تفسير المراغي - ج ٥

أحمد مصطفى المراغي

١

٢

الجزء الخامس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥))

٣

تفسير المفردات

المحصنات واحدتهن محصنة (بفتح الصاد) يقال حصنت المرأة (بضم الصاد) حصنا وحصانة : إذا كانت عفيفة فهى حاصن وحاصنة وحصان (بفتح الصاد) ويقال أحصنت المرأة : إذا تزوجت ، لأنها تكون فى حصن الرجل وحمايته ، وأحصنها أهلها زوّجوها ، ما ملكت أيمانكم أي بالسبي فى حروب دينية وأزواجهن كفار فى دار الحرب فينفسخ عند ذلك نكاحهن ويحل الاستمتاع بهن بعد وضع الحامل حملها وحيض غيرها ثم طهرها ، والإحصان : العفة ، والمسافح : الزاني ، والاستمتاع بالشيء : هو التمتع به ، والأجور واحدها أجر : وهو فى الأصل الجزاء الذي يعطى فى مقابلة شىء ما من عمل أو منفعة ؛ والمراد به هنا المهر ، فريضة : أي حصة مفروضة محدودة مقدرة ، ولا جناح :

أي لا حرج ولا تضييق ، الاستطاعة : كون الشيء فى طوعك لا يتعاصى عليك ، والطّول الغنى والفضل من مال أو قدرة على تحصيل الرغائب ، والمحصنات هنا الحرائر ، والفتيات الإماء ، محصنات : أي عفيفات ، مسافحات مستأجرات للبغاء ، والأخدان : واحدهم حدن وهو الصاحب ويطلق على الذكر والأنثى ، وهو أن يكون للمرأة حدن يزنى بها سرا فلا تبذل نفسها لكل أحد ، والفاحشة الفعلة القبيحة وهى الزنا ، والمحصنات : هنا الحرائر ، والعذاب : هو الحد الذي قدره الشارع وهو مائة جلدة ، فنصفها خمسون ، ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف ، العنت : الجهد والمشقة

المعنى الجملي

هاتان الآيتان من تتمة ما قبلهما من جهة المعنى فقد ذكر فى أولاهما بقية ما يحرم من النساء وحلّ سوى من تقدم ، ووجوب إعطاء المهور ، وذكر فى الآية الثانية حكم نكاح الإماء وحكم حدهن عند ارتكاب الفاحشة ، لكن من قسموا القرآن

٤

ثلاثين جزءا جعلوهما أول الجزء الخامس ، مراعاة للفظ دون المعنى إذ لو راعوه لجعلوا أول الخامس «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ».

الإيضاح

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي وحرم عليكم نكاح المتزوجات إلا ما ملكت الأيمان بالسبي فى حروب دينية تدافعون بها عن دينكم ، وأزواجهن كفار فى دار الكفر ، وقد رأيتم من المصلحة ألا تعاد السبايا إلى أزواجهن ، فحينئذ ينحل عقد زوجيتهن ويكنّ حلالا لكم بالشروط المعروفة فى كتب الفقه وحكمة هذا أنه لما كان الغالب فى الحروب أن يقتل بعض أزواجهن ويفرّ بعضهم الآخر ولا يعود إلى بلاد المسلمين ، وكان من الواجب كفالة هؤلاء السبايا بالإنفاق عليهن ومنعهن من الفسق ـ كان من المصلحة لهن وللمجتمع أن يكون لكل واحدة منهن أو أكثر كافل يكفيها البحث عن الرزق أو بذل العرض ، وفى هذا ما لا يخفى من الشقاء على النساء.

والإسلام لم يفرض السبي ولم يحرمه ، لأنه قد يكون من الخير للسبايا أنفسهنّ فى بعض الأحوال كما إذا استأصلت الحرب جميع الرجال من قبيلة محدودة العدد.

فإن رأى المسلمون أن من الخير أن تردّ السبايا إلى قومهن جازلهم ذلك عملا بقاعدة (درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح) فإن كانت الحرب لمطامع الدنيا وحظوظ الملوك فلا يباح فيها السبي.

وقوله : من النساء قيد جىء به لإفادة التعميم ، وبيان أن المراد كل متزوجة لا العفيفات ولا المسلمات.

وقد جاء الإحصان فى القرآن لأربعة معان :

١) التزوج كما فى هذه الآية.

٢) العفة كما فى قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ).

٥

٣) الحرية كما فى قوله : «(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) :

٤) الإسلام كما فى قوله : (فَإِذا أُحْصِنَّ) أي : أسلمن.

أخرج مسلم عن أبى سعيد الخدري أنه قال أصبنا سبيا يوم (أو طاس) ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فاستحللناهن.

وقال الحنفية إن من سبى معها زوجها لا تحل لغيره ، إذ لا بد من اختلاف الدار بين الزوجين دار الإسلام ودار الحرب.

(كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي كتب عليكم تحريم هذه الأنواع كتابا مؤكدا وفرضه فرضا ثابتا محكما لا هوادة فيه ، لأن مصلحتكم فيه ثابتة لا يدخلها شك ولا تغيير (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي وأحل الله لكم ما وراء ذلكم مما هو خارج من مدلول اللفظ وإفادته ولا يتناوله بنص أو دلالة ، فيدخل بطريق الدلالة فى الأمهات الجدات ، وفى البنات بنات الأولاد ، وفى الجمع بين الأختين الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها كما يؤخذ بعض المحرمات من آيات أخرى كتحريم المشركات ، والمطلقة ثلاثا على مطلّقها فى سورة البقرة.

(أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي أحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تبتغوه وتطلبوه بأموالكم التي تدفعونها مهرا للزوجة أو ثمنا للأمة ، محصنين أنفسكم وما نعين لها من الاستمتاع بالمحرم باستغناء كل منكما بالآخر ، إذ الفطرة تدعو الرجل إلى الاتصال بالأنثى ، والأنثى إلى الاتصال بالرجل ليزدوجا وينتجا.

فالإحصان هو هذا الاختصاص الذي يمنع النفس أن تذهب أىّ مذهب ، فيتصل كل ذكر بأى امرأة وكل امرأة بأى رجل ، إذ لو فعلا ذلك لما كان القصد من هذا إلا المشاركة فى سفح الماء الذي تفرزه الفطرة إيثارا للذة على

المصلحة ، إذ المصلحة تدعو إلى اختصاص كل أنثى بذكر معين ، لتتكوّن بذلك الأسرة ويتعاون الزوجان على تربية أولادهما.

٦

فإذا انتفى هذا المقصد انحصرت الداعية الفطرية فى سفح الماء وصبه ، وذلك هو البلاء العام الذي تصطلى بناره الأمة كلها ، فإن بعض الدول الأوربية التي كثر فيها السفاح وقل النكاح بضعف الدين وقف نموها وقل نسلها وضعفت حتى اضطرت إلى الاعتزاز بمخالفة بعض الدول الأخرى.

والاسترقاق المعروف فى هذا العصر فى بلاد السودان وبلاد الحجاز وبلاد الجراكسة غير شرعى ، وهو محرم لأن أولئك اللواتى تسترفقن حرائر من بنات المسلمين الأحرار ، فلا يجوز الاستمتاع بهن بغير عقد النكاح ، والإسلام برىء من كل هذا ، (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) أي وأىّ امرأة من النساء اللواتى أحللن لكم ، تزوجتموها فأعطوها الأجر ، وهو المهر بعد أن تفرضوه فى مقابلة ذلك الاستمتاع.

وسر هذا أن الله لما جعل للرجل على المرأة حق القيام وحق رياسة المنزل الذي يعيشان فيه وحق الاستمتاع بها ـ فرض لها فى مقابلة ذلك جزاء وأجرا تطيب به نفسها ويتم به العدل بينها وبين زوجها.

والخلاصة ـ إن أي امرأة طلبتم أن تتمتعوا وتنتفعوا بتزوجها فأعطوها المهر الذي تتفقون عليه عند العقد ، فريضة فرضها الله عليكم ، وذلك أن المهر يفرض ويعين فى عقد النكاح ويسمى ذلك إيتاء وإعطاء ، ويقال عقد فلان على فلانة وأمهرها ألفا كما يقال فرض لها ألفا ، ومن هذا قوله تعالى : «وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً» وقوله : «ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» فالمهر يتعين بفرضه فى العقد ويصير فى حكم المعطى ، وقد جرت العادة بأن يعطى كله أو أكثره قبل الدخول ، ولكن لا يجب كله إلا بالدخول ، فمن طلق قبله وجب عليه نصفه لا كله ، ومن لم يعط شيئا قبل الدخول وجب عليه كله بعده.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي ولا تضييق عليكم إذا تراضيتم على النقص فى المهر بعد تقديره أو تركه كله أو الزيادة فيه ، إذ ليس الغرض

٧

من الزوجية إلا أن يكونا فى عيشة راضية يستظلان فيها بظلال المودة والرحمة والهدوء والطمأنينة ، والشارع الحكيم لم يضع لكم إلا ما فيه سعادة الفرد والأمة ، ورقي الشؤون الخاصة والعامة.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) وقد وضع لعباده من الشرائع بحكمته ما فيه صلاحهم ما تمسكوا به ، ومن ذلك أنه فرض عليهم عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب ، وفرض على من يريد الاستمتاع بالمرأة مهرا يكافئها له على قبولها قيامه ورياسته عليها ، ثم أذن للزوجين أن يعملا ما فيه الخير لهما بالرضا فيحطا المهر كله أو بعضه أو يزيدا عليه.

ونكاح المتعة (وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر) كان مرخّصا فيه فى بدء الإسلام ، وأباحه النبي لأصحابه فى بعض الغزوات لبعدهم عن نسائهم ، فرخص فيه مرة او مرتين خوفا من الزنا فهو من قبيل ارتكاب أخفّ الضررين ، ثم نهى عنه نهيا مؤبدا ، لأن المتمتّع به لا يكون مقصده الإحصان ، وإنما يكون مقصده المسافحة ، وللأحاديث المصرّحة بتحريمه تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ، ولنهى عمر فى خلافته وإشادته بتحريمه على المنبر وإقرار الصحابة له على ذلك.

ومنع نكاح المتعة يقتضى منع النكاح بنية الطلاق ، ولكن الفقهاء أجازوه إذا نواه الرجل ولم يشترطه فى العقد ، وإن كان كتمانه يعد حداعا وغشا وعبثا بهذه الرابطة العظيمة التي هى أعظم الروابط البشرية ، وإيثارا للتنقل فى مراتع الشهوات ، إلى ما يترتب على ذلك من العداوة والبغضاء ، وذهاب الثقة بين الزوجين حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج الإحصان والتعاون على تأسيس البيت الصالح والعيشة السعيدة.

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ ، فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) المحصنات : هنا الحرائر خاصة بدليل مقابلتها بالإماء ، والحرية كانت عندهم داعية الإحصان ، كما كان البغاء من شأن الإماء ، ومن ثم قالت هند للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التعجب : أو تزنى الحرّة؟ وعبر عن الإماء بالفتيات

٨

تكريما لهن وإرشادا لنا إلى ألا ننادى بالعبد والأمة بل بلفظ الفتى والفتاة ، وقد روى البخاري قوله صلى الله عليه وسلم «لا يقولنّ أحدكم عبدى أمي ، ولا يقل المملوك ربى ، ليقل المالك فتاى وفتاتى ، وليقل المملوك سيدى وسيدتى ، فإنكم المملوكون ، والرب هو الله عز وجل».

والمعنى ـ ومن لم يستطع منكم طولا فى الحال أو المآل نكاح المحصنات اللواتى أحلّ لكم أن تتغوا نكاحهن بأموالكم وتقصدوا بنكاحهن الإحصان لهن ولانفسكم فلينكح أمة من الإماء المؤمنات ، والطّول (هو السعة المعنوية أو المادية) تختلف باختلاف الأشخاص ، فقد يعجز الرجل عن التزوج بحرة وهو ذو مال يقدر به على المهر لنفور النساء منه لعيب فى خلقه أو خلقه ، وقد يعجز عن القيام بغير المهر من حقوق المرأة الحره ، فإن لها حقوقا كثيرة من النفقة والمساواة وغير ذلك ، وليس للأمة مثل هذه الحقوق.

وقد قدّر الحنفية المهر بدراهم معدودة ، فقال بعضهم : ربع دينار ، وقال بعضهم : عشرة دراهم.

وليس فى الكتاب ولا فى السنة ما يؤيد هذا التحديد ، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن يريد الزواج «التمس ولو خاتما من حديد» وروى أن بعض المسلمين تزوج امرأة وجعل المهر تعليمها شيئا من القرآن.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي فأنتم أيها المؤمنون إخوة فى الإيمان بعضكم من بعض كما قال : «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» فلا ينبغى أن تعدوا نكاح الأمة عارا عند الحاجة إليه.

وفي هذا إشارة إلى أن الله قد رفع شأن الفتيات المؤمنات وساوى بينهن وبين الحرائر ، وهو العليم بحقيقة الإيمان ودرجة قوته وكماله ، فرب أمة أكمل إيمانا من حرة فتكون أفضل منها عند الله «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ».

(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) الأهل هنا الموالي المالكون لهن ، أي فإذا أحببتم نكاحهن ورغبتم فيه ، لأن الإيمان قد رفع من قدرهن فانكحوهن بإذن موالهن.

٩

وقال بعض الفقهاء : المراد من الأهل من لهم عليهن ولاية التزويج ولو غير المالكين كالأب والجد والقاضي والوصي ، إذ لكل منهم تزويج أمة اليتيم.

(وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وأدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن ، إذ أن المهر هو حق المولى ، لأنه بدل عن حقه فى إباحة الاستمتاع بها ، وقال مالك : المهر حق للزوجة على الزوج وإن كانت أمة فهو لها لا لمولاها ، وإن كان الرقيق لا يملك شيئا لنفسه لأن المهر حق الزوجة تصلح به شأنها ويكون تطييبا لنفسها فى مقابلة رياسة الزوج عليها ، وسيد الأمة مخير بين أن يأخذه منها بحق الملك ، أو يتركه لها لتصلح به شأنها وهو الأفضل والأكمل.

ومعنى قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالمعروف بينكم فى حسن التعامل ومهر المثل وإذن الأهل.

(مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أي أعطوهن أجورهن حال كونهن متزوجات منكم لا مستأجرات للبغاء جهرا وهن المسافحات ، ولا سرّا وهن متخذات الأخدان والأصحاب.

وقد كان الزنا فى الجاهلية قسمين : سرى وعلنى ، فالسرى يكون خاصا فيكون للمرأة خدن يزنى بها سرا ولا تبذل نفسها لكل أحد ، والعلنى يكون عاما وهو المراد بالسفاح قاله ابن عباس.

وكان البغايا من الإماء ينصبن الرايات الحمر لتعرف منازلهن ، ولا تزال هذه العادة متبعة إلى الآن فى بلاد السودان ، فتوجد بيوت خاصة لشراب الذرة (المريسة) وفيها البغاء العلنى.

وروى عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون ما ظهر من الزنا ويقولون إنه لؤم ، ويستحلون ما خفى ويقولون : إنه لا بأس به ، وقد نزل فى تحريم هذين النوعين قوله تعالى «وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ».

١٠

وهذان النوعان فاشيان الآن فى بلاد الإفرنج والبلاد التي تقلدهم فى شرورهم كمصر والآستانة وبعض بلاد الهند.

وقصارى القول : إن الله فرض فى نكاح الإماء مثل ما فرض فى نكاح الحرائر من الإحصان والعفة لكل من الزوجين ، لكن جعل الإحصان وعدم السفاح فى نكاح الحرائر من قبل الرجال أولا وبالذات فقال (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) لأن الحرائر ولا سيما الأبكار أبعد من الرجال عن الفاحشة وأقل انقيادا لطاعة الشهوة ، إلى أن الرجال هم الطالبون للنساء والقوّامون عليهن.

وجعل قيد الإحصان فى جانب الإماء ، فاشترط على من يريد أن يتزوج أمة أن يتحرى فيها أن تكون محصنة مصونة فى السر والجهر فقال (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) وذلك أن الزنا كان غالبا فى الجاهلية على الإماء وكانوا يشترونهن للاكتساب ببغائهن حتى إن عبد الله بن أبىّ كان يكره إماءه على البغاء بعد أن أسلمن فنزل فى ذلك : «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا».

إلى أنهن لذلّهن وضعفهن وكونهن مظنّة للانتقال من يد إلى أخرى ـ لم تمرّن نفوسهن على الاختصاص برجل واحد يرى لهن عليه من الحقوق ما تطمئنّ به نفوسهن فى الحياة الزوجية التي هى من شؤون الفطرة.

(فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) أي إن الإماء إذا زنين بعد إحصانهن بالزواج فعليهن من العقاب نصف ما على المحصنات الكاملات وهن الحرائر إذا زنين ، وهذا العقاب ما بينه سبحانه بقوله «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» فتجلد الأمة المتزوجة خمسين جلدة ، وتجلد الحرة مائة.

والسر فى هذا ما قدمناه فيما سلف وهو كون الحرة أبعد عن داعية الفاحشة ، والأمة ضعيفة عن مقاومتها ، فرحم الله ضعفها ، وخفف العقاب عنها ، وقد قيدوا المحصنات

١١

هنا بكونهن أبكارا ، لأن من تزوجت تسمى محصنة بالزواج وإن آمت بطلاق أو بموت زوجها وحينئذ ترجم بالحجارة إذا زنت.

وفى الصحيحين وغيرهما عن عمر رضي الله عنه : أن الرجم فى كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم ماعز الأسلمىّ والغامديّة لاعترافهما بالزنا ، لكنه أرجأ المرأة حتى وضعت وأرضعت وفطمت ولدها رواه مسلم وأبو داود (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) أي ذاك الذي ذكر لكم من إباحة نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر جائز لمن خشى عليه الضرر من مقاومة دواعى الفطرة ، والتزام الإحصان والعفة ، ففى كثير من الأحيان تفضى هذه المقاومة إلى أعراض عصبية وغير عصبية إذا طال العهد على مقاومتها كما أثبت ذلك الطبّ الحديث.

(وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي وصبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهن لما فى ذلك من تربية قوة الإرادة ، وتنمية ملكة العفة ، وتغليب العقل على عاطفة الهوى ومن عدم تعريض الولد للرقّ ، وخوف فساد أخلاقه ، بإرثه منها المهانة والذلة ، إذ هى بمنزلة المتاع والحيوان ، فربما ورث شيئا من إحساسها ووجدانها وعواطفها الخسيسة.

وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه ، وإذا نكح الحر الأمة فقد أرقّ نصفه ، ورحم الله القائل :

إذا لم تكن فى منزل المرء حرة

تدبّره ضاعت مصالح داره

وسر هذا ما شرحناه من قبل من أن معنى الزوجية حقيقة واحدة مركبة من ذكر وأنثى ، كل منهما نصفها ، فهما شخصان صورة ، واحد اعتبارا بالإحسان والشعور والوجدان والمودة والرحمة ، ومن ثم ساغ أن يطلق على كل منهما لفظ (زوج) لاتحاده بالآخر وإن كان فردا فى ذاته ومستقلا فى شخصه.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهو غفار لمن صدرت منه الهفوات ، كاحتقار الإماء المؤمنات ، والطعن فيهن عند الحديث فى نكاحهن ، وعدم الصبر على معاشرتهن بالمعروف ، وسوء

١٢

الظن بهن ، رحيم بعباده ، إذ رخص لهم فيما رخص فيه ببيان أحكام شريعته ، فلا يؤاخذنا بما لا نستطيعه منها

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أحكام النكاح فيما سلف على طريق البيان والإسهاب ، ذكر هنا عللها وأحكامها كما هو دأب القرآن الكريم أن يعقب ذكر الأحكام التي يشرعها العباد ببيان العلل والأسباب ، ليكون فى ذلك طمأنينة للقلوب ، وسكون للنفوس لتعلم مغبة ما هى مقدمة عليه من الأعمال ، وعاقبة ما كلفت به من الأفعال ، حتى تقبل عليها وهى مثلجة الصدور عالمة بأن لها فيها سعادة فى دنياها وأخراها ، ولا تكون فى عماية من أمرها فتتيه فى أودية الضلالة ، وتسير قدما لا إلى غاية.

الإيضاح

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) جاءت هذه الآيات كأجوبة لأسئلة من شأنها أن تدور بخلد السامع لهذه الأحكام ، فيطوف بخاطره أن يسأل ـ ما الحكمة في هذه الأحكام وما فائدتها للعباد ، وهل كان من قبلنا من الأمم السالفة كلف بمثلها ، فلم يبح لهم أن يتزوجوا كل امرأة ، وهل كان ما أمرنا الله به أو نهانا عنه تشديدا علينا أو تخفيفا عنا؟

١٣

والمعنى : يريد الله بما شرعه لكم من الأحكام أن يبين لكم ما فيه مصالحكم ومنافعكم ، وأن يهديكم مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين ، لتقتفوا آثارهم وتسيروا سيرتهم ، فالشرائع والتكاليف وإن اختلفت باختلاف أحوال الاجتماع والأزمان كما قال «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» فهى متفقة فى مراعاة المصالح العامة للبشر ، فروح الديانات جميعا توحيد الله وعبادته والخضوع له على صور مختلفة ، ومآل ذلك تزكية النفس بالأعمال التي تقوم بها وتهذيب الأخلاق لتبعد عن سيىء الأفعال والأقوال.

(وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي ويريد أن يجعلكم بالعمل بتلك الأحكام تائبين راجعين عما كان قبلها من تلك الأنكحة الضارة التي كان فيها انحراف عن سنن الفطرة ، إذ كنتم تنكحون ما نكح آباؤكم ، وتقطعون أرحامكم ، ولا تلتفتون إلى المعاني السامية التي فى الزوجية ، من تقوية روابط النسب وتجديد قرابة الصهر ، والسعادة التي تثلج قلوب الزوجين ، والمودة والرحمة اللتين تعمر بهما نفوسهما.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فبعلمه المحيط بما فى الأكوان شرع لكم من الدين ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم ، وبحكمته لم يكلفكم بما يشق عليكم ، وبما فيه الأذى والضرر لكم وبها يتقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات.

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي إنه تعالى بما كلفكم به من تلك الشرائع يريد أن يطهرّكم ويزكى نفوسكم فيتوب عليكم.

(وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) متبعو الشهوات هم الفسقة الذين يدورن مع شهوات أنفسهم وينهمكون فيها ، فكانها أمرتهم باتباعها فامتثلوا أمرها ، فلا يبالون بما قطعوا من وشائج الأرحام ، ولا بما أزالوا من أواصر القرابة ، فليس مقصدهم إلا التمتع باللذة ، أما اللذين يفعلون ما يأمر به الدين فليس غرضهم إلا امتثال أوامره ، لا اتباع شهواتهم ، ولا الجري وراء لذاتهم.

(يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) فأباح لكم عند الضرورة نكاح الإماء قاله مجاهد

١٤

وطاوس ، وقيل بل خفف عنكم التكاليف كلها ، ولم يجعل عليكم فى الدين من حرج ، فشريعتكم هى الحنيفية السمحة كما ورد فى الحديث.

(وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) يستميله الهوى والشهوات ، ويستشيطه الخوف والحزن ، ولا يقدر على مقاومة الميل إلى النساء ، ولا يقوى على الضيق عليه فى الاستمتاع بهن.

وقد رحم الله عباده فلم يحرّم عليهم منهن إلا ما فى إباحته مفسدة عظيمة وضرر كبير ، ولا يزال الزنا ينتشر حيث يضعف وازع الدين ، ولا يزال الرجال هم المعتدين فهم يفسدون النساء ويغرونهن بالأموال ويحجر الرجل على امرأته ويحجبها بينما يحتال على امرأة غيره ويخرجها من خدرها ، وإنه لغرّ جاهل ، أفيظن أن غيره لا يحتال على امرأته كما احتال هو على امرأة سواه؟ فقلما يفسق رجل إلا يكون قدوة لأهل بيته فى الفسق والفجور ، وفى الحديث : «عفوا تعفّ نساؤكم وبرّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم» رواه الطبراني من حديث جابر.

وقد بلغ الفسق فى هذا الزمن حدّا صار الناس يظنونه من الكياسة ، وزالت غيرتهم ، وأسلسوا القياد لنسائهم كما يسلسن لقيادتهن ، فوهت الروابط الزوجية ، ونخر السوس فى سعادة البيوت ، ووجدت الرذيلة لها مرتعا خصيبا فى أجواء الأسر ، حتى أصبح الرجل لا يثق بنسله ، وكثرت الأمراض والعلل بشتى مظاهرها.

أخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ثمانى آيات نزلت فى سورة النساء هى خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، وعدّ هذه الآيات الثلاث : يريد الله ليبين لكم إلى قوله وخلق الإنسان ضعيفا ، والرابعة إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، والخامسة : إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، والسادسة : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ، والسابعة : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، والثامنة : والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم. الآية.

١٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف كيفية معاملة اليتامى وإيتاء أموالهم إليهم عند الرشد وعدم دفع الأموال إلى السفهاء ، ثم بين وجوب دفع المهور للنساء وأنكر عليهم أخذها توجه من الوجوه ، ثم ذكر وجوب إعطاء شىء من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة ، ذكر هنا قاعدة عامة للتعامل فى الأموال تطهيرا للأنفس فى جمع المال المحبوب لها فقال :

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) الباطل من البطل والبطلان وهو الضياع والخسار ، وفي الشرع أخذ المال بدون عوض حقيقى يعتد به ، ولا رضا ممن يؤخذ منه ، أو إنفاقه في غير وجه حقيقى نافع ، فيدخل في ذلك النصب والغش والخداع والربا والغبن وإنفاق المال في الوجوه المحرمة والإسراف بوضع المال فيما لا يرضى به العقلاء.

قوله «بَيْنَكُمْ» رمز إلى أن المال المحرم يكون عادة موضع التنازع في التعامل بين الآكل فالمأكول منه كل منهما يريد جذبه إليه ، والمراد بالأكل الأخذ على أي وجه ، وعبر عنه الأكل لأنه أكثر أوجه استعمال المال وأقواها ، وأضاف الأموال إلى الجميع ولم يقل لا يأكل بعضكم مال بعض ، تنبيها إلى تكافل الأمة في الحقوق والمصالح كأن مال كل واحد منها هو مال الأمة جميعها ، فإذا استباح أحدهم أن يأكل مال الآخر بالباطل كان

١٦

كأنه أباح لغيره أن يأكل ماله فالحياة قصاص ، وإرشادا إلى أن صاحب المال يجب عليه بذل شىء منه للمحتاج وعدم البخل عليه به ، إذ هو كأنما أعطاه شيئا من ماله.

وبهذا قد وضع الإسلام قواعد عادلة للأموال لدى من يعتنق مبادئه وهى :

١) أن مال الفرد مال الأمة مع احترام الحيازة والملكية وحفظ حقوقها ، فهو يوجب على ذى المال الكثير حقوقا معينة للمصالح العامة ، وعلى ذى المال القليل حقوقا أخرى للبائسين وذوى الحاجات من سائر أصناف البشر ، ويحث على البر والإحسان والصدقات فى جمييع الأوقات.

وبهذا لا يوجد فى بلاد الإسلام مضطر إلى القوت أو عريان ، سواء أكان مسلما أم غير مسلم ، لأن الإسلام فرض على المسلمين إزالة ضرورة المضطر ، كما فرض فى أموالهم حقوقا للفقراء والمساكين.

وكل فرد يقيم فى بلادهم يرى أن مال الأمة هو ماله ، فإذا اضطر إليه يجده مذخورا له ، كما جعل المال المفروض فى أموال الأغنياء تحت سيطرة الجماعة الحاكمة من الأمة حتى لا يمنعه من فى قلبه مرض ، وحثهم على البذل ورغبهم فيه ، وذمهم على البخل ووكل ذلك إلى أنفسهم ، لتقوى لديهم ملكة السخاء والمروءة والرحمة.

٢) أنه لم يبح للمحتاج أن يأخذ ما يحتاج إليه من أيدى أربابه إلا بإذنهم ، حتى لا تنتشر البطالة والكسل بين أفراد الأمة ، وتوجد الفوضى فى الأموال ، والضعف والتواني فى الأعمال ، ويدبّ الفساد فى الأخلاق والآداب.

ولو أقام المسلمون معالم دينهم ، وعملوا بشرائعه ، لضربوا للناس الأمثال واستبان لهم أنه خير شريعة أخرجت للناس ، ولأقاموا مدنية صحيحة فى هذا العصر يتأسى بها كل من يريد سعادة الجماعات ، ولا يجعلها تئنّ تحت أثقال العوز والحاجة ، كما هو حادث الآن من التنافر العام والنظر الشزر من العمال إلى أصحاب رءوس الأموال :

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أي لا تكونوا من ذوى الأطماع الذين

١٧

يأكلون أموال الناس بغير مقابل لها من عين أو منفعة ، ولكن كلوها بالتجارة التي قوام الحل فيها التراضي ، وذلك هو اللائق بأهل المروءة والدين إذا أرادوا أن يكونوا من أرباب الثراء.

وفى الآية إيماء إلى وجوه شتى من الفوائد :

١) أن مدار حل التجارة على تراضى المتبايعين ، فالغشّ والكذب والتدليس فيها من المحرمات.

٢) أن جميع ما فى الدنيا من التجارة وما فى معناها من قبيل الباطل الذي لا بقاء له ولإثبات ، فلا ينبغى أن يشغل العاقل عن الاستعداد للآخرة التي هى خير وأبقى.

٣) الإشارة إلى أن معظم أنواع التجارة يدخل فيها الأكل بالباطل ، فإن تحديد قيمة الشيء وجعل ثمنه على قدره بالقسطاس المستقيم يكاد يكون مستحيلا ، ومن ثم يجرى التسامح فيها إذا كان أحد العوضين أكبر من الآخر ، أو إذا كان سبب الزيادة براعة التاجر فى تزيين سلعته ، وترويجها بزخرف القول من غير غش ولا خداع ، فكثيرا ما يشترى الإنسان الشيء وهو يعلم أنه يمكنه شراؤه من موضع آخر بثمن أقلّ ، وما نشأ هذا إلا من خلابة التاجر وكياسته فى تجارته ، فيكون هذا من باطل التجارة الحاصلة بالتراضي فيكون حلالا.

والحكمة فى إباحة ذلك ، الترغيب فى التجارة ، لشدة حاجة الناس إليها ، والتنبيه إلى استعمال ما أوتوا من الذكاء والفطنة فى اختيار الأشياء ، والتدقيق فى المعاملة ، حفظا للأموال حتى لا يذهب شىء منها بالباطل ، أي بدون منفعة تقابلها.

فإذا ما وجد فى التجارة الربح الكثير بلا غش ولا تغرير ، بل بتراض من الطرفين لم يكن فى هذا حرج ، ولولا ذلك ما رغب أحد فى التجارة ، ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين ، على شدة حاجة العمران إليها ، وعدم الاستغناء عنها.

١٨

ولما كان المال عديل الروح وقد نهينا عن إتلافه بالباطل ـ كنهينا عن إتلاف النفس ، لكون أكثر إتلافهم لها بالمغامرات لنهب الأموال وما كان متصلا بها ، وربما أدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل ، قال :

(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضا ، وعبر بذلك للمبالغة فى الزجر ، وللإشعار بتعاون الأمة وتكافلها ووحدتها ، وقد جاء فى الحديث «المؤمنون كالنفس الواحدة» ولأن قتل الإنسان لغيره يفضى إلى قتله قصاصا أو ثأرا ، فكأنه قتل نفسه.

وبهذا علمنا القرآن أن جناية الإنسان على غيره جناية على نفسه ، وجناية على البشر جميعا ، لا على المتصلين به برابطة الدين أو الجنس أو السياسة كما قال تعالى : «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» كما أنه أرشدنا باحترام نفوس الناس بعدّها كنفوسنا ـ إلى أن نحترم نفوسنا بالأولى فلا يباح بحال أن يقتل أحد نفسه ، ليستريح من الغم وشقاء الحياة ، فمهما اشتدت المصايب بالمؤمن ، فعليه أن يصبر ويحتسب ولا ييأس من الفرج الإلهىّ ، ومن ثم لا يكثر بخع النفس (الانتحار) إلا حيث يقل الإيمان ويفشو الكفر والإلحاد.

(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي إنه بنهيكم عن أكل الأموال بالباطل ، وعن قتلكم أنفسكم ، كان رحيما بكم ، إذ حفظ دماءكم كما حفظ أموالكم التي عليها قوام المصالح واستمرار المنافع ، وعلمكم أن تتراحموا وتتوادّوا ويكون كل منكم عونا للآخر ، يحافظ على ما له ويدافع عن نفسه ، إذا جد الجدّ ، ودعت الحاجة إلى الدفاع عنه.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) العدوان هو التعدي على الحق ، وهو يتعلق بالقصد بأن يتعمد الفاعل الفعل وهو عالم أنه قد تعدى الحق وجاوزه إلى الباطل ، والظلم يتعلق بالفعل نفسه ، بألا يتحرى الفاعل عمل ما يحل ، فيفعل ما لا يحل والوعيد مقرون بالأمرين معا ، فلا بد من قصد الفاعل العدوان ، وأن يكون فعله ظلما حقا ، فإذا وجد أحدهما دون الآخر لم يستحق الفاعل هذا التهديد الشديد ، فإذا قتل الإنسان رجلا كان قد قتل أباه أو ابنه ، فهنا قد وحد العدوان ولم يوجد الظلم ، وإذا سلب

١٩

امرؤ مال آخر ظانّا أنه ماله الذي كان قد سرقه أو اغتصبه ثم تبين له أن المال ليس ماله ، وأن هذا الرجل لم يكن هو الذي أخذ ماله ، فها هنا قد وجد الظلم دون العدوان.

(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي وكان ذلك الإصلاء فى النار يسيرا على الله ، هينا لا يمنعه منه مانع ، ولا يدفعه عنه دافع ، ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع ، فلا يغترنّ الظالمون المعتدون بحلمه عليهم فى الدنيا ، وعدم معاجلتهم بالعقوبة ، فيظنوا أنهم بمنجاة من عقابه فى الآخرة ، ولا يكوننّ كأولئك المشركين الذين قالوا «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١))

تفسير المفردات

الاجتناب : ترك الشيء جانبا ، والكبائر واحدتها كبيرة ، وهى المعصية العظيمة ، والسيئات واحدتها سيئة ، وهى الفعلة التي تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا ، والمراد بها هنا الصغيرة ، ونكفر : نغفر ونمح ، ومدخلا كريما : أي مكانا كريما وهو الجنة.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل وعن قتل النفس ، وهما أكبر الذنوب المتعلقة بحقوق العباد ، وتوعد فاعل ذلك بأشد العقوبات ـ نهى عن جميع الكبائر التي يعظم ضررها ، وتؤذن بضعف إيمان مرتكبها ، ووعد من تركها بالمدخل الكريم.

٢٠