلين من بلاده ، وسلب أموالهم ، وأغار على أطراف بلاده ، فاغتاظ ، وكتب إلى السلطان كتابا قال فيه : كيف تجرأتم على أصحابى ورجالى ، وأخذتم تجارتى ومالى ... ا تحركون الفتنة النائمة. وتنبهون الشرور الكامنة ...

١٩

أو ما جاءكم عن نبيكم (وعليكم أن تمنعوا من السفاهة غنيّكم ، وعن ظلم الضعيف غويّكم) أو ما بلّغكم عنه مرشدوكم (اتركوا الترك ما تركوكم) وكيف تؤذون الجار وتسيئون الجوار. ونبيكم قد أوصى به ... ألا إن الفتنة نائمة فلا توقظوها ، وهذه وصاياي إليكم فعوها واحفظوها ، وتلافئوا التلف قبل أن ينهض داعى الانتقام ، وينفتح عليكم سد يأجوج ومأجوج ، وسينصر الله المظلوم ولينسلنّ عليكم يأجوج ومأجوج من كل حدب اه ملخصا.

روى البخاري عن أم حبيبة بنت أبى سفيان عن زينب بنت جحش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما فزعا يقول «لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا ، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها ، قالت زينب فقلت يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون فقال : نعم إذا كثر الخبث».

ولقد اتسع ذلك الفتح من هذا التاريخ شيئا فشيئا حتى فتح عن آخره فى القرن السابع الهجري ، وخرج هؤلاء القوم كما قدمنا ، وقد عثر على آثاره كما علمت فيما سلف.

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي ويوم يدك السد يخرج هؤلاء من ورائه يموجون فى الناس ، ويفسدون عليهم زروعهم ويتلفون أموالهم ، وهذا بمعنى قوله فى سورة الأنبياء : «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» أي وهم من كل مرتفع من الأرض يسرعون فى النزول من الآكام والمرتفعات ، وتلك حال تنطبق على قوم جنكيزخان ، فقد كان خروجهم من هضبات آسيا الوسطى ، كما تقدم نقلا عن مؤرخى العرب والإفرنج.

كل هذا قبل النفخ فى الصور بزمن مجهول غير معلوم.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) أي فإذا دنا ميقات الساعة نفخ فى الصور وجمعنا الناس جمعا ، وأحضرناهم للحساب كما قال : «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» وقوله : «وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً».

٢٠