تفسير المراغي - ج ١٤

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء الرابع عشر

سورة الحجر

هى مكية وآيها تسع وتسعون.

ومناسبتها لما قبلها من وجوه :

(١) إنها افتتحت بمثل ما افتتحت به سابقتها من وصف الكتاب المبين.

(٢) إنها شرحت أحوال الكفار يوم القيامة وتمنيهم أن لو كانوا مسلمين كما كانت السالفة كذلك.

(٣) إن فى كل منهما وصف السموات والأرض.

(٤) إن فى كل منهما قصصا مفصّلا عن إبراهيم عليه السلام.

(٥) إن فى كل منهما تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم بذكر ما لاقاه الرسل السالفون من أممهم وكانت العاقبة للمتقين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ

٣

يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))

شرح المفردات

ربما (بضم الراء وتخفيف الباء وتشديدها) كلمة تدل على أن ما بعدها قليل الحصول ، فإذا قيل ربما زارنا فلان دل على أن حصول الزيارة منه قليل ، يلههم : أي يشغلهم من قولهم : لهيت عن الشيء ألهى لهيا إذا أعرضت عنه ، ما تسبق : أي ما يتقدم زمان أجلها.

الإيضاح

(الر) تقدم القول فى بيان معانى هذه الحروف ومبانيها ، فذكرنا أنها حروف تنبيه بمنزلة ألا ، ويا ، وينطق بأسمائها ساكنة فيقال : (ألف. لام. را).

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) أي تلك السورة من آيات ذلك الكتاب الكامل من بين سائر الكتب المنزلة من عند الله ، المبين للرشد من الغى ، والمظهر فى تضاعيفه للحكم والأحكام.

(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) هذا إخبار من الله عن الكفار بأنهم سيندمون فى الآخرة على ما كانوا عليه من الكفر ، ويتمنون أن لو كانوا فى الدنيا مسلمين.

عن أبى موسى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا اجتمع أهل النار فى النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا بلى ، قالوا فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا فى النار؟ قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها ، فسمع الله ما قالوا ، فأمر بمن كان فى النار من أهل القبلة فأخرجوا ، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا يا ليتنا كنا مسلمين

٤

فنخرج كما خرجوا ، قال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ـ الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ، ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين».

ونحو الآية قوله تعالى : «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». قال الزجاج : إن الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب ورأى حالا من أحوال المسلم ودّ أن لو كان مسلما.

وقصارى ذلك ـ قد يتمنى الذين كفروا لو كانوا مسلمين حينما يعاينون العذاب وقت الموت : «والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون» وفى الموقف حينما يرون هول العذاب وقد انصرف المسلمون إلى الجنة وسيقوا هم إلى النار ، والمسلمون المذنبون عذّبوا بذنوبهم ثم خرجوا منها وبقي الكافرون فى جهنم.

وقد جاءت (ربما) للتقليل على سنة العرب فى نحو قولهم : ربما تندم على ما فعلت ، ولعلك تندم على ما فعلت ، لا يقصدون التقليل فى نحو ذلك ، وإنما يريدون أن الندم لو كان مشكوكا فيه أولو كان قليلا لحق عليك ألا تفعل هذا الفعل ، إذ العاقل يتحرز من التعرض للغم المظنون كما يتعرض للغم المتيقن ، ويبتعد عن القليل منه كما يبتعد عن الكثير.

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي دعهم أيها الرسول فى غفلاتهم يأكلون كما تأكل الأنعام ، ويتمتعون بلذات الدنيا وشهواتها ، وتلهيهم الآمال عن الآجال ، فيقول الرجل منهم غدا سأنال ثروة عظيمة ، وأحظى بما أشتهى ، ويعلو ذكرى ، ويكثر ولدي ، وأبنى القصور ، وأكثر الدور ، وأقهر الأعداء ، وأفاخر الأنداد ، إلى نحو ذلك مما يغرق فيه من بحار الأمانى والآمال وطلب المحال.

ثم علل الأمر بتركهم بقوله :

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء صنيعهم إذا هم عاينوا سوء جزائهم ، ووخامة عاقبتهم وفى هذا وعيد بعد تهديد ، وإلزام لهم بالحجة ومبالغة فى الإنذار ، وقد

٥

جاء فى أمثالهم (أعذر من أنذر) وإيماء إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للآخرة والتأهب لها ـ ليس من أخلاق المؤمنين.

أخرج أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن شعيب مرفوعا قال : «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ، ويهلك آخرها بالبخل والأمل». وروى عن الحسن أنه قال : ما أطال عبد الأمل ، إلا أساء العمل ، وروى عن على أنه قال : إنما أخشى عليكم اثنتين ، طول الأمل واتباع الهوى ، فإن طول الأمل ينسى الآخرة ، واتباع الهوى يصدّ عن الحق.

وبعد أن هدد من كذب الرسول بقوله : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل ، ذكر سر تأخير عذابهم إلى يوم القيامة وعدم التعجيل به كما فعل بكثير من الأمم السالفة فقال :

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي وما أهلكنا قرية من القرى بالخسف بها وبأهلها كما فعل ببعضها ، أو بإخلائها من أهلها بعد إهلاكهم كما فعل بأخرى ، إلا ولها أجل مقدر مكتوب فى اللوح المحفوظ لا ينسى ولا يغفل عنه ولا يتقدم عن وقته ولا يتأخر.

وخلاصة ذلك ـ إننا لو شئنا لعجلنا لهم العذاب فصاروا كأمس الدابر ، ولكن لكل أجل كتاب ، وشأننا الإمهال لا الإهمال.

وبعد أن بين سبحانه أن الأمم المهلكة كان لكل منهم وقت معين لهلاكهم بحسب ما هو مكتوب فى اللوح ـ بين أن كل أمة منهم ومن غيرهم لها أجل لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه فقال :

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي لا يجىء هلاك أمة قبل محىء أجلها ، ولا يتأخر الهلاك متى حل الأجل.

وفى هذا تنبيه لأهل مكة وارشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والإلحاد

٦

الذي يستحقون به الهلاك ، وزجر لهم بأن هذا الإمهال لا ينبغى أن يغترّوا به ، فالهلاك مدّخر لهم لا يتقدم ولا يتأخر.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))

تفسير المفردات

الذكر : هو القرآن ، و (لوما) مثل (هلا) كلمة تفيد الحث والحضّ على فعل ما يقع بعدها ، منظرين : أي مؤخرين ، والشيع : واحدهم شيعة وهى الجماعة المتفقة على مبدأ واحد فى الدين والمعتقدات ، أو فى المذاهب والآراء. نسلكه : أي ندخله يقال سلكت الخيط فى الإبرة : أي أدخلته فيها ، يعرجون : يصعدون ، سكّرت : سددت ومنعت من الإبصار ، مسحورون : أي سحرنا محمد بظهور ما أبداه من الآيات

المعنى الجملي

بعد أن هدد سبحانه الكافرين وبالغ فى ذلك أيما مبالغة ـ شرع يذكر بعض مقالاتهم فى محمد صلى الله عليه وسلم المتضمنة للكفر بما جاء به ، ثم يذكر ما هم فيه من

٧

جحود وعناد بلغا مدى تنكر معه المشاهدات ، ويدّعى معه السحر والخداع حين رؤية المبصرات.

ثم ذكر سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية له أن ما صدر منهم من السفه ليس بدعا ، فهذا دأب كل محجوج ، فكثير من الأمم السالفة فعلت مثل هذا مع أنبيائها ، فلك أسوة بهم فى الصبر على سفاهتهم وجهلهم.

قال مقاتل : القائلون هذه المقالة هم عبد الله بن أمية والنضر بن الحرث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة من صناديد قريش.

الإيضاح

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي وقالوا استهزاء وتهكما : أيها الرجل الذي زعم أنه نزّل عليه القرآن : إن ما تقوله أملاه عليك الجنون ، وليس له معنى معقول ، وهو مخالف لآرائنا ، بعيد من معتقداتنا ، فكيف نقبل ما لا تقبله العقول ، ولا ترضاه الفحول ، من رجالاتنا الفخام ، وعشائرنا العظام؟

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي إن كان ما تدعيه حقا وقد أيدك الله وأرسلك ، فما منعك أن تسأله أن ينزل معك ملائكة من السماء يشهدون بصدق نبوتك.

وخلاصة ذلك : إن من يخالف آراءنا إما مجنون وإما له سلطان عظيم من ربه ، وحينئذ فماذا يمنعه أن يقويه بالملائكة ليشهدوا بصدقه؟.

ونحو الآية قوله : «وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ» وقال فرعون فى شأن موسى : «فلو لا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين» وقوله : «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً».

٨

وقد أجاب الله عن اقتراحهم فقال :

(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ما ننزل الملائكة إلا بالحكمة والفائدة ، وليس فى نزول الملائكة من السماء وأنتم تشاهدونهم ـ فائدة لكم ، لأنكم إذا رأيتموهم قلتم إنهم بشر لأنكم لا تطيقون رؤيتهم إلا وهم على الصورة البشرية ، إذ هم من عالم غير عالمكم ، وإذا قالوا نحن ملائكة كذبتموهم ، لأنهم على صورتكم فيحصل اللبس ولا تنتفعون بهم وإلى هذا أشار فى سورة الأنعام بقوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)».

(وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) أي إن فى نزول الملائكة ضررا لهم لا محالة ، لأنا مهلكهم ولا نؤخرهم ، إذ قد جرت عادتنا فى الأمم قبلهم أنهم إذا اقترحوا آية وأنزلناها عليهم ولم يؤمنوا بها ـ يكون العذاب فى إثرها ، فلو أنا أنزلناهم ولم يؤمنوا بهم لحق عليهم عذاب الاستئصال ولم ينظروا ساعة من نهار.

والخلاصة ـ إنه ليس فى إنزال الملائكة إليهم فائدة لهم بل فيه اللبس عليهم ، إلى ما فيه من الضرر المحقق لهم وهو الهلاك ، وحينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم.

ثم أجاب سبحانه عن قولهم الأول ، وردّ إنكارهم تنزيل الذكر واستهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم وسلّاه على ذلك بقوله :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي إنما أنتم قوم ضالون مستهزئون بنبينا ، وليس استهزاؤكم بضائره ، لأنا نحن نزلنا القرآن ونحن حافظوه ، فقولوا إنه مجنون ، ونحن نقول : إنا نحفظ الكتاب الذي أنزلناه عليه من الزيادة والنقص ، والتغيير والتبديل ، والتحريف والمعارضة ، والإفساد والإبطال.

وسيأتى فى مستأنف الأزمان من يتولون حفظه والذب عنه ، ويدعون الناس إليه ، ويستخرجون لهم ما فيه من عبر وحكم ، وآداب وعلوم ، تناسب ما تستخرجه

٩

العقول من المخترعات ، وتستنبطه الأفكار من نظريات وآراء فيستنير بها العارفون ، ويهتدى بهديها المفكرون ، فلا تبتئس أيها الرسول بما يقولون وما يفعلون.

ثم سلّى رسوله عما أصابه من سفه قومه وادعائهم جنونه ـ بأن هذا دأب الأمم المكذبة لرسلها من قبل ، فلقد أصابهم مثل ما أصابك من قومك ، فاستهزءوا بهم كما استهزأ قومك بك ، فنصرنا رسلنا وكبتنا أعداءهم ، وسيكون أمركم وأمرهم كذلك ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي إننا أرسلنا قبلك رسلا لأمم قد مضت ، وما أتى أمة رسول إلا كذبوه واستهزءوا به ، لما جرت به العادة من أن فعل الطاعات وترك اللذات ـ مستثقل على النفوس ـ إلى أنهم يدعونهم إلى ترك ما ألفوا من المعتقدات الخبيثة ، وترك عبادة الأوثان الباطلة ، وذلك مما يشق على النفوس ، إلى أن الرسول قد يكون فقيرا لا أعوان له ولا أنصار ، ولا مال ولا جاه ، فلا يتبعه الرؤساء وذوو البأس والقوة ، بل يعملون على مشاكسته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، إلى أن الله يخذلهم ويلقى دواعى الكفر فى قلوبهم بحسب السنن التي سنها لعباده كما يرشد إلى ذلك قوله :

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي كذلك نلقى القرآن فى قلوب المجرمين مستهزأ به غير مقبول لديهم ، لأنه ليس فى نفوسهم استعداد لتلقى الحق ، ولا تضىء نفوسهم بمصابيح هدايته الربانية ، كما كانت حال الأمم الماضية حين ألقيت عليهم الكتب المنزّلة من الملأ الأعلى.

وقد جرت سنة الله فى الأولين ممن بعث إليهم الرسل أن يخذلهم ويدخل لكفر والاستهزاء فى قلوبهم ، ثم يهلكهم وتكون العاقبة للمتقين والنصر حليف رسله والمؤمنين ، فلك أسوة بالرسل قبلك مع أممهم المكذبة ، ولست بأوحدي فى ذلك.

والخلاصة ـ هكذا نفعل باللاحقين كما فعلنا بالسابقين ، ويستهزىء بك

١٠

المجرمون ولا يؤمنون بكتابنا ، وسيحل بهم مثل ما حل بالأولين وننصرك عليهم بعد حين كما قال : «وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ».

ثم بين سبحانه عظيم عنادهم ومكابرتهم للحق فقال :

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) أي ولو فتحنا على هؤلاء المعاندين بابا من السماء فظلوا فى ذلك الباب يصعدون ، فيرون من فيها من الملائكة ، وما فيها من العجائب ـ لقالوا لفرط عنادهم وغلوهم فى المكابرة : إنما سدت أبصارنا ، فما نراه تخيل لا حقيقة له ، وقد سحرنا محمد بما يظهر على يديه من الآيات.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ».

وخلاصة هذا ـ هبنا فتحنا عليهم بابا من السماء وقلنا لهم اعرجوا فيه ، أفلا يقولون فى أنفسهم ويقول بعضهم لبعض : إنما سحرنا محمد كما يفعل علماء السيميا.

إذ يفعلون أفعالا تخيل للإنسان أنه طائر وليس بطائر ، وكما يفعل علماء التنويم المغناطيسى فى هذه الأيام ، فالمنوّم يقول للمنوّم : أنت ملك. أنت امرأة. أنت كذا فيصدّق كل ما قيل له. وهكذا فى النوع البشرى أقوام لهم قدرة على استهواء العقول فيخيلون للإنسان ما لا حقيقة له ، وقد أصبح هذا العلم فنّا يدرس فى معاهد أوربا وأمريقا. فكيف يكون مثل هذا دليلا أو موجبا للتصديق؟ كلا فإن أمثال ذلك لا يقوم بهداية نوع الإنسان.

وبعد فكيف يقترح هؤلاء عليك الآيات ، ويغرمون بما يخرق العادات ، من ملائكة يرونها ، وعجائب ينظرونها ، وهل تغنى تلك الآيات ، وهل النوع الإنسانى يكفيه ما يخالف العادات؟ فما يشتبه على الناس بأفعال السحرة والمشعوذين يوقعهم

١١

فى اللبس ، فكم من نبى أيدناه بمثل تلك الآيات ولم يؤمن به من قومه إلا قليل منهم ، وما الآيات إلا ما تفهمه العقول ، وتمحّصه القرائح درسا وتحليلا ، وبحثا واستنباطا.

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠))

تفسير المفردات

البروج : واحدها برج وهى النجوم العظام ، ومنها نجوم البروج الاثني عشر المعروفة فى علم الفلك ، للناظرين : أي المفكّرين المستدلين بذلك على قدرة مقدّرها وحكمة مدبّرها ، وحفظناها : أي منعناها ، والرجيم : أي المرجوم المرمى بالرّجام : أي الحجارة ، والمراد بالرجيم هنا المرمىّ بالنجوم ، واسترق : من السرقة ، وهى أخذ الشيء خفية شبه به خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى ، والسمع : المراد به ما يسمع ، والشهاب :

الشعلة الساطعة من النار الموقدة ومن السحاب فى الجو وتبعث القوم تبعا وتباعة بالفتح : أي مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم وأتبعت القوم إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم ، مددناها : أي بسطناها ، والرواسي : واحدها راسية وهى الجبال الثوابت ، موزون : أي مقدر بمقدار معين تقتضيه الحكمة والمصلحة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر شديد جحودهم وأنهم مهما أوتوا من الآيات لم يفدهم ذلك شيئا حتى بلغ من أمرهم أن ينكروا المشاهدات ويدعوا الخداع حين رؤية المبصرات ،

١٢

ـ أعقب هذا ببيان أنهم قد كانوا فى غنى عن كل هذا ، فإن فى السماء وبروجها العالية ، وشموسها الساطعة ، وأقمارها النيّرة ، وسياراتها الدائرة ، وثوابتها الباسقة عبرة لمن اعتبر ، وحجة لمن ادّكر ، فهلّا نظروا إلى الكواكب وحسابها ، ونظامها ومداراتها ، وكيف حدثت بها الفصول والسنون ، وكيف كان ذلك بمقادير محدودة وأوقات معلومة؟ لا تغيير فيها ولا تبديل ، فبأمثال هذا يكون اليقين ، وبالتدبر فيه تقوى دعائم الدين ، ويشتد أزر سيد المرسلين.

وهلّا رأوا الأرض كيف مدّت ، وثبتت جبالها ، وأنبتت نباتها ، بمقادير معلومة موزونة فى عناصرها وأوراقها ، وأزهارها وثمارها ، وجعل فيها معايش للإنسان والحيوان. أفلا يعتبرون بكل هذا؟ «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟».

الإيضاح

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) أي ولقد خلقنا فى السماء نجوما كبارا ثوابت وسيارات ، وجعلناها وكواكبها بهجة لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من عجائبها الظاهرة ، وآياتها الباهرة ، التي يحار الفكر فى دقائق صنعتها ، وقدرة مبدعها.

ونحو الآية قوله تعالى : «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ»

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي ومنعنا كل شيطان رجيم من القرب منها كما قال فى آية أخري. «وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» أي وحفظناها من كل شيطان خارج من الطاعة برميه بالشهب ، كما تحفظ المنازل من متجسس يخشى منه الفساد.

(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) أي لكن من أراد اختطاف شىء من عالم الغيب مما يتحدث به الملائكة فى الملأ الأعلى ـ تبعه كوكب مشتعل

١٣

نارا ظاهرا للمبصرين فأحرقه ، ولم يصل إلى معرفة شىء مما يدبّر فى ملكوت السموات ، وبهذا المعنى قوله : «لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ».

وجاء بمعنى الآية قوله فى سورة الجن حكاية عنهم : «وأنّا لمسنا السّماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا. وأنّا كنّا نقعد منها مقاعد للسّمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا» وقوله فى صورة الملك : «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ».

وبعد ، فالكتاب الكريم أخبر بأن الشياطين أرادوا أن يختطفوا شيئا من أخبار الغيب مما لدى الملائكة الكرام ، فسلّطت عليهم الشهب المشتعلة ، والنجوم المتقدة ، فأحرقتهم ، ولا نبحث عن معرفة كنه ذلك ، ولا ننعم فى النظر ، لندرك حقيقته ، لأنا لم نؤت من الوسائل والأسباب ما يمكننا من معرفة ذلك معرفة صحيحة ، تجعلنا نؤمن به إيمانا مبنيا على البرهان بوسائله المعروفة ، وليس لنا إلا التصديق بما جاء فى الكتاب وأوحى به إلى النبي الكريم ، والبحث وراء ذلك لا يقفنا على علم صحيح ، بل على حدس وتخمين ، لا حاجة للمسلم به للاطمئنان فى دينه ، فالأحرى به أن يعرض عنه لئلا يحيد عن القصد ، ويضل عن سواء السبيل.

وبعد أن ذكر الدلائل السماوية على وحدانيته أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال :

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي وقد بسطنا الأرض وجعلناها ممتدة الطول والعرض والعمق ، ليمكن الانتفاع بها على الوجه الأكمل ، وهذا فيما يظهر فى مرأى العين ، فلا يدل على نفى الكروية عن الأرض ، لأن الكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي.

(وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي وجعلنا فيها جبالا ثوابت خوف أن تضطرب بسكانها كما قال فى آية أخرى : «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» وقد سبق تفصيل ذلك فى سورة الرعد.

١٤

(وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي إن كل نبات قد وزنت عناصره وقدرت تقديرا ، فترى العنصر الواحد يختلف فى نبات عنه فى آخر بوساطة امتصاص الغذاء من العروق الضاربة فى الأرض ومنها يرفع إلى الساق والأغصان والأوراق والأزاهير ، والذي حدد هذا الاختلاف ، تلك الفتحات الشعرية التي فى ظواهر الجذور وثقوب كل نبات لا تسع إلا المقدار اللازم لها من العناصر وتطرد ما سواه ، لأنه لا يلائمها ، إذ هى قد كونت على هيئة خاصة بحيث لا تبتلع إلا تلك المقادير بعينها.

وهاك عنصر البوتاس تره يدخل فى حب الذرة الذي نأكله بمقدار ٣٢ خ وفى القصب ٣ ر ٣٤ خ وفى البرسيم بمقدار ٦ ر ٣٤ خ وفى البطاطس بمقدار ٥ ر ٦١ خ وبهذا التفاوت صلح القصب لأن يكون سكرا ، والبرسيم لأن يكون قوتا للبهائم ، والذرة والبطاطس لأن تكونا قوتا للإنسان.

وحسبك دليلا على ذلك ما تجده فى سورة الرحمن من قوله : «وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ» كما نظم سبحانه الكواكب فى سيرها وأوضاعها ، وحركاتها وأضوائها ، ووزن عناصرها بمقادير يتناسب بعضها مع بعض.

فلك الحمد ربنا جعلت كل شىء فى الحياة موزونا بقدر معلوم ، لتتدبر نظم الحياة ، فنعرف قدرة منشىء العالم ، وأنه لم يخلق شيئا فيه جزافا ، ليكون فيه دليل على قدرة المبدع والمدبر له حال وجوده.

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي إن أنواع معايشكم من غذاء وماء ، ولباس ودواء ، قد سخرناها لكم فى الأرض ، فلا السمك فى البحر غذّيتموه ، ولا الطير فى الجوّ ربيتموه ، ولا غيرهما من أشجار الجبال والغابات وحيوان البر والبحر خلقتموه.

(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) أي وجعلنا لكم فيها من لستم رازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب. وفى هذا إيماء إلى أن الله يرزقهم وإياهم لا أنهم يرزقون منهم ، وفى ذلك عظيم المنة ، وجزيل الفضل والعطاء ، وواسع الرحمة لعباده.

١٥

وخلاصة هذا ـ إنه سبحانه يسّر لكم أسباب المكاسب ، وصنوف المعايش وسخّر لكم الدواب التي تركبونها ، والأنعام التي تأكلونها ، والعبيد التي تستخدمونها ، فكل أولئك رزقهم على خالقهم لا عليكم ، فلكم منها المنفعة ، ورزقها على الله تعالى.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

تفسير المفردات

الخزائن : واحدها خزانة وهى المكان الذي تحفظ فيه نفائس الأموال ، واللواقح : واحدها لاقح أي ذات لقاح وحمل ، وأسقيناكموه : أي جعلناه لكم سقيا لمزارعكم ومواشيكم ، تقول العرب إذا سقت الرجل ماء أو لبنا سقيته ، وإذا أعدوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته قالوا أسقيته أو أسقيت أرضه أو ماشيته. والمستقدمين : من ماتوا ، والمستأخرين : الأحياء الذين لم يموتوا بعد.

المعنى الجملي

بين سبحانه فيما سلف أنه أنزل النبات وجعل لنا فيه معايش فى هذه الحياة وهنا أتبعه بذكر ما هو كالسبب فى ذلك ، وهو أنه تعالى مالك كل شىء وأن كل شىء سهل عليه ، يسير لديه ، فإن عنده خزائن الأشياء من النبات والمعادن النفيسة المخلوقات البديعة مما لا حصر له.

١٦

الإيضاح

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي ما من شىء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده والإنعام به متى أردنا دون أن يكون تأخير ولا إبطاء ، فخزائن ملكنا مليئة بما تحبون من النفائس ، غير محجوبة عن الباحث الساعي إلى كسبها من وجوهها بحسب السنن التي وضعناها ، والنظم التي قدرناها ، ولا يمنعها مانع ، ولا يستطيع دفعها دافع ، فهى تحت قبضة الطالب لها إذا أحسن المسعى. وأحكم الطلب كما قال : «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ».

(وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي وما نعطى ذلك ألا بقسط محدود نعلم أن فيه الكفاية لدى الحاجة ، وفيه الرحمة بالعباد كما قال : «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ».

وقد جرت سنة القران بأن يسمى ما يصل إلى العباد بفضل الله وجوده إنزالا كما قال : «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» وقال «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ».

ثم فصل بعض ما فى خزائنه من النعم فقال :

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أي إن من فضله على عباده وإحسانه إليهم أن أرسل إليهم الرياح لواقح ، ويكون ذلك على ضروب.

(١) أن يرسلها حاملات للسحاب ، فتلقّح بها الأشجار بما تنزل عليها من الأمطار فتغيرها من حال إلى حال ، فتعطيها حياة جديدة ؛ إذ تزدهر أزهارها ، وتثمر أغصانها ، بعد أن كانت قد ذبلت وصوّحت ، وأصبحت فى مرأى العين كأنها ميتة لا حياة فيها كما قال تعالى : «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ».

١٧

(٢) أن يرسلها ناقلة لقاح الأزهار الذكور إلى الأزهار الإناث لتخرج الثمر والفواكه للناس.

(٣) أن يرسلها لتزيل عن الأشجار ما علق بها من الغبار ، لينفذ الغذاء إلى مسامّها فيكون ذلك رياضة للشجر والزرع كرياضة الحيوان.

(فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي فأنزلنا من السحاب مطرا فأسقيناكم ذلك المطر لشرب زرعكم ومواشيكم ، وفى ذلك استقامة أمور معايشكم ، وتدبير شئون حياتكم إلى حين كما قال : «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ».

(وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي ولستم بخازنى الماء الذي أنزلناه ، فتمنعوه من أن أسقيه من أشاء ، لأن ذلك بيدي وهو خاضع لسلطانى ، إن شئت حفظته على سطح الأرض ، وإن شئت غار فى باطنها وتخلل طبقاتها ، فلا أبقى منه شيئا ينفع الناس والحيوان ، ويسقى الزرع الذي عليه عماد حياتكم.

والخلاصة ـ نحن القادرون على إيجاده وخزنه فى السحاب وإنزاله ، وما أنتم على ذلك بقادرين.

وبعد أن ذكر نظم المعيشة فى هذه الحياة ذكر إحياء الإنسان وإماتته فقال :

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) أي وإنا لنحيى من كان ميتا إذا أردنا ، ونميت من كان حيا إذا شئنا ،

ونحن نرث الأرض ومن عليها ، فنميتهم جميعا ولا يبقى حىّ سوانا ، ثم نبعثهم كلهم ليوم الحساب ، فيلاقى كل امرئ جزاء ما عمل إن خيرا وإن شرا.

ثم أقام الدليل على إمكان ذلك وأثبت قدرته عليه فقال :

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) أي ولقد علمنا من مضى منكم وأحصيناهم وما كانوا يعملون ، ومن هو حى ومن سيأتى بعدكم ، فلا تخفى علينا أحوالكم ولا أعمالكم ، فليس بالعسير علينا جمعكم يوم التناد للحساب والجزاء يوم ينفخ فى الصور كما قال :

١٨

(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) فيجمع الأولين والآخرين عنده يوم القيامة ، من أطاعه منهم ومن عصاه ، ويجازى كلا بما عمل ، بحسب ما وضع من السنن ، وقدّر من ارتباط المسببات بأسبابها ، وجعل لكل عمل جزاء له.

ثم أكد هذا وزاده إيضاحا فقال :

(إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى باهر الحكمة واسع العلم ، فهو يفعل ما يشاء على مقتضى الحكمة والعدل ، وما يؤيده من سعة العلم والفضل.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ

١٩

اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

تفسير المفردات

صلصال : أي طين يا بس يصلصل ويصوّت إذا نقر وهو غير مطبوخ ، فإذا طبخ فهو فخّار ، وحما : أي طين تغير واسودّ من مجاورة الماء له واحدته حمأة ، ومسنون : أي مصوّر مفرغ على هيئة الإنسان كالجواهر المذابة التي تصب فى القوالب. والجانّ : أي هذا الجنس كما أن الإنسان يراد به ذلك ، فإذا أريد بالإنسان آدم أريد بالجان أبو الجن ، ونار السموم : هى النار الشديدة الحرارة التي تقتل وتنفذ فى المسامّ ، بشرا : أي إنسانا وسمى بذلك لظهور بشرته أي ظاهر جلده ، سويته : أي أتممت خلقه وهيّاته لنفخ الروح فيه ، والنفخ : إجراء الريح من الفم أو غيره فى تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها ، ويراد به هنا إضافة ما به الحياة على المادة القابلة لها ، ورجيم : أي مرجوم مطرود من كل خير وكرامة ، اللعنة : الإبعاد على سبيل السخط ؛ يوم الدين : أي يوم الجزاء ، فأنظرنى : أي أمهلنى وأخرنى ولا تمتنى ، ويوم الوقت المعلوم : هو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق كما روى عن ابن عباس ، والإغواء : الإضلال ، هذا صراط علىّ : أي هذا صراط حق لا بد أن أراعيه ؛ مستقيم أي لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره ، والسلطان : التسلط والتصرف بالإغواء ، سبعة أبواب : أي سبع طبقات ، جزء مقسوم : أي فريق معين مفروز من غيره.

الإيضاح

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي ولقد خلقنا أول فرد من أفراد الإنسان من طين يابس يصلصل ويصوت إذا نقر ، أسود متغير مفرغ فى قالب ليجفّ وييبسن كالجواهر المذابة التي تصبّ فى القوالب.

٢٠