تفسير المراغي - ج ٩

أحمد مصطفى المراغي

أخيه الشقيق من إخوته لأبيه برضاهم ومقتضى شريعتهم ، والمتين : القوى الشديد ، والجنة (بالكسر) نوع من الجنون. والإنذار : التعليم والإرشاد المقترن بالتخويف من مخالفته ، والملكوت : الملك العظيم ، وملكوت السموات والأرض : مجموع العالم ، والحديث : كلام الله وهو القرآن ، والطغيان تجاوز الحد فى الباطل والشر من الكفر والفجور والظلم : والعمه. التردد فى الحيرة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه ذرأ لجهنم كثيرا من الثقلين. الجن والإنس وأبان أهمّ أسباب ذلك ، وهى أن هؤلاء أفسدوا فطرتهم بإهمال مواهبهم من العقل والحواس ، ثم أرشدنا إلى ما يصلح الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى ، قفّى على ذلك ببيان وصف أمة الإجابة وثنّى ، بذكر المكذبين من أمة الدعوة ، وثلّث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة ، ثم أرشد إلى التفكر الموصّل إلى الفقه فى الأمور ومعرفة الحقائق ، وإلى النظر الهادي إلى الحجة ، والبرهان الموصل إلى معرفة صدق الرسول ، ثم ختمها ببيان عدم الطمع فى هداية من قضت سنة الله بضلاله وتركه يعمه فى طغيانه.

الإيضاح

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي وبعض ممن خلقنا جماعة كبيرة مؤلفة من شعوب وقبائل كثيرة ، يهدون بالحق ويدلّون الناس على الاستقامة ، وبالحق يحكمون فى الحكومات التي تجرى بينهم ولا يجورون ، فسبيلهم واحدة ، لأن الحق واحد لا يتعدد ، وهؤلاء هم أمة محمد عليه الصلاة والسلام.

أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج فى قوله تعالى «وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «هذه أمتى ، بالحق يحكمون ويقضون ، ويأخذون ويعطون».

١٢١

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة فيها قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأها. وهذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).

وأخرج أبو الشيخ عن على بن أبي طالب قال : لتفترقنّ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها فى النار إلا فرقة ، يقول الله (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) فهذه هى التي تنجو من هذه الأمة ا ه.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي والذين كذبوا بآيات الله سندعهم يسترسلون فى غيهم وضلالهم ولا يدرون شيئا من عاقبة أمرهم ، لجهلهم سنن الله فى المنازعة بين الحق والباطل وأن الحق يدفع الباطل ، وما ينفع الناس يتغلّب على ما يضرهم كما قال تعالى بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وقال : «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ».

وقد صدق الله وعده ، فقد كان كفار قريش وصناديدها يبالغون فى عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ، اغترارا بكثرتهم وثروتهم لا يعتدّون به ولا بغيره ممن آمن به أوّلا وأكثرهم من الضعفاء الفقراء ، فما زالوا يتدرّجون فى عداوتهم له وقتالهم إياه حتى أظهره الله تعالى عليهم فى غزوة بدر فلم يعتبروا ، ثم زادهم غرورا تغلّبهم عليه آخر معركة أحد حتى قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ـ إلى أن كان الفتح الأعظم : فتح مكة فأظهر رسوله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه عليهم من حيث لا يعلمون سنته تعالى.

وأثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال لما حملت إليه كنوز كسرى : اللهم إنى أعوذ بك أن أكون مستدرجا فأنى سمعتك تقول (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ).

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين فى العمر وأمدّ لهم فى أسباب المعيشة والتدرب على الحرب بمقتضى سننى فى نظام الاجتماع البشرى

١٢٢

كيدا لهم ومكرا بهم لا حبّا فيهم ونصرا لهم كما قال تعالى : «فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ، أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» وروى الشيخان من حديث أبي موسى : «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»

وخلاصة ذلك ـ إن سنة الله قد مضت فى الأمم والأفراد بأن يكون عقابهم بمقتضى الأسباب التي قام بها نظام الخلق ، فالظالم إذا لم ينزل به العقاب عقب ظلمه ازداد بغيا وظلما ولا يحسب للعواقب حسابا فيسترسل فى ظلمه إلى أن تحيق به عاقبة ظلمه فى الدنيا يأخذ الحكام له أو بوقوعه فى المصايب والمهالك ، وله فى الآخرة عذاب النار وبئس القرار.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ؟) أي أكذبوا الرسول ولم يتفكروا فى حاله من بدء نشأته وفى حقيقة دعوته ، ودلائل رسالته ، وآيات وحدانية الله وقدرته على إعادة خلقه كما بدأهم؟

إنهم إن تفكروا فى ذلك مليا أو شكوا أن يعرفوا الحق ، وما الحق إلا أن صاحبهم ليس به جنة ، وقد حكى الكتاب الكريم عنهم أنهم رموه بالجنون كقوله فى كفار مكة : «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» وقوله : «وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ، لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» وقوله : «وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ» وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا : يا بنى فلان ، يا بنى فلان ، يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون : بات يهوّت (يصيح) حتى أصبح. فأنزل الله : «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا

١٢٣

ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ». وقد جرت عادة الكفار أن يرموا رسلهم بالجنون ، لأنهم ادعوا أن الله خصهم برسالته ووحيه على كونهم بشرا كغيرهم لا يمتازون من سائر الناس بزعمهم ، ولأنهم ادعوا مالم يعهد له نظير عندهم ، فقد حكى الله عن قوم نوح أنهم اتهموه بالجنون فقالوا : «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ» وقال فى شأنهم : «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ» وقال حكاية عن فرعون فى موسى عليه السلام : «قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» وقد بين سبحانه ذلك على وجه عام فقال : «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ».

(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنه ليس بمجنون بل هو منذر ناصح ومبلّغ عن الله ، فهو ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له ، وقد دعاكم إلى ما فيه صلاحكم فى الدنيا بجمع الكلمة وصلاح حال الفرد والمجتمع والسيادة على من سواكم وصلاحكم فى الآخرة بلقاء ربكم وأنتم فى جنات النعيم.

والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم (بِصاحِبِهِمْ) لتذكيرهم بأنهم يعرفونه من أول نشأته إلى أن تجاوز الأربعين من عمره ، فما عليهم إلا أن يتفكروا فى سيرته ليعلموا أنه ليس من دأبه الكذب ولا هو مما عهد عنه كما شهد بذلك بعض زعمائهم فقال ، إن محمدا لم يكذب قط على أحد من الناس ، أفيكذب على الله؟ ومن ثم قال تعالى فى أولئك الزعماء : «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ».

ولو تأمل مشركو مكة فى نشأته صلى الله عليه وسلم وما جرّبوا من أمانته وصدقه إلى أن اكتهل ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله وعبادته وحده ، وما دعاهم إليه من إصلاح فى حالهم الدينية والمدنية والاجتماعية لعلموا أن هذا كله لا يصدر من مجنون ، بل الذي يقتضيه العقل ويسرع إليه الفكر أن هذا ليس من رأى ذلك النبي الأمى الناشئ بين الأميين ، وأن ما أقامه من الحجج والبراهين العقلية والكونية على

١٢٤

ما يدّعى لا يصدر ممن لم يناظر ولم يفاخر ولم يجادل أحدا فيما مضى ، إن هو إلا وحي من الله ألقاه فى روعه ونزل من لدنه على روح القدس ، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي أكذّبوا الرسول الذي علموا صدقه وأمانته وقالوا إنه مجنون ، وهو الذي شهر لديهم بالروية والعقل ، ولم ينظروا نظرة تأمل واستدلال فى هذا الملكوت العظيم من السموات والأرضين ، فيروا ذلك النظام البديع فيهما وفى كل ما خلق الله ، وإن دق وصغر ، إنهم لو تأملوا فى كل ذلك لرأوا آثار قدرته وعلمه ، وفضله ورحمته وأنه لم يخلق شيئا من ذلك عبثا ، ولا ترك الناس سدى.

إن كل ذرة فيهما لدليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى التوحيد.

وفى كل شىء له آية

تدل على أنه واحد

إنهم لو نظروا فى شىء من ملكوت السموات والأرض لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ، كذلك لو نظروا فى توقع قرب أجلهم ، وقدومهم على ربهم بسوء عملهم ، لا حتاطوا لأنفسهم ، ورأوا أن من الحكمة أن يقبلوا إنذاره صلى الله عليه وسلم لهم ، فما جاءهم به لا ينكرون أنه خير لهم فى الدنيا وخير لهم فى الآخرة إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء ، وهو صدق وحق لا شك فيه.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟) أي فبأى حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به ، وهو أكمل كتب الله بيانا ، وأقواها برهانا ، فمن لم يؤمن به فلا مطمع فى إيمانه بغيره.

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) أي إن الله قد جعل هذا الكتاب أعظم أسباب الهداية للمتقين لا للجاحدين المعاندين وجعل الرسول المبلغ له أقوى الرسل برهانا وأكملهم عقلا ، وأجملهم أخلاقا ، فمن فقد الاستعداد للإيمان بهذا الكتاب وهذا الرسول فهو الذي

١٢٥

أضله الله : أي هو الذي قضت سنته فى خلق الإنسان وارتباط أعماله بأسباب تترتب عليها مسبباتها ، بأن يكون ضالّا راسخا فى الضلال ، وإذا كان ضلاله بمقتضى تلك السنن فمن يهديه من بعد الله؟ ولا قدرة لأحد من خلقه على تغيير تلك السنن وتبديلها.

(وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي وهو جلت قدرته يترك هؤلاء الضالين فى طغيانهم يترددون حيرة ولا يهتدون سبيلا للخروج مما هم فيه ، بما كسبت أيديهم من الطغيان وتجاوز الحد فى الظلم والفجور.

والخلاصة ـ إنه ليس معنى إضلال الله لهم أنه أجبرهم على الضلال ، وأعجزهم بقدرته عن الهدى ، فكان ضلالهم جبرا لا اختيارا ، بل المراد أنهم لما مرنت قلوبهم على الكفر والضلال وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى حد العمه فى الطغيان ، فقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما يضادها من الهدى والإيمان فأصبحت نفوسهم لا تستنير بالهدى وقلوبهم لا ترعوى لدى الذكرى : «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧))

تفسير المفردات

الساعة لغة : جزء قليل غير معين من الزمن ، وعند الفلكيين : جزء من أربع وعشرين جزءا متساوية يضبط بآلة تسمى (الساعة) وقد كان ذلك معروفا عند العرب فقد جاء فى الحديث «يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة» وقد تطلق بمعنى الوقت الحاضر

١٢٦

وبمعنى الوقت الذي تقوم فيه القيامة ، وأكثر استعمال (ساعة) بدون أل فى الكتاب الكريم بمعنى الساعة الزمانية ، وبأل بمعنى الساعة الشرعية ، وهى ساعة خراب العالم وموت أهل الأرض جميعا ، وجاء المعنيان فى قوله تعالى : «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ. ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ» والغالب التعبير بيوم القيامة عن يوم البعث والحشر الذي يكون فيه الحساب والجزاء والتعبير بالساعة عن الوقت الذي يموت فيه الأحياء فى هذا العالم ويضطرب نظامه ، فالساعة مبدأ ، والقيامة غاية ، وأيان : بمعنى متى ، فهى للسؤال عن الزمان ، ومرساها : أي إرساؤها وحصولها واستقرارها ، ويقال رسا الشيء يرسو : إذا ثبت وأرساه غيره ، ومنه إرساء السفينة وإيقافها بالمرساة التي تلقى فى البحر فتمنعها من الجريان كما قال تعالى : «بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها» وجلّى فلان الأمر تجلية : أظهره أتم الإظهار ، ولوقتها : أي فى وقتها كما يقال كتبت هذا لغرة رمضان : أي فى غرته ، وبغتة فجأة من غير توقع ولا انتظار ، وحفىّ من قولهم : أحفى فى السؤال ألحف ، وهو حفّى عن الأمر : بليغ فى السؤال عنه واستحفيته عن كذا : استخبرته على وجه المبالغة ، وتحفى بك فلان : إذا تلطف بك وبالغ فى إكرامك.

المعنى الجملي

بعد أن أرشد تعالت أسماؤه من كانوا فى عصر التنزيل وعصر نزول السورة إلى النظر والتفكر فى اقتراب أجلهم بقوله : «وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» قفّى على ذلك بالإرشاد إلى النظر والتفكر فى أمر الساعة التي ينتهى بها أجل جميع الناس.

والخلاصة ـ إن هذا كلام فى الساعة العامة بعد الكلام فى الساعة الخاصة بكل فرد وهى انتهاء أجله.

الإيضاح

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي يسألونك أيها الرسول عن الساعة ـ يقولون متى إرساؤها واستقرارها ، والسائلون هم قريش ، لأن السورة مكية ولم يكن

١٢٧

فى مكة أحد من اليهود ، وسؤالهم عن هذا الوقت استبعاد منهم لوقوعه وتكذيب بوجوده كما جاء حكاية عنهم : «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وقال تعالى : «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ».

وفى التعبير عن زمن وقوعها بالإرساء الدال على استقرار ما شأنه الحركة والاضطراب إيماء إلى أن قيام الساعة هو انتهاء أمر هذا العالم وانقضاء عمر هذه الأرض التي تدور بما فيها من العوالم المتحركة المضطربة.

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي قل لهم إن علم الساعة عند ربى وحده لا عندى ولا عند غيرى من الخلق ، وقد جاء بمعنى الآية قوله : إليه يردّ علم السّاعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها» وقوله «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها؟ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها».

وفى قوله عند ربى إشارة إلى أن ما هو من شأن الرب لا يكون للعبد ، فالله قد أعد نبيه ليكون منذرا ومبشرا ، والإنذار إنما يكون بالساعة وأهوالها ، لا للإخبار عن الغيوب بأعيانها وأوقاتها ، إذ تحديد ذلك ينافى هذه الفائدة بل فيه مفاسد ، إذ لو وقّت الرسول ميعاد الساعة بتاريخ معين لاستهزأ به المكذبون ، ولألحوا فى تكذيبه وازدادوا ارتيابا ، حتى إذا ما وقع الأجل وقع المؤمنون فى رعب عظيم ينغّص عليهم حياتهم ويشنج أعصابهم ، فلا يستطيعون عملا ولا يسيغون طعاما ولا شرابا ، وسخر الكافرون من المؤمنين ، وقد حدث أن أخبر بعض رجال الكنيسة فى أوربة أن القيامة ستكون فى سنة كذا فهلعت القلوب ، واختلت الأعمال ، وأهمل أمر العيال ، ولم تهدأ النفوس إلا بعد أن ظهر كذب النبأ.

١٢٨

والخلاصة ـ إنّ هناك حكمة بالغة فى إبهام أمر الساعة للعالم ، والساعة الخاصة بالأفراد والأمم والأجيال ، يجعلها من الغيب الذي استأثر الله تعالى به.

(لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي لا يكشف حجاب الخفاء عنها ، ولا يظهرها فى وقتها المحدود عند الله تعالى إلا هو إذ لا وساطة بينه وبين عباده فى إظهارها ، ولا الإعلام بميقاتها ، وإنما وساطة الرسل فى الإنذار بها.

(ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ثقل وقتها وعظم أمرها فى السموات والأرض على أهلهما من الملائكة والإنس والجن ، لأن الله أنبأهم بأهوالها ولم يشعرهم بميقاتها ، فهم دائما يتوقعون أمرا عظيما لا يدرون متى يفجؤهم وقوعه.

وقال السدى : خفيت فى السموات والأرض فلا يعلم قيامها ملك مقرّب ، ولا نبى مرسل. وقال ابن عباس ليس شىء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة. وروى عن ابن جريج أن ثقلها يكون يوم مجيئها (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) إلى نحو ذلك مما وصفه الله تعالى من أمر قيامها.

(لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي لا تأتيكم إلا فجأة وعلى حين غفلة بلا إشعار ولا إنذار ، وقد جاء فى الصحيحين عن أبي هريرة «ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وهو يليط ـ يطلى حجارته بجصّ ونحوه ليمسك الماء ـ حوضه فلا يسقى فيه ، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها» والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون فى أمور معايشهم ، فيجب على المؤمنين أن يخافوا ذلك اليوم ، وأن يحملهم ذلك على مراقبة الله تعالى فى أعمالهم بأن يلتزموا فيها الحق ويتحرّوا الخير ، ويتقوا الشر والمعاصي ولا يجعلوا حظهم من أمر الساعة ، الجدل فيها وكثرة القيل والقال فى شأنها وفى تعيين ميقاتها.

(يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي يسألونك كأنك حفىّ مبالغ فى سؤال ربك عنها.

١٢٩

وقد يكون المعنى : يسألونك عنها كأنك حفىّ بهم ، وبينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم ، ويؤيد هذا ما روى عن ابن عباس قال : لما سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة ـ سألوه سؤال قوم كأن محمدا حفىّ بهم ، فأوحى الله إليه ـ إنما علمها عنده استأثر به فلا يطلع عليه ملكا مقرّبا ولا رسولا. وما روى عن قتادة قال : قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن بيننا وبينك قرابة ، فأشر إلينا متى الساعة؟ فقال الله عز وجل (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها)».

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) هذا تكرار للجواب إثر تكرير السؤال مبالغة فى التأكيد ، وإيئاس لهم من العلم بوقت مجيئها وتخطئة لمن يسألون عنه.

وعبر هنا بلفظ الجلالة (اللهِ) إشارة إلى أنه استأثر بعلم هذا لذاته ، كما أشعر ما قبله بأنه من شئون ربوبيته ، وكلاهما مستحيل على خلقه.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون اختصاص علمها به تعالى ولا حكمة ذلك ولا أدب السؤال ولا نحو ذلك مما ينبغى أن يعلم فى هذا الباب ، وإنما يعلم ذلك القليلون ، وهم المؤمنون بما جاء فى كتاب الله من أخبارها وبما سمع من رسوله صلى الله عليه وسلم كمن حضروا تمثل جبريل عليه السلام بصورة رجل وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان ، ثم عن الساعة ، وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم له عن سؤاله الأخير بقوله. «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» أي إنا سواء فى جهل هذا الأمر فلا يعلم أحد منا متى تقوم الساعة.

قال الآلوسى : وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك ، فإنه أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية ، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك وظاهر الآيات أنه عليه السلام لم يعلم وقتها ، نعم علم عليه الصلاة والسلام قربها على الإجمال وأخبر به ؛ فقد أخرج الترمذي وصححه أنس مرفوعا «بعثت أنا والساعة كهاتين ،

١٣٠

وأشار بالسبابة والوسطى» وفى الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا أيضا «إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى غروب الشمس» ا ه.

عمر الدنيا

ألف السيوطي رسالة سماها : (الكشف ، عن مجاوزة هذه الأمة الألف) أخرج فيها عدة أحاديث فى أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ، وأن مدة هذه الأمة تزيد على ألف ولا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة ، وسمى بعضهم الألف الثانية بالألف المخضرمة ، لأن نصفها دنيا ونصفها الآخر أخرى :

ولا شك أن ما جاء فى هذا الباب كله مأخوذ من الإسرائيليات التي كان يبثها زنادقة اليهود والفرس فى المسلمين حتى رووه مرفوعا ، وقد اغتر بها من لا ينظر فى نقد الروايات إلا من جهة أسانيدها ، وقد هدمها الزمان وهدم كثيرا مثلها من الأوهام والخرافات التي أريد بها الكيد للإسلام.

والخلاصة ـ إن القول بتعيين مدة الدنيا من أولها إلى آخرها بسبعة آلاف لم يثبت فى نص يعتمد عليه ، وإن كانت قد رويت عنه آثار عن السلف أكثرها مأخوذ عن أهل الكتاب وفى أسانيدها مقال.

وعلماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) فى هذا العصر يجزمون بأن عمر الدنيا الماضي يعدّ بألوف ألوف السنين بناء على ما عرف بالحفر فى طبقات الأرض ، وبناء على ما وجد من آثار للبشر منذ مئات الألوف من السنين ، وذلك ينقض ما جاء فى سفر التكوين من التوراة ، ولا ينقض من القرآن شيئا : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)» ولا من الأحاديث القطعية التي لا شبهة فيها للدسائس الإسرائيلية ولا للمكايد الفارسية المجوسية.

قال ابن حزم المتوفّى سنة ٤٥٦ : أما نحن فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا.

١٣١

ومن ادعى فى ذلك سبعة آلاف سنة ، أو أكثر أو أقل فقد قال مالم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لفظة تصح بل صح عنه خلافه ، بل نقطع على أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى. قال الله سبحانه «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أنتم فى الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء فى الثور» الأبيض وهذه نسبة من تدبرها وعرف مقدار عدد أهل الإسلام ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض وأنه الأكبر ، علم أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله ا ه.

وعلى الجملة فبطلا الإسرائيليات وينبوع الخرافات فى تحديد عمر الدنيا : هما كعب الأحبار ووهب بن منبّه ، وقد جعلاه ستة آلاف وهو فى التوراة سبعة آلاف غشا للمسلمين.

أشراط الساعة وأماراتها

الأشراط : واحدها شرط كأسباب وسبب وهى العلامات والأمارات الدالة على قربها ، وقد ثبت فى الكتاب والسنة أن للساعة أشراطا كما قال تعالى : «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ، فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» ومن أعظم أشراطها بعثة خاتم النبيين بآخر هداية الوحى الإلهى للناس أجمعين ، فبعثته قد كمل بها الدين وبكماله تكمل الحياة البشرية الروحية ، ويتلوها كمال الحياة المادية ، وما بعد الكمال إلا الزوال.

وقد وردت أحاديث فى أشراط الساعة يدل بعضها على أن الشهوات المادية تتنازع مع الهداية الروحية فيكون لها الغلب زمنا ثم تنتصر الهداية الروحية ثم يغلب الضلال والشر والفجور والكفر حتى تقوم الساعة على شرار الخلق.

وقد قسموا أشراطها ثلاثة أقسام :

١٣٢

(١) ما وقع بالفعل منذ قرون خلت كقتال اليهود ، وفتح بيت المقدس والقسطنطينية.

(٢) ما وقع بعضه وهو لا يزال فى ازدياد كالفتن والفسوق وكثرة الزنا وكثرة الدجالين وكثرة النساء وتشبههن بالرجال والكفر والشرك حتى فى بلاد العرب.

(٣) ما سيقع بين يدى الساعة من العلامات الصغرى والكبرى.

المهدى المنتظر

أشهر الروايات أن اسمه محمد بن عبد الله ، والشيعة يقولون إنه محمد بن الحسن العسكري ، ويلقبونه بالحجة والقائم والمنتظر ، ويقولون إنه دخل السرداب فى دار أبيه فى مدينة (سرّ من رأى) التي تسمى الآن (سامرّا) سنة ٢٦٥ وله من العمر تسع سنين وأنه لا يزال فى السرداب حيا ، وزعمت الكيسانية أنه محمد بن الحنفية وأنه حىّ مقيم بجبل رضوى (جبل بالمدينة) بين أسدين يحفظانه وعنده عينان نضاختان تفيضان عسلا ولبنا ومعه أربعون من أصحابه.

والمشهور فى نسبه أنه علوى فاطمى من ولد الحسن ، وهناك رواية مصرحة بأنه من ولد العباس ، فقد روى الرافعي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس : «ألا أبشرك يا عم؟ إن من ذريتك الأصفياء ، ومن عترتك الخلفاء ، ومنك المهدى فى آخر الزمان ، به ينشر الله الهدى ويطفئ نيران الضلالة ، إن الله فتح بنا هذا الأمر وبذريتك يختم» ،ومن حديث ابن عساكر عنه مرفوعا «اللهم انصر العباس وولد العباس (ثلاثا) يا عمّ أما علمت أن المهدى من ولدك موفّقا مرضيّا» وفى معناهما أحاديث أخرى لأبى هريرة وأم سلمة وعلىّ.

وأكثر العلماء ينكرون هذه الأحاديث ويقولون إنها موضوعة لا نصيب لها من الصحة ، ومن ثم لم يعتدّ بها الشيخان ، ومن هؤلاء ابن خلدون فقد ذكر الأحاديث التي وردت فى المهدى وضعفها وضعف أسانيدها وانتهت به خاتمة المطاف إلى أنه لم يصح

١٣٣

فيه شىء يوثق به ـ إلى أن قال : إن لله سننا فى الأمم والدول والعمران ، مطردة فى كل زمان ومكان ، كما ثبت فى مصحف القرآن وصحف الأكوان ، ومنها أن الدول لا تقوم إلا بعصبية ، وأن الأعاجم قد سلبوا العصبية من قريش والعترة النبوية ، فإن صحت أخبار هذا المهدى فلا يظهر إلا بعد تجديد عصبية هاشمية علوية ولو سمعوا وعقلوا لسعوا وعملوا ولكان استعدادهم لظهور المهدى بالاهتداء بسنن الله رحمة لهم تجاه ما كانوا فى أخباره من الفتن والنقم فيهم ، وربما أغناهم عن بعض ما يروّجون من زعمامته إن لم يغنهم عنه كله.

هذا ، والمسلمون لا يزالون يتكلون على ظهور المهدى ويزعم دهماؤهم أنه سينقض لهم سنن الله أو يبدّلها تبديلا وهم يتلون قوله تعالى : «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً» فإذا كان من أشراط الساعة آيات وكان فى زمانها خوارق عادات فهل يضرهم أن تأتيهم وهم على هدى من ربهم وإقامة لشرعهم فى عزة وسلطان فى أرضهم؟ ... وكان لكعب الأحبار جولة واسعة فى تلفيق تلك الأخبار ا ه.

وقد كانت هذه المسألة أكبر مثارات الفساد والفتن فى الشعوب الإسلامية ، إذ تصدّى كثير من محبى الملك والسلطان ومن أدعياء الولاية لدعوى المهدوية فى الشرق والغرب وتأييد دعواهم بالقتال والحرب وبالبدع والإفساد فى الأرض حتى خرج ألوف الألوف من هداة الدين ومرقوا من الإسلام.

وقد كان من حصافة الرأى أن يكون خروج المهدى باعثا لهم على الاستعداد لظهوره بتأليف عصبة قوية بزعامته تجدد الإسلام وتنشر العدل فى الأنام ، لكنهم لم يفعلوا بل تركوا ما يجب من حفظ سلطان الملة يجمع كلمة الأمة ، وبإعداد ما استطاعوا من حول وقوة ، واتكلوا على قرب ظهور المهدى ، وأنه هو الذي سيردّ إليهم ملكهم بالكرامات وخوارق العادات لا بالمدافع والدبابات ، والطيارات والقاذفات ، والأساطيل

١٣٤

والغواصات ، وقد فاتهم أن الحرب كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين سجالا ، وكان المؤمنون ينفرون منه خفافا وثقالا ، فهل يكون المهدى أهدى منه أعمالا ، وأحسن منه حالا ومآلا.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))

تفسير المفردات

الغيب قسمان : حقيقى لا يعلمه إلا الله تعالى ، وإضافى يعلمه بعض الخلق دون بعض ، والخير : ما يرغب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية ، كالمال والعلم ، والسوء ما يرغبون عنه مما يسوءهم ويضرهم ، والإنذار : تبليغ مقترن بتخويف من العقاب على الكفر والمعاصي ، والتبشير. تبليغ مقترن بترغيب فى الثواب مع الإيمان والطاعة.

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله تعالى خاتم رسله أن يجيب السائلين عن الساعة بأنّ علمها عند الله تعالى وحده ، قفّى على ذلك بأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس أن كل الأمور بيده وحده وأن علم الغيب كله عنده.

وهذه الآية أسّ من أسس الدين وقواعد عقائده ، إذ بينت حقيقة الرسالة ، وفصلت بينها وبين الربوبية ، وهدمت قواعد الشرك واجتثّت جذور الوثنية.

الإيضاح

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي قل يا أيها الرسول للناس فيما تبلّغه لهم من أمر دينهم : إنى لا أملك لنفسى ولا لغيرى جلب نفع ولا دفع ضر

١٣٥

مستقلا بقدرتي على ذلك ، وإنما أملكهما بقدرة الله ، فإذا أقدرنى على جلب النفع جلبته بفعل أسبابه ، وإذا أقدرنى على منع الضر منعته بتسخير الأسباب كذلك.

وقد كان المسلمون ولا سيما حديثو العهد بالإسلام يظنون أن منصب الرسالة يقتضى علم الساعة وغيرها من علم الغيب ، وأن الرسول يقدر على ما لا يصل إليه كسب البشر من جلب النفع ومنع الضر عن نفسه وعمن يحبّ أو عمن يشاء ، أو منع النفع وإحداث الضر بمن يكره أو بمن يشاء ؛ فأمره الله أن يبين للناس أن منصب الرسالة لا يقتضى ذلك ، وأن وظيفة الرسول إنما هى التعليم والإرشاد لا الخلق والإيجاد ؛ وأنه لا يعلم من الغيب إلا ما يتعلق بذلك مما علّمه الله بوحيه ، وأنه فيما عدا ذلك بشر كسائر الناس : «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ».

(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا ولا أعلم الغيب ، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير كالمال ونحوه ، ولما مسنى السوء الذي يمكن الاحتياط لدفعه بعلم الغيب.

قال ابن كثير : أمره الله تعالى أن يفوّض الأمر إليه وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب فى المستقبل ولا اطّلاع له على شىء من ذلك إلا ما أطلعه الله عليه كما قال : «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً» وقوله : «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ» وروى الضحاك عن ابن عباس (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي من المال ، وفى رواية «لعلمت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه ، فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه ولا يصيبنى الفقر» وقال ابن جرير : أي لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ولوقت الغلاء من الرّخص. وقال عبد الله بن زيد بن أسلم (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) قال : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته ا ه.

١٣٦

ثم علل نفى امتيازه عن البشر بملك النفع والضر من غير طرق الأسباب وسنن الله فى الخلق ونفى امتيازه عنهم بعلم الغيب فقال :

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إنه لا امتياز لى عن جميع البشر إلا بالتبليغ عن الله عز وجل بالإنذار والتبشير ، وكل منهما يوجه إلى جميع أمة الدعوة ، والآيات فى ذلك كثيرة نحو : «لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» وقوله : «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ».

والخلاصة ـ إن الرسل عليهم الصلاة والسلام عباد مكرمون لا يشاركون الله فى صفاته ولا فى أفعاله ، ولا سلطان لهم على التأثير فى علمه ولا فى تدبيره ، وإنما يمتازون باختصاص الله تعالى إياهم بوحيه واصطفائهم لتبليغ رسالته لعباده وجعلهم قدوة صالحة للناس فى العمل بما جاءوا به عن الله من الصلاح والتقوى والأخلاق الفاضلة.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣))

تفسير المفردات

من نفس واحدة : أي من جنس واحد ، ليسكن إليها : أي ليأنس بها ويطمئن إليها ، وتغشاها : أتاها كغشيها ويراد بالتغشى أداء وظيفة الزوجية ، ومقتضى الفطرة

١٣٧

وآداب الدين أن يكون ذلك فى السر ، حملت : أي علقت منه ، والجمل (بِالْفَتْحِ) ما كان فى بطن أو على شجرة (وبالكسر) ما كان على ظهر ونحوه ، فمرت به : أي استمرت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق ، واستمرت فى أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استثقال ، وأثقلت : أي حان وقت ثقل حملها وقرب وضعها ، صالحا. أي نسلا سليما من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء ، فتعالى الله : أي ارتفع مجده وتعالى جده وتنزه عن شرك هؤلاء الجهلاء.

المعنى الجملي

بعد أن افتتح عزت قدرته السورة بالدعوة إلى التوحيد واتباع ما أنزل على لسان رسوله وتلاه بالتذكير بنشأة الإنسان الأولى فى الخلق والتكوين والعداوة بينه وبين الشيطان.

اختتم السورة بهذه المعاني ، فذكر بالنشأة الأولى ، ونهى عن الشرك واتباع وسوسة الشيطان ، وأمر بالتوحيد واتباع ما جاء به القرآن.

الإيضاح

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أي هو الذي خلقكم من جنس واحد وجعل زوجه من جنسه فكانا زوجين ذكرا وأنثى كما قال فى آية أخرى «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى».

وهكذا خلق من كل الأنواع ومن كل أجناس الأحياء زوجين اثنين كما قال عز من قائل «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

والمشاهد أن كل خلية من الخلايا التي ينمو بها الجسم الحي تنطوى على نواتين ذكر وأنثى إذا اقترنتا ولدتا خلية أخرى وهلم جرا.

وفى التوراة إن حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم ، وعليه حمل بعض العلماء الحديث «استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شىء فى الضلع

١٣٨

أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، قاستوصوا بالنساء خيرا» رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا.

ولكن المحققين ذهبوا فى تفسيره إلى أن المراد أنها ذات اعوجاج وشذوذ تخالف به الرجل ، ويؤيده مارواه ابن حبّان عن أبي هريرة «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج» فهو على حد قوله تعالى : «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ».

وفى التعبير عن ميل الزوج الجنسي إلى زوجه هنا وفى الروم بالسكون ، إشارة إلى أن المرء متى بلغ سن الحياة الزوجية يجد فى نفسه اضطرابا لا يسكن إلا إذا اقترن بزوج من جنسه واتحد ذلك الاتحاد الذي لا تكمل حياتهما الجنسية المنتجة إلا به.

(فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ) أي فلما تغشى الذكر الأنثى علقت منه وكان الحمل أول عهده خفيفا لا تكاد تشعر به ، وقد تستدل على وجوده بارتفاع الحيض فحسب ومن ثم استمرت فى أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استثقال.

(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما : لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي فلما حان قرب وضعها وكبر الولد فى بطنها ، توجها : أي آدم وحواء إلى الله ربهما بدعواته أن يعطيهما ولدا صالحا أي تام الخلق يصلح للقيام بالأعمال النافعة التي يعملها البشر ، وأقسما على ما وطّنا عليه أنفسهما من الشكر له إزاء هذه النعمة قولا وعملا واعتقادا.

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أي فلما أعطاهما ما طلبا وجاء الولد بشرا سويا لا نقص فيه ولا فساد فى تركيب جسمه جعلا له شركاء فيما أعطاه. أي أظهرا ما كان راسخا فى أنفسهما منه.

وقد نسب هذا الجعل إلى آدم وحواء والمراد أولادهما ، قال الحسن البصري هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهوّدوا ونصرّوا.

وقال الحافظ ابن كثير : أما نحن فعلى مذهب الحسن البصري فى هذا وأنه ليس المراد من السياق آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك ذريته ، ولهذا قال «فَتَعالَى اللهُ

١٣٩

عَمَّا يُشْرِكُونَ» ثم قال فذكره آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين ، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس ا ه.

وقال صاحب الانتصاف : إن المراد جنس الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين ، وكأن المعنى والله أعلم : خلقكم جنسا واحدا وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن ، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر ، الجنس الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت ، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون ، لأن المشركين منهم كقوله. «وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا» وقوله «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ» وقوله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)» ا ه.

وقال صاحب الكشاف. إن المراد بالزوجين الجنس لا فردان معينان ، والغرض بيان حال البشر فيما طرأ عليهم من نزعات الشرك الخفي والجلى فى هذا الشأن وأمثاله والجنس يصدق ببعض أفراده ا ه.

وبهذا تعلم أن ما روى عن بعض الصحابة والتابعين من أن الآية فى آدم وحواء وما روى فى حديث سمرة بن جندب مرفوعا قال «لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فانه يعيش ، فسمته عبد الحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان» ونحوه آثار كثيرة فى هذا المعنى مفصلة ومطولة ـ فهو خرافة من دس الإسرائيليين نقلت عن مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه فلا يوثق بها ، لأن فيها طعنا صريحا فى آدم وحواء عليهما السلام ورميا لهما بالشرك ، ومن ثم رفضها كثير من المفسرين ، وقال الحافظ ابن كثير وهذه الآثار يظهر عليها والله أعلم أنها من آثار أهل الكتاب وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم».

وأخبار أهل الكتاب ثلاثة أقسام :

(١) فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله.

١٤٠