تفسير المراغي - ج ٩

أحمد مصطفى المراغي

وتفصيلا لأصول الشرائع وهى أصول العقائد والآداب وأحكام الحلال والحرام

والراجح أن هذه الألواح كانت أول ما أوتيه من وحي التشريع الإجمالى. أما سائر الأحكام التفصيلية من العبادات والمعاملات المدنية والحربية والعقوبات فكانت تنزل عليه وقت الحاجة كالقرآن.

وقد اختلفوا فى عدد الألواح ، فمن مقل قال إنها اثنان ، ومن مكثر قال إنها عشرة أو سبعة.

وجاء فى التوراة فى شأن الألواح فى سفر الخروج : «قال الرب لموسى اصعد إلى الجبل وكن هنا فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلّمهم الكلمات العشر» وجاء فيها أيضا : «ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة فى يده. لوحان مكتوبان على جانبيهما ، من هنا ومن هناك كانا مكتوبين ، واللوحان هما صفة الله والكتاب كتابة الله منقوشة على اللوحين» وجاء فيها : «وقال الرب لموسى أكتب لك هذا الكلام لأنى بحسبه عقدت عهدا معك ومع بنى إسرائيل وأقام هناك عند الرب أربعين يوما وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلام العهد الكلمات العشر» ومن هذا تعلم أن ما كتبه المفسرون عن الإسرائيليات مخالفا لذلك فهو باطل ، أراد به واضعوه الكذب والافتراء ، فيجب علينا أن نمحص تلك الروايات ونحققها من كتبهم.

(فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي وكتبنا له فى الألواح ما ذكر وقلنا له : هذه وصايانا وأصول شريعتنا وكلياتها ، فخذها بقوة وجدّ وعزم ، ذاك أنك ستكون بها شعبا جديدا بعادات جديدة وأخلاق جديدة مخالفة فى جوهرها وصفاتها لما كان عليه من الذل والعبودية لدى فرعون وقومه ، وما كان عليه من الشرك والوثنية التي ألفها وراضت نفسه لقبولها ، فأنّي للقائد والمرشد أن يصلح ذلك الفساد ويرأب ذلك الصدع إذا لم يكن ذا عزيمة وقوة وبأس شديد وحزم فى أوامره ونواهيه؟.

(وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي وأمر قومك بالاعتصام بهذه الموعظة

٦١

والأحكام المفصلة فى الألواح التي هى منتهى الكمال والحسن كالإخلاص لله فى العبادة. إذ يتحلى العقل وتتزكى النفس ، مع ترك اتخاذ الصور والتماثيل لأنها ذرائع للشرك وسبب للوصول إليه.

(سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي إن لم تأخذوا ما آتيناكم بقوة وتتبعوا أحسنه كنتم فاسقين عن أمر ربكم فيحل بكم ما حل بالفاسقين من قوم فرعون الذين أنجاكم الله منهم ، ونصركم عليهم وسيريكم ما حل بهم بعدكم من الغرق.

قال ابن كثير : أي سترون عاقبة من خالف أمرى وخرج عن طاعتى كيف يصبر إلى الهلاك والدمار.

قال ابن جرير : وإنما قال (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) كما يقول القائل لمن يخالفه :

سأريك غدا ما يصير إليه حال من خالف أمرى ـ على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه خالف أمره.

وفى الآية عبرة لمن يقرؤها ويتدبر أمرها من وجوه :

(١) إن الشريعة يجب أن تتلقى بعزيمة وجدّ لتنفيذ ما بها من الإصلاح وتكوين لأمة تكوينا جديدا ، ومظهر ذلك الرسول المبلغ لها والداعي إليها والمنفذ لها بقوله وعمله فهو الأسوة والقدوة ، وهذه سنة الله فى كل انقلاب ، وتجديد اجتماعي وسياسى وإن لم يكن بهدى الله ، فما بالك بالدين وهو أحوج ما يكون إلى إصلاح الظاهر والباطن ، وقد أخذ سلفنا الصالح القرآن بقوة بالعمل بهداية دينهم لا بالتبرك بالمصاحف والتغني بالقرآن فى المحافل ، فسادوا جميع الأمم التي كانت لها القوة الحربية والصناعية والمالية والعددية ، وسعدوا به فى دنياهم وسيكونون كذلك فى آخرتهم ، وخلف من بعدهم خلف أعرضوا عنه وتركوا هدايته فشقوا فى دنياهم وآخرتهم كما قال «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ».

٦٢

(٢) إن شعب إسرائيل عظم ملكه حين أقام شريعته بقوة حتى إذا غلبه الغرور وظن أن الله ينصره لنسبه وأنه شعب الله ففسق وظلم أنزل الله به البلاء وسلط عليه البابليين فأزالوا ملكه ، ثم ثاب إلى رشده فرحمه وأعاد إليه بعض ملكه ، ثم ظلم وأفسد فسلط عليه النصارى فمزقوه كلّ ممزّق.

(٣) إن المسلمين الذين اتبعوا سننهم اغتروا بدينهم كما اغتروا واتكلوا على لقب (الإسلام) ولقب (أمة محمد) ولم يثوبوا إلى رشدهم ، فزالت دولتهم وذهب ريحهم وامتلك عدوهم ناصيتهم وجد فى إفساد عقائدهم وأخلاقهم وإيقاع الشقاق فيما بينهم وتولى تربيتهم وتعليمهم كما يحب ويهوى ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧))

تفسير المفردات

التكبر : التكثر من الكبر ، وهو غمط الحق بعدم الخضوع له ، ويصحبه احتقار الناس ، فصاحبه يرى أنه أكبر من أن يخضع لحق أو يساوى نفسه بشخص ، والرشد والرشد والرشاد كالسقم والسقم والسّقام : الصلاح والاستقامة ، وضده الغىّ والفساد ، والآيات الأولى : هى البينات والدلائل ، والثانية هى الآيات المنزلة من حبث اشتمالها على الهداية وتزكية النفوس.

٦٣

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السالفة ما لحق فرعون وقومه من الهلاك بسبب استكباره وظلمه وفساده فى الأرض ـ ذكر هنا سنته تعالى فى ضلال البشر بعد مجىء البينات وتكذيبهم لدعاة الحق والخير من الرسل وأتباعهم ، وأبان أن السبب الأول لذلك هو التكبر ، فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى ، فهم يكونون دائما من المكذبين بالآيات الدالة عليه ، ومن الغافلين عنه كما هى حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين كفرعون وملئه.

وفى هذا إيماء للنبى صلى الله عليه وسلم بأن الطاغين المستكبرين من صناديد قومه لن ينظروا فى دعوته ولا فى آيات القرآن الدالة على وحدانية الله بما أقامته عليها من البراهين الكثيرة من آيات كونية ، وآيات فى الآفاق والأنفس.

وجملة الموانع الصادّة لهم عن اتباعه ترجع إلى التكبر ، فإنهم بزعمهم يعتقدون أنهم سادة قريش وكبراؤها وأقوياؤها فلا ينبغى أن يتبعوا من دونهم سنا وقوة وثروة وعصبية.

الإيضاح

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي سأمنع قلوب المتكبرين عن طاعتى وعلى الناس بغير حق ـ فهم الأدلة والحجج الدالة على عظمتى وعلى ما فى شرائعى من هدى وسعادة لهم كما قال «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ» كما منعت فرعون وقومه عن فهم آيات موسى التي أوحيتها إليه ، وقوله بغير الحق أي بتلبسهم بالباطل وانغماسهم فيه ـ إذ لا قيمة للحق فهم لا يبحثون عنه ولا يطلبونه ، وقد تظهر لهم آياته ويجحدونها وهم بها موقنون كما قال تعالى فى قوم فرعون «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا».

٦٤

ثم بين صفات المستكبرين وأحوالهم فقال :

(١) (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي إنهم إذا رأوا الآيات التي تدل على الحق وتثبته لا يستفيدون منها فائدة ما فلا يؤمنون بها ، لأن كثرة الآيات وتعدد أنواعها إنما تفيد من تكون نفسه تواقة لمعرفة الحق لكنه يجهل الوصول إليه أو يشك فى الطريق الموصلة إليه لتعارض الأدلة لديه لخفاء دلالتها أو لسوء فهمه لها ، فإذا خفيت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيره فتنكشف الحقيقة واضحة أمامه وتسفر له عن وجهها ، وفى هذا إيماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الذين يقترحون عليه الآيات من قومه لا يقصدون استبانة الحق وإيضاحه بل يريدون إحداث الشغب والتعجيز ، فإن هم أجيبوا إلى طلبهم لم يؤمنوا بما جئت به.

(٢) (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أي وهم ينفرون من سبيل الهدى والرشاد وهى السبيل المعبّدة الواضحة ، فإذا رأى أحدهم هذه السبيل لا يختارها لنفسه ولا يفضلها على ما هو عليه من سبيل الغى ، وهذا منتهى ما يكون من الطبع على القلب والخروج عن جادّة العقل والفطرة ، ومن الناس من يسلك هذه السبيل عن جهل فإذا رأى لنفسه مخرجا منها ارعوى وتركها واختار لنفسه سبيل الرشاد.

(٣) (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أي إنهم إذا رأوا سبيل الغى والضلال هرعوا إليها وخبوا فيها وأوضعوا ، بما تزينه لهم نفوسهم من سلوكها والسير فيها إلى آخر الحلبة ، وهذه حال لهم شر من سابقتيها ، وهؤلاء الذين اجتمعت لهم هذه الصفات هم الذين طبع الله على قلوبهم وختم على سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة ، فسبيل الحق بغيضة إليهم ، وطريقه مكروهة لديهم :

ثم علل ما سلف من صرفهم عن النظر فى الآيات وعدم اعتبارهم بها فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي إننا عاقبناهم على تكذيبهم بالآيات والغفلة عن النظر إلى الأدلة الموصلة إلى الحق فيما أمرنا به ونهينا عنه ـ بالختم على قلوبهم ، والغشاوة على أعينهم حتى لا يجد الحق منفذا فى الوصول إليها.

٦٥

والخلاصة ـ إن الله لم يخلق هؤلاء مطبوعين على الغى والضلال طبعا ، ولم يجبرهم إجبارا ويكرههم عليه إكراها ، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم ، إذ هم آثروا التكذيب بالآيات والصد عن السبل الموصلة إلى الرشاد وغفلوا عن النظر فى أدلتها ، لشغلهم بأهوائهم واتباع شهواتهم ، وبذا لجوا فى الطغيان ، وتمادوا فى العصيان ، واحتقروا ما سوى ذلك مما يهدى عقولهم إلى صوب الحق وسلوك طريقه.

وأمثال هؤلاء هم الذين عناهم الله بقوله : «وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ».

ولا شك أن كثيرا من المسلمين الذين تعلموا التعاليم الغربية ورأوا زخرف المدنية الأوربية وغرّهم بهرجها وخلبتهم زينتها تنطبق عليهم هذه الصفات ، فهم يحتقرون هداية الدين الروحية وأوامره ونواهيه وسائر تعاليمه وما له من تأثير عظيم فى النفوس وتوجيه لها إلى الخير ، وصد لها عن الشر ، والبعد عن الفواحش والمنكرات.

ذاك أنهم رأوا أنفسهم بعيدين عن الفنون والصناعات وزخرف الحياة الذي وصل فيه الغربيون إلى الغاية القصوى وهم عبيد شهواتهم منصرفون عن هداية الأديان إلى أبعد غاية فحدثتهم أنفسهم أن ينهجوا نهجهم ويسيروا على سنتهم ، علّهم يصلون فى ذلك إلى بعض ما وصلوا إليه ، ولو ساغ لبنى إسرائيل ألا يتبعوا موسى عليه السلام لأنه لم يكن عنده من زينة الدنيا ومن الفنون والصناعات ومن رائع المدينة مثل ما كان عند فرعون وقومه ولساغ لهم أن ينحدروا فى تلك الهوّة ويقعوا فى تلك الحفرة.

ولله فى خلقه شئون وهو يصرف الأمور بيده وله الأمر من قبل ومن بعد.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق والهدى على رسلنا ، فلم يؤمنوا بها ولم يهتدوا بهديها ، وكذبوا بما يكون فى الآخرة من الجزاء على الأعمال من ثواب

٦٦

على الخير وعقاب على الشر ـ تحبط أعمالهم وتذهب سدى ، لأنهم عملوا لغير الله وأتعبوا أنفسهم فى غير ما يرضى الله ، فتصير أعمالهم وبالا عليهم ولا يحزون إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصي ، فأثّر فى نفوسهم وأرواحهم حتى دسّاها وأفسدها ، فقد مضت سننه تعالى بجعل الجزاء فى الآخرة أثرا للعمل مرتبا عليه كترتيب المسبب على السبب ، ولا يظلم ربك أحدا فى جزائه مثقال ذرة.

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩))

تفسير المفردات

الحلىّ (بالضم والتشديد) واحدها حلى (بالفتح والتخفيف). والعجل : ولد البقرة من العراب أو الجواميس كالحوار لولد الناقة والمهر لولد الفرس ، والجسد : الجثة وبدن الإنسان والشيء الأحمر كالذهب والزعفران والدم الجاف ، والخوار : صوت البقر كالرغاء لصوت الإبل ، وسقط فى يده وأسقط فى يده (بضم أولهما على البناء للمفعول) أي ندم ، ويقولون فلان مسقوط فى يده وساقط فى يده أي نادم. قال فى العباب وتاج العروس : هذا نظم لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب ، وذكرت اليد لأن الندم يحدث فى القلب وأثره يظهر فيها بعضّها أو الضرب بها على أختها كما قال سبحانه فى النادم «فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها» ولأن اليد هى الجارحة العظمى وربما يسند إليها ما لم تباشره كقوله تعالى «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ».

٦٧

المعنى الجملي

بعد أن ذكر خبر مناجاة موسى لربه واصطفائه إياه برسالاته وبكلامه وأمره بأخذ الألواح بقوة ـ ذكر هنا ما حدث أثناء المناجاة من اتخاذ قومه بنى إسرائيل عجلا مصوغا من الذهب والفضة ، ثم عبادته من دون الله ـ لما رسخ فى نفوسهم من فخامة المظاهر الوثنية الفرعونية فى مصر ـ وقد ذكرت هذه القصة عقب تلك لما بينهما من العلاقات الظاهرة وللاشتراك فى الزمن.

الإيضاح

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) أي وصاغ بنو إسرائيل من بعد ما فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لمناجاته وفاء للموعد الذي وعده إياه ـ من حلى القبط التي كانوا استعاروها منهم عجلا جسدا له خوار أي تمثالا له صورة العجل وبدنه وصوته ثم عبدوه.

والذي فعل ذلك كما سيأتى فى سورة طه هو السامري ، وكان رجلا مطاعا فيهم ذا منزلة واحترام ، وإنما نسبه إليهم لأنه عمل برأى جمهورهم الذين طلبوا أن يجعل لهم إلها يعبدونه.

قال ابن كثير : وقد اختلف المفسرون فى ذلك العجل هل صار لحما ودما له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر على قولين والله أعلم ا ه.

ويرى الرأى الأول قتادة والحسن البصري فى جماعة آخرين ، وتعليل ذلك عندهم أن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر راكبا فرسا ما وطئ بها أرضا إلا حلت فيها الحياة واخضرّ نباتها فأخذ من أثرها قبضة فنبذها فى جوف تمثال العجل فحلت فيه الحياة وصار يخور كما يخور العجل.

٦٨

ويرى جماعة آخرون الرأى الثاني ويقولون : إن خواره كان بتأثير دخول الريح فى جوفه وخروجها من فيه ، ذاك أنه صنع تمثال عجل مجوّفا ووضع فى جوفه أنابيب على طريق فنيّة مستمدة من دراسة علم الصوت وجعل وضعه على مهب أنابيب الرياح ، فمتى دخلت الريح فى جوف التمثال انبعث منه صوت يشبه خوار العجل.

وقال آخرون بل ذلك الخوار كان تمويها وعملا منه يشبه عمل : (الحواة) ذاك أنه جعل التمثال أجوف وجعل تحت المواضع الذي نصب فيه من ينفخ فيه من حيث لا يشعر الناس فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار ، والناس يفعلون مثل هذا فى النافورات التي تجرى فيها المياه ، وبهذا الطريق ونحوه ظهر الصوت من التمثال ثم ألقى فى روع الناس أن هذا العجل إلههم وإله موسى فعبدوه كلهم إلا هارون كما قال الحسن.

فرد الله عليهم ضلالاتهم وأبان لهم فساد آرائهم وقرعهم على جهالاتهم فقال :

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) أي ألم يروا أنه فاقد لما يعرف به الإله الحق من تكليمه لمن يختاره من البشر لرسالته لتعليم عباده ما يجب عليهم معرفته من صفاته وسبيل عبادته كما كلم رب العالمين موسى وألقى إليه الألواح التي فيها من الشرائع ما يزكّى النفوس وتقوم بها مصالح العباد وعليها سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم.

وخلاصة ذلك ـ إنه فاقد لأهم صفة من صفات الإله الحق وهى صفة الهداية والإرشاد للعباد بإنزال الرسل الذين يختارهم إلى الناس ـ ومرجعها صفة الكلام.

ثم أكد ما سلف وقرره بقوله :

(اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) أي إنهم لم يتخذوه عن دليل وبرهان بل اتخذوه عن تقليد للمصريين إذ رأوهم يعبدون العجل : (أبيس) من قبل ، وعن تقليد لما رأوه من العاكفين على أصنام لهم من بعد فعبدوه مثلهم.

وبهذا كانوا ظالمين لأنفسهم إذ هم يعملون ما يضرهم ولا ينفعهم بشىء.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولما اشتد ندمهم وازدادت حسرتهم على ما فرط منهم

٦٩

فى جنب الله وعلموا أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل قالوا إن ذنبنا لعظيم وإن جرمنا لكبير ، وإنه لن يسعهم بعد هذا الذنب إلا رحمة الله التي وسعت كل شىء ، ولئن لم يرحمنا ربنا بقبول توبتنا والتجاوز عن جريمتنا لنكونن من الذين خسروا سعادة الدنيا وهى الحرية والاستقلال فى أرض الموعد ، وخسروا سعادة الآخرة وهى دار الكرامة والنعيم المقيم وجنات النعيم.

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١))

تفسير المفردات

الأسف : الحزن والغضب ، ويقال أسف من باب تعب حزن وتلهف ، وأسف كغضب وزنا ومعنى ، ويعدّى بالهمزة فيقال : آسفته ، ومن استعمال الأسف بمعنى الحزن قوله تعالى حكاية عن يعقوب «وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» وبمعنى الغضب قوله : «فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ» وعجله : سبقه ، وأعجله : استعجله ، وألقى : طرح ، والشماتة : الفرح بالمصيبة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما أحدثه السامري من اتخاذه العجل لبنى إسرائيل وعبادتهم له ثم ندمهم على ما فرط منهم فى جنب الله وطلبهم الرحمة من ربهم ـ ذكر هنا ما حدث

٧٠

من موسى من الأسى والحزن حين رأى قومه على هذه الحال من الضلال والغى ، ومن التعنيف واللوم لهارون على السكوت على قومه حين رآهم فى ضلالتهم يعمهون.

الإيضاح

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) أي ولما رجع موسى من الطور إلى قومه غضبان على أخيه هرون ، إذ رأى أنه لم يكن فيهم صليب الرأى قوىّ الشكيمة ، نافذ الكلمة ، حزينا على ما وقع منهم من كفر الشرك وإغضاب الله والتفريط فى جنبه.

(قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد ذهابى عنكم إلى مناجاة ربى وقد كنت لقنتكم التوحيد ، وكففتكم عن الشرك وبينت لكم فساده وسوء مغبته وحذرتكم صنيع القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم من تماثيل البقر.

وقد كان من الحق عليكم أن تقتفوا أثرى ، وتتبعوا سيرتى بيد أنكم سلكتم ضد ذلك ، فصنعتم صنما كأحد أصنامهم فعبده بعضكم ولم يردعكم عن ذلك باقيكم.

(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟) قال صاحب الكشاف : المعنى أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم ، فحدثتكم أنفسكم بموتى فغيّرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم.

وروى أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل وقال : «هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى» إن موسى لن يرجع وإنه قد مات ا ه.

(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أي وطرح الألواح من يديه وأخذ برأس أخيه يجره إليه بذؤابته ظنا منه أنه قد قصّر فى ردعهم وتأنيبهم وكفّهم عن عبادة العجل كما فعل هو بتحريقه وإلقائه فى اليم إن قدر ، أو أن يتبعه إلى جبل الطور إن

٧١

لم يستطع كما حكى الله تعالى عنه فى سورة طه : «قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟».

ولا شك أن سياسة الأمم تختلف باختلاف أحوال رعاتها وسائسيها ، فالقوى منهم الشديد الغضب للحق كموسى يشعر بما لا يشعر به من يغلب عليه الحلم ولين العريكة كهرون عليه السلام.

ثم ذكر سبحانه جواب هرون لموسى فقال :

(قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي يا ابن أمي لا تعجل بلومي وتعنيفى وتظنن تقصيرى فى جنب الله فإنى لم آل جهدا فى الإنكار على القوم والنصح لهم ، لكنهم قد استضعفوني ولم يرعووا لنصحى ولم يمتثلوا لأمرى بل أوشكوا أن يقتلونى.

(فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فلا تفعل بي من اللوم والتقريع ما يجعل الأعداء يشمتون بي ، ولا تجعلنى فى زمرة القوم الظالمين لأنفسهم ، وهم الذين عبدوا العجل فتغضب منى كما غضبت منهم وتؤاخذني كما اخذتهم فإنى لست منهم فى شىء. وفى هذا دليل على أن هرون كان دون موسى فى شدة العزيمة وقوة الإرادة وأخذ الأمور بالحزم ، وهذا ما أطبق عليه المسلمون وأهل الكتاب.

ثم أبان سبحانه أثر هذا الاستعطاف فى قلب موسى عليه السلام فقال :

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي قال رب اغفر لى ما فرط منى من قول وفعل فيهما غلظة وجفاء ، واغفر له ما عساه يكون قد قصّر فيه من مؤاخذة القوم على ما اجترموه من الآثام خوفا مما توقعه من الإيذاء الذي قد يصل إلى القتل ، وأدخلنا فى رحمتك التي وسعت كل شىء واغمرنا بجودك وفضلك فأنت أرحم بعبادك من كل رحم.

والآية صريحة فى براءة هرون من جريمة اتخاذ العجل وفى إنكاره على متخذيه

٧٢

وعابديه من قومه ، وبهذا قد صححت ما وقع فى التوراة التي بين يدى أهل الكتاب من نسبة اتخاذ العجل إلى هرون وجعله هو الفاعل لذلك كما جاء فى الفصل الثاني والثلاثين من سفر الخروج قال :

ولما رأى الشعب أن موسى قد أبطأ فى النزول من الجبل اجتمع الشعب على هرون وقالوا : قم فاصنع لنا آلهة تسير أمامنا ، لأن موسى الرجل الذي كان قد أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما قد أصابه ، فقال لهم هرون انزعوا أقراط الذهب التي فى آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي كانت فى آذانهم وأتوا بها إلى هرون ، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالأزميل وصنعه عجلا مسبوكا فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ، فلما نظر هرون بنى مذبحا أمامه ونادى هرون وقال : غدا عيد للرب فبكروا فى الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة ، وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب ، فقال الرب لموسى : اذهب انزل ، لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر ، زاغوا سريعا عن الطريق الذي أوصيتهم به صنعوا عجلا مسبوكا وسجدوا له وذبحوا له وقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل الذي أصعدتك من أرض مصر ـ ثم قال :

وكان عند ما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص فحمى غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما فى أسفل الجبل ، ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعما وذرّاه على وجه الماء وسقى بنى إسرائيل وقال موسى لهرون : ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة فقال هرون : لا يحمم غضب سيدى على ، أنت تعرف الشعب ، إنه فى شر ، فقالوا اصنع لنا آلهة تسير أمامنا ... ثم ذكر طلب موسى من الرب أن يغفر لقومه ، وأمر الرب إياهم أن يقتل كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه ، وكل واحد قريبه ، وأن بنى لاوى فعلوا ذلك فقتل منهم فى ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل ـ وقد تقدم ذكر ذلك فى سورة البقرة.

٧٣

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣))

تفسير المفردات

الغضب هنا : هو ما أمروا به من قتل أنفسهم ، والذلة : هى ما يشعرون به من هوانهم على الناس واحتقارهم لهم ، وقيل هى الذلة التي عرتهم عند تحريق إلاههم ونسفه فى اليم نسفا مع عدم قدرتهم على دفع ذلك عنه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عتاب موسى لأخيه هارون عليهما السلام ثم استغفاره لنفسه وله ـ قفّى على ذلك بذكر ما استحقه القوم من الجزاء على اتخاذ العجل وهو مما أوحاه الله إلى موسى يومئذ.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إن الذين بقوا على اتخاذ العجل واستمروا عليه كالسامرى وأشياعه ـ سيصيبهم غضب من ربهم بألا يقبل توبتهم إلا إذا قتلوا أنفسهم ، وذلة عظيمة فى الحياة الدنيا بالخروج من الديار والغربة عن الوطن.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) أي ومثل هذا الجزاء فى الدنيا نجزى المفترين على الله فى كل زمان إذا فضحوا بظهور افترائهم كما فضح هؤلاء.

قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين.

وروى عن أبي قلابة أنه قرأ هذه الآية وقال هى والله لكل مفتر إلى يوم القيامة.

٧٤

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والذين عملوا السيئات من الكفر والمعاصي ثم تابوا رجعوا من بعدها إلى الله بأن رجع الكافر عن كفره والعاصي عن عصيانه وأخلص الإيمان وزكاه بالعمل الصالح ـ إن ربك من بعد ذلك لغفور لهم ستار لذنوبهم رحيم بهم منعم عليهم.

وينتظم فى هذا السلك متخذو العجل وسواهم من المجترحين للسيئات ، عظمت ذنوبهم أو حقرت ، لأن الذنوب وإن جلّت وعظمت فعفو الله وكرمه أعظم وأجل على شريطة التوبة والإنابة ، وبدونها الطمع فيه طمع فى غير مطمع ، ألا ترى أن طمع الفساق فى المغفرة بدون الإنابة إلى ربهم قد ذهب بكثير من حرمة الأوامر والنواهي من قلوبهم ، وجعلهم يستحلون كثيرا من المحرمات ، وكانوا شرا ممن قال الله فيهم : «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» ولم يكن طمعهم ثمرة إيمان وعمل صالح بل هى أمانىّ جر إليها الحمق والغفلة عما يجب من تعظيم تلك الأوامر والنواهي : «إن الأمانى والأحلام تضليل».

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤))

تفسير المفردات

السكوت فى اللغة : ترك الكلام ، نسب إلى الغضب على تصويره بصورة شخص ذى قوة ورياسة يأمر وينهى فيطاع ، قال فى الكشاف : هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وجرّ برأس أخيك إليك ، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء ا ه. وفى نسختها أي ما نسخ وكتب منها فهى من النسخ كالخطبة من الخطاب ، وهدى : بيان للحق ، ورحمة بالإرشاد إلى ما فيه الخير والإصلاح ، والرهبة : أشد الخوف.

٧٥

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال القوم وقسمهم قسمين : مصرّ على الذنب وعبادة العجل. وتائب منيب إلى ربه ، وبين مآل كل من القسمين ـ ذكر هنا بيان حال موسى بعد أن سكنت سورة غضبه وهدأ روعه.

الإيضاح

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي ولما سكن غضب موسى باعتذار أخيه إليه ولجأ إلى رحمة ربه وفضله وجأر بالدعاء له أن يغفر له ولأخيه خطاياهما عاد إلى الألواح فأخذها ، وفيها الهدى والرشاد من بارئ النسم لمن يرهب الله ويخشى عقابه ويرجو ثوابه.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ

٧٦

وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧))

تفسير المفردات

يقال اختاره من الرجال وانتقاه : اصطفاه من بينهم ، والرجفة : الصاعقة ، والفتنة : الاختبار والامتحان مطلقا أو بالأمور الشاقة ، والولي. المتولى أمور غيره القائم عليها ، والحسنة فى الدنيا : هى العافية وبسطة الرزق وعز الاستقلال والملك ، وفى الآخرة دخول الجنة ونيل الرضوان ، وهاد يهود وتهود : تاب ورجع إلى الحق فهو هائد وقوم هود ، والنبي من النبأ : وهو الخبر المهم العظيم الشأن ؛ وفى لسان الشرع من أوحى الله إليه وأنبأه بما لم يكن يعلم بكسبه من خبر أو حكم به يعلم علما ضروريا أنه من الله عز وجل ، والرسول : نبى أمره الله بتبليغ شرع ودعوة دين وبإقامته والعمل به ولا يشترط أن بكون كتابا يقرأ وينشر ولا شرعا جديدا يعمل به ويحكم بين الناس ، بل قد يكون تابعا لشرع غيره كله كالرسل من بنى إسرائيل الذين كانوا يتبعون التوراة عملا وحكما ، والأمى : الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأم ، وأهل الكتاب يلقبون العرب بالأميين كما حكى الله عنهم : «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» والمعروف : ما تعرف العقول السليمة حسنه لموافقته للفطرة والمصلحة بحيث لا تستطيع أن ترده أو تعترض عليه إذا ورد به الشرع ، والمنكر : ما تنكره القلوب وتأباه على الوجه المذكور ، والطيب : ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وتستفيد منه التغذية النافعة ، والخبيث من الأطعمة ما تمجّه الطباع السليمة كالميتة والدم المسفوح ، أو تصد عنه العقول الراجحة لضرره فى البدن كالخنزير الذي تتولد من أكله الدودة الوحيدة ، أو لضرره فى الدين كالذى يذبح للتقرب به إلى غير الله على سبيل العبادة ، والخبيث من الأموال :

٧٧

ما يؤخذ بغير حق : كالرياء والرشوة والغلو والسرقة والغصب ونحو ذلك ، والإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه : أي يحبسه من الحركة لثقله ، والأغلال : واحدها غل(بالضم) وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضا ، والتعزير : الإعانة والنصرة حتى لا يقوى عليه عدو.

الإيضاح

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) أي وانتخب موسى واصطفى سبعين رجلا من خيار قومه للميقات الذي وقته الله تعالى له ودعاهم للذهاب معه إلى حيث يناجى ربه من جبل الطور.

(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أي فلما أخذتهم رجفة الجبل وصعقوا قال موسى رب إننى أتمنى أن لو كانت سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معى إلى هذا المكان فأهلكتهم وأهلكتنى معهم حتى لا أقع فى شديد الحرج مع قومى فيقولوا قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم وإن لم تفعل فإنى أسألك برحمتك ألا تفعل الآن.

وقد اختلف المفسرون فى أن هذا هل كان بعد أن أفاق موسى من صعقة تجلى ربه للجبل عقب سؤاله الرؤية إذ كان معه شيوخ بنى إسرائيل ينتظرونه مكان وضعهم فيه غير مكان المناجاة ـ أو كان بعد عبادة العجل حين ذهبوا للاعتذار وتأكيد التوبة وطلب الرحمة.

قال محمد بن إسحق : اختار موسى من بنى إسرائيل سبعين رجلا الخيّر فالخيّر وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال له السبعون فيما ذكر لى حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه : يا موسى اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال أفعل ، فلما دنا موسى من الجبل وقع

٧٨

عليه عمود الغمام حتى تغشى الليل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا ، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا فى الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى : يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام ، أقبل إليهم فقالوا لموسى : «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً» فأخذتهم الرجفة وهى الصاعقة فأتلفت أرواحهم فماتوا جميعا ، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول : «رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى» قد سفهوا ، أتهلك من ورائي من بنى إسرائيل ا ه.

ولا شك أن هذه الرواية ونحوها مأخوذة عن الإسرائيليات وليس فيها شىء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

(أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) أي قال موسى لربه مستعطفا : لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل.

وفى هذا إيماء إلى أن عقلاء بنى إسرائيل وأصحاب الروية منهم لم يعبدوه إنما عبده السفهاء ، وهم الأكثرون.

(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) أي ما تلك الفعلة التي كانت سببا فى أخذهم بالرجفة إلا محنة منك وابتلاء ، جعلته سببا لظهور استعداد الناس وما طويت عليه سرائرهم من ضلال وهداية وما يستحقون عليه العقوبة أو المثوبة بحسب سنتك فى خلقك بالعدل والحق ، تضل بمقتضاها من تشاء من عبادك ولست بالظالم لهم فى تقديرك ، وتهدى من تشاء ولست بالمحابي لهم فى توفيقك ، فأمرهم دائر بين العدل والفضل.

(أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أي أنت المتولّى أمورنا والقائم علينا بما تكتسب نفوسنا ، فاغفر لنا ما تترتب عليه المؤاخذة والعقاب من مخالفة سنتك ،

٧٩

والتقصير فيما يجب من ذكرك وشكرك وعبادتك ، وارحمنا وأنت خير الغافرين حلما وكرما وجودا ، فكل غافر سواك إنما يغفر لغرض كحب الثناء ودفع الضرر ، وأنت تغفر لا لطلب عوض بل لمحض الفضل والكرم ، وأنت خير الراحمين رحمة ، وأوسعهم فيها فضلا وإحسانا ، فرحمة من سواك نفحة مفاضة على قلوبهم من رحمتك.

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) أي وأثبت لنا برحمتك وفضلك حياة طيبة فى هذه الدنيا من عافية وبسطة فى الرزق وتوفيق للطاعة ، ومثوبة حسنة فى الآخرة بدخول جنتك ونيل رضوانك ، فهو بمعنى قوله فيما علّمنا من دعائه : «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً».

(إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي إنا تبنا مما فرط من سفهائنا من طلب الآلهة وعبادة العجل ومن تقصير عقلائنا فى الإنكار عليهم ـ مستغفرين مسترحمين كما فعل من قبل آدم إذ تاب إليك من معصيته فتبت عليه واجتبيته فكانت تلك سنتك فى ولده.

(قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أي قد كان من سبق رحمتى غضبى أن جعلت عذابى خاصا أصيب به من أشاء من الكفار والعصاة ؛ أما رحمتى فقد وسعت كل شىء فى العالمين فهى من صفاتى التي قام بها أمر العالم منذ خلقته ، والعذاب من أفعالى المترتبة على صفة العدل ، ولو لا الرحمة العامة المبذولة لكل أحد لهلك كل كافر وعاص عقب كفره وفجوره «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ».

ثم ذكر من ستكتب لهم الرحمة فقال :

(فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي فأثبت رحمتى بمشيئتى للذين يتقون الكفر والمعاصي ويؤتون الصدقة التي تتزكى بها أنفسهم ، وخص الزكاة بالذكر دون ما عداها من الطاعات ، لأن النفوس شحيحة ففتنته تقتضى أن يكون المانعون للزكاة أكثر من التاركين غيرها من الطاعات ، كما أن فى ذلك

٨٠