تفسير المراغي - ج ٩

أحمد مصطفى المراغي

الطائر الأول السانح ، والثاني البارح ، وسموا الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيرا. الطوفان لغة : ما طاف بالشيء وغشيه ، وغلب فى طوفان الماء سواء كان من السماء أو الأرض ، والقمل (بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة) هو السوس الذي يخرج من الحنطة ، وقيل هو صغار الجراد ، وقال الراغب : هو صغار الذباب ، والدم : هو الرعاف وقيل هو دم كان يحدث فى مياه المصريين.

المعنى الجملي

بعد أن حكى سبحانه وعد موسى لقومه بقوله ـ عسى ربكم أن يهلك عدوكم ـ ذكر هنا مبادئ الهلاك الموعود به بما أنزله على فرعون وقومه من المحق حالا بعد حال ، إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال ، تنبيها للسامعين وزجرا لهم عن الكفر وتكذيب الرسل ، حذر أن ينزل بهم من الشر مثل ما نزل بهؤلاء.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي إنه تعالى أخذ آل فرعون بالجدب وضيق المعيشة لعلهم يتذكرون ضعفهم أمام قوة الله وعجز ملكهم العالي الجبار وعجز آلهتهم ، ليرجعوا عن ظلمهم لبنى إسرائيل ويجيبوا دعوة موسى عليه السلام ، إذ قد دلت التجارب على أن الشدائد ترقّق القلوب وتهذب الطباع ، وتوجه النفوس إلى مناجاة الرب سبحانه والعمل على مرضاته والتضرع له دون غيره من المعبودات متى اتخذوها وسائل إليه وشفعاء عنده.

فإن لم تجد المصايب فى تذكر المولى وبلغ الأمر بالناس أن يشركوا به حتى فى أوقات الشدائد فهم فى خسران مبين وضلال بعيد ، وكذلك كان دأب آل فرعون بعد أن أنذرهم موسى عليه السلام.

ثم بيّن أن المصايب لم تفدهم ذكرى ، بل زادتهم عتوا فقال :

٤١

(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أي فإذا جاءهم خصب وثمار ومواش وسعة فى الرزق والعافية قالوا لنا هذه أي نحن المستحقون لها بما لنا من التفوق على الناس فبلادنا بلاد خصب ورخاء ، وقد غاب عنهم أن يعلموا أن هذا من الله فعليهم أن يشكروه عليه ويقوموا بحق النعمة فيه ـ وإن أصابهم قحط وجدب ومرض وبلاء تشاءموا بموسى ، وقالوا إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه وغفلوا عن سيئات أنفسهم وظلمهم لقوم موسى توهما منهم أن ذلك حق من حقوقهم.

ومثل هذه المعاملة هى التي يحب أن يعامل بها الأجنبى فى الوطن والدين كما هى الحال الآن فى معاملة أهل المغرب للبلاد الشرقية المستعمرة لهم.

(أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وتقديره وهو الذي وضع لنظام الكون سننا تكون فيه المسببات وفق أسبابها ، وبمقتضى هذه السنن والأقدار ينزل عليهم البلاء ويكون امتحانا واختبارا لهم ليتوبوا ويرجعوا عن ظلمهم وبغيهم على بنى إسرائيل وعن طغيانهم وإسرافهم فى جميع أمورهم ، ولكن أكثرهم لا يعلمون حكمة تصرف الخالق فى هذا الكون ولا أسباب الخير والشر ، ولا أن كل شىء فيه جاء بمشيئته وتدبيره.

وبعد أن ذكر أن هذه الحسنات والسيئات لم تردعهم عما هم فيه من الطغيان ـ ذكر أنه أصابهم بضروب أخرى من العذاب وهى فى أنفسها آيات بينات ـ وهم مع ذلك لم يرعوا عن كفرهم وعنادهم.

(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي إنك إن جئتنا بكل نوع من أنواع الآيات التي يستدل بها على أنك محق فى دعوتك ، لأجل أن تسحرنا بها وتصرفنا بها بدقة ولطف عما نحن فيه من ديننا ومن تسخيرنا لقومك فى خدمتنا ، فما نحن بمصدقين لك ولا بمتبعين رسالتك.

٤٢

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي فأرسلنا عليهم عقوبة على جرائمهم تلك المصايب والنكبات ، وهى آيات بينات على صدق رسالة موسى ، إذ قد توعّدهم بوقوع كل واحدة منها على وجه التفصيل ، لتكون دلالتها على صدقه واضحة لا تحتمل تأويلا بأنها وقعت لأسباب لا ارتباط لها برسالته ، فاستكبروا عن الإيمان بها لرسوخهم فى الإجرام والإصرار على الذنوب وإن كانوا يعتقدون صدق دعوته وصحة رسالته.

وقد عدد سبحانه هنا من الآيات خمسا وفى سورة الإسراء تسعا وهى :

(١) الطوفان فقد نزلت عليهم أمطار أغرقت أرضهم وأتلفت زرعهم وثمارهم ، وجاء وصفها فى التوراة ؛ ففى الفصل التاسع فى سفر الخروج (ثم قال الرب لموسى : بكّر فى الغداة وقف بين يدى فرعون وقل له : كذا قال الرب إله العبرانيين : أطلق شعبى ليعبدونى ، فإنى فى هذه المرة منزّل جميع ضرباتى على قلبك وعلى عبيدك وشعبك ، لكى تعلم أنه ليس مثلى فى جميع الأرض ، وأنا الآن أمد يدى وأضربك أنت وشعبك بالوباء فتضمحل من الأرض ، غير أنى لهذا أبقيك لكى أريك فوتى ولكى يخبر باسمي فى جميع الأرض ، وأنت لم تزل مقاوما لشعبى ، ها أنا ممطر فى مثل هذا الوقت من غد بردا عظيما جدا لم يكن مثله فى مصر منذ يوم أسست إلى الآن.

ثم ذكر فيها وقوع البرد مع نزول نار من السماء ، ووصف عظمته وشموله لجميع بلاد مصر وأن فرعون طلب موسى وهارون واعترف لهما بخطئه وطلب مهما أن يشفعا إلى الرب ليكفّ هذه النكبة عن مصر ووعدهما بإطلاق بنى إسرائيل وجاء فى ختام هذا الفصل.

فخرج موسى من المدينة من لدن فرعون وبسط يديه إلى الرب فكفّت الوعود ولم يعد المطر يهطل على الأرض.

(٢) الجراد وقد ذكر فى التوراة بعد الطوفان ، فقد جاء فيها (إن فرعون فسا قلبه فلم يطلق بنى إسرائيل فأخبر الرب موسى فأمره بأن ينذره بإرسال الجراد عليهم

٤٣

فيأكل كل ما سلم من النبات والشجر ويملأ بيوته وبيوت عبيده وسائر بيوت المصريين ففعل ـ فرضى فرعون أن يذهب الرجال من بنى إسرائيل ليعبدوا ربهم دون النساء والأولاد والمواشي ، فرد موسى عصاه بأمر الرب على أرض مصر فأرسل الرب ريحا شرقية ساقت الجراد على أرض مصر فغطى جميع وجه الأرض حتى أظلمت الأرض وأكل عشبها وجميع ما تركه البرد من ثمر الشجر حتى لم يبق شىء من الخضرة فى الشجر ولا فى عشب الصحراء فى جميع أرض مصر ؛ وجاء فيها : إن فرعون استدعى موسى وهارون واعترف لهما بخطئه وطلب منهما الصفح والشفاعة إلى الرب إلهما أن يرفع عنه هذه التّهلكة ففعلا فأرسل الله ريحا غربية فحملت الجراد كله فألقته فى بحر القلزم.

(٣) القمّل : وهو صغار الذباب ـ وقد جاء فى التوراة ـ إن البعوض والذباب كان من الضربات العشر التي ضرب الرب بها فرعون وقومه ليرسلوا بنى إسرائيل مع موسى ؛ ففى الفصل الثامن من سفر الخروج : إن موسى أنذر فرعون أن الذباب سيدخل بيوته وبيوت عبيده وسائر قومه فيفسدها ولا يدخل بيوت بنى إسرائيل المقيمين فى أرض جاسان وأن ذلك وقع وفسدت الأرض من تأثير الذباب.

(٤) الضفادع : وفى سفر الخروج ـ وقال الرب لموسى : ادخل على فرعون وقل له كذا قال الرب ـ أطلق شعبى ليعبدونى وإن أبيت أن تطلقهم فهأنذا ضارب جميع تخومك بالضفادع فيفيض النهر ضفادع فتصعد وتنتشر فى بيتك وفى مخدع فراشك وعلى سريرك وفى بيوت عبيدك وشعبك وفى تنانيرك ومعاجنك إلخ. وكذلك كان ـ وفيها : إن فرعون طلب من موسى أن يشفع له عند ربه برفع الضفادع فأجابه إلى ذلك قال : ففعل الرب كما قال موسى وماتت الضفادع من البيوت والأقبية والحقول فجمعوها أكواما وأنتنت الأرض منها.

(٥) الدم : فقد كانت مياه المصريين تتحول إلى دم ، وقد جاء فى الفصل السابع من سفر الخروج : «إن الرب أمر موسى أن ينذر فرعون ذلك ففعل ، ثم قال الرب

٤٤

لموسى قل لهرون : خذ عصاك ومد يدك على مياه المصريين وأنهارهم وخلجهم ومنافعهم وسائر مجامع مياههم فتصير دما ، ويكون دم فى جميع أرض مصر وفى الخشب وفى الحجارة» وفيها أن موسى وهارون فعلا ذلك وأن سمك النهر مات وأنتن النهر فلم يستطع المصريون أن يشربوا منه.

هذه هى الآيات الخمس التي أيد الله بها رسوله موسى عليه السلام وليس فيها ما ينفى ما فى التوراة ولا ما يؤيدها ، وعلينا أن نقف عند ما أثبته القرآن فحسب دون زيادة عليه.

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦))

تفسير المفردات

الرجز : العذاب الذي يضطرب له الناس فى شئونهم ومعايشهم ، وذلك شامل لكل نقمة وجائحة أنزلها الله على قوم فرعون كالخمس التي ذكرت قبل ، والعهد : النبوة والرسالة ، والنكث لغة : نقض ما غزل أو ما فتل من الحبال ثم استعمل فى الحنث فى العهود والمواثيق ، واليمّ : البحر فى اللغة المصرية الموافقة للغة العربية فى كثير من مفرداتها مما يدل على أن أصل الأمتين واحد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه الآيات الخمس التي سبق ذكرها بيّن هنا ما كان من أثرها فى نفوس المصريين جميعا وطلبهم من موسى أن يرفع الله عنهم العذاب ، فإذا هو فعل

٤٥

آمنوا به ، ثم تبين نكثهم وخلفهم للوعد كل مرة حدث فيها الطلب حتى حل بهم عذاب الاستئصال بالغرق فى البحر.

الإيضاح

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ولما وقع ذلك العذاب الذي ذكره فى الآية السالفة اضطربوا وفزعوا أشد الفزع وقالوا حين نزول كل نوع بهم : يا موسى ادع لنا ربك وتوسّل إليه بعهده عندك ورسالته لك أن يكشف عنا هذا الرجز ، ونحن نقسم لك لئن كشفته عنا لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بنى إسرائيل. وفى التوراة : إن فرعون كان يقول لموسى حين نزول كل آية منها : ادع لنا ربك واشفع لنا عنده أن يرفع عنا هذه ، ويعده بأن يرسل معه بنى إسرائيل ليعبدوا ربهم ويذبحوا له ثم ينكث.

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي فلما كشفنا عنهم العذاب مرة بعد أخرى إلى أجل هم بالغوه ومنتهون إليه وهو الغرق الذي هلكوا فيه ـ إذا هم ينكثون عهدهم ويحنثون فى قسمهم فى كل مرة.

والخلاصة ـ إنه كشف العذاب عنهم إلى حين من الزمان هم واصلون إليه ولا بد فمعذبون فيه أو مهلكون وهو وقت الغرق كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي فانتقمنا منهم عند بلوغ الأجل المضروب لهم بأن أغرقناهم فى البحر ، وذلك بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم تفكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها.

والخلاصة ـ إنهم كانوا يظهرون الإيمان عند كل آية من آيات العذاب ثم يكذبون ، حتى إذا انقضى الأجل المضروب لهم انتقمنا منهم بسبب أنهم كذبوا بها

٤٦

كلها وكانوا غافلين عما يعقبها من العذاب فى الدنيا والآخرة ، إذ كانت فى نظر الكثير منهم من قبيل السحر والصناعة ، ومن ثم كانوا يكابرون أنفسهم فى كل آية منها ويحاولون أن يأتى سحرتهم وعلماؤهم بمثلها.

ومنهم من اهتدى إلى الحق وظهر له صدقه فآمن به جهرة ككبار السحرة ، ومنهم من كتم إيمانه كالذى عارض فرعون وملأه بالحجة والبرهان فى قتل موسى كما جاء فى سورة غافر ، ومنهم من جحد بها كبرا وعلوا فى الأرض كفرعون وأكابر وزرائه ورؤسائه.

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧))

تفسير المفردات

مشارق الأرض ومغاربها : يراد بها جميع نواحيها والمراد بها أرض الشام ، وتمام الشيء : وصوله إلى آخر حده ، وكلمة الله : هى وعده لبنى إسرائيل بإهلاك عدوهم واستخلافهم فى الأرض : «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ» والتدمير : إدخال الهلاك على السالم ، والخراب على العامر ، والعرش : رفع لنبانى والسقائف للنبات والشجر المتسلّق كعرائش العنب : ومنه عرش الملك.

المعنى الجملي

بعد أن بيّن سبحانه ما حل بالمصريين من الغرق عقوبة لهم على تكذيبهم بموسى بعد وجود الآية تلو الآية الدالة على صدقه ـ ذكر هنا ما فعله ببني إسرائيل من الخيرات

٤٧

إذ أصبحوا أعزة بعد أن كانوا أذلة ، وملكوا الأرض المقدسة التي بارك الله فيها ، وهى بلاد الشام.

الإيضاح

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون فى مصر بقتل الأبناء واستحياء النساء وأخذ الجزية واستعمالهم فى الأعمال الشاقة ، الأرض التي باركنا فيها بالخصب والخير الكثير ، مشارقها من حدود الشام ، ومغاربها من حدود مصر تحقيقا لما وعدنا به : «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ».

وعن كعب الأحبار أنه قال : إن الله بارك فى الشام من الفرات إلى العريش ، ويؤيد ذلك قوله فى إبراهيم عليه السلام : «وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» وقوله : «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها».

(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) أي ونفذت كلمة الله ومضت على بنى إسرائيل تامة كاملة بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وقد كان وعد الله تعالى إياهم مقرونا بأمرهم بالصبر والاستقامة كما أمرهم نبيهم عليه السلام مبلّغا عن ربه «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا» ومن قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه ، ومن قابله بالصبر ضمن الله له الفرج ، وقد تم وعد الله تعالى لهم بذلك ، ثم سلبهم تلك الأرض بظلمهم لأنفسهم وللناس ولم يكن من مقتضى الوعد أن يعودوا إليها مرة أخرى.

٤٨

(وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) أي وخرّبنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المبانى والقصور التي كانوا يبنونها للمصريين ، والمكايد السحرية والصناعية التي كان يصنعها السحرة لإبطال آياته والتشكيك فيها كما قال تعالى «إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ» وما كانوا يعرشون من الجنات والبساتين.

وأسباب هذا التدمير لتلك المصانع والعروش أمور :

(١) الآيات التي أيد الله تعالى بها موسى من الطوفان والجراد وغيرها ، وسمتها التوراة : الضربات العشر.

(٢) إنجاء بنى إسرائيل وحرمان فرعون وقومه من استعبادهم فى أعمالهم.

(٣) هلاك من غرق من قوم فرعون وحرمان البلاد وسائر الأمة من ثمرات أعمالهم فى العمران ، وقد أنذرهم موسى عاقبة ذلك فكذبوا بالآيات وأصرّوا على الجمود والعناد فظلموا أنفسهم وما ظلمهم الله.

ووجه العبرة فى هذه الآيات ما كان للايمان فى قلب موسى وهارون من التأثير ، إذ تصديا لأكبر ملك فى أكبر دولة فى الأرض استعبدت قومه فى خدمتها عدة قرون ، وما زال يكافحانه بالحجج والآيات حتى أظفرهما الله تعالى به وأنقذا قومهما من ظلمه ، ولهذا يجدر ألا تستعظم قوة الدول الظالمة أمام قوة الحق كما قال : «إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ» وقال : «وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ».

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ

٤٩

أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١))

تفسير المفردات

جاز الشيء وجاوزه وتجاوزه : عدّاه وانتقل عنه ، والعكوف على الشيء : الإقبال عليه وملازمته تعظيما له ، والأصنام واحدها صنم : وهو ما يصنع من الخشب والحجر أو المعدن مثالا لشىء حقيقى أو خيالى ليعظّم تعظيم العبادة ؛ وقد اتخذ بعض العرب فى الجاهلية أصناما من عجوة التمر فعبدوها ثم جاعوا فأكلوها ، والتمثال لا بد أن يكون مثالا لشىء حقيقى ، وقد يكون للعبادة فيسمى صنما ، وقد يكون للزينة الذي يكون على جدران بعض القصور أو أبوابها أو فى حدائقها ، وقد يكون للتعظيم غير الديني كالتماثيل التي تنصب لبعض الملوك وكبار العلماء والقواد للتذكير بتاريخهم وأعمالهم للاقتداء بهم.

والتعظيم الديني يكون الغرض منه التقرب من المعبود وطلب ثوابه بدفع ضرر أو جلب منفعة من طريق الغيب باعتقاد أن له سلطة غيبية أو تعظيم ما يذكر به من صورة أو تمثال أو قبر أو غير ذلك من آثاره لأجل التقرب إليه وقصد الانتفاع به فى الأمور التي لا تنال بالأسباب العامة ، وكل ذلك عبادة له ولله بالاشتراك ، وهذا مظهر من مظاهر الشرك الجلى التي تعتبر كفرا مهما اختلفت تسميتها ، والتبار والتّبر : الهلاك ، والتتبير : الإهلاك والتدمير ، فيقال تبّره : أهلكه ودمره ، وباطل : أي هلك وزائل لا بقاء له ، وبغى الشيء وابتغاه : طلبه.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أنواع نعمه على بنى إسرائيل بأن أهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم أتبع ذلك بالنعمة الكبرى عليهم وهى أنه جاوز بهم البحر آمنين ،

٥٠

ثم ارتدوا وطلبوا من موسى أن يعمل لهم آلهة وأصناما. وفى هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه من اليهود بالمدينة ؛ فإنهم جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى صلوات الله عليه ، وإيقاظ المؤمنين ألا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم الله تعالى عليهم ، فإن بنى إسرائيل وقعوا فيما وقعوا فيه من جزاء غفلتهم عما من الله تعالى به عليهم من النعم.

الإيضاح

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أي إنهم تجاوزوه بعناية الله وتأييده ، فكأنه معهم بذاته فجاوزه مصاحبا لهم ، فأتوا عقب تجاوزهم إياه ودخولهم فى بلاد العرب من البحر الأسيوى على قوم يعبدون أصناما لهم : فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حنينا منهم إلى ما ألفوا فى مصر من عبادة المصريين وتماثيلها وأنصابها وقبورها.

وسر هذا الطلب أنهم لم يكونوا قد فهموا التوحيد الذي جاء به موسى كما فهمه من آمن من سحرة المصريين ، إذ أن السحرة كانوا من العلماء فأمكنهم التمييز بين آيات الله التي لا يقدر عليها غيره والسحر الذي هو من صناعات البشر وعلومهم.

ولم يذكر القرآن شيئا يعيّن شأن هؤلاء القوم الذين أتى عليهم بنو إسرائيل. والراجح أنهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر ؛ روى عن قتادة أنهم من عرب لخم ، وعن ابن جريج أن أصنامهم كانت تماثيل بقر من نحاس.

وقد جاء آخر الفصل الثالث عشر من سفر الخروج (وكان الرب يسير أمامهم نهارا فى عمود من غمام ليهديهم الطريق ، وليلا فى عمود من نار ليضىء لهم ليسيروا نهارا وليلا ، ولم يبرح عمود الغمام نهارا وعمود النار ليلا من أمام الشعب).

ثم جاء فى الفصل الرابع عشر منه بعد ذكر إتباع فرعون ومن معه لبنى إسرائيل (فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر بنى إسرائيل فصار وراءهم وانتقل عمود الغمام من

٥١

أمامهم فوقف وراءهم؟ ودخل بين عسكر المصريين ، وعسكر بنى إسرائيل ، فكان من هنا غماما مظلما ، وكان من هناك ينير الليل ، فلم يقترب أحد الفريقين من الآخر طول الليل.

ولا شك أن هذا الطلب دليل على الضعف البشرى فى كل زمان ومكان ، فلا عجب أن روى عن بعض حديثى العهد من الصحابة بالإسلام مثل ما طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام لما كان للوثنية فى قلوبهم من التأثير.

روى أحمد والنسائي عن أبي واقد الليثي قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط فقال (الله أكبر) هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) إنكم تركبون سنن من قبلكم».

وللمسلمين عبرة فى هذا فإن لهم الآن ذوات أنواط فى بلاد كثيرة كشجرة الحنفي بمصر ، وقد اجتثت أخيرا وشجرة (ست المنضورة) ونحو ذلك مما اتخذوه من القبور والأشجار والأحجار التي يعكفون عليها ويطوفون حولها ويقبّلونها ويتمرغون بأعتابها ويتمسحون بها خاشعين ضارعين راجين شفاء الأدواء والانتقام من الأعداء وحبل العقيم ورد الضالة وغير ذلك من النفع ، وكشف الضر ، وهذا مخالف لنصوص كتاب الله وسنة رسوله ، إذ هذا عبادة وإن كانوا لا يسمونها بذلك ، فلا فرق بينه وبين شرك الجاهلية (إلا بالتسمية) إذ حقيقة العبادة كل قول أو عمل يوجه إلى معظّم يرجى نفعه أو يخشى ضره وحده.

وقد أجابهم موسى عن طلبهم بقوله :

(إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي إنكم تجهلون مقام التوحيد ، وما يجب من تخصيص الله بالعبادة بلا واسطة ولا مظهر من المظاهر كالأصنام والتماثيل والعجل أبيس والثعابين ـ فالله قد كرم البشر وجعلهم أهلا لمعرفته ودعائه ومناجاته بلا واسطة تقربه إليهم فإنه أقرب إليهم من حبل الوريد.

٥٢

وبعد أن بيّن لهم جهلهم وسفههم ، بيّن لهم فساد ما طلبوه عسى أن تستعد عقولهم لفهمه واستبانة قبحه فقال :

(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن هؤلاء القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مقضىّ على ما هم فيه بالتبار بما سيظهر من التوحيد الحق فى هذه الديار ، وزائل ما كانوا يعملون من عبادة غير الله ذى الجلال ، فإنما بقاء الباطل فى ترك الحق له وبعده عنه.

وفى هذا بشارة منه عليه السلام بزوال الوثنية من تلك الأرض ، وقد حقق الله ما قال :

(قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي قال لهم موسى : أأطلب لكم معبودا غير الله رب العالمين وخالق السموات والأرض ، وقد فضلكم على العالمين بما جدد فيكم من التوحيد وهداية الدين ، فماذا تبغون من عبادة غيره معه أو من دونه؟.

والخلاصة ـ إن موسى بدأ جوابه لقومه بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم ، وثنى ببيان فساد ما طلبوه وكونه عرضة للتبار والزوال لأنه باطل فى نفسه ، ثم انتقل إلى بيان أن العبادة لغير الله لا تصح البتة سواء أكان المعبود أفضل المخلوقات كالملائكة والنبيين أو أخسها كالأصنام ؛ ثم أنكر عليهم أن يكون هو الوساطة فى هذا الجعل الذي دعا إليه الجهل ، ليعلمهم أن طلب هذا الأمر المنكر منه عليه السلام جهل بمعنى رسالته ، وأيد إنكاره لكلا الأمرين بما يعرفون من فضل الله عليهم بتفضيلهم على أهل زمانهم ممن كانوا أرقى منهم مدنية وحضارة وسعة ملك وسيادة على بعض الشعوب ، وهم فرعون وقومه ـ برسالة موسى وهرون منهم وتجديد ملة إبراهيم فيهم وإيتائهما من الآيات ما تقدم ذكره.

ثم ذكر سبحانه منته على بنى إسرائيل فقال :

(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي واذكروا إذ أنجيناكم بإرسال موسى وبما

٥٣

أيدناه به من الآيات ـ من آل فرعون الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب بجعلكم عبيدا مسخرين لخدمتهم ، ويقتلون ما يولد لكم من الذكور ويستبقون نساءكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن ، وفى ذلكم العذاب والإنجاء منه بفضل الله عليكم وتفضيله إياكم على غيركم من سكان مصر ، وسكان الأرض المقدسة التي سترثونها ـ بلاء عظيم أي اختبار لكم من ربكم المدبّر لأموركم ليس هناك اختبار أعظم منه ، فلا أجدر بالاعتبار والاستفادة من أحداث الزمان ممن يعطى النعمة بعد النقمة ، وأحق الناس بمعرفة الله وإخلاص العبادة له من يرى فى نفسه وفى الآفاق ما يوقن به أنه لا يمكن أن يكون فيه شركة لغير الله ؛ وإن أعجب العجب أن تطلبوا بعد هذا كله ممن رأيتم على يديه هذه الآيات أن يجعل لكم آلهة من أخس المخلوقات ـ تجعلونها واسطة بينكم وبين الله ، وهو قد فضلكم عليها وعلى من يعبدونها ومن هم أرقى منهم.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥))

٥٤

تفسير المفردات

الميقات : الوقت الذي يقرر فيه عمل من الأعمال كمواقيت الحج ، اخلفني : أي كن خليفتى ، وجلا الشيء والأمر وانجلى وتجلى وجلّاه فتجلى : إذا انكشف ووضح بعد خفاء فى نفسه أو على مجتليه وطالبه ، والدكّ : الدق ، والخرّ والخرور : السقوط من علو ، والانكباب على الأرض كما قال «يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً» وصعقا أي صاعقا صائحا مغشيا عليه ، وأفاق : أي رجع إليه عقله وفهمه بعد ذهابهما بالغشيان. والاصطفاء : اختيار صفوة الشيء أي خالصه الذي لا شائبة فيه ، بقوة أي بجد وعزيمة وحزم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه ما أنعم به على بنى إسرائيل من النجاة من العبودية ومن جعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرعه الله لها من العبادات والأحكام ـ ذكر هنا بدء وحي الشريعة لموسى عليه السلام ممتنّا عليهم بما حصل لهم من الهداية بتكليم موسى وإعطائه التوراة ، وفيها تفاصيل شرعهم وبيان ما يقرّبهم من ربهم من الأحكام ؛ وقد روى أن موسى عليه السلام وعد بنى إسرائيل وهو بمصر ، إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب ، فبينت هذه الآيات كيفية نزول هذا الكتاب وهو التوراة.

الإيضاح

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي ضرب الله تعالى موعدا لموسى لمكالمته وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة ثلاثين ليلة ، قيل هى شهر ذى القعدة وأتم الثلاثين ليلة بعشر ليال فتم الموعد بذلك

٥٥

أربعين ليلة صعد جبل سيناء فى أوله وهبط فى آخره ، وروى عن أبي العالية أنه قال فى بيان زمان الموعد : يعنى ذا القعدة وعشرا من ذى الحجة فمكث على الطور ليلة وأنزل عليه التوراة فى الألواح فقرّبه الرب نجيّا ، وكلمه وسمع صريف القلم.

وجاء فى التوراة من سفر الخروج (وقال الرب لموسى : اصعد إلىّ إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم ، فقام موسى ويشوع خادمه ، وصعد موسى إلى جبل الله تعالى. وأما الشيوخ فقال لهم اجلسوا هاهنا ، وهوذا هارون وحور معكم ، فمن كان صاحب دعوى فليتقدم إليهما ، فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل ، وحل مجد الرب على جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام وفى اليوم السابع دعى موسى من وسط السحاب وكان ينظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بنى إسرائيل ، ودخل موسى فى وسط السحاب وصعد إلى الجبل ، وكان موسى فى الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة).

وفى الفصل الرابع والثلاثين ما نصه (وقال الرب لموسى : اكتب لنفسك هذه الكلمات ، قطعت عهدا معك ومع بنى إسرائيل وكان هناك عند الرب أربعين نهارا وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر).

(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أي وقال موسى حين أراد الذهاب لميقات ربه لأخيه هرون وكان الأكبر منه سنا : كن خليفتى فى قومى وراقبهم فيما يأتون وما يذرون ، وكانت الرياسة فيهم لموسى وكان هرون وزيره ونصيره بسؤاله لربه «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» وأصلح ما يحتاج إلى الإصلاح من أمور دينهم ، ولا تتبع سبيل من سلك الإفساد فى الأرض ، واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم فى أعمالهم ومساعدتهم عليها ومعاشرتهم والإقامة معهم حال اقتراف الإفساد.

٥٦

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أي ولما جاء موسى للميقات الذي وقّت له للكلام وإعطاء الشريعة وكلمه ربه من وراء حجاب بغير واسطة ملك استشرفت نفسه للجمع بين فضيلتى الكلام والرؤية فقال : رب أرنى ذاتك المقدسة واجعل لى من القوة على حمل تجليك ما أقدر به على النظر إليك وكمال المعرفة بك.

(قالَ لَنْ تَرانِي) أي قال له : إنك لا ترانى الآن ولا فيما يستقبل من الزمان ، إذ ليس لبشر أن يطيق النظر إلىّ فى الدنيا.

ثم أتى بما هو كالعلة لذلك (ليخفف عن موسى شدة وطأة الرد بإعلامه ما لم يكن يعلم من سننه) وهو أن شيئا فى الكون لا يقوى على رؤيته كما جاء فى حديث أبى موسى الذي رواه مسلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره) ما انتهى إليه بصره من خلقه» فقال :

(وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أي فإن ثبت لدى التجلي وبقي مستقرا فى مكانه فسوف ترانى إذ هو مشارك لك فى مادة هذا العالم الفاني ، وإذا كان الجبل فى قوته وثباته لا يستطيع أن يثبت ويستقر لأن مادته غير مستعدة لقوة تجلى خالقه وخالق كل شىء ـ فاعلم أنك لن ترانى أيضا وأنت مشارك له فى كونك مخلوقا من هذه المادة وخاضعا للسنن الربانية فى ضعف استعدادها وقبولها للفناء.

وروى عن ابن عباس أنه قال : حين قال موسى لربه تبارك وتعالى : «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» قال له يا موسى إنك «لَنْ تَرانِي» يقول : ليس ترانى ، لا يكون ذلك أبدا ، يا موسى إنه لن يرانى أحد فيحيا ، قال موسى : رب أن أراك ثم أموت أحبّ إلىّ من ألا أراك ثم أحيا ، فقال الله يا موسى انظر إلى الجبل الطويل العظيم الشديد «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ» يقول فإن ثبت مكانه لم يتضعضع ولم ينهدّ لبعض ما يرى من عظمى «فَسَوْفَ تَرانِي» أنت لضعفك وذلتك ، وإن الجبل تضعضع وانهدّ بقوته وشدته وعظمته فأنت أضعف وأذل.

٥٧

(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي فلما تجلى ربه للجبل أقل التجلي وأدناه انهد وهبط وصار كالأرض المدكوكة أو الناقة الدكاء ، وسقط موسى على وجهه مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة ، والتجلي إنما كان للجبل دونه فما بالك لو كان له.

روى أنه ساخ : أي غاص فى الأرض : أي أنه رجّ بالتجلى رجا ، بست به حجارته بسا ، وساخ فى الأرض كله أو بعضه فى أثناء ذلك حين صار ربوة دكاء وكان كالرمل المتلبد.

(فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أي فلما أفاق من غشيه قال سبحانك : أي تنزيها لك وتقديسا عما لا ينبغى فى شأنك مما سألت.

وأكثر المفسرين يجعلون وجه التنزيه والتوبة أنه سأل الرؤية بغير إذن من الله تعالى فتاب ورجع عما طلب.

قال مجاهد : «تُبْتُ إِلَيْكَ» أن أسألك الرؤية : «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» أي من بنى إسرائيل ، وفى رواية عن ابن عباس : وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد.

والخلاصة ـ إن موسى لما نال فضيلة التكليم بلا واسطة فسمع من عالم الغيب ما لم يسمع من قبل تاقت نفسه أن يمنحه الرب شرف رؤيته فطلب ذلك منه وهو يعلم أنه ليس كمثله شىء لا فى ذاته ولا فى صفاته التي منها كلامه ، ولكن الله تبارك وتعالى قال له : «لَنْ تَرانِي» ولكى يخفف عليه ألم الرد أراه بعينه من تجليه للجبل ما فهم منه أن المانع من جهته لا من جانب الفيض الإلهى ، حينئذ نزه الله وسبحه وتاب إليه من هذا الطلب ، فبشره بأنه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه وأمره أن يأخذ ما أعطاه ويكون من الشاكرين له كما قال :

(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) أي اصطفيتك بتكليمى لك بلا توسط ملك وإن كان من وراء حجاب ، وقد طلب موسى رفع هذا الحجاب لتحصل له الرؤيا مع الكلام.

٥٨

(فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي فخذ ما أعطيتك من الشريعة وهى التوراة وكن من جماعة الشاكرين لنعمتى عليك وعلى قومك ، بإقامتها بقوة وعزيمة والعمل بها ، وأداء حقوق نعمى جميعها عليك ، تنل المزيد من فضلى : «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ».

وقد تقدم أن قلنا إن الوحى إلى الرسل أنواع ثلاثة بينهما الله بقوله : «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ».

والخلاصة ـ إن إثبات الكلام والتكليم لله تعالى صريح فى القرآن الكريم فى آيات عدة لا تعارض بينها ، وأما الرؤية ففيها آيات متعارضة كقوله تعالى «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» وقوله «لَنْ تَرانِي» وهما أصرح فى النفي من دلالة قوله تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» على الإثبات فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير فى القرآن وكلام العرب كقوله «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ» وقوله : «ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» وفى الأحاديث الصحيحة تصريح بإثبات الرؤية بحيث لا تحتمل تأويلا ، والمرفوع منها مروى عن أكثر من عشرين صحابيا ، ولم يرد فى معارضتها شىء أصرح من حديث عائشة عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها يا أماه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ فقالت : لقد قفّ شعرى مما قلت ، أىّ أنت من : «ثلاث من حدّثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ، وفى رواية فقد أعظم الفرية ثم قرأت : «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ـ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» ومن حدثك أنه يعلم ما فى غد فقد كذب ، ثم قرأت «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً» ومن حدثك أنه كتم شيئا من الدين فقد كذب ثم قرأت : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ

٥٩

إِلَيْكَ» قال مسروق : وكنت متكئا فجلست وقلت : ألم يقل الله : «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى» فقالت أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : «إنما هو جبريل».

ومن هذا تعلم أن عائشة تنفى دلالة سورة النجم على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بالحديث المرفوع ، وتنفى جواز الرؤية مطلقا أو فى هذه الحياة الدنيا بالاستدلال بقوله تعالى : «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» وقوله : «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» وهذا الاستدلال ليس نصا فى النفي حتى يرجح على الأحاديث الصريحة فى الرؤية وقد قال بها بعض علماء الصحابة.

والمثبتون للرؤية يقولون : إن استنباط عائشة إنما هو لنفى الرؤية فى الدنيا فقط كما قال بذلك الجمهور ، ولا تقاس شئون البشر فى الآخرة على شئونهم فى الدنيا ، لأن لذلك العالم سننا ونواميس تخالف سنن هذا العالم ونواميسه حتى فى الأمور المادية كالأكل والشرب ، والمأكول والمشروب ، فماء الجنة غير آسن فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره فى مقره أو جوّه ، قال ابن عباس : ليس فى الدنيا شىء مما فى الجنة إلا الأسماء.

وجمهرة المسلمين أن رؤية العباد لربهم فى الآخرة حق وأنها أعلى وأكمل للنعيم الروحاني الذي يرتقى إليه البشر فى دار الكرامة ، وأنها أحق ما يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم : «قال الله عز وجل : أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وهى المعبر عنها بقولهم : إنها رؤية بلا كيف. وبعد أن أخبر سبحانه فى الآيات السالفة أنه منع موسى رؤيته فى الدنيا وبشره بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالته وبكلامه أخبرنا فيما بعد بما أتاه يومئذ بالإجمال فقال :

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي إننا أعطيناه ألواحا كتبنا له فيها أنواع الهداية والمواعظ التي تؤثّر فى القلوب ترغيبا وترهيبا

٦٠