تفسير المراغي - ج ٧

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء السابع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))

تفسير المفردات

العداوة : البغضاء يظهر أثرها فى القول والعمل ، والمودة : محبة يظهر أثرها في القول والعمل ، والناس هم يهود الحجاز ومشركو العرب ونصارى الحبشة فى عصر

٣

التنزيل ، والقسيسون : واحدهم قسيس ، وقسوس ، واحدهم قسّ : وهو الرئيس الديني فوق الشماس ودون الأسقف ، والأصل فى القسيسين أن يكونوا من أهل العلم بدينهم وكتبهم ، لأنهم رعاة ومفتون ، والرهبان ، واحدهم راهب : وهو المتبتّل المنقطع فى دير أو صومعة للعبادة وحرمان النفس من التنعيم بالزوج والولد ولذات الطعام والزينة ، وذكر القسيسين والرهبان للجمع بين العبّاد والعلماء ، تفيض من الدمع : أي تمتلىء دمعا حتى يتدفق من جوانبها لكثرته ، مع الشاهدين : أي مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلى الله عليه وسلم وكتابك ، الإثابة : المجازاة ، وقوله بما قالوا : أي بما قالوه عن اعتقاد.

المعنى الجملي

بعد أن حاجّ سبحانه وتعالى أهل الكتاب ، وذكر من مخازيهم أنهم اتخذوا الدين الإسلامى هزوا ولعبا ، وأن اليهود منهم قالوا : يد الله مغلولة ، وأنهم قتلوا رسلهم تارة وكذبوهم أخرى ، وأن النصارى منهم اعتقدوا عقائد زائفة ؛ فمنهم من قال المسيح ابن الله ، ومنهم من قال إن الله ثالث ثلاثة ، وقد عابهم على ذلك وكرّ عليهم بالحجة إثر الحجة لتفنيد ما كانوا يعتقدون.

ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين ومحبتهم لهم ومقدار تلك المحبة والعداوة ، وبين حال المشركين مع المؤمنين بالتبع لهم.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى قال : بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا ، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا. وأنزل الله فيهم «وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ» الآية.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر ابن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون فى رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة فلما بلغ

٤

ذلك المشركين بعثوا عمرو بن العاص فى رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا : إنه قد خرج فينا رجل سفّه عقول قريش وأحلامها ، زعم أنه نبى وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال : إن جاءونى نظرت فيما يقولون ، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا له : استأذن لأولياء الله ، فقال ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله ، فلما دخلوا عليه سلموا فقال لهم ما يمنعكم أن تحيونى بتحيتى؟ قالوا إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة ، فقال لهم ما يقول صاحبكم فى عيسى وأمه؟ قالوا بقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم ، ويقول فى مريم إنها العذراء الطيبة البتول ، قال فأخذ عودا من الأرض فقال : مازاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود «أي مثله فى صغره» فكره المشركون قوله ، وتغيرت له وجوههم ، فقال : هل تقرءون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا نعم ، قال فاقرءوا فقرءوا ، وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرءوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق وهذا ما أشار إليه بقوله «ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق».

الإيضاح

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي قسما لتجدن أيها الرسول أشد الناس عداوة للذين صدّقوك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به ، اليهود والمشركين من عبدة الأوثان الذين اتخذوها آلهة يعبدونها من دون الله.

وأشد ما لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من العداوة والإيذاء ، كان من يهود الحجاز فى المدينة وما حولها ، ومن مشركى العرب ولا سيما مكة وما قرب منها.

وقد كان اليهود والمشركون مشتركين فى بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت عداوتهم الشديدة للمؤمنين كالكبر ، والعتوّ ، والبغي ، وغلبة الحياة المادية ، والأثرة

٥

والقسوة ، وضعف عاطفة الحنان والرحمة ، والعصبية الجنسية ، والحميّة القوية ، ولكنّ مشركى العرب على جاهليتهم كانوا أرق من اليهود قلوبا ، وأعظم سخاء وإيثارا ، وأكثر حرية في الفكر واستقلالا فى الرأى.

وقدّم سبحانه ذكر اليهود للإشارة إلى تفوقهم على العرب فيما وصفوا به ، فضلا عما امتازوا به من قتل بعض الأنبياء وإيذاء بعض آخر ، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل.

ولم يكن ميلهم مع المسلمين فى البلاد المقدسة والشام والأندلس إلا ميلا وراء مصلحتهم الخاصة ، إذ هم تفيئوا ظلال عدلهم ، واستراحوا به من اضطهاد النصارى فى تلك البلاد.

(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ، الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) أي ولتجدنّ أقرب الناس محبة للذين آمنوا بك وصدقوك ـ الذين قالوا إنا نصارى ـ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من نصارى الحبشة أحسن المودة ؛ بحماية المهاجرين الذين أرسلهم صلى الله عليه وسلم فى أول الإسلام من مكة إلى الحبشة ، خوفا عليهم من مشركيها الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء ، ليفتنوهم عن دينهم.

ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتبه إلى الملوك ورؤساء الشعوب كان النصارى منهم أحسنهم ردا ، فهرقل ملك الروم فى الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام فلم يستطع ، لجمودهم على التقليد فاكتفى بالرد الحسن ، والمقوقس عظيم القبط فى مصر كان أحسن منه ردا ، وإن لم يكن أكثر منه ميلا إلى الإسلام ، وأرسل للنبى صلى الله عليه وسلم هدية حسنة ، ثم لما فتحت مصر والشام وعرف أهلهما ما للإسلام من مزايا أهر عوا إلى الدخول فى الدين أفواجا وكان القبط أسرع إليه قبولا.

والخلاصة ـ إن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به رأوا فى عصره من مودة النصارى وقربهم من الإسلام بقدر مارأوا من عداوة اليهود والمشركين ، وأن من توقف من ملوكهم عن الإسلام فما كان توقفه إلا ضنا بملكه ، وأن النجاشي أصحمة ملك

٦

الحبشة قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا ، ولكن الإسلام لم ينتشر فى الحبشة بعد موته ، ولم يهتم المسلمون بإقامة دينهم فى تلك البلاد كما فعلوا فى مصر والشام.

ثم بين سبحانه وتعالى سبب مودة النصارى للذين آمنوا فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي إن السبب فى هذه المودة أن منهم قسيسين يتولون تعليمهم التعليم الديني ويهذبون أخلاقهم ويربون فيهم الآداب والفضائل ، ورهبانا يعوّدونهم الزهد والتقشف والإعراض عن زخرف الدنيا ونعيمها ، ويكبرون فى نفوسهم الخوف من الله والانقطاع لعبادته ، وأنهم لا يستكبرون عن الإذعان للحق إذا ظهر أنه الحق ، إذ من فضائل دينهم التواضع والتذلل والخضوع لكل حاكم ، بل إنهم أمروا بمحبة الأعداء ، وإدارة الخدّ الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن. فكل أولئك يؤثّر فى جمهور الأمة وسوادها الأعظم ، وقد عهد من النصارى قبول سلطة المخالف لهم طوعا واختيارا ، بخلاف اليهود فإنهم إذا أظهروا الرضا اضطرارا أسرّوا الكيد وأضمروا المكر ، لأن الشريعة اليهودية تولد فى نفوسهم العصبية الجنسية والحميّة القومية ، لأنها خاصة بشعب إسرائيل ، وأحكامها ونصوصها مبنية على ذلك.

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) أي وإذا سمع أولئك الذين قالوا إنا نصارى ما أنزل إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين ؛ ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من جوانبها لكثرته من أجل ما عرفوه من الحق الذي بيّنه لهم القرآن الكريم ، ولم يمنعهم ما يمنع غيرهم من عتوّ واستكبار.

ثم ذكر سبحانه ما يكون منهم من القول إثر بيان ما كان من حالهم فقال :

(يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي يقولون هذه المقالة قاصدين بها إنشاء الإيمان والتضرع إلى الله والخضوع له بأن يتقبله منهم ويكتبهم مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين جعلهم الله تعالى شهداء على الناس ، لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم ومما يتناقلونه عن أسلافهم أن النبي الأخير الذي يكمل به الدين ويتم به التشريع

٧

العام يكون متبعوه شهداء على الناس ويكونون حجة على المشركين والمبطلين كما جاء فى الآية الأخرى «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً».

ثم زادوا كلامهم توكيدا فقالوا :

(وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق؟ ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) أي وأىّ مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو ، ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان هذا النبي الكريم ، بعد أن ظهر لنا أنه هو روح الحق الذي بشر به المسيح؟ وإننا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة ، والفضائل والآداب الكاملة ، وهم أتباع هذا النبي الكريم الذين استبان لنا أثر صلاحهم وشاهدناه بأعيننا بعد ما كان منهم من فساد فى الأرض وعتوّ كبير فى جاهليتهم.

والخلاصة ـ إنه لا مانع لنا من هذا الإيمان بعد أن تظاهرت أسبابه ، وتحققت موجباته فوجب علينا الجري على سننه ، واتباع نهجه وطريقه.

ثم بين سبحانه ما جازاهم به على ذلك فقال :

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي فجزاهم الله وأعطاهم من الثواب بما نطقت به ألسنتهم معبرا عما فى قلوبهم من خالص الإيمان وصحيح الاعتقاد ـ جنات وحدائق فى دار النعيم تجرى من تحت أشجارها الوارفة الظلال ، الأنهار التي تسيل مياهها سلسبيلا ، يخلدون فيها أبدا فلا يسلبها منهم أحد ، ولا هم يرغبون عنها ويودون لو تركوها ، ومثل هذا الجزاء قد أعده للذين أخلصوا فى عقائدهم وأحسنوا أعمالهم.

وعلينا أن نقف فى وصف نعيم الآخرة على ما جاء به القرآن الكريم وصحت به السنة النبوية ، ولا نعد وذلك إلى ما وراءه ، فإن النعيم الروحاني والرضوان الإلهى لا يمكن أن يعبر عنه الكلام ولا يحيط به الوصف ، فنحن فى عالم يخالف

٨

ذلك العالم فى أوصافه وخواصه ، مهما أكثرنا من الوصف ، فلا نصل إلى شىء مما أعده الله لهم هناك «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ».

وبعد أن بين سبحانه ما أعدّ لعباده المحسنين من عظيم الثواب جزاء صادق إيمانهم ذكر جزاء المسيئين إلى أنفسهم بالكفران والتكذيب جريا على سنة القرآن فى الجمع بين الوعد والوعيد قال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الجاحم والجحيم : ما اشتد حرّه من النار أي وأما الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا بآيات كتابه ، فأولئك هم أصحاب النار وسكانها المقيمون فيها لا يبرحونها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨))

المعنى الجملي

بعد أن مدح سبحانه النصارى بأنهم أقرب الناس مودة للمؤمنين وذكر من أسباب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا ، ظن المؤمنون أن فى هذا ترغيبا فى الرهبانية وظن الميالون للتقشف والزهد أنها منزلة تقرّ بهم إلى الله ، ولن تتحقق إلا بترك التمتع بالطيبات من الطعام واللباس والنساء ؛ إما دائما كامتناع الرهبان من الزواج ، وإما فى أوقات معينة كأنواع الصيام التي ابتدعوها ، فأزال الله هذا الظن وقطع عرق هذا الوهم بذلك النهى الصريح.

روى ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس فى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) قال : نزلت هذه الآية فى رهط من

٩

الصحابة قالوا نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح فى الأرض كما تفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لكنى أصوم وأفطر ، وأصلّى وأنام ، وأنكح النساء فمن أخذ بسنتى فهو منى ، ومن لم يأخذ بسنتى فليس منى».

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلى ابن أبى طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبى حذيفة وقدامة تبتلّوا فجلسوا فى البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرّموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بنى إسرائيل ، وهمّوا بالاختصاء وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار فنزلت الآية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ» الآية فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إن لأنفسكم حقا ، وإن لأعينكم حقا ، وإن لأهلكم حقا ، فصلوا وناموا ، وصوموا ، وأفطروا فليس منا من ترك سنتنا» فقالوا : اللهم صدّقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) الطيبات : الأشياء التي تستلذها النفوس وتميل إليها القلوب ، أي لا تحرّموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات بأن تتركوا التمتع بها عمدا تنسكا وتقربا إلى الله ، ولا تعتدوا فيها وتتجاوزوا حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد بأن تزيدوا على الشّبع والرّى ، أو تجعلوا التمتع بها أكبر همكم فى الحياة ، أو تشغلكم عن الأمور النافعة من العلوم والأعمال المفيدة لكم ولبنى وطنكم.

والآية بمعنى قوله تعالى : «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا» أو لا تعتدوها : أي الطيبات بتجاوزها إلى الخبائث المحرمة.

١٠

والخلاصة ـ إن الاعتداء يشمل أمرين : الاعتداء فى الشيء نفسه بالإسراف فيه ، والاعتداء بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه وهو الخبائث.

ثم علل الهى عن الاعتداء بما ينفر منه فقال :

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي لا يحب الله من يتجاوز حدود شرائعه ولو بقصد عبادته وتحريم طيباته التي أحلها ، سواء أكان التحريم من غير التزام بيمين أو نذر أو بالتزام ، وكل منهما غير جائز.

والالتزام قد يكون لرياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات ، وقد يكون ناشئا عن بادرة غضب من زوجة أو ولد كمن يحلف بالله أو بالطلاق ألا يأكل من هذا الطعام أو نحوه من المباحات ، أو يقول إن فعل كذا فهو برىء من الإسلام أو من الله ورسوله أو نحو ذلك ؛ وكل هذا منهى عنه شرعا ولا يحرم على أحد شىء منها يحرمه على نفسه بهذه الأقوال ، ولا كفارة فى يمين يحلفه الحالف فى نحو ذلك عند الشافعي.

وتحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس من العبادات المأثورة عند قدماء اليهود واليونان قلدهم فيها أهل الكتاب خصوصا النصارى فإنهم قد شددوا على أنفسهم وحرموا عليها ما لم تحرّمه الكتب المقدسة على ما فيها من الشدة والصرامة والمبالغة فى الزهد.

ولما جاء الإسلام وأرسل الله نبيه محمدا خاتم النبيين بما فيه السعادة التامة للبشر فى دنياهم وآخرتهم أباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه والروح حقه ، فالإنسان ما هو إلا روح وجسد فيجب العدل بينهما ، وبذا كانت الأمة الإسلامية أمة وسطا تشهد على جميع الأمم وتكون حجة عليها يوم القيامة.

والحكمة فى ذلك النهى أن الله يحب أن يستعمل عباده نعمه فيها خلقت لأجله ويشكروه على ذلك ، ويكره لهم أن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم فيغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه ، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها بإباحة ما حرمه أو ترك ما فرضه ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ

١١

وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» وورد فى الأثر «إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبا».

(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أي وكلوا مما رزقكم الله من الحلال فى نقسه لا من المحرمات كالميتة والدم المسفوح ولجم الخنزير ، ومن الحلال فى كسبه وتناوله بألا يكون ربا ولا سحتا ، ولا سرقة ، مع كونه مستلذا غير مستقذر لذاته أو لطارئ. يطرأ عليه من فساد أو تغير لطول مكث ونحوه.

والأكل فى الآية يراد به التمتع الشامل للشرب ونحوه من حلال غير مسكر ولا ضار ، ومن كل طيب غير مستقذر فى ذاته أو لطارئ يطرأ عليه.

والخلاصة ـ إنه ينبغى للمؤمن أن يتمتع بما تيسر له من الطيبات بلا تأثم ولا تحرج ، ويحضر قلبه أنه عامل بشرع الله مقيم لسنة الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، شاكر له بالاعتراف والحمد والثناء عليه ، كما أن امتناعه عن الطيبات التي رزقه الله إياها مع الداعية الفطرية إلى الاستمتاع بها إثم يجنيه على نفسه فى الدنيا ويستحق به عقاب الآخرة ، لزيادته فى دين الله قربات لم يأذن بها ، ولإضاعة حقوق الله وحقوق عباده كإضاعة حقوق امرأته وعياله.

والتحريم والتحليل تشريع وهو من حقوق الله فمن انتحله لنفسه كان مدعيا الربوبية أو كالمدعى لها.

وعن الحسن البصري : إن الله أدب عباده فأحسن أدبهم فقال : «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا ، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه. وعنه أنه قيل له فلان لا يأكل الفالوذج ويقول لا أؤدى شكره ، قال أفيشرب الماء البارد؟ قالوا نعم ، قال إنه جاهل ، إن نعمة الله عليه فى الماء البارد أكثر من نعمته عليه فى الفالوذج (البلوظة).

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي واتقوه فى الأكل واللباس والنساء وغيرها ، فلا تفتاتوا عليه فى تحليل ولا تحريم ، ولا تعتدوا حدوده فيما أحل وما حرم ،

١٢

إذ من جعل شهوة بطنه أكبر همه كان من المسرفين ، ومن بالغ فى الشبع وعرّض معدته وأمعاءه للتّخمة كان من المسرفين ، ومن أنفق فى ذلك أكثر من طاقته وعرّض نفسه لذل الدين أو أكل أموال الناس بالباطل فهو من المسرفين والله يقول «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».

والخلاصة ـ إن هدى القرآن فى الطيبات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة المعتدلة من التمتع بها مع الاعتدال والتزام الحلال. والاعتدال هو الصراط المستقيم الذي يقل سالكه ، فكثير من الناس يحيدون عنه ويميلون فى التمتع إلى جانب الإفراط والإسراف ، ويكونون كالأنعام بل أضل لأنهم يجنون على أنفسهم حتى قال بعض الحكماء إن أكثر الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم.

وقليلون منهم ينحرفون إلى جانب التفريط والتقتير إما اضطرارا لبؤسهم وعدمهم وإما اختيارا كالزهاد والمتقشفين.

وسبيل الاعتدال سبيل شاقة على النفوس ، عسرة على سالكها ، كلها تدل على فضيلة العقل ورجحانه.

والمعروف من سيرة الرسول أنه كان يأكل ما وجده ؛ فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج ، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير بالملح أو الزيت أو الخل ، وحينا يجوع وأخرى يشبع ، فكان فى كل ذلك قدوة للموسر والمعسر.

وما كان يهمه أمر الطعام ، لكنه كان يعنى بأمر الشراب ؛ ففى حديث عائشة «كان أحبّ الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلو البارد» قال المحدّثون : ويدخل فى ذلك الماء القراح والماء المحلى بالعسل أو نقيع التمر أو الزبيب.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ

١٣

ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩))

تفسير المفردات

اللغو فى اليمين : قول الرجل فى الكلام من غير قصد لا والله وبلى والله ، بما عقدتم الأيمان : أي بما صممتم عليه منها وقصدتموه ، وأصل العقد نقيض الحل ؛ فعقد الأيمان توكيدها بالقصد والغرض الصحيح ، وتعقيدها : المبالغة فى توكيدها ، وأصل الكفارة من الكفر ، وهو الستر والتغطية ثم صارت فى اصطلاح الشرع اسما لأعمال تكفّر بعض الذنوب والمؤاخذات أي تغطّيها وتخفيها حتى لا يكون لها أثر يؤاخذ به المرء لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ، والأوسط : أي الأغلب من الطعام فى البيوت لا الدون الذي يتقشّف به أحيانا ولا الأعلى الذي يتوسع به أحيانا أخرى ، وتحرير الرقبة : هو إعتاق الرقيق المملوك.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات وعن الاعتداء فيها وتجاوز الحدود ، لأن قوما من المسلمين تنسّكوا وحرّموا على أنفسهم اللحم والنساء وغيرها من الطيبات تقربا إلى الله ـ سألوا عما يصنعون بأيمانهم التي حلفوا عليها فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابا لهم عما سألوا.

روى ابن حرير عن ابن عباس قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) فى القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى : «لا يؤاخذكم الله

١٤

باللغو فى أيمانكم» وأخرج أبو الشيخ عن يعلى بن مسلم قال : سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية ... قال اقرأ ما قبلها فقرأت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ـ إلى قوله ـ لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ).

الإيضاح

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) أي لا يواخذكم الله بالأيمان التي تحلفونها بلا قصد ، كما يقول الرجل فى كلامه بدون قصد لا والله ، وبلى والله ، فلا مؤاخذة على مثل هذه بكفارة فى الدنيا ، ولا عقوبة فى الآخرة.

(وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أي ولكن يؤاخذكم بما صممتم عليه من الأيمان وقصدتموه إذا أنتم حنثنم فيه.

وهذه المؤاخذة بينها سبحانه بقوله :

(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فالذى يكفر عقد اليمين إذا نقض ، أو إذا أريد نقضه بالحنث به هو إحدى هذه المبرّات الثلاث على سبيل التخيير :

(١) إطعام عشرة مساكين ، وجبة واحدة لكل منهم من الطعام الغالب الذي يأكله أهلوكم فى بيوتكم ، لا من أردئه الذي يتقشفون به تارة ، ولا من أعلاه الذي يتوسعون به تارة أخرى كطعام العيد ونحوه مما تكرم به الأضياف فمن كان أكثر طعام أهله خبز البر وأكثر إدامه اللحم بالخضر أو بدونها فلا يجزئ ما دون ذلك مما يأكلونه إذا قرفت أنفسهم من كثرة أكل الدسم ليعود إليها نشاطها ، والأعلى مجزئ على كل حال لأنه من الوسط وزيادة ، والثريد بالمرق وقليل من اللحم ، أو الخبز مع الملوخية أو الرز أو العدس من أوسط الطعام فى مصر وكثير من الأقطار الشرقية الآن ، وكان التمر أوسط طعام أهل المدينة فى العصر الأول ، وأجاز أبو حنيفة إطعام مسكين واحد عشرة أيام.

(٢) كسوة عشرة مساكين ، وهى تختلف باختلاف البلاد والأزمنة كالطعام

١٥

فيجزئ فى مصر القميص الطويل الذي يسمى (بالجلابية) مع السراويل أو بدونه ، وهذا يساوى الإزار والرداء أو العباءة فى العصر الأول ، ولا يجزئ ما يوضع على الرأس من طربوش أو عمامة ، ولا ما يلبس فى الرجلين من الأحذية والجوارب ولا نحو منديل أو منشفة.

(٣) تحرير رقبة أي إعتاق رقيق ، وغلب استعمال الرقبة فى المملوك والأسير ، وقد يعبر أحيانا عن ذلك بفك الرقبة كقوله تعالى : «فَكُّ رَقَبَةٍ» ولا يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة فيجزئ عتق الكافرة عند أبى حنيفة ، واشترط الشافعي ومالك وأحمد إيمانها.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أي فمن لم يستطع واحدا من الثلاثة المتقدمة فعليه أن يصوم ثلاثة أيام متتابعات ، فإن عجز عن ذلك لمرض ، صام عند القدرة ، فإن لم يقدر يرجى له عفو الله ورحمته إذا صحت نيته وصدقت عزيمته.

والاستطاعة أن يجد ذلك القدر فاضلا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو ، وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت آية الكفارة قال حذيفة يا رسول الله نحن بالخيار فقال صلى الله عليه وسلم «أنت بالخيار إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت ، وإن شئت أطعمت ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات»

(ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) با لله أو بأحد أسمائه وحنثتم ، أو أردتم الحنث باليمين.

(وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) فلا تبذلوها فى أتفه الأمور وأحقرها ، ولا تكثروا من الأيمان الصادقة فضلا عن الأيمان الكاذبة قال تعالى : «وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ» وإذا حلفتم فلا تنسوا ما حلفتم عليه ولا تحنثوا فيه إلا لضرورة تعرض ، أو مصلحة تجعل الحنث رابحا.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وعلى هذا النحو الشافي الوافي يبين الله لكم أعلام شريعته وأحكام دينه ، ليعدّكم ويؤهّلكم بذلك

١٦

إلى شكر نعمه على الوجه الذي يحبه ويرضاه ويكون سببا فى المزيد من فضله وإحسانه.

وهاهنا مسائل تتعلق بالأيمان يجمل بك أن تعرفها تكملة لدينك :

١ ـ لا يجوز الحلف بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته ؛ قال صلى الله عليه وسلم «من كان حالفا فلا يحلف إلا با لله» رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر ، ورويا أيضا عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف با لله أو ليصمت» وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر قال:«كان أكثر ما يحلف به النبي صلى الله عليه وسلم لا ومقلّب القلوب»

والمحرّم أن يحلف بغير الله حلفا يلتزم به ما حلف عليه والبر به فعلا أو تركا ، لأن الشارع جعل هذا خاصا بالحلف با لله وأسمائه وصفاته ، أما ما يجىء لتأكيد الكلام ويجرى على ألسنة الناس دون قصد لليمين فلا يدخل فى باب النهى نحو قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابى «أفلح وأبيه إن صدق».

ويدخل فى النهى الحلف بالنبي والكعبة وسائر ما هو معظم شرعا تعظيما يليق به ، ولقد كان غلوّ الناس فى تعظيم أنبيائهم والصالحين منهم سببا فى هدم الدين واستبدال الوثنية به.

٢ ـ يجوز الحنث لمصلحة راجحة مع التكفير قبله لما رواه أحمد والشيخان فى صحيحيهما عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفّر عن يمينك» وفى لفظ عن أبى داود والنسائي «فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير» ودل اختلاف الرواية فى تقديم الأمر بالكفارة أو تأخيره على جواز الأمرين :

والحلف باعتبار المحلوف عليه أقسام :

(١) حلف على فعل واجب أو ترك حرام ، وهذا تأكيد لما كلف الله به ، لحنث ويكون الإثم مضاعفا.

١٧

(ب) حلف على ترك واجب أو فعل محرم ، ويجب فى هذا الحنث لأن اليمين معصية ، ومن ذلك الحلف على إيذاء الوالدين وعقوقهما أو منع ذى حق حقه الواجب له ، والحلف على ترك المباح كالطيب من الطعام ، فإن فى ذلك تشريعا بتحريم ما أحل الله كما فعلت الجاهلية فى تحريم بعض الطيبات.

(ج) حلف على فعل مندوب أو ترك مكروه ، وهذا طاعة يندب له الوفاء به ويكره الحنث ، ومن ذلك الحلف على ترك طعام معين كالطعام الذي فى هذه الصحفة مثلا ، كما فعل عبد الله بن رواحة فى تحريمه الطعام على نفسه ثم أكله منه لأجل الضيف ؛ فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن زيد بن أسلم «أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له ، فقال لامرأته حبست ضيفى من أجلى؟ هو علىّ حرام ، فقالت امرأته هو علىّ حرام ، قال الضيف هو علىّ حرام ، فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا باسم الله ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد أصبت ، فأنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ»

٣ ـ الأيمان ثلاثة أقسام :

(١) ما ليس من أيمان المسلمين كالحلف بالمخلوقات نحو الكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء وتربتهم وهذه يمين غير منعقدة ، ولا كفارة فيها ، بل هى منهى عنها نهى تحريم لما تقدم من الأحاديث.

(ب) يمين بالله تعالى كقوله والله لأفعلن ، وهذه يمين منعقدة فيها الكفارة عند الحنث.

(ج) أيمان فى معنى الحلف بالله يريد بها الحالف تعظيم الخالق كالحلف بالنذر والحرام والطلاق والعتاق كقوله إن فعلت كذا فعلىّ صيام شهر ، أو الحج إلى بيت الله ، أو الحل علىّ حرام لا أفعل كذا ، أو الطلاق يلزمنى لا أفعل كذا ، أو إن فعلته

١٨

فنسائى طوالق أو عبيدى أحرار ، أو كل ما أملكه صدقة أو نحو ذلك. والصحيح الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة ـ وعليه يدل الكتاب والسنة ـ أنه يجزئه كفارة يمين فى جميع ذلك كما قال تعالى : «ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ» وقال : «قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ» وثبت فى الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».

٤ ـ الأيمان مبنية على العرف والنية لا على مدلولات اللغة واصطلاحات الشرع ، فمن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث وإن سماه الله لحما طريا إلا إن نواه أو كان يدخل في عموم اللحم فى عرف قومه ، كما أن من يحلّف غيره يمينا على شىء فالعبرة بنية المحلّف لا الحالف ، فقد روى مسلم وابن ماجه «اليمين على نية المستحلف».

واليمين الغموس التي يهضم بها الحق أو يقصد بها الخيانة والغش لا يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام ، بل لا بد من التوبة وأداء الحق والاستقامة ؛ قال تعالى : «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» وقال صلى الله عليه وسلم : «من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان» رواه البخاري ومسلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ

١٩

وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))

تفسير المفردات

الخمر : كل شراب مسكر ، والميسر : لغة القمار بالقداح فى كل شىء ثم استعمل فى كل مقامرة ، والأنصاب : حجارة كانوا يذبحون قرا بينهم عندها ، وروى أنهم كانوا يعبدونها ويتقربون إليها ، والأزلام : قداح أي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها فى الجاهلية لأجل التفاؤل أو التشاؤم ، والرجس : المستقذر حسا أو معنى ، يقال رجل رجس ورجال أرجاس ، والرجس على أوجه : إما من جهة الطبع ، وإما من جهة العقل ، وإما من جهة الشرع كالخمر والميسر ، وإما من كل ذلك كالميتة لأنها تعاف طبعا وعقلا وشرعا ، والعداوة : تجاوز الحق إلى الإيذاء ، وطعم الشيء يطعمه : ذاق طعمه ، ثم استعمل فى ذوق طعم الشيء من طعام وشراب ، ومن الأول «فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا» أي أكلّم ، ومن الثاني «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» أي من لم يذق طعم مائه.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن تحريم ما أحل الله من الطيبات وأمر بأكل ما رزق الله من الحلال الطيب وكان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر ، لا جرم أن بين عز اسمه أنهما غير داخلين فيما يحل. بل هما مما يحرم ؛ وقد روى ابن جرير وابن مردويه

٢٠