تفسير المراغي - ج ١٣

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء الثالث عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣))

المعنى الجملي

هذه الآية الكريمة من تتمة إقرار امرأة العزيز كما اختاره أبو حيان فى البحر ، ويؤيده عطفه على ما قبله ، وقد جعلت أول الجزء الثالث عشر ، لأن تقسيم القرآن إلى الأجزاء الثلاثين قد لوحظ فيه مقادير الكلم العددى دون المعاني.

الإيضاح

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي وما أبرئ نفسى من دعوى عدم خيانتى إياه بالغيب بعد أن وجهت إليه اقتراف الذنب وقلت : «ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ، وأودعته السجن وعرف الناس خاصتهم وعامتهم ذلك ، وكأنها بذلك تريد التنصّل مما كان.

٣

(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي إن النفس البشرية لكثيرة الأمر بعمل السوء ، لما فيها من دواعى الشهوات الجسمية والأهواء النفسية ، بما ركب فيها من القوى والآلات لتحصيل اللذات ، وما يوسوس الشيطان ويزيّنه لها من النزغات ، ومن ذلك أن حرّضت زوجى على سجن يوسف وقد كان ذلك مما يسوءه ، فالعفيف النزيه لا يرضى أن يزنّ بالريبة كما يسوء زوجى ، إذ لا يرضى أن يكون عرضه مضغة للأفواه ، وحديث الناس فى أنديتهم وأسمارهم.

(إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي إلا نفسا رحمها ربى فصرف عنها السوء والفحشاء بعصمته كنفس يوسف عليه السلام.

ثم عللت ما سلف بقولها :

(إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربى عظيم المغفرة ، فيغفر ما يعترى النفوس بمقتضى طباعها ، إذ ركب فيها الشهوات الجسمية والأهواء النفسية.

تولية يوسف رئيسا لحكومة مصر

وما وقع لإخوته معه حينئذ

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥))

المعنى الجملي

بعد انتهاء التحقيق فى أمر النسوة وظهور براءة يوسف من كل سوء ، طلب الملك إحضاره إليه من السجن بعد أن وفّى له بما اشترط لمجيئه ـ فلما جاءه وسمع كلامه فهم من فحوى حديثه ، ومن أمانته على مال العزيز وعرضه وحسن تصرفه ، ومن سيرته الحسنة

٤

فى السجن ، ومن علمه وفهمه فى تأويله للرؤيا ، ومن حرصه على إظهار شرفه وكرامته فى مسألة النسوة ما دل على أنه أهل لأن يرفع إلى أعلى المراتب ، ويولّى أسمى المناصب وذلك هو ما فعله الملك لحصافة رأيه وبصره بأقدار الرجال ، ولم يصرفه عن ذلك كونه غريبا أو فقيرا أو مملوكا ، كما تشير إلى ذلك الآيتان.

الإيضاح

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي وقال الملك أحضروه من السجن إلىّ بعد أن وفيت له بما طلب : أجعله خالصا لى وموضع ثقتى ، فلا يشاركه أحد فى إدارة ملكى ولا تكون وساطة بينه وبينى. وقد جرت عادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم ، قال ابن عباس : إن الرسول أتاه فقال ألق عنك ثياب السجن ، والبس ثيابا جددا ، وقم إلى الملك ، فدعا له أهل السجن ودعا لهم وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلما أتاه رآه غلاما حدثا ، فقال أيعلم هذا رؤياى ولم يعلمها السحرة والكهنة؟ وأقعده قدامه ، وقال لا تخف وألبسه طوقا من ذهب وثيابا من حرير وأعطاه دابة مسرجة مزيّنة كدابة الملك وضرب الطبل بمصر ـ إن يوسف خليفة الملك.

(فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ : إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي فأتوه به فلما كلمه وسمع ما أجاب به ، قال له إنك لدينا ذو مكانة سامية ، ومنزلة عالية ، وأمانة تامة ، فأنت غير منازع فى تصرفك ، ولا متهم فى أمانتك.

وفى هذا إيماء إلى أن الحوار بين المتخاطبين يظهر معارف الإنسان وأخلاقه ، وآدابه وجميع شمائله ، فيقدره من يعرف أقدار الرجال ويزنهم بفضائلهم ومزاياهم.

والظاهر أن الملك كلمه مشافهة بدون ترجمان ، لأن يوسف كان قد عرف اللغة المصرية من العزيز وامرأته بمحادثته إياهما ومع حاشية الوزير من حين قدم مصر ، ومن محادثته صاحبيه فى السجن.

وقد تكون اللغة التي كان يتكلم بها يوسف لغة جده إبراهيم وأولاده وحفدته وكانوا من العرب القحطانيين ثم تفرعت من هذه العربية الإسماعيلية فالمصرية والعبرانية

٥

والسريانية ، وكان ملوك مصر وكبراء حكامها فى ذلك العهد من أولئك العرب وهم الذين يسمون بالرعاة (الهكسوس).

ويقول المؤرخون إن ملك مصر فى ذلك العهد كان يسمى الوليد بن الريان.

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) الخزائن واحدها خزانة وهى ما تخزن فيه غلات الأرض ونحوها ، أي قال ولّنى خزائن أرضك كلها ، واجعلنى مشرفا عليها ، لأنقذ البلاد من مجاعة مقبلة عليها تهلك الحرث والنسل.

ثم ذكر سبب طلبه فقال :

(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أي إنى شديد الحفظ لما يخزن فيها ، فلا يضيع منه شىء ، أو يوضع فى غير موضعه ، عليم بوجوه تصريفه وحسن الانتفاع به.

وقد طلب إدارة الأمور المالية ، لأن سياسة الملك وتنمية العمران وإقامة العدل فيه تتوقف عليها ، وقد كان مضطرا إلى تزكية نفسه فى ذلك حتى يثق به الملك ويركن إليه فى تولية هذه المهامّ.

وما أضاع كثيرا من الممالك الشرقية فى القرون الأخيرة إلا الجهل والتقصير فى النظام المالى وتدبير الثروة وحفظها فى الدولة والأمة.

روى أن الملك لما كلمه وقص عليه رؤياه وعبرها له ، قال ما ترى أيها الصدّيق؟

قال تزرع فى سنى الخصب زرعا كثيرا وتبنى الخزائن وتجمع فيها الطعام بقصبه وسنبله فإنه أبقى له ، ويكون القصب علفا للدواب ، فإذا جاءت السنون العجاف بعت ذلك فيحصل لك مال عظيم ، فقال الملك ومن لى بهذا ومن يجمعه ويبيعه لى ويكفينى العمل فيه؟ قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

٦

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه إجابة الملك له بأنه أصبح لديه مكينا أمينا وطلب يوسف منه أن يجعله على خزائن الأرض يصرفها بحسب ما يرى من التدبير والنظام والدّراية والإحكام.

ذكر هنا أنه أجابه إلى مطلبه وجعله وزيرا فى دولته يتصرف فى شئونها لحسن تدبيره وثاقب رأيه ، وذلك جار على سنن الله فى خلقه ، فلن ينال الرياسات العليا ، والمناصب الرفيعة ، إلا من يؤتيه الله من المواهب ما يجعله قادرا على ضبط الأعمال وإقامة النظام وحسن السياسة والكياسة فى تصريف الأمور.

الإيضاح

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي ومثل هذا التمكين الذي سلف ذكر أسبابه ومقدماته ، فقد ذكرنا أن إخوة يوسف لو لم يحسدوه ما ألقوه فى غيابة الجب ، ولو لم يلقوه لما وصل إلى عزيز مصر ، ولو لم يعتقد العزيز بفراسته وأمانته وصدقه لما أمّنه على بيته وماله وأهله ، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم لما ظهرت نزاهته وعرف أمرها ، ولو لم تخبّ فى كيدها وكيد صواحباتها ما ألقي فى السجن لإخفاء هذا الأمر ، ولو لم يسجن لما عرفه ساقى الملك وعرف علمه وفضله وصدقه فى تعبير الرؤيا ، ولو لم يعرف ذلك منه الساقي ما عرفه ملك مصر ولم يجعله على خزائن الأرض ، فما من حلقة من هذه السلسلة إلا كانت متممة لما بعدها ، وبإذن الله كانت سببا للوصول إلى ما يليها ، فكلها فى بدايتها كانت شرا وخسرا ، وفى عاقبتها فوزا ونصرا مبينا ، ومهدت للتمكين لدى ملك مصر.

فكما مكّن له فى ذلك مكن له فى أرض مصر ، وقد جىء به مملوكا فأصبح مالكا ذا نفوذ وأمر ونهى لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره ، وصار الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه فيما يرى بما أعده الله تعالى له من تحلية بالصبر واحتمال الشدائد ، والأمانة والعفة وحسن التصرف والتدبير للأمور.

٧

(نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي نخص برحمتنا من إعطاء الملك والرياسة والغنى والصحة ونحوها من نشاء من عبادنا ، بمقتضى ما وضعنا من السنن فى الأسباب الكسبية مع موافقتها للأحداث الكونية ، ومراعاة النظم الاجتماعية ، والفضائل الخلقية.

(وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي ولا نضيع أجر من أحسنوا فى أعمالهم بشكران هذه النعم ، بل نأجرهم عليها سعادة وهناءة ، وقد بذلنا تلك النعم لمن يطلبها متى أتى الأمور من أبوابها ، وسار على مقتضى السنن التي وضعناها.

أما من يسيئون التصرف فيها فتصيبهم المنغّصات ، وتتوالى عليهم المكدّرات ؛ فالمسرفون لا يلبثون أن ينالهم الفقر والعدم ، والظالمون يثيرون أضغان المظلومين ، وذوو الخيلاء والبطر يكونون محتقرين ، وقلما يصيب المحسنين الشاكرين من ذلك شىء وإن نالهم منه شىء يكن هيّنا عليهم وهم عليه صبر.

وفى الآية إيماء إلى أنه ما أضاع صبر يوسف على أذى إخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز بل كان جزاؤه ما مكّن له فى الأرض ولدي ملك مصر :

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي إن أجر الآخرة وهو نعيمها يكون للمؤمنين المتقين ، وهو خير لهم من أجر الدنيا لأهلها وإن بلغوا سلطان الملك ، فإنّ ما أعده لأولئك ليتضاءل أمامه كل ما فيها من مال وجاه وزينة ، ولا شبهة فى أن من يجمعون بين السعادتين يكون فضل الله عليهم أعظم ، إذ هم أعطوا حقها من الشكر وقاموا بما يجب عليهم نحو خالقهم من طاعته وترك معصيته.

روى الشيخان عن أبى صالح عن أبى هريرة قال : «قال فقراء المهاجرين للنبى صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ذهب أهل الدثور (واحدها دثر بالفتح : المال الكثير) بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، قال ما ذاك؟ قالوا يصلّون كما نصلى ويصومون كما نصوم ويتصدقون كما نتصدق ويعتقون ولا نعتق ، قال صلى الله عليه وسلم : أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم ، إلا من

٨

صنع مثلكم؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : تسبّحون وتكبّرون وتحمدون الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة» قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ».

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

تفسير المفردات

المعرفة والعرفان : معرفة الشيء بتفكر فى أثره ، وضده الإنكار ، وجهزهم : أي أوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله ، وجهاز السفر : أهبته وما يحتاج إليه فى قطع المسافة ، ومثله جهاز الميت والعروس (بالكسر والفتح وبهما قرئ) أو فى الشيء : جعله وافيا تاما ، المنزلين : أي المضيفين للضيوف ، نراود : أي نخادع ونستميل برفق ، لفاعلون :

أي لقادرون على ذلك ، لفتيانه : أي غلمانه الكيالين ، بضاعتهم : أي التي اشتروا بها الطعام وكانت نعالا وأدما ، والبضاعة : المال الذي يستعمل للتجارة ، والرحال : واحدها رحل : وهو ما يوضع على ظهر الدابة وفوقه متاع الراكب وغيره ، وانقلبوا : أي رجعوا.

المعنى الجملي

جاء فى سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام حين ولى الوزارة طفق

٩

يعد العدة ويأخذ الأهبة لتنفيذ التدابير التي بقي بها البلاد من خطر المجاعة التي جاءت فى تأويل رؤياه للملك ، وكان من ذلك أن بنى الأهراء العظيمة وخزن فيها الحبوب التي استكثر منها مدة سنى الخصب السبع الأولى ، فلما جاءت السبع الشداد وعم القحط مصر وغيرها من الأقطار القريبة منها ولا سيما أقربها إليها وهى فلسطين من بلاد الشام ، واشتهر لدى أهلها ما فعله يوسف فى مصر من حسن التدبير حتى كثرت فيها الغلال وأصبح يبيع ما زاد على حاجة أهلها للأقطار المجاورة لها أمر يعقوب عليه السلام أولاده أن يرحلوا إلى مصر ويأخذوا معهم ما يوجد فى بلادهم من بضاعة ونقد فضة ويشتروا به قمحا لأن المجاعة أو شكت أن تقضى عليهم فنفّذوا ما أراد وكان بينهم وبين يوسف ما قصه الله علينا في كتابه الكريم.

الإيضاح

(جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) ممتارين حين أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر ، وكان قد حل بآل يعقوب ما حل بأهلها فدعا أبناءه ما عدا بنيامين فقال لهم يا بنى قد بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه واشتروا منه ما تحتاجون إليه فخرجوا حتى قدموا مصر.

(فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) وهو فى مجلس ولايته ، لأن أمر الميرة وشراء الغلال كان بيده ورهن أمره.

(فَعَرَفَهُمْ) حين دخلوا عليه بلا تردد ، إذ كان عددهم وشكلهم وزيّهم لا يزال عالقا بخياله لنشوئه بينهم ولا سيما ما قاساه منهم فى آخر عهده بهم ، وربما كان عمال يوسف وعبيده قد سألوهم عن أمرهم قبل أن يدخلوهم عليه وأخبروه بأوصافهم والبيئة التي رحلوا منها.

(وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) لنسيانهم له بطول العهد ، وتغير شكله بدخوله فى سن الكهولة ولما كان عليه من عظمة الملك وزيّه وشارته ، وما كان من حاجتهم إلى برّه وعطفه.

١٠

فكل أولئك مما يحول دون التثبت من معارف وجهه ، ولا سيما أنهم كانوا يظنون أنه قد هلك أو طوّحت به طوائح الأيام ، ولو كانوا قد فطنوا لبعض ملامحه وتذكروه بها لربما عدوه مما يتشابه فيه بعض الناس ببعض العادات ، وبخاصة أنه لم يكن يدور بخلدهم أن أخاهم قد وصل إلى ذلك المركز السامي.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي ولما أوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله من الميرة والطعام وجهزهم بما سوى ذلك من الزاد وبما يحتاج إليه المسافرون عادة على قدر طاقتهم وبيئتهم.

(قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) هو شقيقه بنيامين ، وسبب ذلك أن يوسف ما كان يعطى لأحد إلا حمل بعير ، وقد كان إخوته عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا إن لنا أبا شيخا كبيرا وأخا آخر بقي معه ، وإن أباهم لتقدم السن به وشدة حزنه لا يستطيع الحضور ، وإن أخاهم بقي فى خدمة أبيه ، ولا بد لهما من شىء من الطعام فجهز لهما بعيرين آخرين ، وقال لهم جيئونى بأخيكم لأراه.

وفى سفر التكوين أنه كان استنبأهم عن أنفسهم متنكرا لهم ، إذ عرفهم ولم يعرفوه واتهمهم بأنهم جواسيس جاءوا ليروا عورة البلاد ، فأنكروا ذلك وأخبروه خبرهم ، فقالوا نحن عبيدك اثنا عشر أخا ونحن بنو رجل واحد فى أرض كنعان ، وهذا الصغير عند أبينا اليوم ، والواحد مفقود ، فقال لهم يوسف ، ذلك ما كلمتكم به قائلا ، جواسيس أنتم ، بهذا تمتحنون ، وحياة فرعون لا تخرجون من هنا إلا بمجىء أخيكم الصغير إلى هنا. فدعوا رهينا عندى وأتونى بأخيكم من أبيكم ، فاقترعوا فأصابت القرعة شمعون فخلفوه عنده. ثم أمر يوسف أن تملأ أوعيتهم قمحا وترد فضة كل واحد إلى عدله وأن يعطوا زادا للطريق ، ففعل لهم هكذا اه.

(أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي أتمه ولا أبخسه وأزيدكم حمل بعير لأجل أخيكم.

(وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي وأنا على هذا خير المضيفين لضيوفه ، فقد أحسن ضيافتهم وجهزهم بالزاد الكافي لهم مدة سفرهم ومن هذا يعلم أن رواية اتهامهم بالتجسس ضعيفة على كونها لا تليق بمن دون الصديق النبي وهو يعلم بطلانها ، إلا أن تكون ذريعة لغرض صحيح كاتهامهم بالسرقة.

١١

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي فإذا عدتم تمتارون لأهلكم ولم يكن معكم منعتم من الكيل فى بلادي فضلا عن إيفائه وإكماله الذي كان لكم بأمرى.

(وَلا تَقْرَبُونِ) أي ولا تقربونى بدخول بلادي فضلا عن الإحسان فى الإنزال والضيافة.

وفى ذلك إيماء إلى أنهم كانوا على نية الامتيار مرة بعد أخرى ، وأن ذلك كان معلوما عليه السلام ، والظاهر أن ما فعله معهم كان بوحي ، وإلا فالبرّ كان يقتضى أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه ، ولعل الله أراد تكميل أجر يعقوب فى محنته ، وهو الفعال لما يريد فى خلقه.

(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي سنجتهد ونختال على أن ننزعه من يده ونحوّله عن إرادته فى إبقائه عنده إلى إرادتنا وإرادتك ، ونقنعه بإرساله معنا كما تحب.

(وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ذلك لا محالة ولا نتوانى فيه.

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ) أي غلمانه الكيالين.

(اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) أي اجعلوا بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام ، وكانت نعالا وجلودا ، فى أمتعتهم من حيث لا يشعرون :

(لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) أي لكى يعرفوا لنا حق إكرامهم بإعادتها إليهم وجعل ما أعطيناهم من الغلة مجانا بلا ثمن ، إذا هم رجعوا إلى أهلهم وفتحوا متاعهم فوجدوها فيه.

ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم بقوله :

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلينا طمعا فى برنا ، فإن العوز إلى القوت من أقوى الدواعي إلى الرجوع :

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ

١٢

إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤))

الإيضاح

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي قالوا حين رجوعهم إلى أبيهم : إن عزيز مصر أصدر أمره بمنع الكيل لنا فى المستقبل إن لم نحضر معنا أخانا بنيامين فقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي).

(فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) من الطعام ما نحتاج إليه بقدر عددنا ونكون قد وفّينا له بما شرط علينا ، والعرب تقول كلت له الطعام إذا أعطيته ، واكتلت منه وعليه إذا أخذت منه أو توليت الكيل بنفسك.

(وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) فى ذهابه وإيابه ، فلا يناله مكروه تخافه ، وكأنهم كانوا يعتقدون أن أباهم لا بد أن يرفض إجابتهم خوفا عليه من أن يحدث له مثل ما حدث ليوسف بدافع الحسد من قبل ، فكان جوابه لهم ما حكى الله سبحانه عنه.

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل ، تغيّبونه عنى وتحولون بينى وبينه ، وقد قلتم مثل هذا الكلام فى يوسف إذ ضمنتم حفظه وقلتم (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ثم خنتم فى عهدكم وكذبتم فأضعتم يوسف ، فأنتم لا يوثق لكم بوعد ، ولا يطمأنّ منكم إلى عهد ، فما أشبه الليلة بالبارحة.

(فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) أي فأنا أتوكل على الله فى حفظ بنيامين لا على حفظكم.

(وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأرجو أن يرحمنى بحفظه ، ولا يبتلينى بفقده ، كما ابتلاني من قبل يفقد أخيه يوسف ، فرحمته واسعة ، وفضله عظيم.

وهذا كما ترى ، فيه ميل منه إلى الإذن والإرسال ، لما رأى من شدة الحاجة إلى ذلك ، ولأنه لم ير فيما بينهم وبين بنيامين من الحقد والحسد مثل ما شاهد بينهم وبين يوسف ، وفيه من التوكل على الله ما لا خفاء فيه.

١٣

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦))

تفسير المفردات

المتاع : ما ينتفع به والمراد هنا وعاء الطعام ، والبضاعة : ثمن ما كانوا أعطوه من الطعام ، ونمير أهلنا : أي نجلب لهم الميرة (بالكسر) وهى الطعام يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد ، كيل بعير : أي حمل جمل ، فكيل بمعنى مكيل ، ويسير : أي قليل لا يكثر على سخائه كما جاء فى قوله : «وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً» أو سهل لا عسر فيه كما فى قوله : «وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً» والموثق : العهد الموثّق ، إلا أن يحاط بكم :

أي إلا أن تغلبوا على أمركم ، أو إلا أن تهلكوا ، فإن من يحيط به العدو يهلك غالبا ، وكيل : أي مطلع رقيب ، فإن الموكّل بالأمر يراقبه ويحفظه.

الإيضاح

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) أي ولما فتحوا أوعية طعامهم وجدوا فيها ما كان أعطوه من بضاعة ونقد ثمنا لما اشتروه من الطعام ، إذ أن يوسف أمر فتيانه أن يضعوها فى رحالهم وهم لا يعلمون ذلك.

(قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي؟) أي ماذا نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الذي يوجب علينا امتثال أمره ومراجعته فى الحوائج ، وقد كانوا حدّثوا أباهم

١٤

بذلك على ما روى أنهم قالوا له إنا قدمنا على خير رجل وقد أنزلنا خير منزل وأكرم وفادتنا ولو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته.

ثم أكدوا صدق كلامهم بقولهم :

(هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) أي إن ما نقول فى وصفه ، ومزيد إحسانه ولطفه ، لنا من شواهد الحال ما هو دليل عليه ، فهذه بضاعتنا ردت إلينا تفضلا منه بعد أن أثقل كواهلنا بعظيم مننه وجميل عطفه.

وهم بهذا يؤمنون إلى أن ذلك كاف فى وجوب امتثال أمره والالتجاء إليه طلبا للمزيد من فضله ، فكل ما جئنا به على غلائه وعظم قيمته هو هبة منه وتفضل علينا.

(وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي فنحن ننتفع ببضاعتنا ونمير أهلنا بما نجلبه لهم من الميرة من مصر بلا ثمن.

(وَنَحْفَظُ أَخانا) بعنايتنا جميعا به ، على أننا لا نخشى شيئا من المخاوف التي تغلبنا عليه.

(وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أي ونزيد على ما نأخذ لأنفسنا حمل جمل يكال لأخينا ، لأن يوسف كان يكيل لكل رجل حمل بعير اقتصادا فى الطعام ، فإذا حضر بنيامين زاد حملا له.

(ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي إن حمل البعير كيل سهل لا عسر فيه على ذلك المحسن الجواد ، أو هو قليل لا يكثر على سخائه وجوده ولا يشق عليه.

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي لن أرسله معكم حتى تعطونى عهدا موثّقا بتأكيده بإشهاد الله عليه بالقسم به.

(لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي حتى تحلفوا بالله لترجعنّ به على كل حال تعرض لكم ، إلا أن تهلكوا فيكون ذلك عندى عذرا على نحو ما جاء فى قوله :

«وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ» وقوله : «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ» وقد يكون المعنى ـ إلا أن تغلبوا على أمركم وتقهروا فلا تقدرون على الرجوع.

١٥

(فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي فلما أعطوه العهد الموثق الذي اشترطه عليهم ، قال : الله شهيد على ما قاله واشترطه ، وعلى ما أجابوه به : أي إنه سبحانه رقيب عليه وأمره موكول إليه ، فهو الذي يوفق للوفاء بالوعد والصدق فيما أعطوه من عهد.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨))

الإيضاح

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) أي وقال لهم يا بنى لا تدخلوا على هذا الوزير الكريم من باب واحد من أبواب الوصول إليه ، بل ادخلوا عليه متفرقين من أبواب متعددة ، لتروا بأعينكم ما يكون من تأثير كل طائفة منكم فى نفسه وما يظهر على أسارير وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقه يدخل عليه مع طائفته ، إذ لا يعلم هذا إذا دخلوا عليه كلهم جماعة واحدة.

وقد يكون المراد لا تدخلوا عليه مجتمعين فيحسدكم الحاسدون أو يكيد لكم الكائدون ، فإذا حل بكم مكروه خشيت أن يصيبكم جميعا.

(وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي وما أدفع عنكم بتدبيري من قضاء الله شيئا ، إذ لا يغنى حذر من قدر ، وهو لا يريد إلغاء الحذر بتاتا ، فإنه تعالى أمر به وقال «خُذُوا حِذْرَكُمْ» بل يريد أن هذا التدبير إنما هو تشبث بالأسباب العادية التي

١٦

لا تؤثر إلا بإذن الله تعالى ، وأن ذلك ليس بدافع للقدر بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه إليه.

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم فى تدبير العالم ونظم الأسباب والمسببات إلا لله وحده.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه دون غيره ، ودون حولى وقوتى اعتمدت فى كل ما آتى وأذر.

وفى هذا إيماء إلى أنّ الأخذ فى الأسباب ومراعاة اتباعها لا ينافى التوكل ، وقد جاء فى الخبر «اعقلها وتوكل».

(وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) لا على أمثالهم من المخلوقين ولا على أنفسهم.

فعلى كل مؤمن أن يتخذ لكل أمر يقدم على عمله العدّة ، ويهيئ من الأسباب ما يوصل إليه على قدر طاقته ، ثم بعد ذلك يكل أمر النجاح فيه إلى الله ويطلب منه التوفيق والمعونة فى إنجازه ، فقد يكون من الأسباب ما يخفى عليه أو ما لا تصل إليه يده.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) وهى الأبواب المتفرقة.

(ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي ما كان دخولهم على هذا النهج يدفع عنهم شيئا من المكروه الذي يحول دون رجوعهم ببنيامين ، ونسبتهم إلى السرقة ، وتضاعف المصيبة على يعقوب.

(إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أي إن يعقوب كان عليما بأن الحذر لا يغنى من القدر ، ولكن كانت هناك حاجة تدور بخلده ، ما أراد أن يكاشف بها أحدا منهم وهى وراء الأسباب العادية فى الاحتياط بسلامة بنيامين والعودة به ، قضاها بوصيته لأولاده من حيث لا يفطنون لها ، وهى خوفه عليهم من العين ومن أن ينالهم مكروه من قبل ذلك.

(وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) أي وإنه لذو علم خاص به وبأمثاله من الأنبياء ، لما أعطيناه من علم الوحى وتأويل الرؤيا الصادقة ، واعتقاده أن الإنسان يجب عليه

١٧

فى كل أمر يحاوله أن يتخذ له من الأسباب ما يصل به إلى غرضه ويبلغ به إلى غايته ، ثم يتوكل بعد ذلك على الله فى تسخير ما لم يصل إليه علمه مما لا تتم المقاصد بدونه.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الواجب الجمع بين أخذ العدة والسعى فى تحقيق الأسباب الصحيحة الموصلة إلى المراد ، وبين الاتكال على الله وهو ما فعله يعقوب عليه السلام ، ولا يكفى تحقق الأسباب وحدها للحصول عليه.

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

تفسير المفردات

آوى إليه : أي ضم إليه ، والابتئاس : اجتلاب البؤس والشقاء ، والسقاية (بالكسر) وعاء يسقى به ، وبه كان يكال للناس الطعام ويقدر بكيلة مصرية ١/١٢

١٨

من الإردب المصري ، وهو الذي عبر عنه بصواع الملك ، وأذن مؤذن : أي نادى مناد ، من التأذين وهو تكرار الأذان والإعلام بالشيء الذي تدركه الأذن ، والعير : الإبل التي عليها الأحمال والمراد أصحابها ، زعيم : كفيل أجعله جزاء لمن يجىء به ، الكيد : التدبير الذي يخفى ظاهره على المتعاملين به حتى يؤدى إلى باطنه المراد منه ، ودين الملك : شرعه الذي يدين الله تعالى به.

الإيضاح

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) أي ولما دخلوا عليه فى مجلسه الخاصّ بعد دخولهم باحة القصر من حيث أمرهم أبوهم ، ضم إليه أخاه الشقيق بنيامين ، وقد حصل ما كان يتوقع يعقوب أو فوق ما كان يتوقع من الحدب عليه والعناية التي خصه بها.

(قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف الذي فقد تموه صغيرا.

(فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا يلحقنك بعد الآن بؤس أي مكروه ولا شدة بسبب ما كانوا يعملون من الجفاء وسوء المعاملة بحسدهم لى ولك.

روى أنهم قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به ، فقال لهم أحسنتم وأصبتم ، وستجدون أجر ذلك عندى ، فأنزلهم وأكرمهم ، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخى يوسف حيا لأجلسنى معه ، فقال يوسف بقي أخوكم وحيدا ، فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله ، وقال أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتا (حجرة) وهذا لاثانى له فيكون معى ، فبات يوسف يضمه إليه ويشمّ رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده ، فقال لى عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لى هلك فقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال من يجد أخا مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له : إنى أنا أخوك إلخ.

١٩

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي فلما قضى لهم حاجتهم ووفاهم كيلهم جعل الإناء الذي يكيل به الطعام فى رحل أخيه.

وفى قوله : جعل السقاية ، إيماء إلى أنه وضعها بيده ولم يكل ذلك إلى أحد من فتيانه كتجهيزهم الأول والثاني لئلا يطلعوا على مكيدته.

(ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي وقد افتقد فتيانه السقاية ، لأنها الصواع الذي يكيلون به للممتارين فلم يجدوها ، فأذن مؤذنهم بذلك أي كرر النداء به كدأب الذين ينشدون المفقود فى كل زمان ومكان قائلا :

(أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) أي يا أصحاب العير قد ثبت عندنا أنكم سارقون ، فلا ترحلوا حتى ننظر فى أمركم.

(قالُوا : وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ؟) أي قال إخوة يوسف للمؤذن ومن معه :

أي شىء تفقدون ، وما الذي ضل عنكم فلم تجدوه؟.

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) أي نفقد الصواع الذي عليه شارة الملك.

(وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي ولمن أتى به حمل جمل من القمح ، وفى هذا دليل على أن عيرهم كانت الإبل لا الحمير.

(وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي قال المؤذن وأنا كفيل بحمل البعير ، أجعله حلوانا لمن يحىء به ، سواء أكان مفقودا أم جاء به غير سارقه.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي قالوا لقد علمتم بما خبرتموه من أمرنا وسيرتنا من حين مجيئنا فى امتيارنا الأول وحين عودتنا إذ رددنا بضاعتنا التي ردت إلينا مع غيرها ، أننا ما جئنا لنفسد فى أرض مصر بسرقة ولا غيرها مما فيه تعدّ على حقوق الناس.

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) أي قال فتيان يوسف لهم فما جزاء سارقه إن كنتم كاذبين فى جحودكم للسرق وادعائكم البراءة والنزاهة؟.

٢٠