تفسير المراغي - ج ٩

أحمد مصطفى المراغي

وقد روى أن النضر هو الذي أنزل فيه «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً» فقد اشترى قينة جميلة تغنى الناس بأخبار الأمم لصرفهم عن سماع القرآن ، وهذا منتهى الجحود والعناد.

وقد كان زعماء قريش كالنضر بن الحارث وأبي جهل والوليد بن المغيرة يتواصون بالإعراض عن سماع القرآن ويمنعون الناس عنه ، ثم يختلفون أفرادا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلا يستمعون إليه ويعجبون منه ومن تأثيره وسلطانه على القلوب حتى قال الوليد بن المغيرة كلمته المشهورة : إنه يعلو ولا يعلى عليه ، وإنه يحطم ما تحته ، فخافوا أن تسمعها العرب وما زالوا يلحون عليه ليقول كلمة منفرّة فقال : «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ».

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥))

المعنى الجملي

روى أنه لما قال النضر : إن هذا إلا أساطير الأولين ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ويلك إنه كلام رب العالمين فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، الآية.

٢٠١

الإيضاح

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي اللهم إن كان هذا القرآن وما يدعو إليه هو الحق منزلا من عندك ليدين به عبادك كما يدّعى محمد صلى الله عليه وسلم فافعل بنا كذا وكذا.

وفى هذا إيماء إلى أنهم لا يتبعونه وإن كان هو الحق المنزل من عند الله ، بل يفضلون الهلاك بحجارة يرجمون بها من السماء أو بعذاب أليم سوى ذلك ، كما أن فيه تهكما وإظهار للحزم واليقين بأنه ليس من عند الله ـ وحاشاه ـ ومنه يعلم أيضا أن دعاءهم كفر وعناد ، لا لأن ما يدعوهم إليه قبيح وضار.

روى أن معاوية قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! فقال : أجهل من قومى قومك حين قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) ولم يقولوا : فاهدنا له.

ثم قال تعالى بيانا للموجب لإمهالهم والتوقف فى إجابة دعائهم.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) أي وما كان من سنة الله ولا من مقتضى رحمته وحكمته أن يعذبهم وأنت الرسول فيهم ، لأنه إنما أرسلك رحمة ونعمة لا عذابا ونقمة ـ إلى أنه قد جرت سنته أيضا ألا يعذب أمثالهم من مكذبى الرسل وهم بين أظهرهم ، بل كان يخرج الرسل أوّلا كما حدث لهود وصالح ولوط.

(وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي وما كان الله ليعذبهم هذا العذاب الذي عذّب بمثله الأمم قبلهم فاستأصلهم ، وهم يستغفرون ، وهم المسلمون الذين بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين.

روى ابن جرير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله :

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ

٢٠٢

مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وكان من بقي فى مكة من المؤمنين يستغفرون فلما خرجوا أنزل الله : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الآية فأذن الله فى فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم به.

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي وأىّ شىء يمنع تعذيبهم بما دون عذاب الاستئصال عند زوال المانع منه ، وكيف لا يعذبون وهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام ولو لأداء النسك؟ فما كان مسلم يقدر أن يدخل المسجد الحرام فإن دخل مكة عذبوه إذا لم يكن فيها من يجيره ، والمراد بالعذاب هنا عذاب بدر إذ قتل صناديدهم ورءوس الكفر كأبى جهل وأسر سراتهم.

(وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي وما كانوا مستحقين للولاية عليه لشركهم وعمل المفاسد فيه كطوافهم فيه عراة رجالا ونساء ، وهذا ردّ لقولهم : نحن ولاة البيت والحرام ، نصد من نشاء وندخل من نشاء.

(إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) أي إنه لا يلى أمره إلا من كان برّا تقيا ، لامن كان كافرا عابدا للصم.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنهم ليسوا أولياء الله ، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين ؛ فهم الآمنون من عذابه بمقتضى عدله فى خلقه والجديرون بولاية بيته. وقد نسب هذا الجهل إلى الأكثر ، إذ كان فيهم من لا يجهل حالهم فى جاهليتهم وضلالهم فى شركهم وكون الله لا يرضى عنهم ، كما كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة ، وقد جرت سنة القرآن أن يدقق فى الحكم ، ولا يقول إلا الحق ولا يقول كما يقول الناس : إن القليل لا حكم له.

هذا ، وإن جماهير المسلمين الآن صاروا يجهلون ولاية الله لأوليائه ، فصارت هذه الولاية عندهم تشمل المجانين والمجاذيب الذين يسيل اللعاب من أشداقهم وترتع الحشرات فى ثيابهم وأجسادهم ، وتشمل أصحاب الدجل والخرافات ، والدعاوى الباطلة للكرامات ، وصاروا يؤيدون دعاويهم من رؤيا الأنبياء والأقطاب فى المنام.

٢٠٣

ثم بين عز اسمه سوء حالهم فى أفضل ما بنى البيت لأجله ، وهى الصلاة ، فقد كانوا يطوفون عراة فقال :

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) المكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق ، وكان أحدهم يضع يده على الأخرى ويصفر ، قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفّق ، وروى عنه أن الرجال والنساء منهم كانوا يطوفون عراة مشبّكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفّقون ، وروى عن سعيد بن جبير قال : كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم فى الطواف يستهزئون ويصفرون فنزلت (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً).

وعلى الجملة فقد كانت صلاتهم وطوافهم من قبيل اللهو واللعب سواء عارضوا الرسول صلى الله عليه وسلم فى طوافه وخشوع صلاته وحسن تلاوته أم لا.

(فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي فذوقوا عذاب القتل لبعض كبرائكم والأسر للآخرين منهم وانهزام الباقين مدحورين مكسورين يوم بدر.

والخلاصة ـ فذوقوا العذاب الذي طلبتموه ، وما كان لكم أن تستعجلوه إذ قلتم (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧))

المعنى الجملي

لما بين سبحانه أحوال هؤلاء المشركين فى الطاعات البدنية بقوله : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ـ قفّى على ذلك بذكر أحوالهم فى الطاعات المالية.

٢٠٤

روى عن ابن عباس ومجاهد أن الآية نزلت فى أبي سفيان وما كان من إنفاقه على المشركين فى بدر ومن إعانته على ذلك فى أحد ـ ذلك أنه لما نجا بالعير بطريق البحر إلى مكة مشى ومعه نفر من المشركين يستنفرون الناس للقتال فجاءوا كل من كان لهم تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ندرك منه ثأرا ففعلوا.

وقال سعيد بن جبير إنه استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش (واحدها حباشة :

الجماعة ليسوا من قبيلة واحدة) يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية (والأوقية اثنان وأربعون مثقالا من الذهب).

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) سبيل الله دينه واتباع رسوله : أي إن مقصدهم بالإنفاق الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك.

(فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) أي إنه سيقع هذا الإنفاق وتكون عاقبته الحسرة لأنه سيذهب المال ولا يصلون إلى المقصود ، بل يغلبون كما قال تعالى : «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وسينكسرون المرة بعد المرة.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي والذين كفروا يساقون يوم القيامة إلى جهنم إذا هم أصروا على كفرهم حتى ماتوا فيكون لهم شقاء الدارين وعذابهما.

وقد كان للمسلمين العبرة فى هذه الآية فينفقون أموالهم فى سبيل الله لأن لهم بها سعادة الدارين ، وهكذا كانوا أيام قاموا بحقوق الإسلام والإيمان.

والكفار فى هذا العصر ينفقون الكثير من الأموال للصد عن الإسلام وفتنة الضعفاء من العامة بالدعوة إلى دينهم وتعليم أولاد المسلمين فى مدارسهم ومعالجة رجالهم

٢٠٥

ونسائهم فى مستشفياتهم إلى نحو ذلك من الوسائل الناجعة فى نشر دينهم وفتنة المسلمين عن دينهم وهم لا يبالون ماذا يفعلون ـ ألا ساء ما كانوا يعملون.

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي إن الله كتب النصر والغلب لعباده المتقين والخذلان والحسرة لمن يعاديهم ويقاتلهم من الكفار للصدّ عن سبيل الله ، ليميز الكفر من الإيمان ، والحق والعدل من الجور والطغيان.

وهذا التمييز بين الأمرين فى سنن الاجتماع هو بقاء أمثل الأمرين وأصلحهما : «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» وسنن الله فى الدنيا والآخرة واحدة ، فالخبيث فى الدنيا خبيث فى الآخرة ومن ثم قال :

(وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ويجعل الله الخبيث بعضه منضما متراكبا على بعض بحسب سنته تعالى فى اجتماع المتشاكلات واختلاف المتناكرات كما جاء فى الحديث «الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» ثم يجعل أصحابه فى جهنم إلى يوم القيامة ، وبئس المصير لمن خسر نفسه وماله.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه حال من يصر على الكفر والصد عن سبيل الله وقتال رسوله والمؤمنين وعاقبة أعمالهم فى الدنيا والآخرة ـ قفى على ذلك ببيان من يرجعون عنه ويدخلون فى الإسلام لأن الأنفس فى حاجة إلى هذا البيان فقال :

٢٠٦

الإيضاح

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار : إن ينتهوا عماهم عليه من عداوتك وعنادك بالصد عن سبيل الله ، يغفر لهم الله ما قد سلف منهم من ذلك ومن سواه من الذنوب ، فلا يعاقبهم على شىء من ذلك فى الآخرة ، ويغفر لهم الرسول والمؤمنون فلا يطالبون قاتلا منهم بدم ولا سالبا أو غانما بسلب ولا غنم.

روى مسلم من حديث عمرو بن العاص قال : فلما جعل الله الإيمان فى قلبى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ابسط يدك أبايعك ، فبسط يده فقبضت يدى ، قال مالك؟ قلت أردت أن أشترط. قال ماذا تشترط؟ قلت أن يغفر لى قال أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟».

(وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي وإن يعودوا إلى العداء والصد والقتال تجر عليهم سننه المطردة فى أمثال لهم من الأولين الذين عادوا الرسل وقاتلوهم ، من نصر المؤمنين وخذلانهم وهلاكهم كما حدث لهم يوم بدر كما قال : «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ».

ثم بين ما سلف من قوله:فقد مضت سنة الأولين ، ورغب المؤمنين فى قتالهم فقال :

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أي وقاتلهم أيها الرسول أنت ومن معك من المؤمنين حتى تزول الفتنة فى الدين بالتعذيب وضروب الإيذاء لأجل تركه كما فعلوا ذلك حين كانت لهم القوة والبطش فى مكة ، إذ أخرجوكم منها لأجل دينكم ثم أتوا لقتالكم فى دار الهجرة ، وحتى يكون الدين كله لله فلا يستطيع أحد أن يفتن أحدا عن دينه ويكرهه على تركه إلى دين المكره تقيّة وخوفا.

وخلاصة ذلك ـ قاتلوهم حتى يكون الناس أحرارا فى عقائدهم لا يكره أحد أحدا

٢٠٧

على ترك عقيدته إكراها ولا يؤذى ويعذب لأجلها كما قال تعالى : «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» والمسلمون إنما يقاتلون لحرية دينهم ولا يكرهون عليه أحدا من دونهم.

وروى عن ابن عباس تفسير الفتنة بالشرك ـ والمعنى عليه ـ قاتلوهم حتى لا يبقى شرك وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام.

ويؤيد الرأى الأول أنه جاء رجلان فى فتنة ابن الزبير إلى عبد الله بن عمر فقالا :

إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يمنعك أن تخرج؟ قال يمنعنى أن الله حرم علىّ دم أخى المسلم. قالا ولم يقل الله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي فإن انتهوا عن الكفر وعن قتالكم فإن الله يجازيهم على ما فعلوا بحسب علمه.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي وإن أعرضوا عن سماع تبليغكم ولم ينتهوا عن كفرهم وفتنتهم وقتالهم لكم فأيقنوا بنصر الله ومعونته لكم وهو متولى أموركم فلا تبالوا بهم ولا تخشوا بطشهم ، وهو نعم المولى ونعم النصير فلا يضيع من تولاه ولا يغلب من نصره.

وما غلب المسلمون فى العصور الأخيرة وذهب أكثر ملكهم إلا لأنهم تركوا الاهتداء بهدى دينهم وتركوا الاستعداد المادي والحربي الذي طلبه الله بقوله : «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» واتكلوا على خوارق العادات وقراءة الأحاديث والدعوات ، وذلك ما لم يشرعه الله ولم يعمل به رسوله ـ إلى أنهم تركوا العدل والفضائل وسنن الله فى الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح ، وأنفقوا أموال الأمة والدولة فما حرم الله عليهم من الإسراف فى شهواتهم.

٢٠٨

وعلى العكس من ذلك اتبع الإفرنج تعاليم الإسلام فاستعدوا للحرب واتبعوا سنن الله فى العمران فرجحت كفّتهم ، ولله الأمر.

وما مكّن الله لسلف المسلمين من فتح بلاد كسرى وقيصر وغيرهما من البلاد إلا لما أصاب أهلها من الشرك وفساد العقائد فى الآداب ومساوى الأخلاق والعادات والانغماس فى الشهوات واتباع سلطان البدع والخرافات ـ فجاء الإسلام وأزال كل هذا واستبدل التوحيد والفضائل بها ، ومن ثم نصر الله أهله على الأمم كلها.

ولما أضاع جمهرة المسلمين هذه الفضائل واتبعوا سنن من قبلهم فى اتباع البدع والرذائل وقد حذرهم الإسلام من ذلك ، ثم قصروا فى الاستعداد المادي والحربي للنصر فى الحرب عاد الغلب عليهم لغيرهم ومكنّ لسواهم فى الأرض : «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بما أودع فيها من كنوز وخيرات.

وفق الله المسلمين إلى الهدى والرشاد وجعلهم يعيدون سيرتهم الأولى ويهتدون بهدى دينهم ويستمسكون بآدابه ويتبعون سيرة السلف الصالح ، فيكتب لهم العز فى الدنيا والسعادة فى الآخرة ، والحمد لله أولا وآخرا.

وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء فى ليلة العشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف بمدينة حلوان من أرباض القاهرة ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

٢٠٩

فهرست

أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

حب الوطن لا يبلغ منزلة حب الدين............................................... ٤

أوجب الله الهجرة على من يستضعف فى وطنه فيمنع من إقامة دينه فيه................. ٥

الإيمان الصحيح سبب سعادة الدنيا والآخرة....................................... ١٥

الأمن من مكر الله خسران ومفسدة كاليأس من رحمته.............................. ١٦

فى قصص الماضين عبرة للحاضرين............................................... ١٧

ذكر اسم موسى فى القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة.............................. ٢٢

الفتن السياسية والأكاذيب التي حدثت فى الصدر الأول مرجعها إلى الفرس الذين كانوا يروّجون الغش والتدليس لإفساد الإسلام      ٢٤

السحر وضروبه ورواجه فى البلاد الهمجية......................................... ٢٦

السحر صناعة تتلقّى بالتعليم..................................................... ٢٧

اتهام فرعون السحرة بالتوطؤ مع موسى........................................... ٣٥

التاريخ المصري يدل على أنه كان للمصريين آلهة كثيرة............................ ٣٧

ما كتبه المفسدون عن بنى إسرائيل منقول بالسماع منهم أو مأخوذ من كتب لا يوثق بصدقها      ٣٩

طلب بنو إسرائيل من موسى أن يجعل لهم آلهة يعكفون على عبادتها.................. ٥١

سحرة موسى كانوا من العلماء.................................................. ٥١

فى القرآن وعد بزوال الوثنية من مصر............................................ ٥٣

٢١٠

الأخبار متعارضة فى رؤية الله يوم القيامة.......................................... ٥٩

كثير ممن تعلم العلم فى البلاد الغربية من المسلمين يحتقرون هداية الدين الروحية........ ٦٦

عجل السامرىّ وصفته ، وكيف كان صنعه ، وردّ القرآن على من اتخذوه إلها......... ٦٨

اختار موسى من قومه سبعين رجلا............................................... ٧٨

صفات النبي صلى الله عليه وسلم فى القرآن........................................ ٨١

ما جاء فى التوراة عن عدد بنى إسرائيل الذين كانوا فى التيه ، وردّ ابن خلدون على ذلك ٨٩

الحكمة فى كون النبي محمد عليه الصلاة والسلام أمّيا لا يقرأ ولا يكتب.............. ٩٣

هل كان مسخ بنى إسرائيل فى الخلق أو فى الخلق؟.................................. ٩٦

ضرب الله المثل لمن يميل إلى الدنيا ويتبع هواه بالكلب فى أقبح حالاته................ ١٠٩

المؤمن تسمو نفسه بمعرفة ربه فلا يذل لغيره ولا يخاف منه........................ ١١٣

المسلمون أهملوا النظر فى آيات الله فى الأنفس والآفاق............................. ١١٤

الإسلام يحض على استعمال الطيبات فى الحياة بلا تقتير ولا إسراف................ ١١٥

إن لله تسعة وتسعين اسما...................................................... ١١٧

عقاب الأمم مبنى على النواميس التي سنها الله فى الخليقة........................... ١٢٣

الأمر بالنظر فى ملكوت السموات والأرض...................................... ١٢٥

تأتى الساعة على الناس بغتة وهم لا يشعرون.................................... ١٢٨

الحكمة فى إخفاء الآجال والأعمال............................................. ١٣٠

عمر الدنيا وما جاء فى ذلك من الآثار........................................... ١٣١

أشراط الساعة وأماراتها....................................................... ١٣٢

المهدى المنتظر................................................................ ١٣٣

الرسول لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه.................................. ١٣٦

٢١١

قوىّ الروح بالإيمان والتقوى لا تؤثر فيه نزغات الشيطان......................... ١٥١

المؤمن إذا مسه طائف من الشيطان تذكر فأناب إلى ربه........................... ١٥٢

أوصاف القرآن.............................................................. ١٥٣

ما يفعله جماهير الناس فى المحافل عند سماع القرآن................................. ١٥٥

ذكر الله باللسان وحده لا يجدى نفعا........................................... ١٥٦

قصة بدر وسببها............................................................. ١٦٨

دعاء النبي ربه قبل الغزوة...................................................... ١٧٢

إنزال الملائكة مددا للمؤمنين................................................... ١٧٣

الفرار من الزحف من الكبائر.................................................. ١٧٩

من يتبع هواه لا تؤثر فيه النصائح............................................... ١٨٨

عقاب الأمم على ذنوبها مطرد دون عقاب الأفراد................................ ١٩٠

الخيانة من صفات المنافقين والأمانة من صفات المؤمنين............................ ١٩٣

المتقى يؤتيه الله فرقانا يميز به بين الرشد والغى.................................... ١٩٦

اتفقت كلمة المشركين على إيقاع الأذى بالنبي صلى الله عليه وسلم بإحدى ثلاث... ١٩٨

أهل الكفر الآن ينفقون الأموال للصد عن الإسلام وفتنة الضعفاء.................. ٢٠٥

ما غلب المسلمون وذهب أكثر ملكهم إلا لتركهم هدى الإسلام.................. ٢٠٨

٢١٢