تفسير المراغي - ج ٢٠

أحمد مصطفى المراغي

١

٢

الجزء العشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))

تفسير المفردات

يتطهرون : أي ينزهون أنفسهم ، ويتباعدون عما نفعله ، ويزعمون أنه من القاذورات ، قدّرنا : أي قضينا وحكمنا ، الغابرين : أي الباقين فى العذاب.

المعنى الجملي

سبق أن بيّنا أن الذين قسموا القرآن إلى أجزائه الثلاثين لاحظوا العدّ اللفظي للحروف والكلمات والآيات ، ولم ينظروا إلى ارتباط المعاني بعضها ببعض ، ومن ثم نرى هنا أن الجزء قد انتهى قبل تمام قصة لوط وبدئ الجزء العشرون بتمام هذه القصة ، وقد بين فيها أن النصح لم يجدهم شيئا وعقدوا العزم على استعمال القوة فى إخراجه من

٣

بين ظهرانيّهم ، ولم يكن لهم حجة على المعارضة إلا أن لوطا وقومه لا يريدون أن يشاركوهم فيما يفعلون تباعدا من الأرجاس ، وتلك مقالة قالوها على سبيل الاستهزاء بهم ، وقد نسوا أن هناك قوة أشد من قوتهم هى لهم بالمرصاد ، وأنها تمهلهم ولا تهملهم ، فلما حان حينهم جاءهم العذاب من حيث لا يشعرون ، وأهلك الله القوم الظالمين ، ونصر الحق وأزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا.

الإيضاح

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي فلم يكن جوابهم للوط إذ نهاهم عما أمره الله بنهيهم عنه من إتيان الذكور إلا قيل بعضهم لبعض : أخرجوا لوطا وأهله من قريتنا ، وقد عدّوا سكناه بينهم منّة ومكرمة عليه إذ قالوا : من قريتكم.

ثم عللوا هذا الإخراج بقولهم استهزاء بهم :

(إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي إنهم يتحرّجون من فعل ما تفعلون ، ومن إقراركم على صنيعكم ، فأخرجوهم من بين أظهركم ، فإنهم لا يصلحون لجواركم فى بلدكم.

ولما وصلوا إلى هذا الحد من قبح الأفعال والأقوال دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها ، وإلى هذا أشار بقوله :

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) أي فأهلكناهم وأنجينا لوطا وأهله إلا امرأته جعلناها بتقديرنا وحكمتنا من الباقين فى العذاب ، لأنها كانت على طريقتهم راضية بقبيح أفعالهم وكانت ترشد قومها إلى صيفان لوط ليأتوا إليهم ، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبى الله صلى الله عليه وسلم ، لا كرامة لها.

ثم بين ما أهلكوا به فقال :

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي وأمطرنا عليهم مطرا غير ما عهد

٤

من نوعه ، فقد كان حجارة من سجيل ، فبئس ذلك المطر مطر الذين أنذرهم الله عقابا لهم على معصيتهم إياه ، وخوّفهم بأسه بإرسال الرسول إليهم.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤))

تفسير المفردات

العباد المصطفون : هم الأنبياء عليهم السلام ، الحدائق : البساتين واحدها حديقة ، والبهجة : الحسن والرونق ، يعدلون : من العدول وهو الانحراف ، قرارا : أي مستقرا ، الخلال : واحدها خلل وهو الوسط ، رواسى : أي ثوابت أي جبالا ثوابت ، الحاجز : الفاصل بين الشيئين ، والمضطر : الذي أحوجته الشدة وألجأته الضراعة إلى الله ،

٥

ويكشف : أي يرفع ، خلفاء : من الخلافة وهى الملك والتسلط ، يهديكم : أي يرشدكم ، بين يدى رحمته : أي أمام المطر.

المعنى الجملي

بعد أن قص سبحانه على رسوله قصص أولئك الأنبياء السالفين ، وذكر أخبارهم الدالة على كمال قدرته وعظيم شأنه ، وعلى ما خصهم به من المعجزات الباهرة الناطقة بجلال أقدارهم ، وصدق أخبارهم ، وفيها بيان صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الشرك والكفر ، وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى ، ومن أعرض عنهم فقد تردّى فى مهاوى الردى ، ثم شرح صدره عليه الصلاة والسلام بما فى تضاعيف تلك القصص من العلوم الإلهية ، والمعارف الربانية ، الفائضة من عالم القدس مقررا بذلك قوله : «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» أردف هذا أمره عليه الصلاة والسلام بأن يحمده تعالى على تلك النعم ، ويسلم على الأنبياء كافة عرفانا لفضلهم ، وأداء الحق تقدمهم واجتهادهم فى الدين ، وتبليغ رسالات ربهم على أكمل الوجوه وأمثل السبل ، ثم ذكر الأدلة على تفرده بالخلق والتقدير ووجوب عبادته وحده ، وأنه لا ينبغى عبادة شىء سواه من الأصنام والأوثان.

الإيضاح

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أمر الله رسوله أن يحمده شكرا له على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى ، وأن يسلّم على عباده الذين اصطفاهم لرسالته ، وهم أنبياؤه الكرام ورسله الأخيار.

ومن تلك النعم النجاة والنصر والتأييد لأوليائه ، وحلول الخزي والنكال بأعدائه.

ونحو الآية قوله : «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

٦

وفى هذا تعليم حسن ، وأدب جميل ، وبعث على التيمن بالذّكرين والتبرك بهما ، والاستظهار بمكانهما ، على قبول ما يلقى إلى السامعين ، والإصغاء إليه ، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع ، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر : هذا الأدب ، فحمدوا الله وصلّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد ، وقبل كل عظة ، وفى مفتتح كل خطبة ، وتبعهم المتزسّلون فأجروا عليه أوائل كتبهم فى الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن.

ثم شرع يوبخ المشركين ويتهكم بهم وينبههم إلى ضلالهم وجهلهم ، إذ آثروا عبادة الأصنام على عبادة الواحد القهار فقال :

(آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟) أي آلله الذي ذكرت لكم شئونه العظيمة خير أم الذي تشركون به من الأصنام؟ وفى ذلك ما لا يخفى من تسفيه آرائهم ، وتفبيح معتقداتهم ، وإلزامهم الحجة ، إذ من البين أنه ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يوازن بينها وبين ما هو محض الخير ، فهو من وادي ما حكاه سيبويه : تقول العرب : السعادة أحب إليك أم الشقاء؟ وكما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم :

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

وجاء فى بعض الآثار «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : بل الله خير وأبقى ، وأجل وأكرم».

ثم انتقل من التوبيخ تعريضا إلى التبكيت تصريحا فقال :

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي أعبادة ما تعبدون أيها المشركون من أوثانكم التي لا تضر ولا تنفع خير ، أم عبادة من خلق السموات على ارتفاعها وصفائها وجعل فيها كواكب نيّرة ونجوما زاهرة ، وأفلاكا دائرة ؛ وخلق الأرض وجعل فيها جبالا وأنهارا وسهولا وأوعارا ، وفيافى وقفارا ، وزروعا وأشجارا ، وحيوانات مختلفة

٧

الأصناف والأشكال والألوان ، وأنزل لكم من السماء مطرا جعله رزقا للعباد ، فأنبت به بساتين مونقة تسر الناظرين؟ ولو لاه ما نبت الشجر ، ولا ظهر الثمر.

ونحو الآية قوله : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ» وقوله : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ».

ثم زاد فى التوبيخ فنفى الألوهية عما يشركون بعد تبكيتهم على نفى الخيرية عنها فقال.

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) أي أإله غيره يقرّون به ، ويجعلونه شريكا له فى العبادة ، مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين؟ ونحو الآية قوله : «وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ».

ثم انتقل من تبكيتهم إلى بيان سوء حالهم فقال :

(بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي بل هؤلاء المشركون قوم دأبهم العدول عن طريق الحق ، والانحراف عن جادّة الاستقامة فى جميع شئونهم ، ومن ثمّ يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح وهو التوحيد ، ويعكفون على الضلال المبين وهو الإشراك.

وفى معنى الآية قوله : «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» وقوله : «أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» وقوله : «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ».

ثم أعاد التوبيخ بوجه آخر فقال :

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) أي أعبادة ما تشركون أيها الناس بربكم مع أنه لا يضر ولا ينفع خير ، أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرا للإنسان والدواب ، وجعل فى أوسطها أنهارا تنتفعون بها فى شربكم وسقى أنعامكم ومزارعكم ، وجعل فيها ثوابت الجبال حتى لا نميد بكم ،

٨

وحتى تنتفعوا بما فيها من المعادن المختلفة ، وقد أنزل الماء على شواهقها وجعل بين المياه العذبة والملحة حاجزا يمنعهما من الاختلاط حتى لا يفسد هذا بذاك ، والحكمة تقضى ببقاء كل منهما على حاله ، فالعذبة : لسقى الناس والحيوان والنبات والثمار ، والملحة : تكون مصادر للأمطار التي تجرى منها ، وكذلك هى وسيلة لإصلاح الهواء.

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) فى إبداع هذه الكائنات وإيجاد هذه الموجودات.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قدر عظمة الله وما عليهم من ضرّ فى إشراكهم غيره به ، وما لهم من نفع فى إفرادهم إياه بالألوهة ، وإخلاصهم العبادة له ، وبراءتهم من كل معبود سواه.

ثم زادهم توبيخا من وجه ثالث فقال :

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ؟) أي أمن تشركون بالله خير أم من يجيب المكروب الذي يحوجه المرض أو الفقر أو النازلة من نوازل الدهر إلى اللّجأ والتضرع إليه إذا دعاه وقت اضطراره ، ويرفع عن الإنسان ما يسوءه من فقر أو مرض ، ويجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم فى الأرض فيورثكم إياها بالسكنى والتصرف فيها؟.

وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال : أسألك بالله أن تدعو لى فأنا مضطر قال :

إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه ، وقال الشاعر :

وإنى لأدعو الله والأمر ضيّق

علىّ فما ينفك أن يتفرّجا

ورب أخ سدّت عليه وجوهه

أصاب لها لمّا دعا الله مخرجا

وعن أبى بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى دعاء المضطر : «اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلنى إلى نفسى طرفة عين ، وأصلح لى شأنى كله ، لا إله إلا أنت».

وجاء فى الخبر : «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن ، دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده».

٩

وفى صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن :

«واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب».

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) الذي هذه شئونه ، وتلك نعمه؟.

ثم بين أن من طبيعة الإنسان ألا يتذكر نعم الله عليه إلا قليلا ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي قليلا ما تتذكرون نعم الله عليكم ، وأياديه عندكم ، ومن ثمّ أشركتم به غيره فى العبادة.

ثم زادهم تأنيبا وتهكما من ناحية أخرى فقال :

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أمن تشركون بالله خير ، أم من يرشدكم فى ظلمات البر والبحر إذا أظلمت عليكم السبل فضللتم الطريق ـ بما خلق من الدلائل السماوية كما قال : «وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» وقال : «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» ومن يرسل الرياح أمام الغيث الذي يحيى موات الأرض.

ولما اتضحت الأدلة ولم يبق لأحد فى ذلك عذر ولا علة قال :

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) فعل هذا؟.

ثم أكد هذا النفي وقرره بقوله :

(تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه ربنا المنفرد بالألوهية ، ومن له صفات الكمال والجلال ، ومن تخضع له جميع المخلوقات ، وتذلّ لقهره وجبروته ـ عن شرككم الذي تشركونه به وعبادتكم معه ما تعبدون.

ثم أضاف إلى ذلك برهانا آخر لعلهم يرتدعون عن غيهم فقال :

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي أما تشركون به خير أم الذي ينشىء الخلق بادىء بدء ويبتدعه من غير أصل سلف ، ثم يفنيه إذا

١٠

شاء ، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل أن يفنيه ، وهو الذي يرزقكم من السماء والأرض فينزل من الأولى غيثا وينبت من الثانية نباتا لأقواتكم وأقوات أنعامكم.

وهم وإن كانوا ينكرون الإعادة والبعث لم يلتفت إلى ذلك الإنكار لظهور أدلته فلم يبق لهم عذر فيه وبعد أن وضح الدليل على نفى الشريك بكّتهم وقال :

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) يفعل هذا حتى يجعل شريكا له؟

وبعد أن ذكر البرهان تلو البرهان وأوضح الحق حتى صار كفلق الصبح زاد فى التهكم بهم والإنكار عليهم والتسفيه لعقولهم ، فأمر رسوله أن يطلب منهم البرهان على صدق ما يدّعون. فقال :

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لهم أيها الرسول : هاتوا الدليل على وجود ما تزعمون من الشركاء إن كان ما تقولونه حقا وصدقا.

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦))

تفسير المفردات

أيان : أي متى ، يبعثون : أي يقومون من القبور للحساب والجزاء ، ادّارك : أي تدارك وتتابع والمراد التتابع فى الاضمحلال والفناء ، فى شك : أي فى حيرة عظيمة ، عمون : واحدهم عم وهو أعمى القلب والبصيرة.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت تفرده بالألوهية ، لاختصاصه بالقدرة التامة ، والرحمة العامة ـ أعقب هذا بذكر لوازمها وهو اختصاصه بعلم الغيب ، تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث

١١

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) يقول سبحانه آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلم جميع خلقه أنه لا يعلم الغيب أحد من أهل السموات والأرض ، بل الله وحده هو الذي يعلم ذلك كما قال : «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» الآية. وقال : «إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» الآية.

والمراد بالغيب الشئون التي تتعلق بأمور الآخرة وأحوالها ، وشئون الدنيا التي لا تقع تحت حسّنا وليست فى مقدورنا.

وعن مسروق عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يكون فى غد فقد أعظم الفرية على الله ، لأن الله يقول : «قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ».

ثم ذكر بعض ذلك الغيب فقال :

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما يدرى من فى السموات والأرض من خلقه متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة كما قال : «ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض فلا يشعرون بها ، بل تأتيهم فجأة.

ثم أكد جهلهم بهذا اليوم بقوله :

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي بل انتهى علمهم وعجزهم عن معرفة وقتها فلم يكن لهم علم بشىء مما سيكون فيها قطعا مع توافر أسباب العلم ، وليس المراد أنه كان لهم علم بوقتها على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا ، بل المراد أن أسباب العلم ومبادثه من الدلائل العقلية والنقلية ضعفت فى اعتبارهم شيئا فشيئا كلما تأملوا فيها حتى لم يعد لها قيمة وكأن لم تكن.

ثم انتقل من وصفهم بالجهل بميقاتها إلى الحيرة فى الآخرة نفسها ، أتكون أو لا تكون؟ فقال :

١٢

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي بل هم فى حيرة عظيمة من تحققها ووجودها ، أكائنة هى أم غير كائنة؟ كمن يحار فى الأمر لا يجد عليه دليلا ، فضلا عن تصديق ما سيحدث فيها من شئون أخبرت عنها الكتب السماوية كالثواب والعقاب ، والنعيم والعذاب والأهوال التي لا يدرك كنهها العقل.

ثم ارتقى من وصفهم بالشك فى أمرها إلى وصفهم بالعمى واختلال البصيرة بحيث لا يدركون الدلائل التي تدل على أنها كائنة لا محالة فقال :

(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي بل هم فى عماية وجهل عظيم من أمرها ، وعن كل ما يوصلهم إلى الحق فى شأنها ، والنظر فى دلائلها

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عزّ اسمه فيما سلف جهلهم بالآخرة وعما هم عنها ـ أردف ذلك بيان ذلك وإيضاحه بأنهم ينكرون الإخراج من القبور بعد أن صاروا ترابا ، وأنهم قالوا

١٣

تلك مقالة سمعناها من قبل ، وما هى إلا أسطورة من أساطير الأولين وخرافاتهم ، ثم أمر الله رسوله أن يرشدهم إلى صدق هذا بالسير فى الأرض حتى يروا عاقبة المجرمين ، بسبب تكذيبهم للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر ، ثم صبّر سبحانه رسوله على ما يناله من أذى المشركين ، ووعده بالنصر عليهم ، ثم ذكر أنهم مكذبون بالساعة وغيرها من العذاب والجزاء الموعود ، وأنهم يسألون عن ذلك سخرية واستهزاء ، وأجابهم بأن العذاب سينزل بهم قريبا ، ثم ذكر فضله على عباده بأنه لا يعجل لهم العذاب مع استحقاقهم له ، إذ هم لا يشكرونه على ذلك ، ثم بين أنه تعالى عليم بالسر والنجوى ، وأنه مطلع على ما تكنّه القلوب ، وأنه ما من شىء مهما خفى فالله عليم به وهو مثبت عنده فى كتاب مبين.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أي وقال الكافرون بالله المكذبون لرسله ، أإنا لمخرجون من قبورنا أحياء كهيئتنا من بعد مماتنا وبعد أن بلينا وكنا فيها ترابا؟

وهذا منهم استبعاد لإعادة الأجسام بعد صيرورتها عظاما ورفاتا.

ثم ذكروا شبهتهم على استبعاده فى زعمهم فقال :

(لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي إنا ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ولا نرى تحقق ذلك ولا وقوعه.

ثم أكدوا هذا الاستبعاد بقولهم :

(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الوعد إلا أسطورة مما سطّره الأولون من الأكاذيب فى كتبهم من غير أن يكون لهم بينة على إمكان تحققه ووجوده.

ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم إلى وجه الصواب مع التهديد والوعيد فقال :

١٤

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي قل لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الأنباء من عند ربك : سيروا فى الأرض فانظروا إلى ديار من كان قبلكم من المكذبين ، كيف هى؟ ألم يخرّ بها الله ويهلك أهلها بتكذيبهم رسلهم ، وردّهم عليهم نصائحهم ، فخلت منهم الديار ، وعفت منها الرسوم والآثار ، وكان ذلك عاقبة إجرامهم ، وتلك سنة الله فى كل من سلك سبيلهم فى تكذيب رسله ، وسيفعل ذلك بكم إن أنتم لم تبادروا إلى الإنابة من كفركم وتكذيبكم رسوله.

ثم صلّى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يناله من عماهم عن السبيل ، الذي هدى إليه الدليل فقال :

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي ولا تحزن على إدبار هؤلاء المشركين عنك وتكذيبهم لك ، ولا يضق صدرك من مكرهم ، فإن الله ناصرك عليهم ، ومظهر دينك على من خالفه فى المشارق والمغارب.

ثم أشار إلى أنهم لم يقصروا إنكارهم على الساعة ، بل كان إنكارهم لغيرها من عذاب الله أشد بقوله :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول مشركو قريش المكذبون بما أتيتهم به من عند ربك : متى يكون هذا العذاب الذي تعدنا به؟ إن كنتم صادقين فيما تدّعون؟.

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم فقال :

(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي قل لهم : عسى أن يلحقكم ويصل إليكم بعض ما تستعجلون حلوله من العذاب ، والمراد به ما حل بهم يوم بدر من النكال والوبال.

قال صاحب الكشاف : عسى ولعل وسوف ، فى وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجدّه ، وما لا مجال للشك بعده ، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم ،

١٥

وأنهم لا يعجّلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم وتوقعهم أن عدوهم لا يفوتهم وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم ، وعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده ا ه.

ثم بين سبحانه السبب فى ترك تعجيل العذاب فقال :

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي وإن ربك لهو المنعم المتفضل على الناس جميعا بتركه المعاجلة بالعقوبة على المعصية والكفر ، ولكن أكثرهم لا يعرفون حق فضله عليهم. فلا يشكره إلا القليل منهم.

ثم أبان سبحانه أنه مطّلع على ما فى قلوبهم فقال :

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) يقال كننت الشيء وأكننته : إذا سترته وأخفيته ، أي إن ربك يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر كما قال «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ» وقال «فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى».

وقصارى ذلك ـ إنه يعلم ما يخفون من عداوة الرسول ومكايدهم له وما يعلنون ، وهو محصيها عليهم ومجازيهم بذلك.

ثم ذكر أن كل ما يحصل فى الوجود فهو محفوظ فى اللوح المحفوظ فقال :

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي وما من أمر مكتوم وسر خفى يغيب عن الناظرين فى السماء أو فى الأرض إلا وهو فى أم الكتاب الذي أثبت ربنا فيه كل ما هو كائن من ابتداء الخلق إلى يوم القيامة ، وهو بيّن لمن نظر إليه وقرأ ما فيه ، مما أثبته ربنا جلت قدرته.

ونحوه : «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ».

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي

١٦

بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما يتعلق بالنشأة الأولى وأنه خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون ، وما يتصل بالبعث والنشور وأقام على ذلك الدليل يتلو الدليل بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد ـ أردف ذلك الكلام فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأقام الأدلة على صحتها وصدق دعواه فيما يدّعى ، وكان من أعظم ذلك القرآن الكريم ، لا جرم بين الله تعالى إعجازه من وجوه :

(١) إن ما فيه من القصص موافق لما فى التوراة والإنجيل مع أنه صلى الله عليه وسلم كان أميا ولم يخالط أحدا من العلماء للاستفادة والتعلم ، فلا يكون ذلك إذا إلا من وحي إلهى من لدن حكيم خبير.

(٢) إن ما فيه من دلائل عقلية على التوحيد والبعث والنبوة والتشريع العادل المطابق لحاجة البشر فى دنياهم وآخرتهم ـ لا يوجد له نظير فى كتاب آخر ، فلا بد أن يكون ذلك من عند الله.

(٣) إنه قد بلغ الغاية فى الفصاحة والبلاغة حتى لم يستطع أحد أن يتصدى لمعارضته مع حرصهم عليها أشد الحرص ، فدل ذلك على أنه خارج عن قوى الشر ، وأنه من من الملإ الأعلى ومن لدن خالق القوى والقدر.

ثم ذكر بعد ذلك أنه جاء حكما على بنى إسرائيل فيما اختلفوا فيه ، فأبان لهم الحق فى هذا كاختلافهم فى أمر المسيح ، فمن قائل هو الله ، ومن قائل هو ابن الله ، ومن قائل

١٧

إنه ثالث ثلاثة ، وقوم يقولون إنه كاذب فى دعواه النبوة ، كما نسبوا مريم إلى ما هى منزهة عنه ، وقالوا إن النبي المبشّر به فى التوراة هو يوشع عليه السلام أو هو نبى آخر يأتى آخر الدهر. إلى نحو ذلك مما اختلفوا فيه ، وأنه لا يحكم إلا بالعدل ، فقوله الحق وقضاؤه الفصل.

ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه فإنه حافظه وناصره ، وأن يعرض عن أولئك الذين لا يستمعون لدعوته ، لأنهم صم بكم لا يعقلون ، والذكرى لا تنفع إلا من له قلب يعى ، وآذان تسمع دعوة الداعي إلى الحق فتستجيب لها.

الإيضاح

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك أيها الرسول يقص على بنى إسرائيل الحق فى كثير مما اختلفوا فيه ، وكان عليهم لو أنصفوا أن يتبعوه ، لكنهم لم يفعلوا وكابروا مع وضوح الحق وظهور دليله كما تفعلون أنتم أيها المشركون.

ثم وصف القرآن بقوله :

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وإنه لهاد للمؤمنين إلى سبيل الرشاد ، ورحمة لمن صدّق به وعمل بما فيه.

وبعد أن ذكر فضله وشرفه أتبعه دليل عدله فقال :

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك يقضى بين المختلفين من بنى إسرائيل بحكمه العادل ، فينتقم من المبطل منهم ، ويجازى المحسن بما يستحق من الجزاء ، وهو العزيز الذي لا يردّ حكمه وقضاؤه ، العليم بأفعال العباد وأقوالهم ، فقضاؤه موافق لواسع علمه.

وبعد أن أثبت لنفسه العلم والحكمة والجبروت والقدرة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه وحده فقال :

١٨

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي ففوض إلى الله جميع أمورك وثق به فيها ، فإنه كافيك كل ما أهمك ، وناصرك على أعدائك ، حتى يبلغ الكتاب أجله.

ثم علل هذا بقوله :

(إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي أنت على الحق المبين ، وإن خالفك فيه من خالفك ممن كتب عليه الشقاء : «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ».

ثم أيأسه من إيمان قومه وأنه لا أمل فى استجابتهم لدعوته فقال :

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم الحق من طبع الله على قلوبهم فأماتها ، ولا أن تسمعه من أصمهم عن سماعه ، ولا سيما أنهم مع ذلك معرضون عن الداعي ، مولّون على أدبارهم ، وإنما شبههم بالموتى لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم ، وشبههم بالصم البكم ليبين أنه لا أمل فى استجابتهم للدعوة ، لأن الأصم الأبكم لا يسمع الداعي بحال.

وظاهر نفى سماع الموتى العموم ، فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل.

كما ثبت فى الصحيح «أنه صلى الله عليه وسلم خاطب القتلى فى قليب (بئر) بدر فقيل له : يا رسول الله إنما تكلم أجسادا لا أرواح لها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم». أخرجه مسلم.

وكما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه.

وقصارى ما سلف ـ إنه تعالى أمره بالتوكل عليه والإعراض عما سواه ، لأنه على الحق المبين ومن سواه على الباطل ، ولأنه تعالى مؤيده وناصره ، ولأنه لا مطمع فى مشايعة المشركين ومعاضدتهم ، لأنهم كالموتى وكالصم البكم ، فلا أمل فى استجابتهم للدعوة ، ولا فى قبولهم للحق.

ثم أكد ما سلف وقطع أطماعه فى إيمانهم على أتم وجه فقال :

١٩

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي أنت أيها الرسول لا تستطيع أن تصرف العمى عن ضلالتهم وتهديهم إلى الطريق السوىّ ، والمراد أنك لا تهدى من أعماهم الله عن الهدى والرشاد ، فجعل على أبصارهم غشاوة تمنعهم عن النظر فيما جئت به نظرا يوصلهم إلى معرفة الحق وسلوك سبيله.

ثم زاد ذلك توكيدا فقال :

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي إنما يستجيب لك من هو نافذ البصيرة ، خاضع لربه ، متبتل إليه ، مجيب لدعوة رسله.

الخلاصة ـ إنك لا تقدر أن تفهم الحق وتسمعه إلا من يصدقون بآياتنا وحججنا ، فإنهم هم الذين يسمعون منك ما تقول ، ويتدبرونه ويعملون به ، إذ هم ينقادون للحق فى كل حين.

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨)

٢٠