تفسير المراغي - ج ٢٤

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء الرابع والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

تفسير المفردات

مثوى : مقاما ؛ من ثوى بالمكان يثوى ثويّا وثواء : إذا أقام به ، والذي جاء بالصدق : هو الرسول صلّى الله عليه وسلم ، وصدق به هم أتباعه ، أسوأ الذي عملوا : أي ما عملوه من المعاصي قبل الإسلام ، ويجزيهم أجرهم : أي يثيبهم على الطاعات التي فعلوها في الدنيا.

٣

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف بعض هنات المشركين ، وبعض مقابحهم وأعقبه بمثل يشرح حالهم ـ أردف ذلك نوعا آخر منها ، وهو أنهم يكذبون فيثبتون لله ولدا ويثبتون له شركاء ، ويكذّبون القائل المحق ، فيكذبون محمدا بعد قيام الأدلة القاطعة على صدقة ، وبعد أن ذكر وعيد هؤلاء أعقبه بوعد الذي جاء بالصدق ، ووعد المصدقين له ، فذكر أن الله يؤتيهم من فضله الثواب ، ويمنع عنهم العقاب.

الإيضاح

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) أي لا أحد يبلغ ظلمه ظلم من افترى على الله الكذب ، فجعل معه آلهة أخرى ، أو ادعى أن الملائكة بنات الله ، وهو أيضا كذّب بالحق الذي جاء به رسوله من دعاء الناس إلى التوحيد ، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ونهيهم عن محرماته وإخبارهم بالبعث والنشور.

وفي قوله (إِذْ جاءَهُ) بيان لأنهم كذّبوا به من غير وقفة ولا إعمال رويّة بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النّصفة فيما يسمعون.

وبعد أن ذكر حالهم أردفه وعيدهم فقال :

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفروا بالله وأبوا تصديق رسوله وامتنعوا عن اتباعه فيما يدعو إليه من التوحيد والشرائع التي أنزلها عليه.

وخلاصة هذا ـ ألا يكفيهم ذلك جزاء على أعمالهم.

وبعد أن ذكر حال المكذبين ووعيدهم أردفه ذكر الصادقين المصدقين ، ومدحهم على ما فعلوا فقال :

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي والذي جاء بالصدق

٤

وهو الرسول صلّى الله عليه وسلم ، وصدّق به وهم أتباعه الذين نهجوا نهجه وساروا على طريقه ـ هم الذين اتقوا الله فوحدوه وبرئوا من الأوثان والأصنام وأدّوا فرائضه واجتنبوا نواهيه ، رجاء ثوابه وخوف عقابه.

ثم ذكر ما وعدهم به من ثواب عظيم ونعيم مقيم فقال :

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي لهم من الكرامة عند ربهم ما تشتهيه أنفسهم وتقرّبه أعينهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وذلك جزاء من أحسن عملا ، فأخلص لربه في السر والنجوى ، وراقبه فى أقواله وأفعاله ، وعلم أنه محاسب على النّقير والقطمير ، والجليل والحقير.

ثم بين سبحانه ما هو الغاية لهم عند ربهم فقال :

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) وذلك أعظم ما يرجونه من دفع الضر عنهم ؛ والنفس إذا علمت زوال المكروه عنها كان لها في ذلك سرور ولذة تعدل السرور واللذة بجلب المنافع لها.

(وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ويثيبهم بمحاسن أعمالهم ولا يجزيهم بمساويها ، وقدّم تكفير السيئات على إعطاء الثواب ، لأن دفع المضار أهم من جلب المسارّ.

وفي ذكر تكفير الأسوإ إشارة إلى استعظامهم للمعصية مطلقا لشدة خوفهم من الله ، وإلى أن الحسن الذي يعلمونه هو الأحسن عند الله لحسن إخلاصهم فيه.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ

٥

كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠))

تفسير المفردات

بكاف عبده : أي يكفيه وعيد المشركين وكيدهم ، الذين من دونه : هم الأصنام : ذى انتقام : أي مما عاداه وعادى رسوله.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يؤتى المؤمنين ما يشاءون في الجنة ويكفر عنهم سيئاتهم ـ أردف ذلك بيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمهم ، ولا يضيرهم ما يخوّفونهم به من غضب الأوثان والأصنام ، فإن الأمور كلها بيده تعالى ؛ فمن يضلله فلا هادى له ، ومن يهده فلا مضل له ، وهو ذو العزة المنتقم الجبار. ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم ، فحين تسألهم من خلق السموات والأرض يقولون الله؟ وهم مع ذلك يعبدون غيره ، ثم سألهم سؤال تعجيز : هل ما تعبدونه من وثن أو صنم يستطيع أن يكشف ضرا أراده الله بأحد ، أو يمنع خيرا قدره الله لأحد؟ إذا فالله حسبى وعليه أتوكل.

وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم ـ أمره سبحانه أن يقول لهم : اعملوا كما تشاءون ، وعلى نحو ما تحبون ، إنى عامل على طريقتى ، ويوم الحساب ترون المحق من المبطل ، ومن سيحل به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.

٦

الإيضاح

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟) أي الله وحده هو الذي يدفع عن عباده الآفات : ويزيل عنهم المصايب والويلات ، ويعطيهم جميع المشتهيات ، والمراد أنه يكفى من عبده وتوكل عليه.

وأتى بالكلام على طريق الأسلوب الإنكارى للإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه ، كأنها من الظهور بحيث لا يتيسر لأحد أن ينكرها.

ثم رتب على ذلك ما هو كالنتيجة لما سلف فقال :

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي ويخوفك المشركون بغير الله من الأوثان والأصنام عبثا وباطلا ، لأن كل نفع أو ضر فلا يصل إلا بإرادته تعالى. وقد روى أنهم خوّفوا النبي صلّى الله عليه وسلم مضرة الأوثان فقالوا : أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عن ذكرها لتخبلنّك أو تصيبنّك بسوء. وقال قتادة : مشى خالد بن الوليد إلى العزّى ليكسرها بالفأس ، فقال له سادتها : أحذّركها يا خالد ، فإن لها شدة لا يقوم لها شىء ، فعمد خالد إلى العزّى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس اه.

وفي الآية إيماء إلى أنه سبحانه يكفى نبيه صلّى الله عليه وسلم دينه ودنياه ، ويكفى أتباعه أيضا ، ويكفيهم شر الكافرين.

ونحو الآية قوله : «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ» وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم : «وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟».

ثم أبان شديد جهلهم لتوعدهم بما لا يضر ولا ينفع فقال :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يضلله الله لتدسيته نفسه وحبه للاثم والفسوق ومعصية الرسول ، فما له من هاد يهديه إلى الرشاد ويخلّصه من الضلال.

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) أي ومن يوفقه الله إلى أسباب السعادة بتزكية

٧

نفسه وتحبيبها إلى صالح العمل ، فلا مضل له يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يغيّر سلوكه ؛ إذ لا رادّ لفعله ، ولا معارض لإرادته ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) أي الله عزيز لا يغالب ، ومنيع لا ينازع ولا يمانع ، وذو انتقام من أعدائه لأوليائه ، فهو الذي لا يضام من استند إلى جنابه ، أو لجأ إلى بابه.

ثم أقام الدليل على غفلتهم وشديد جهلهم في عبادتهم للأصنام والأوثان مع تفرده تعالى بالخالقية لكل شىء وعدم خلقها شيئا فقال :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي إن هؤلاء المشركين يقرون بوجود الإله العالم الحكيم لوجود الدليل ، ووضوح السبيل الذي لا يمكن إنكاره ، فإذا هم سئلوا اعترفوا به ، وإذا كان كذلك فكيف ساغ لهم عبادة غير الخالق أو تشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الفطنة ، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم ، وأحسنوا الظن بهم ، هجروا ما يقتضيه العقل ، وعملوا بما هو محض الجهل.

ثم أمر سبحانه رسوله أن يبكتهم ويوبخهم بعد هذا الاعتراف فقال :

(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟) أي أخبرونى عن آلهتكم هذه ، هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر أو منع ما أراده لى من الخير؟ وإذا لم تكن لها قدرة على شىء فلا ينبغى التعويل عليها ولا الكدّ في عبادتها ، بل نعبد الإله القادر الذي تكون عبادته كافية جلب السراء ودفع الضراء.

قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلّى الله عليه وسلم فسكتوا. وقال غيره : قالوا لا تدفع شيئا من قدر الله ولكنها تشفع فنزل قوله :

(قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) فى جميع أمورى من جلب نفع أو دفع ضر ، فلا أخاف شيئا من أصنامكم التي تخوفوننى بها.

٨

(عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي عليه لا على غيره يعتمد العاملون.

وفي الحديث «من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عز وجل أوثق منه بما في يديه ، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل».

وروى عن ابن عباس أنه قال : «احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يكتبه الله عليك لم يضروك ، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشىء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك ، رفعت الأقلام وجفّت الصحف ، واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا».

ونحو الآية قول هود عليه السلام : «إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» حين قال له قومه : «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ».

ولما أورد عليهم الحجة التي لا دافع لها أمر رسوله أن يقول لهم على وجه التهديد :

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي اعملوا على ما أنتم تعتقدون في أنفسكم من القوة والشدة واجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإنى عامل أيضا في تقرير دينى والسعى في نشره بين الناس ، فسوف تعلمون أن العذاب والخزي في الدنيا يصيبنى أو يصيبكم ، فيظهر حينئذ أيّنا المبطل أنا أو أنتم ، ويحل علىّ العذاب المقيم الدائم في الآخرة أو عليكم.

٩

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥))

المعنى الجملي

بعد أن حاجّهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى ـ سلاه على إصرار هم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه كما قال : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقال : «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» وأزال عن قلبه الخوف فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق وأنه ليس عليه إلا إبلاغه ، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه ، ومن ضل فضير ضلاله عليه ، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى.

ثم ذكر أنه تعالى يقبض الأرواح حين انقضاء آجالها ويقطع صلتها بها ظاهرا وباطنا ، وظاهرا فقط حين النوم ، فيمسك الأولى ولا يردها إلى البدن ، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة ، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر.

١٠

ثم أبان أن هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئا ولا تعقل شيئا ، فكيف تشفع؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم وأنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده ظهرت آثار النفرة في وجوههم ، وإذا ذكرت الأصنام ظهرت علامات الفرح والسرور فيها ، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد.

الإيضاح

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) أي إنا أنزلنا إليك القرآن بالحق لتبلّغه للانس والجن مبشرا برحمة الله ، ومنذرا بعقابه ، وفيه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم والهادي لهم إلى الصراط المستقيم.

(فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) أي فمن عمل بما فيه واتبعه فإنما بغى الخير لنفسه ، إذ أكسبها رضا خالقها ، وفاز بالجنة ونجا من النار.

(وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن حاد عن البيان الذي بيناه لك ، فضّل عن الحجة ، فإنما يجور على نفسه ، وإليها يسوق العطب والهلاك ، لأنه يكسبها سخط الله وأليم عقابه في دركات الجحيم «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنت أيها الرسول برقيب على من أرسلت إليهم ترقب أعمالهم وتحفظ عليهم أفعالهم ، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.

ونحو الآية قوله : «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» وقوله : «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ».

ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته البالغة ، وصفته العجيبة فقال :

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي الله هو الذي يقبض الأنفس حين انقضاء آجالها بالموت ، ويقطع تعلقها بالأجساد تعلق المتصرّف فيه.

١١

(وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى الأنفس التي لم يحضر أجلها ، فيقبضها عن التصرف في الأجساد مع بقاء الأرواح متصلة بها.

(فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) أي فيمسك التي قضى عليها الموت فلا يردها إلى الأجساد.

(وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ويرسل النائمة إلى الأجساد حين اليقظة إلى أجل مسمى وهو وقت الموت.

روى عن ابن عباس أنه قال : إن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح هى التي بها النفس والتحريك ، فيتوفيان عند الموت ، وتتوفى النفس وحدها حين النوم.

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره (طرفه الذي يلى الجسد ويلى الجانب الأيمن) فإنه لا يدرى ما خلفه عليه ، ثم ليقل باسمك ربى وضعت جنبى ، وباسمك أرفعه ، إن أمسكت نفسى فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين».

وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود وابن أبى شيبة عن أبى قتادة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي : ان الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء ، وردّها عليكم حين شاء».

وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم فى سفر فقال : من يكلؤنا الليلة؟ فقلت أنا ، فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحرّ الشمس ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : أيها الناس إن هذه الأرواح عارية فى أجساد العباد ، فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء».

وأخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال :

١٢

العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء ولم يخطر على باله فتكون رؤياه كأخذ باليد ، ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا! فقال علىّ كرم الله وجهه ، أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ يقول الله تعالى : «اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» فالله يتوفى الأنفس كلها ، فما رأت وهى عنده سبحانه في السماء فهى الرؤيا الصادقة ، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهى الكاذبة ، لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها ، وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها ، فعجب عمر من قوله رضى الله عنهما اه.

ومن هذا تعلم أن النفس علويّة هبطت من المحل الأرفع ، وشغلت بتدبير منزلها فى ليلها ونهارها ، ولا تزال تنتظر العود إلى ذيّاك الحمى ، فحين النوم تنتهز الفرصة ، فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور ، وتستعد لقبول بعض آثاره ، والاستضاءة بشىء من أنواره ؛ فمتى رأت وهى في تلك الحال فاضت عليها أنواره فكانت الرؤيا صادقة ، ومتى رأت وهى راجعة القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام ، وتزدحم فيه أىّ ازدحام ، كانت رؤياه كاذبة ، وهى في كلتا الحالين متفاوتة بحسب الاستعداد ؛ والله ولى التوفيق ، ومنه الهداية لأقوم طريق.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر لآيات عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته لمن يتفكر في طريق تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها بانقطاع تصرفها حين الموت مع بقائها في عالم آخر إلى أن يعيد الله الخلق ، وفي قطع تصرفها فى الظاهر فقط في حال النوم ، ثم إرسالها حال اليقظة إلى انقضاء آجالها.

ثم أنكر على المشركين اتخاذ الأصنام شفعاء ، فقال :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) أي بل اتخذ المشركون آلهتهم التي يعبدونها لتشفع لهم عند الله في قضاء حاجاتهم؟.

١٣

وإجمال المعنى ـ إنه لا ينبغى لهم ذلك ، إذ لا يخطر على بال عاقل فائدة لهذا ، ومن ثم أمر رسوله أن يتهكم بهم ويحمّقهم على ما يفعلون فقال :

(قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) أي قل لهم أيها الرسول : أتتخذونهم شفعاء كما تزعمون ، ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا ، ولا يعقلون أنكم تعبدونهم.

ثم أمر رسوله أن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده فقال :

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) فليس لأحد منها شىء إلا بإذنه لمن ارتضى كما قال : «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟» وقال : «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» والخلاصة ـ إنه تعالى مالك الشفاعة كلها ، لا يستطيع أحد أن يشفع لديه إلا أن يكون المشفوع له مرتضى والشفيع مأذونا له ، وكلاهما ليس بموفور لهؤلاء.

ثم بين العلة في أن الشفاعة جميعا له فقال :

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له السلطان في السموات والأرض ، وكل من فيها ملك له ، ومنها ما تعبدون من دونه ، فاعبدوا مالك الملك كله الذي لا يتصرف أحد فى شىء منه إلا بإذنه ورضاه.

(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي ثم إليه مصيركم بعد البعث وهو معاقبكم على إشراككم به سواه إن أنتم متم على هذه الحال.

وخلاصة ذلك اعبدوا من يقدر على نفعكم في الدنيا وعلى صركم فيها ، وفي الآخرة بعد مماتكم يجازيكم بما قدمتم من عمل ، خيرا كان أو شرا.

ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الذي تقشعرّ منه الجلود خشية.

ثم ذكر هفوة من هفواتهم التي تصدر منهم ، وتدل على غفلة عظيمة وتناقض بين الاعتراف بالألوهية والإنكار لها فقال :

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَإِذا ذُكِرَ

١٤

الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الاشمئزاز أن يمتلىء القلب غيظا وغما ينقبض عنهما أديم الوجه كما يرى في وجه العابس المحزون ، والاستبشار أن يمتلىء القلب سرورا فتنبسط له بشرة الوجه.

أي إنه إذا قيل لا إله في الكون إلا الله وحده نفرت قلوب أولئك المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث والمعاد بعد الموت ، وإذا ذكرت الآلهة التي يدعونها من دون الله فقيل : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ؛ إن استبشروا وفرحوا لفرط افتنانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى.

قال ابن عباس في الآية : اشمأزت قست ونفرت قلوب هؤلاء الأربعة الذين لا يؤمنون بالآخرة أبو جهل بن هشام والوليد بن عتبة وصفوان وأبىّ بن خلف اه ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم : «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً».

قال السيد الآلوسى في تفسيره ناعيا حال المسلمين اليوم : وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق أهواءهم ومعتقداتهم فيهم ، ويعظمون من يحكم لهم ذلك ، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل ، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله ، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره ، وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات ، وينادى يا فلان أغثنى ، فقلت له : قل يا الله فقد قال سبحانه : «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» فغضب وبلغني أنه قال : فلان منكر على الأولياء ، وسمعت من بعضهم أنه قال : الولي أسرع إجابة من الله عز وجل ، وهذا من الكفر بمكان ، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان ا ه

١٥

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عن المشركين حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد ـ أمر رسوله بالالتجاء إليه لما قاساه في أمر دعوتهم من شديد مكابرتهم وعنادهم ، تسلية له ، وبيانا لأن سعيه مشكور ، وجدّه معلوم لديه ، وتعليما لعباده أن يلجئوا إليه حين الشدة ، ويدعوه بأسمائه الحسنى ، ثم ذكر أحوالهم يوم القيامة حين يرون الشدائد والأهوال وما ينتظرهم من العذاب.

الإيضاح

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي قل : يا الله يا مبدع السموات والأرض. ويا عالم ما غاب عنا وما تشهده العيون والأبصار ، أنت تحكم بين عبادك فتفصل بينهم بالحق ، يوم تجمعهم لفصل القضاء فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا من القول فيك وفي عظمتك وسلطانك ، فتقضى بيننا وبين المشركين الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم ، وإذا ذكر من دونه استبشروا وفرحوا.

أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت : «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته : اللهم ربّ جبريل

١٦

وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم.

وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال : «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلمنا أن نقول : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت رب كل شىء وإله كل شىء ، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك والملائكة يشهدون ، أعوذ بك من الشيطان وشركه ، وأعوذ بك أن أقترف على نفسى إثما أو أجرّه إلى مسلم».

قال أبو عبد الرّحمن رضى الله عنه : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلم عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما أن يقول ذلك حين يريد أن ينام.

وقال أبوبكر الصديق : «أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت ، وإذا أخذت مضطجعى من الليل : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شىء ومليكه ، أعوذ بك من شر نفسى وشر الشيطان وشركه ، أو أقترف على نفسى سوءا أو أجره إلى مسلم» رواه الترمذي.

وبعد أن ذكر معتقداتهم الفاسدة ذكر في وعيدهم أمورا :

(١) (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولو أن هؤلاء المشركين ملكوا كل ما في الأرض من الأموال وملكوا مثله معه ، وقبل ذلك منهم يوم القيامة لافتدوا به أنفسهم من أهوال ذلك العذاب الشديد الذي سيعذبون به ، وقد تقدم إيضاح هذا في سورة آل عمران.

(٢) (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي وظهر لهم من عذاب الله الذي أعدّه لهم ما لم يكن في حسبانهم ولم يحدّثوا أنفسهم به.

وفي هذا وعيد عظيم لهم وتهديد بالغ غاية لاغاية وراءها.

قال مجاهد : عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هى سيئات ، وقال عكرمة بن

١٧

عمار : جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا فقيل له : ما هذا الجزع؟ قال أخاف آية من كتاب الله (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فأنا أخشى أن يبدو لى ما لم أكن أحتسب.

(٣) (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وظهر لهم حين تعرض عليهم صحائف أعمالهم ما كانوا اجترحوه من السيئات وارتكبوه من الآثام وعلموا أنهم مجازون على النقير والقطمير ، وأحاط بهم العذاب من كل جانب ، وأيقنوا أنهم مواقعوه لا محالة ؛ لاستهزائهم بما كان ينذرهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

المعنى الجملي

بعد أن حكى عن المشركين بعض هنواتهم الفاسدة ـ حكى عنهم هناة أخرى هى أنهم حين الوقوع في الضر من أفقر ومرض يفزعون إلى الله ويلجئون إليه علما منهم أنه لا دافع له إلا هو ، وإذا نالتهم بعض النعم من فضله زعموا أن ذلك بكسبهم ، وحسن صنيعهم ، وجميل تدبيرهم ، والحقيقة أن ما أوتوه إنما هو فتنة لهم واختبار لحالهم ، ليعلم أيشكرون على ما حباهم به من النعم أم يكفرون ، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.

١٨

وما هذه المقالة ببدع منهم بل قالها كثير قبلهم فلم ينفعهم ذلك شيئا ، ثم ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد الله يبسطه تارة ويقبضه أخرى ، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما ، فإنا نرى كثيرا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه فى ضيق شديد ، وكثيرا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش ورغد عظيم منه.

الإيضاح

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن أمر المشرك عجيب يدعو إلى الدهشة والحيرة ، فإذا هو أصيب بضر من فقر أو مرض جأر إلى الله واستعان به لكشف ذلك الضر عنه ـ وإذا تغيرت الحال ونال شيئا من الرخاء أو زال عنه ما به من العلة قال : إنما أوتيت هذا لعلمى بوجوه المكاسب وجدى واجتهادي أو لذهابى إلى الأطباء واهتمامي بالعلاج فلم أدخر دواء نافعا إلا بذلت نفيس المال للحصول عليه.

وهذا منه تناقض عجيب ، ففى الحال الأولى يستغيث بربه ، وفي الحال الثانية ينسب السلامة إلى نفسه ويقطع صلتها عن المنعم بها الذي أوجدها وأرادها ، وفي الحق إن ما أعطيه من النعم إنما هو فتنة واختبار لحاله ، أيشكر أم يكفر ، أيطيع أم يعصى؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج من الله وامتحان لهم ، ومن ثم يقولون ما يقولون ، ويدّعون من الدعاوى ما لا يفقهون.

ثم بين أن هذه مقالة ليست وليدة أفكارهم بل سبقهم بها كثير ممن قبلهم فقال :

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي قد زعم مثل هذا الزعم وادعى مثل هذه الدعوى كثير ممن سبقهم من الأمم ، فلم يغن عنهم شيئا ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا ويجمعون من حطامها حين جاءهم أمر ربهم على تكذيبهم رسله واستهزائهم بهم.

١٩

ثم بين ما سلف فقال :

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي فحلّ بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال ، فعوجلوا بالخزي في الدنيا كالخسف الذي لحق بقارون ، والصاعقة التي نزلت بقوم لوط ، وسيصيبهم النكال الدائم في الآخرة.

ثم أوعد سبحانه مشركى قومه على ما سينالهم في الدنيا والآخرة فقال :

(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي والذين كفروا بالله من قومك وظلموا أنفسهم سيصيبهم أيضا وبال السيئات التي اكتسبوها ، كما أصاب الذين من قبلهم ، فأصابهم القحط سبع سنين متوالية وقتل صناديدهم يوم بدر ، وأسر منهم العدد الكثير.

(وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي وما هم بفائتين الله هر با يوم القيامة ، بل مرجعهم إليه ويصنع بهم ماشاء من العقوبة.

ثم أقام سبحانه الدليل على عظيم قدرته وبديع حكمته فقال :

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟) أي أولم ير هؤلاء المشركون أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارة ، ويضيق على من يريد أخرى ، كما يشاهد من اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه ، وليس ذلك لجهل في الكاسب أو علم لديه ، فربما كان العاقل القادر ضيق الرزق ، والجاهل أو المريض ذا سعة وبسطة في المال.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في هذا لدلالات لقوم يؤمنون بالله ويقرون بوحدانيته ، وهم الدين يعلمون أن الذي يفعل ذلك هو الله لا سواه.

وإنما خص المؤمنين بذلك ، لأنهم المنتفعون بالآيات ، المتفكرون فيها.

٢٠