تفسير المراغي - ج ١١

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء الحادي العشر

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))

تفسير المفردات

الغيب : ما غاب عنك علمه ، والشهادة : ما تشهده وتعرفه ، الانقلاب : الرجوع ، رجس : أي قذر يجب الإعراض عنه.

٣

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عزّ اسمه من يستحقون اللوم والمؤاخذة من المعذّرين ، ومن لا سبيل إلى مؤاخذتهم وعدم الحرج عليهم ـ ذكر فى هذه الآيات ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا فى المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودتهم.

الإيضاح

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) أي سيعتذر إليكم أيها المؤمنون أولئك الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، وهم أغنياء أصحاء لا عذر لهم عن التخلف عن الغزو وغيره من سيئاتهم عند رجوعكم من السفر.

(قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول : لا تعتذروا إنا لن نصدّقكم فى معاذيركم أبدا ولن نطمئنّ إليكم.

ثم بين السبب فى عدم تصديقهم فقال :

(قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أي قد أنبأنا الله بوحيه إلى رسوله بعض أخباركم التي تسرّونها فى ضمائركم وهى مخالفة لظواهركم التي تعتذرون بها ، ونبأ الله هو الحق الذي لا شك فيه ، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل ولا يصدّق الكاذب.

وإنما قال نبأنا ولم يقل نبأنى إيماء إلى أنه أمره أن ينبّىء بذلك أصحابه ولم يكن هذا النبأ خاصا به ، كما أن اعتذارهم للجميع يقتضى أن يكونوا كلهم عالمين بما فضحهم الله به ، وفى هذا من التشهير بهم والخزي لهم ما لا خفاء فيه.

(وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي وسيرى الله عملكم ورسوله فيما بعد ، وهو الذي سيدلّ : إما على إصراركم على النفاق أو على التوبة والإنابة إلى ربكم ، وأما أقوالكم فلا يعتدّ بها مهما وكدتموها بالأيمان ، فإن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم وشهد لكم عملكم بصلاح طويّتكم ، فإن الله يتقبل منكم توبتكم ، ويغفر لكم حوبتكم ، ويعاملكم

٤

الرسول بما يعامل به المؤمنين الذين أخلصوا وصدقوا وشهدت لهم أعمالهم بذلك ، وإن أنتم أبيتم إلا الإصرار على النفاق وإلا الاعتماد على رواج سوق الكذب بتلك الأيمان التي تحلفونها فسيعاملكم الرسول بما أمره الله به من جهادكم والإغلاظ عليكم كإخوانكم الكفار المجاهرين.

وفى هذا إيماء إلى الرغبة فى توبتهم حين سنوح الفرصة.

(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم تردون يوم القيامة إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم ما تكتمون وما تظهرون ، فينبئكم حينئذ بما كنتم تعملون ويجازيكم عليه بما تستحقون وهو ما أوعدكم به فى كتابه الكريم فى هذه السورة وفى غيرها «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ».

وفى الآية إيماء إلى أنه ينبغى تحامى كل ما يعتذر منه من ذنب أو تقصير ، وقد ورد فى الحديث «إياك وما يعتذر منه».

ثم أكد ما سبق من نفاقهم بقوله :

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي سيؤكدون لكم اعتذارهم بما يحلفون به من كاذب الأيمان إذا انقلبتم من سفركم ورجعتم إليهم لتعرضوا عن العتب عليهم والتوبيخ لهم على قعودهم مع الخالفين من العجزة والنساء والأطفال وعلى البخل بالنفقة والمال.

(فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي فأعرضوا عنهم إعراض الإهانة والتحقير ، لا إعراض الصفح وقبول العذر. روى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين قدم المدينة «لا تجالسوهم ولا تكلموهم».

ثم علل هذا بقوله :

(إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أي إن فى نفوسهم قدرا معنويا يجب الاحتراس منه خوف سريان عدواه ، وميل النفوس إليه ، كما يحترز صاحب الثوب النظيف من الأقذار الحسّية التي ربما تصيبه إذا لم يحتط لها.

٥

(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي وملجؤهم الأخير نار جهنم جزاء لهم بما كسبوا فى الدنيا من أعمال النفاق وغيرها مما دنس نفوسهم ، وزادهم رجسا على رجسهم.

ثم زاد فى تأكيد نفاقهم فقال :

(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي يحلفون لكم لتستديموا معاملتهم بظاهر إسلامهم ، وهذا أهمّ الأغراض لديهم ، فلا حظّ لهم من إظهار الإسلام سواه ، ولو كان إسلامهم عن يقين واعتقاد لكان غرضهم الأول إرضاء الله ورسوله.

(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فإن ترضوا عنهم كما أرادوا ، وساعدتموهم على ما طلبوا فإن رضاكم عنهم لا يجديهم نفعا ، فإن الله ساخط عليهم بسبب فسوقهم وخروجهم عن أمره ونهيه.

وفى هذا إيماء إلى نهى المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة وأن من يرضى عنهم من المؤمنين يكون فاسقا مثلهم محروما من رضوان الله ، وأن من يتوب منهم ويرضى الله ورسوله يخرج من حدود سخطه ويدخل فى حظيرة مرضاته ولا يعدّ حينئذ فاسقا.

روى عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت فى الجدّ بن قيس ومعتّب بن قشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلا ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة بألا يجالسوهم ولا يكلموهم.

وقال قتادة : إنها نزلت فى عبد الله ابن أبىّ فإنه حلف للنبى صلى الله عليه وسلم بعد عودته ألا يتخلف عنه أبدا وطلب أن يرضى عنه فلم يفعل.

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ

٦

سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

تفسير المفردات

الأعراب : اسم لبدو العرب : واحده أعرابى والأنثى أعرابية ، والعرب اسم لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة بدوه وحضره : واحده عربى ، والمغرم : الغرامة والخسران ، من الغرام بمعنى الهلاك ، والدائرة : ما يحيط بالشيء والمراد بها ما لا محيص منه من تصاريف الأيام ونوائبها التي تحيط شرورها بالناس ، والدائرة أيضا : النائبة والمصيبة ، والسوء : اسم لما يسوء ويضر ، والقربات : واحدها قربة ، وهى فى المنزلة والمكانة كالقرب فى المكان والقرابة فى الرحم ، والصلوات : واحدها صلاة ، ويراد بها الدعاء.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم ، بين فى هذه الآيات الثلاث أحوال الأعراب مؤمنيهم ومنافقيهم كذلك.

الإيضاح

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي إن طبيعة البداوة اقتضت أمرين :

(١) إن كفارهم ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم من أهل الحضر ، ولا سيما من يقيم منهم فى المدينة ، فهم أغلظ طباعا وأقسى قلوبا ، لأنهم يقضون جلّ أعمارهم فى رعى الأنعام وحمايتها من ضوارى الوحوش ـ إلى أنهم محرومون من العلوم الكسبية والآداب الاجتماعية.

(٢) إنهم أحق وأحرى من أهل الحضر بألا يعلموا حدود ما أنزل الله على

٧

رسوله من الهدى والبينات فى كتابه ؛ وما آتاه من الحكمة التي بيّن بها تلك الحد تارة بالقول وأخرى بالفعل.

وكان صحابته فى المدينة وما حولها يتلقّون عنه الكتاب حين نزوله ويشهدون سنته فى العمل به ، ويرسل عمّاله إلى البلاد التي افتتحت يبلغون الناس القرآن ويحكمون به وبسنة رسوله المبيّنة له ـ وكل هذا لم يكن مستطاعا لأهل البوادي ، ومن ثم كان الجهل فيهم أكثر لحال المعيشة البدوية.

روى أبو داود والبيهقي عن أبى هريرة مرفوعا «من بدا جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى أبواب السلطان افتتن ، وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدا» ذاك أن السلاطين قلما يرضون عمن يصارحهم القول ويؤثرهم بالنصح ولا يزداد قربا منهم إلا المراءون الذين يعينونهم على الظلم ويثنون عليهم بالباطل.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي واسع العلم بشئون عباده وأحوالهم من إيمان وكفر وإخلاص ونفاق ، تامّ الحكمة فيما شرعه لهم ، وفى جزائهم من نعيم مقيم ، أو عذاب أليم.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) أي ومن الأعراب ناس كانوا ينفقون أموالهم فى الجهاد رياء وتقيّة ، ويعدّون ذاك من المغارم التي يجب على المرء أداؤها طوعا أو كرها لدفع المكروه عن أنفسهم أو عن قومهم ولا منفعة لهم فيها لا فى الدنيا وهو واضح ، ولا فى الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، قال الضحاك : وهم بنو أسد وغطفان.

(وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي وينتظرون أن تحل بكم نوائب الزمان وأحداثه التي تدور بالناس وتحيط بهم ، فتبدّل قوتكم ضعفا وانتصاركم هزيمة ، فيستريحوا من أداء هذه المغارم لكم ، إذ يستغنون عن إظهار الإسلام نفاقا ، وقد كانوا يتوقعون ظهور المشركين واليهود على المؤمنين ، فلما أعيتهم الحيل صاروا ينتظررن موت النبي صلى الله عليه وسلم ظنا منهم أن الإسلام يموت بموته.

(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) هذا دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به المؤمنين ، أي عليهم

٨

وحدهم الدائرة السوءى تحيط بهم دون المؤمنين الذين يتربصونها بهم وليس ؛ للمؤمنين عاقبة إلا ما يسرهم من نصر الله وتوفيقه لهم ، وما يسوء أعداءهم من خذلان وخيبة وتعذيب لهم فى الدنيا قبل الآخرة.

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما يقولونه مما يعبر عن شعورهم واعتقادهم فى نفقاتهم إذ تحدثوا بذلك فيما بينهم ، عليم بما يضمرونه فى سرائرهم ، وسيحاسبهم على ما يسمع ويعلم من قول وفعل ويجزيهم به.

وبعد أن بيّن حال المنافقين من الأعراب ـ ذكر حال المؤمنين الصادقين منهم فقال : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ومن الأعراب من يؤمن بالله ويثبت له القدرة وكمال التصرف فى الكون ، واليوم الآخر الذي تجازى فيه كل نفس بما كسبت ، قال مجاهد : هم بنو مقرّن من مزينة ، وهم الذين قال الله فيهم «وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ».

(وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أي ويتخذ ما ينفقه وسيلة لأمرين :

(١) القربات والزلفى عند الله تعالى جدّه.

(٢) صلوات الرسول أي أدعيته ، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم ، ولم يجىء فى نصوص الدين انتفاع أحد بعمل غيره إلا الدعاء وما يكون المرء سببا فيه كالولد الصالح والسنة الحسنة يتّبع فيها.

وسميت الصلوات الشرعية بهذا الاسم من قبل أن الدعاء وهو المعنى اللغوي لها هو روحها ومخها وسرها الذي به تتحقق العبودية على أتمّ وجوهها.

وقد بين الله جزاءهم على ما انطوت عليه نفوسهم من صدق الإيمان وإخلاص النية فى الإنفاق فى سبيل الله فأخبر بقبول نفقتهم وإثابتهم عليها فقال :

(أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) أي ألا إن تلك النفقة التي اتخذت قد تقبلها الله وأثاب عليها بما وعد به فى قوله :

٩

(سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) أي سيرحمهم الله برحمته الخاصة بمن رضى عنهم ، وهى هدايتهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى جنات النعيم ، والمراد بإدخالهم فى الرحمة أن تكون محيطة بهم شاملة لهم وهم مغمورون فيها ، وهذا أبلغ فى إثباتها لهم من مثل قوله : «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ».

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه واسع المغفرة والرحمة لمن يخلصون فى أعمالهم ، فهو يغفر لهم ما فرط منهم من ذنب أو تقصير ، ويرحمهم بهدايتهم إلى خير العمل وحسن المصير.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢))

تفسير المفردات

رضى الله عنهم : أي قبل طاعتهم ، ورضوا عنه : أي بما أسبغ عليهم من النعم الدنيوية والدينية ، ومردوا : أي مرنوا وحذقوا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات ـ قفى على ذلك بذكر منازل أعلى من منازلهم ، وهى منازل السابقين من المهاجرين والأنصار

١٠

ثم ذكر بعدهم حال طائفة من المنافقين هى شر الجميع مرنت على النفاق وحذقت فنونه ، وحال طائفة أخرى بين المنزلتين خلطت سيىء العمل بأحسنه ، وهؤلاء يرجى لهم التوبة والغفران من ربهم.

الإيضاح

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ذكر الله فى هذه الآية ثلاث طبقات من الأمة هى خيرها :

(١) السابقون الأولون من المهاجرين ، وهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية ، وقد كان المشركون يضطهدون المؤمنين ويقاتلونهم فى دار الهجرة وما حولها ولا يمكّنون أحدا من الهجرة متى كان ذلك فى طاقتهم ، ولا منجاة للمؤمنين من شرهم إلا بالفرار أو الجوار ، فالذين هاجروا فى ذلك الحين كانوا من المؤمنين الصادقين ، وأفضل هؤلاء الخلفاء الأربعة ثم العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.

(٢) السابقون الأولون من الأنصار ، وهم الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة فى منى فى المرة الأولى سنة إحدى عشرة من البعثة ، وكانوا سبعة ، وفى المرة الثانية ، وكانوا سبعين رجلا وامرأتين.

(٣) الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فى الهجرة والنصرة حال كونهم محسنين فى أفعالهم وأقوالهم ، فإذا اتبعوهم فى ظاهر الإسلام كانوا منافقين مسيئين غير محسنين فى هذا الاتباع ، وإذا اتبعوهم محسنين فى بعض أعمالهم ومسيئين فى بعض كانوا مذنبين.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي هؤلاء جميعا رضى الله عنهم فى إيمانهم وإسلامهم ، فقبل طاعتهم وتجاوز عن زلّاتهم ، وبهم أعز الإسلام ونكّل بأعدائه من المشركين وأهل الكتاب ، ورضوا عنه بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية فأنقذهم من الشرك ، وهداهم من الضلال ، وأعزهم بعد الذل ، وأغناهم بعد الفقر.

١١

(وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذا الوعد الكريم تقدم فى آيات سابقة فى هذه السورة وغيرها ، ولا شك أن نعيم الجنة الخالد بين روحانى وبدنىّ فوز أيّما فوز.

والخلاصة ـ إن هذه الطبقات الثلاث قد استبق أفرادها الصراط ، وشهد لهم ربّهم بالمغفرة والتجاوز عن كل ذنب ، وما عاد يؤثّر فى كمال إيمانهم شىء ، لأن نورهم يمحو كل ظلمة تطرأ على أحد منهم بإلمامه بذنب.

وبعد أن بيّن كمال إيمان تلك الطبقات الثلاث ورضاه عنهم ـ بين حال منافقى أهل المدينة ومن حولها فقال (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي إن بعض الأعراب الذين حولكم منافقون.

قال البغوي والواحدي : هم من قبائل جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار ، وكانت منازلهم حول المدينة ، وذلك لا يمنع أن يكون فيهم مؤمنون صادقون دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم ومدحهم فقد روى الشيخان عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وعفار موالى الله تعالى ورسوله لا موالى لهم غيره» ، وعنه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال : «أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها أما إنى لم أقلها ، لكن قالها الله تعالى».

وكذلك من أهل المدينة نفسها ناس منافقون ، من الأوس والخزرج سوى من أعلم الله رسوله بهم فى هذه السورة بما صدر منهم من أقوال وأفعال تنافى الإيمان.

هؤلاء وهؤلاء مرنوا على النفاق وحذقوه حتى بلغوا الغاية فى إتقانه ، فلا يشعر أحد به ، إذ هم يتقون جميع الأمارات والشبه التي تدل عليه.

(لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي لا تعرفهم أيها الرسول الكريم بفطنتك ودقيق فراستك لحذقهم فى التقيّة وتباعدهم عن مثار الشبهات ، بل نحن نعلمهم بأعيانهم ، وهؤلاء أخفى نفاقا ممن قال الله فيهم : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ

١٢

يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ».

وهؤلاء لم يعلمه الله أعيانهم ولا فضحهم بأقوال قالوها ولا بأفعال فعلوها كما فضح غيرهم فى هذه السورة ، لأنهم يتحامون ما يكون شبهة فى إيمانهم ، وضررهم مقصور عليهم لا يعدوهم إلى سواهم.

والحكمة فى إخبارنا بحالهم أن يعلموا هم أنفسهم أن الله عليم بما يسرون من نفاقهم ، ويحذروا أن يفضحهم الله كما فضح سواهم ، وليتوب منهم من يتوب قبل أن يحل بهم ما أوعدهم به ربهم بقوله :

(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) أي سنعذبهم فى الحياة الدنيا مرتين : أولاهما ما يصيبهم به من المصايب وانتظار الفضيحة بهتك أستارهم. وثانيتهما آلام الموت وزهوق أنفسهم وهم كافرون ، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم فى ذلك الحين ، ثم يردون يوم القيامة إلى عذاب جهنم وبئس المصير.

والخلاصة ـ إنهم يعذبون فى الدنيا بالعذاب الباطن بتوبيخ الضمائر وعذاب الخوف من الفضيحة على رءوس الأشهاد فى الظاهر ، ثم عذاب النار وبئس القرار.

وجملة القول ـ إن المنافقين فريقان : فريق عرفوا بأقوال قالوها وأعمال عملوها ، وفريق مردوا على النفاق وحذقوه حتى لا يشعر أحد بشىء يستنكره منهم.

وهذان الفريقان يوجدان فى كل عصر ، فما من قطر من الأقطار إلا منى أهله بأعوان وأنصار منهم يزعمون أنهم يخدمون أمتهم من طريق استمالة الغاصب واسترضائه ، وأنه لولاهم لتمادى فى ظلمه وهضم حقوق الأمة ولم يقف عند حد ، ومنهم من يخدمون المستعمرين خدمة خفية لا تشعر بها الأمة لأنهم مرنوا على النفاق.

وأشد المنافقين مرودا على النفاق أعوان الملوك المستبدين الذين يلبسون الباطل لباس الحق ويروجونه فى أعين الجماهير خدمة لأولئك الملوك.

١٣

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) أي وهناك فريق آخر ممن حولكم من الأعوان ومن أهل المدينة ليسوا منافقين ولا من السابقين الأولين ، بل من المذنبين الذين خلطوا الصالح من العمل بالسيىء منه ، والسيّء بالصالح ، فلم يكونوا من الصالحين الخلص ولا من الفاسقين ، فهم قد آمنوا وعملوا الصالحات واقترفوا بعض السيئات كالذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح ؛ ولم يستأذنوا كاستئذان المرتابين ولم يعتذروا بالكذب كالمنافقين ، ثم كانوا حين قعودهم ناصحين لله ورسوله شاعرين بذنوبهم خائفين من ربهم.

وقد بين سبحانه حالهم بقوله :

(عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي إنهم محل الرجاء لقبول الله توبتهم بتوفيقهم للتوبة الصحيحة التي هى سبب المغفرة والرحمة ـ وإنما يكون ذلك بالعلم بقبح الذنب وسوء عاقبته ، وتوبيخ الضمير حين تصور سخط الله والخوف من عقابه ـ ثم الإقلاع عنه بباعث هذا الألم ، والعزم على عدم العود إلى قترافه ، والعزم على العمل بضده ليمحو أثره من نفسه.

ثم علل هذا بقوله :

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى يقبل توبتهم ، لأنه كثير المغفرة للتائبين ، واسع الرحمة للمحسنين.

وفى معنى الآية قوله : «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» وقوله : «إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».

قال جماعة من العلماء : إن هذه الآية أرجى آية فى القرآن فى توقع رحمة الله للمذنبين الذين يجترحون السيئات ثم يتوبون إلى ربهم ويقلعون عن ذنوبهم.

روى البخاري عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أتانى الليلة أي فى المنام ملكان فابتعثانى فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر كأقبح ما أنت راء ، قالا لهم اذهبوا فقعوا فى ذلك النهر ، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء

١٤

عنهم فصاروا فى أحسن صورة ، قالا لى هذه جنة عدن وهذا منزلك ، قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا لقد تجاوز الله عنهم».

ولا شك أن هذا تمثيل فى الرؤيا لتجميل العمل الصالح للنفس ؛ وتشويه العمل القبيح لها ، ولتطهيرها بالتوبة وصالح العمل حتى تكون كلها جميلة وأهلا للكرامة بعد أن تبعث كلها فى الصورة التي كانت عليها قبل التوبة ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس بنهر جار يفيض على عتبة الإنسان كل يوم خمس مرات فهل يبقى عليها وسخا أو قذرا؟.

وفى الحديث : «أتبع السيئة الحسنة تمحها».

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

تفسير المفردات

الصدقة : ما ينفقه المؤمن قربة لله ، والتزكية ، من قولهم رجل زكىّ : أي زائد الخير والفضل قاله فى الأساس ، والصلاة : الدعاء ، والسكن : ما تسكن إليه النفس وترتاح من أهل ومال ومتاع ودعاء وثناء.

المعنى الجملي

جاءت هذه الآيات فى بيان فوائد صدقة الأموال والحث عليها وقبول التوبة لمن قصّر فى الجهاد فى سبيل الله بماله ونفسه.

١٥

روى ابن جرير أن أبا لبابة وأصحابه (ممن تخلفوا وتابوا وسيأتى ذكرهم) جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أطلقوا فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» فأنزل الله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) فلما نزلت أخذ الثلث من أموالهم فتصدق به عنهم.

وهذا النص ـ وإن كان سببه خاصا ـ عام فى الأخذ ، يشمل خلفاء الرسول من بعده ومن بعدهم من أئمة المسلمين ؛ وفى المأخوذ منهم وهم المسلمون الموسرون ، ومن ثم قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعى الزكاة من أحياء العرب حتى أدّوا الزكاة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : «والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأفاتلنهم على منعه».

الإيضاح

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) أي خذ أيها الرسول من أموال هؤلاء ومن غيرهم من سائر أموال المؤمنين على اختلاف أنواعها من نقد وأنعام وأموال تجارة ، صدقة بمقدار معين فى الزكاة المفروضة أو بمقدار غير معين فى زكاة التطوع تطهرهم بها من دنس البخل والطمع والقسوة على الفقراء البائسين ، وتزكى أنفسهم بها وترفعهم إلى منازل الأبرار بفعل الخيرات حتى يكونوا أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية.

وقد نسبت التزكية إلى الله فى قوله : «وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ، وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» لأنه الخالق الموفق للعبد لفعل ما تزكو به نفسه وتصلح.

ونسبت إلى رسول الله فى قوله : «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ».

١٦

لأنه هو المربى للمؤمنين على ما تزكو به نفوسهم ، ويعلوا قدرها باتباعهم سنته العملية والقولية وبيانه لكتاب الله ، فهو القدوة الحسنة لهم.

ونسبت إلى الفاعل لها فى نحو قوله : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» وقوله : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» لأنه قد فعل ما كان سببا فى طهارة نفسه وزكاتها من صدقات ونحوها من أعمال البر.

وأما النهى عن تزكية النفس فى قوله : «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» وقوله : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» فذاك فى تزكية النفس بدعوى اللسان فقط دون عمل يؤيدها.

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي وادع أيها الرسول للمتصدقين واستغفر لهم ، فإن دعاءك واستغفارك سكن لهم يذهب به اضطراب نفوسهم ؛ وتطمئن قلوبهم بقبول توبتهم ، ويرتاحون إلى قبول الله صدقاتهم بأخذك لها ووضعها فى مواضعها.

والصلاة من الله على عباده رحمته لهم ، ومن ملائكته استغفارهم كما قال تعالى : «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» ومن المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم دعاؤهم له بما أمرهم به فى الصلاة بعد التشهد الأخير كالدعاء المأثور (اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد).

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لاعترافهم بذنوبهم ، وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة ، عليم بندمهم وتوبتهم منها وإخلاصهم فى صدقاتهم وطيب أنفسهم بها ، عليم بما فيه الخير والمصلحة لهم وهو الذي يثيبهم عليها.

وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبى أوفى قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : «اللهم صلّ على فلان» فأتاه أبى بصدقته فقال «اللهم صلّ على آل أبى أوفى».

١٧

وفى هذا إيماء إلى أن المراد بالصدقة ما يعمّ الفريضة وغيرها ، وإلى أنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على هذا الدعاء ، ومن ثم قيل إن هذا الأمر للوجوب وهو خاصّ به صلى الله عليه وسلم.

فوائد الصدقات فى إصلاح المجتمع الإسلامى

الصدقات تطهّر أنفس الأفراد من أرجاس البخل ، والدناءة والاثرة ، والطمع والجشع ، وتبعدهم عن أكل أموال الناس بالباطل من خيانة وسرقة وغصب وربا ، وغير ذلك : فإن من يتعود بذل بعض ما فى يده أو ما أودعه فى خزائنه فى سبيل الله ابتغاء مرضاته ومغفرة ذنوبه ـ يكن أرفع نفسا من أن يأخذ مال غيره بغير حق ، وإذا طهرت أنفس الأفراد وزكت بالعلم والتقوى وهما ثمرة الإيمان طهرت جماعة المؤمنين من أرجاس الرذائل الاجتماعية التي هى مثار التحاسد والتعادي والبغي والعدوان والفتن والحروب ، فإن الأموال قوام الحياة المعيشية للفرد والمجتمع ، فهى مثار التنازع والتخاصم ، ومن ثم أوجب الدين على أصحاب الأموال من النفقات والصدقات ما يجعل الثروات وسيلة للسلام لا إلى الخصام.

وقد جمع الإسلام بين مصالح الروح والجسد للوصول إلى السيادة فى الدنيا والسعادة فى الآخرة ، فهو وسط بين اليهودية المفرطة فى حب المال ، والنصرانية الروحانية الزاهدة ، فمن أهمّ مقاصده الإصلاحية فى الاجتماع البشرى هداية الناس إلى العدل فى أمر المال ليبتعدوا عن شر طغيان الأغنياء على الفقراء ، ونصوص الدين فى هذا الباب هى الغاية التي لا يطمح مصلح فى التطلع إلى ما بعدها ، وهى هادمة لمزاعم من يفتات على الإسلام من أرباب الجهل والهوى.

وقد فرضت الزكاة المطلقة فى أول الإسلام وكانت اشتراكية ، والباعث عليها القلوب والضمائر لا إكراه الحكام ، ثم جعلت معينة محدودة عند ما صار للإسلام دولة.

وسر الوضع الأول أن جماعة المسلمين فى مكة قبل الهجرة كانوا محصورين ،

١٨

ومنهم الموسر والمعسر وصاحب الثروة وذو الفقر المدقع ، فوجب أن يقوم أغنياؤهم بكفالة فقرائهم وجوبا دينيا إذا كانت الزكاة المعينة لا تكفيهم.

ولا شك أن الأسس الإصلاحية للمال التي وضعها الإسلام لا يتسنى لأقدر الأمم المالية فى العصر الحاضر أن تضع خيرا منها ، انظر إليه تره حرّم الربا والقمار ، لما أنهما يوجدان التنازع والتخاصم بين الناس وإن كان فيهما بعض المكاسب ، وأوجب الحجر على السفهاء فى أموالهم صيانة لها عن الضياع فيما يضرهم ويضر أمتهم ، وفرض النفقة الزوجية والنفقة على ذوى القرابة من ذوى الحاجة ، وذم الإسراف والتبذير والبخل والجشع والتقتير ومدح القصد والاعتدال فى النفقة على النفس والعيال ، وأباح الزينة والطيبات من الرزق بشرط اجتناب الإسراف حفظا للثروة من الضياع وبعدا عن الأمراض والأدواء البدنية ، وجعل زكاة النقدين الواجبة هى ربع العشر أي ١ ـ ٤٠ خ وهو أوسط ربح تدفعه المصارف المالية لمودعى نقودهم فيها للاستغلال.

انظر إلى الثروة فى مصر نقدا وتجارة وتأمل مقدار ربع العشر الواجب فيها فى كل عام لفقرائها ومرافقها العامة ، ثم قدّر فى نفسك إذا هى قامت بالواجب الديني عليها فى الزكاة ، هل يكون فيها فقر مدقع أو شقاء بين أفراد الأمة ، هل تتصور أن تنتشر فيها الأمراض المعدية أو يخيم على أفرادها الجهل ، أو ترتكب فيها جنايات السرّاق وقطاع الطرقات وذوى الخيانة والغدر ، أظن أن الجواب على ذلك : لا.

وقد جاء فى الكتاب والسنة الترغيب فى بذل المال فى سبيل البر وجعله علامة من علامات الإيمان الموجبة لثواب الرحمن والدخول فى غرفات الجنان ، ولم يجىء مثل ذلك فى أي نوع من أنواع البر وضروب الإحسان.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) أي ألم يعلم أولئك التائبون من ذنوبهم أن الله هو الذي يقبل توبة التائبين من عباده ، ولم يجعل ذلك لأحد من خلقه لا رسول ولا من دونه.

وفى الآية حضّ على التوبة والصدقة والترغيب فيهما.

١٩

(وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي يتقبلها ويثيب عليها ويضاعف ثوابها كما وعد بذلك فى قوله : «إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ».

(وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى هو الذي يقبل التوبة إثر التوبة من المذنبين الذين ينيبون إلى ربهم ، وأنه هو الرحيم بالتائبين الذي يثيبهم على ما قدموا من عمل ، ويمنعهم الخوف أن يصرّوا على ذنب كما قال تعالى فى وصف المتقين «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» وجاء فى الحديث «ما أصرّ من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة» رواه الترمذي ، وروى الشيخان عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة ، فتربو فى كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربىّ أحدكم فلوّه أو فصيله» والحديث تمثيل لحال الصدقة المقبولة عند الله.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي وقل لهم أيها الرسول اعملوا لدنياكم وآخرتكم ، لأنفسكم وأمتكم ، فالعمل هو مناط السعادة ، لا الاعتذار عن التقصير ولا دعوى الجدّ والتشمير ، وسيرى الله عملكم خيرا كان أو شرا ، فيجب عليكم أن تراقبوه فى أعمالكم وتتذكروا أنه عليم بمقاصدكم ونياتكم ، فجدير بمن يؤمن به أن يتقيه فى السر والعلن ويقف عند حدود شرعه ، وسيراه رسوله والمؤمنون ويزنونه بميزان الإيمان الذي يفرق بين الإخلاص والنفاق ، وهم شهداء على الناس.

روى أحمد والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لو أن أحدكم يعمل فى صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان».

وفى الآية إيماء إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان تلى مرضاة الله ورسوله ، وفى حديث أنس رضى الله عنه قال : «مرّوا بجنازة فأثنوا عليها خيرا

٢٠