تفسير المراغي - ج ٩

أحمد مصطفى المراغي

سورة الأنفال

آياتها خمس وسبعون ، نزلت بعد البقرة ، وهى مدنية إلا من آية ٣٠ لغاية ٣٦ فمكية.

ومناسبتها لسورة الأعراف أنها فى بيان أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه. وسورة الأعراف مبينة لأحوال الرسل مع أقوامهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

تفسير المفردات

الأنفال : واحدها نفل (بالتحريك) من النفل (بالسكون) وهو الزيادة على الواجب ، ومنه صلاة النفل ، والمراد به هنا الغنيمة ـ وقيل الغنيمة كل ما حصل مستغنما بتعب أو بغير تعب وقبل الظفر أو بعده ، والنفل يحصل للإنسان قبل القسمة من الغنيمة ، والبين : يطلق على الاتصال والافتراق وعلى كل ما بين طرفين كما قال : «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» وذات البين : الصلة التي تربط بين شيئين ، والوجل : الفزع والخوف ، والدرجات : منازل الرفعة ومراقى الكرامة.

١٦١

المعنى الجملي

نزلت هذه الآيات فى غنائم غزوة بدر ، إذ تنازع فيها من حازها من الشبان وسائر المقاتلة ، فقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا» فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات ، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان : إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شىء للجأتم إلينا ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت :(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ؟ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقّاص أنه قتل سعيد بن العاص وأخذ سيفه واستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه إياه ، وأن الآية نزلت فى ذلك فأعطاه إياه لأن الأمر كله إليه صلى الله عليه وسلم.

الإيضاح

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) أي يسألونك أيها الرسول عن الأنفال لمن هى؟ أللشبان أم للشيوخ؟ أو للمهاجرين هى ، أم للأنصار؟ أم لهم جميعا؟.

(قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي قل لهم الأنفال لله يحكم فيها بحكمه ، وللرسول يقسمها بحسب حكم الله تعالى ، وقد قسمها صلى الله عليه وسلم بالسواء.

وقد بين الله بهذا أن أمرها مفوض إلى الله ورسوله ، ثم بين مصارفها وكيفية قسمتها فى آية الخمس : «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» إلخ ، وللإمام أن ينفلّ من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس وقد روى عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : قتل أخى عمير يوم بدر فقلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبنى فحئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن الله شفى صدرى من المشركين فهب لى هذا السيف ، فقال لى عليه الصلاة والسلام : ليس هذا لى ولا لك ، اطرحه فى القبض فطرحته

١٦٢

وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخى وأخذ سلبى ، فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا سعد سألتنى السيف وليس لى وقد صار لى فخذه.

(فَاتَّقُوا اللهَ) أي فاجتنبوا ما كنتم فيه من المشاجرة والتنازع والاختلاف الموجب لسخط الله ، لما فيه من المضارّ ولا سيما فى حال الحرب.

(وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي وأصلحوا ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق ، وهذا الإصلاح واجب شرعا وعليه تتوقف قوة الأمة وعزتها وبه تحفظ وحدتها ، روى عن عبادة بن الصامت قال : نزلت هذه الآية فيما معشر أصحاب بدر حين اختلفنا فى النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسوله ، فقسمه بين المسلمين على السواء وكان فى ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فى كل ما يأمر به وينهى عنه ، ويقضى به ، ويحكم ؛ فالله تعالى مالك أمركم ، والرسول مبلّغ عنه ومبيّن لوحيه بالقول والفعل والحكم.

وعلى هذه الطاعة تتوقف النجاة فى الآخرة والفوز بثوابها ، والرسول صلى الله عليه وسلم يطاع فى اجتهاده أمر الدنيا المتعلق بالمصالح العامة ولا سيما فى الشئون الحربية ، لأنه القائد العام فمخالفته تخلّ بالنظام وتؤدى إلى الفوضى التي لا تقوم للأمة معها قائمة ، ولأئمة المسلمين من حق الطاعة فى تنفيذ الشرع وإدارة شئون الأمة وقيادة الجند ما كان له صلى الله عليه وسلم بشرط عدم معصية الله تعالى ومشاورة أولى الأمر.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم كاملى الإيمان فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة ، إذ كماله يقتضى ذلك لأن الله أوجبه ؛ فالمؤمن بالله حقا يكون له من نفسه وازع يسوقه إلى الطاعة واتقاء المعاصي إلا أن يعرض له ما يغلبه عليها أحيانا من ثورة شهوة أو سورة غضب ثم لا يلبث أن يفىء إلى أمر الله ويتوب إليه مما عرض له.

١٦٣

ثم وصف الله تعالى المؤمنين بخمس صفات تدل على وجوب التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله فقال :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي إنما المؤمنون حقا المخلصون فى إيمانهم هم الذين اجتمعت فيهم خصال خمس :

(١) (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم فزعوا لعظمته وسلطانه أو لوعده ووعيده ومحاسبته لخلقه ، والآية بمعنى قوله : «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ».

(٢) (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) أي وإذا تليت عليهم آياته المنزلة على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم زادتهم يقينا فى الإيمان ، وقوة فى الاطمئنان ، ونشاطا فى الأعمال ؛ إذ أن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج يوجب زيادة اليقين ، فابراهيم صلوات الله وسلامه عليه كان مؤمنا بإحياء الله الموتى حين دعا ربه أن يريه كيف يحييها كما قال تعالى : «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» فمقام الطمأنينة فى الإيمان يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا. ويروى أن عليا المرتضى قال : لو كشف عنى الحجاب ما ازددت يقينا ، والعلم التفصيلي فى الإيمان أقوى من العلم الإجمالى ، فمن آمن بأن لله علما محيطا بالمعلومات ، وحكمة قام بها نظام الأرض والسموات ، ورحمة وسعت جميع المخلوقات ويعلم ذلك علما إجماليا ولو سألته أن يبين لك شواهده فى الخلق لعجز ـ لا يوزن إيمانه بإيمان صاحب العلم التفصيلي بسنن الله فى الكائنات فى كل نوع من أنواع المخلوقات ، ولا سيما فى العصور الحديثة التي اتسعت فيها معارف البشر بهذه السنن ، فعرفوا منها ما لم يكن يخطر عشر معشاره لأحد من العلماء فى القرون الخوالى.

وفى معنى الآية قوله تعالى فى وصف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم

١٦٤

القرح فى غزوة أحد : «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» وقوله : «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ».

(٣) (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي إنهم يتوكلون على ربهم وحده ولا يفوضون أمرهم إلى سواه ، فمن كان موقنا بأن الله هو المدبر لأموره وأمور العالم كله لا يمكن أن يكل شيئا منها إلى غيره.

وإذا كان الشرع والعقل حاكمين بأن للإنسان كسبا اختياريا كلفه الله العمل به وأنه يجازى على عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وجب على الإنسان أن يسعى فى تدبير أمور نفسه بحسب ما وضعه الله فى نظام الأسباب وارتباطها بالمسببات ، وأن هذا الارتباط لم يكن إلا بتسخير الله تعالى وأن ما يناله باستعمالها فهو فضل من الله الذي سخرها وجعلها أسبابا وعلّمه ذلك ، وأن ما لا يعرف له سبب يطلب به ، فالمؤمن يتوكل على الله وحده وإليه يتوجه فيما يطلبه منه.

أما ترك الأسباب وتنكب سنن الله فى الخلق فهو جهل بالله وجهل بدينه وجهل بسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.

(٤) (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يؤدونها مقوّمة كاملة فى صورتها وأركانها الظاهرة من قيام وركوع وسجود وقراءة وذكر وفى معناها وروحها الباطن من خشوع وخضوع فى مناجاة الرحمن ، واتعاظ وتدبر فى تلاوة القرآن ، وبهذا كله تحصل ثمرة الصلاة من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.

(٥) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون بعض ما رزقناهم فى وجوه البر فى الزكاة المفروضة وبالنفقات الواجبة والمندوبة للأقربين والمعوزين ، وفى مصالح الأمة ومرافقها العامة التي بها يعلو شأنها بين الأمم ويكون عليها تقدمها وعمرانها.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي أولئك الذين اتصفوا بتلك الصفات هم دون من سواهم

١٦٥

هم المؤمنون حق الإيمان ، وهو نتيجة لتصديق إذعانى له أثر فى أعمال القلوب والجوارح وبذل المال فى سبيل الله.

روى الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال أصبحت مؤمنا حقا : قال : انظر ماذا تقول فإن لكل شىء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسى عن الدنيا ، فأسهرت ليلى ، وأظمأت نهارى ، وكأنى أنظر إلى عرش ربى بارزا ، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها ، فقال : يا حارثة عرفت فالزم (ثلاثا)» وروى عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت؟ قال الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألنى عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألنى عن قوله تعالى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ» إلخ فو الله لا أدرى أنا منهم أم لا.

وبعد أن ذكر سبحانه أوصافهم ذكر جزاءهم عند ربهم فقال :

(لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم درجات من الكرامة والزلفى لا يقدر قدرها عند ربهم الذي خلقهم وسوّاهم وهو القادر على جزائهم على جميل أعمالهم فى دار الجزاء والثواب ، والله تعالى فضل بعض الناس ورفعهم على بعض درجة أو درجات فى الدنيا وفى الآخرة وعند الله تعالى كما قال تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» وقال تعالى فى الرسل : «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» الآية. وقال فى درجات الدنيا وحدها : «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».

ولهم مغفرة من الله لذنوبهم التي سبقت وصولهم إلى درجة الكمال ، ولهم رزق

١٦٦

كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة ، والكريم تصف به العرب كل شىء حسن لا قبح فيه ولا شكوى.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

تفسير المفردات

الشوكة : الحدة والقوة ، وأصلها واحدة الشوك ، شبهوا بها أسنة الرماح ، والطائفتان : طائفة العير الآتية من الشام ، وطائفة النفير التي جاءت من مكة للنجدة ، وغير ذات الشوكة : هى العير ، ودابر القوم : آخرهم الذي يأتى فى دبرهم ويكون من ورائهم ، ويحق الحق : أي يعز الإسلام لأنه الحق ، ويبطل الباطل : أي يزيل الباطل وهو الشرك ويمحقه.

المعنى الجملي

بدئت القصة بغزوة بدر الكبرى التي كانت أول فوز للمؤمنين ، وخذلان للمشركين ، مع بيان أحكام الغنائم التي غنمها المسلمون منهم ـ ثم ذكر هنا أول القصة وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وكراهة فريق من المؤمنين لذلك ، وقد كان من مقتضى الإيمان الإذعان لطاعته والرضا بما يفعله بأمر ربه وما يحكم أو يأمر به.

١٦٧

الإيضاح

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) أي إن الأنفال لله يحكم فيها بالحق ، ولرسوله يقسمها بين من جعل الله لهم الحق فيها بالسوية وإن كره ذلك بعض المتنازعين فيها ممن كانوا يرون أنهم أحق بها ، كإخراج ربك إياك من بيتك بالحق للقاء إحدى الطائفتين من المشركين ، وقد كان كثير من المؤمنين كارهين لذلك ، لعدم استعدادهم للقتال ، ولنحو هذا من الأسباب التي تعلم مما يلى.

وبيان ذلك ـ أن رسول الله لما سمع بأبى سفيان مقبلا بعيره من الشام ندب المسلمين إليهم ، وقال هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفّلكموها ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ظنا منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا ـ وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز من يتجسس الأخبار ويسأل من لقى من الرّكبان تخوّفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه ، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن مسير قريش إليهم ليمنعوا عيرهم فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بذلك واستشارهم فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن ، ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله به ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» ولكن اذهب أنت وربك إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة باليمن) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير ، ثم قال

١٦٨

رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أشيروا علىّ أيها الناس» وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمامنا ، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّف ألا تكون الأنصار ترى نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوّه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل ، فقال قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أمرك الله ، فو الذي بعثك بالحق ، لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقرّبه عينك ، فسر بنا على بركه الله فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول سعد ونشّطه ذلك ثم قال : «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين : العير القادمة من الشام وعلى رأسها أبو سفيان ، أو النفير الآتي من مكة لنجدتهم وعلى رأسهم أبو جهل والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم».

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أي يجادلونك المؤمنون فى الحق وهو تلقى النفير ، لإيثارهم عليه تلقى العير ، كراهية للقاء المشركين ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم بعد أن تبين لهم الحق بإخبارك أنهم سينصرون أينما توجهوا ـ ويقولون ما كان خروجنا إلا للعير ، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب ، وما كان هذا إلا لكراهتهم للقتال. إذ أنهم كانوا فى حال ضعف ، فكان من حكمة الله أن وعدهم أولا إحدى طائفتى قريش تكون لهم على طريق الإبهام لا على طريق التعيين ، فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام ، لأنها كسب عظيم لا مشقة فى إحرازه لضعف الحامية ، فلما ظهر لهم أنها فاتتهم ونجت إذ ذهبت من طريق سيف البحر (طريق الشاطى) وأن طائفة النفير خرجت من مكة بكل ما لدى قريش من قوة ، وأنها قد قربت منهم ووجب عليهم

١٦٩

قتالها ، إذ تبين أنها هى الطائفة التي وعدهم الله تعالى بالنصر عليها ـ صعب على بعضهم لقاؤها على قلتهم وكثرتها ، وضعفهم وقوتها ، وعدم استعدادهم للقتال كاستعدادها ، وطفقوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يخرجوا إلا للعير ، لأنه لم يذكر لهم قتالا فيستعدوا له.

ولكن الحق تبين بحيث لم يبق للجدل فيه وجه ـ فلا ينبغى أن يقال إن طائفة العير هى مراد الله لأنها نجت ، ولا بأن يقال إننا لم نعدّ للقتال عدّته ، لأنه مهما تكن حالها فلا بد من الظفر بها لوعد الله به ، فإذا لا وجه للجدل إلا الجبن والخوف من القتال.

(كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي كأنهم لشدة ما هم فيه من جزع ورهب يساقون إلى موت محقق لا مهرب منه ، لوجود أماراته وأسبابه حتى كأنهم ينظرون إليه بأعينهم ، إذ ما بين حالهم وحال عدوهم من التفاوت فى القوة والعدد والخيل والزاد قاض بذلك ، ولكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين بالظفر والنصر عليهم (ووعده لا يتخلف) أما هذه الأسباب العادية فكثيرا ما تتخلف ، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله الذي بيده كل شىء وهو القادر على كل شىء ، وهكذا أنجز الله وعده لرسوله والمؤمنين وكان لهم الظفر والفوز على عدوهم وكان هذا نصرا مؤزّرا للمسلمين على المشركين ، وبه علا ذكرهم فى البلاد العربية وهابهم قاصيها ودانيها.

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) أي واذكروا حين وعد الله إياكم أن إحدى الطائفتين لكم تتسلطون عليها وتتصرفون فيها.

(وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي وتتمنّون أن الطائفة غير ذات الشوكة : (وهى العير) تكون لكم ، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا ، وعبر عنها بذلك تعريضا لكراهتهم للقتال وطمعهم فى المال.

(وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي ويريد الله بوعده غير ما أردتم ، يريد أن يثبت الحق الذي أراده بكلماته ، أي بآياته المنزلة على رسوله فى محاربة ذات الشوكة ،

١٧٠

وبما أمر به الملائكة من نزولهم للنصرة ، وبما قضى به من أسر المشركين وقتلهم وطرحهم فى قليب (بئر) بدر.

(وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي ويهلك المعاندين جملة ، ويستأصل شأفتهم ، ويمحق قوتهم ، وقد كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة.

قال صاحب الكشاف : يعنى أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وألا تلقوا ما يرزؤكم فى أبدانكم وأموالكم ، والله عز وجل يريد معالى الأمور وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلوّ الكلمة والفوز فى الدارين ، وشتان بين المرادين ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم ، وغلب كثرتهم بقلتكم وأعزكم وأذلهم ا ه.

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي وعد الله بما وعد ، وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة ، ليحق الحق وهو الإسلام ويثبته ، ويبطل الباطل وهو الشرك ويزيله ، ولو كره المجرمون أولو الاعتداء والطغيان ، ولا يكون ذلك بالاستيلاء على العير بل بقتل أئمة الكفر من صناديد قريش الذين خرجوا إليكم من مكة ليستأصلوكم.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ

١٧١

كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

تفسير المفردات

الاستغاثة : طلب الغوث ، وهو التخليص من الشدة والنقمة ، وممدكم : ناصركم ومغيثكم ، ومردفين : من أردفه إذا أركبه وراءه ، وتطمئن تسكن بعد ذلك الزلزال والخوف الذي عرض لكم فى جملتكم ، وعزيز : أي غالب على أمره ، حكيم لا يضع شيئا فى غير موضعه ، ويغشيكم : يجعله مغطيا لكم ومحيطا بكم ، والنعاس : فتور فى الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم فهو يضعف الإدراك ولا يزيله كله فإذا أزاله كان نوما ، والرجز والرجس والركس : الشيء المستقذر حسا أو معنى ، ويراد به هنا وسوسة الشيطان ، والربط على القلوب تثبيتها وتوطينها على الصبر ، والرعب : الخوف الذي يملأ القلب فوق الأعناق : أي الرءوس ، والبنان : أطراف الأصابع من اليدين والرجلين ، شاقوا : أي عادوا وخالفوا ، وسميت العداوة مشاقة لأن كلا من المتعاديين يكون فى شق غير الذي يكون فيه الآخر.

المعنى الجملي

روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل نبى الله القبلة ثم مدّ يده وجعل يهتف بربه : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد فى الأرض فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه

١٧٢

وقال يا نبى الله ، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى : «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون. وروى البخاري عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر «اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك ، فخرج وهو يقول : «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ».

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بإعلام القرآن أن للنصر فى القتال أسباب حسية ومعنوية ، وأن لله سننا مطردة ، وهو مع ذلك يعلم أن لله توفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه ، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله ، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم بالقوة المعنوية التي تكون أجدر بالنصر من القوة المادية ، وكان كل من علم بدعائه يتأسى به فى هذا الدعاء ويستغيث ربه كما استغاث.

الإيضاح

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أي اذكروا وقت استغاثتكم ربكم قائلين ربنا انصرنا على عدوك ، يا غياث المستغيثين أغثنا ، والأمر بهذا الذكر لبيان نعمة الله عليهم حين التجائهم إليه ، إذ ضاقت عليهم الحيل وطلبوا مخلصا من تلك الشدة فاستجاب دعاءهم كما قال :

(فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي فأجاب دعاءكم بأنى ممدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم بعضا ويتبعه ، وهذا الألف هى وجوههم وأعيانهم ـ وبهذا يطابق ما جاء فى سورة آل عمران : «بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ـ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ».

١٧٣

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) أي وما جعل ذلك الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون ، ولتسكن به قلوبكم من الزلزال الذي عرض لكم فكان من مجادلتكم للرسول فى أمر القتال ما كان ، وبذا تلقون أعداءكم ثابتين موقنين بالنصر.

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ليس النصر إلا من عند الله دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب ، فهو سبحانه الفاعل للنصر والمسخّر له كتسخيره للأسباب الحسية والمعنوية ، ولا سيما ما لا كسب للبشر فيه كتسخير الملائكة تخالط المؤمنين فتفيد أرواحهم الثبات والاطمئنان.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى غالب على أمره ، حكيم لا يضع شيئا فى غير موضعه.

وظاهر الآية يدل على أنّ لإنزال الملائكة وإمداد المسلمين بهم فائدة معنوية ، فهو يؤثّر فى القلوب فيزيدها قوة وإن لم يكونوا محاربين ، وهناك روايات تدل على أنهم قاتلوا فعلا.

وفى يوم أحد وعدهم الله وعدا معلقا على الصبر والتقوى ، ولكن الشرط الأخير قد انتفى فانتفى ما علق عليه.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) أي إنه تعالى ألقى عليهم النعاس حتى غشيهم غلب عليهم تأمينا لهم من الخوف الذي كان يساورهم من الفرق الشاسع بينهم وبين عدوهم فى العدد والعدّة ونحو ذلك ، إذ من غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف ، كما أن الخائف لا ينام ولكن قد ينعس إذ تفتر منه الحواس والأعصاب.

روى البيهقي فى الدلائل عن على كرم الله وجهه قال : «ما كان فينا فارس بوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى تحت شجرة حتى أصبح» والمتبادر من الآية أن النعاس كان فى أثناء القتال ، وهو يمنع الخوف ، لأنه ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر.

١٧٤

(وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) روى ابن المنذر من طريق ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه : أن المشركين غلبوا المسلمين فى أول أمرهم على الماء فظمئ المسلمون ، وصلّوا مجنبين محدثين ، وكان بينهم رمال فألقى الشيطان فى قلوبهم الحزن وقال : أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء وتصلّون مجنبين محدثين ، فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء فشرب المسلمون وتطهروا وثبتت أقدامهم (أي على الرمل اللين لتلبده بالمطر) وذهبت وسوسته.

وقال ابن القيم : أنزل الله فى تلك الليلة مطرا واحدا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم وكان على المسلمين طلّا طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان ووطّأ به الأرض ، وصلّب الرمل ، وثبّت الأقدام ومهّد به المنزل ، وربط على قلوبهم ، فسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل وصنعوا الحياض ثم غوّروا ما عداها من المياه ونزل رسول الله وأصحابه على الحياض وبنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش على تلّ مشرف على المعركة ، ومشى فى موضع المعركة وجعل يشير بيده (هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى فما تعدّى أحد منهم موضع إشارته) ا ه.

وقال ابن إسحاق : إن الحباب بن المنذر قال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه أم هو الرأى والحرب والمكيدة قال : (بل هو الحرب والرأى والمكيدة) قال : يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه من القلب (الآبار غير المبنية) ثم نبنى عليها حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أشرت بالرأى ، وفعلوا ذلك».

وقد فهم من الآية أنه كان لهذا المطر أربع فوائد :

١٧٥

(١) تطهيرهم حسيا بالنظافة التي تنشّط الأعضاء وتدخل السرور على النفس ، وشرعيا بالغسل من الجنابة والوضوء من الحدث الأصغر.

(٢) إذهاب رجس الشيطان ووسوسته.

(٣) الربط على القلوب : أي توطين النفس على الصبر وتثبيتها كما قال : «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها» وهذا لما للمطر من المنافع التي تكون أثناء القتال.

(٤) تثبيت الأقدام به ، ذاك أن هذا المطر لبّد الرمل وصيره بحيث لا تغوص فيه أرجلهم فقدروا على المشي كيف أرادوا ، ولو لاه لما قدروا على ذلك.

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يثبت الله الأقدام بالمطر وقت الكفاح الذي يوحى فيه ربك إلى الملائكة آمرا لهم أن يثبّتوا به قلوب المؤمنين ويقووا عزائمهم ، فيلهموها تذكر وعد الله لرسوله وأنه لا يخلف الميعاد ، فالمراد بالمعية فى قوله (أَنِّي مَعَكُمْ) معية الإعانة والنصر والتأييد فى مواطن الجدّ ومقاساة شدائد القتال ، وهذه منّة خفية أظهرها الله تعالى ليشكروه عليها.

أخرج البيهقي فى الدلائل أن الملك كان يأتى الرجل فى صورة الرجل يعرفه فيقول : أبشروا فإنهم ليسوا بشىء والله معكم ، كرّوا عليهم.

وقال الزجاج : كان ذلك بأشياء يلقونها فى قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدّهم ، وللملك قوة إلقاء الخير ويقال له إلهام ، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال لها وسوسة.

(سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) هذا تفسير لقوله أنى معكم ، كأنه قيل : أنى معكم فى إعانتكم بإلقاء الرعب فى قلوبهم.

(فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) أي فاضربوا الهام ، وافلقوا

١٧٦

الرءوس ، واحتزّوا الرقاب وقطّعوها وقطّعوا الأيدى ذات البنان التي هى أداة التصرف فى الضرب وغيره.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بين القتلى ببدر بعد انتهاء المعركة ويقول (نفلق هاما) فيتم البيت أبو بكر رضي الله عنه وهو :

نفلق هاما من رجال أعزّة

علينا وهم كانوا أعق وأظلما

وفى ذلك دليل على ألمه صلوات الله عليه من الضرورة التي ألجأته إلى قتل صناديد قومه ، فالمشركون هم الذين ظلموه هو ومن آمن به حتى أخرجوهم من وطنهم بغيا وعدوانا ثم تبعوهم إلى دار هجرتهم يقاتلونهم فيها.

ثم بين سبب ذلك التأييد والنصر فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي ذلك الذي ذكر من تأييد الله للمؤمنين وخذلانه للمشركين بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله : أي عاد وهما فكان كل منهما فى شق غير الذي فيه الآخر فالله هو الحق والداعي إلى الحق ، ورسوله هو المبلغ عنه ، والمشركون على الباطل وما يستلزمه من الشرور والآثام والخرافات.

(وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ومن يخالف أمر الله ورسوله فهو الحقيق بعقابه ، فلا أجدر بالعقاب من المشاقين له الذين يؤثرون الشرك وعبادة الطاغوت على توحيده تعالى وعبادته ، ويعتدون على أوليائه بمحاولة ردّهم عن دينهم بالقوة والقهر وإخراجهم من ديارهم ثم اتباعهم إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه.

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) أي هذا العقاب الذي عجّلت لكم أيها الكافرون المشاقون لله ورسوله فى الدنيا من انكسار وانهزام مع الخزي والذل أمام فئة قليلة العدد والعدد من المسلمين ، فذوقوه عاجلا ، واعلموا أن لكم فى الآخرة عذاب النار إن أصررتم على كفركم ، وهو شر العذابين وأبقاهما.

١٧٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩))

تفسير المفردات

الزحف : من زحف إذا مشى على بطنه كالحية ، أو دبّ على مقعده كالصبى أو على ركبتيه ، أو مشى بثقل فى الحركة واتصال وتقارب فى الخطو كزحف صغار الجراد والعسكر المتوجه إلى العدو ، لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف ، إذ الكل يرى كجسم واحد متصل فتحس حركته بطيئة وإن كانت فى الواقع سريعة ، والأدبار : واحدها دبر وهو الخلف ، ومقابله القبل ومن ثم يكنى بهما عن السوءتين ، وتولية الدبر والأدبار : يراد بهما الهزيمة لأن المنهزم يجعل خصمه متوجها إلى دبره ومؤخره ، والمتحرف للقتال وغيره : هو المنحرف عن جانب إلى آخر ، من الحرف وهو الطرف والفئة : الطائفة من الناس ، والمأوى : الملجأ الذي يأوى إليه الإنسان ، والموهن : المضعف ، من أوهنه إذا أضعفه ، والكيد : التدبير الذي يقصد به غير ظاهره فتسوء عاقبة من يقصد به ، والاستفتاح طلب الفتح ، والفصل فى الأمر ؛ كالنصر فى الحرب.

١٧٨

المعنى الجملي

ذكر سبحانه وتعالى فى هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب فى مستأنف الزمان ، وجاء به فى أثناء قصة بدر عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين لقتالكم زحفا ، إذ الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فقابلوهم ببدر.

(فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أي فلا تولوهم ظهوركم وأقفيتكم منهزمين منهم وإن كانوا أكثر منكم عددا وعدة ، ولكن اثبتوا لهم ، فإن الله معكم عليهم.

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ومن يولهم حين تلقونهم ظهره إلا متحرفا لمكان رآه أحوج إلى القتال فيه ، أو لضرب من ضروبه رآه أنكى بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه باتباعه حتى إذا انفرد عن أنصاره كرّ عليه فقتله ـ أو منتقلا إلى فئة من المؤمنين فى جهة غير التي كان فيها ليشدّ أزرهم وينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم فصاروا أحوج إليه ممن كان معهم ـ من فعل ذلك فقد رجع متلبسا بغضب عظيم من الله ، ومأواه الذي يلجأ إليه فى الآخرة جهنم دار العقاب وبئس المصير هى :

ذاك أن المنهزم أراد أن يأوى إلى مكان يأمن فيه الهلاك ، فعوقب بجعل عاقبته دار الهلاك والعذاب الدائم وجوزى بضد غرضه.

وفى الآية دلالة على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي ، وجاء التصريح بذلك فى صحيح الأحاديث فقد روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا «اجتنبوا السبع الموبقات (المهلكات) قالوا يا رسول الله وما هن؟. قال : الشرك بالله والسحر وقتل

١٧٩

النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولّى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».

وقد خصص بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين.

قال الشافعي : إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولّوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة ، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولّوا ، ولا يستوجبون السحط عندى من الله لو ولّوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة. وروى عن ابن عباس قال : من فر من ثلاثة فلم يفرّ ، ومن فرّ من اثنين فقد فرّ.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) أي يا أيها الذين آمنوا لا تولوا الكفار ظهوركم أبدا فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر ثم بنصر الله تعالى ، انظروا إلى ما أوتيتم من نصر عليهم على قلة عددكم وعدتكم وكثرتهم واستعدادهم ، ولم يكن ذلك إلا بتأييد من الله تعالى لكم وربطه على قلوبكم وتثبيت أقدامكم ، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي أفنى كثيرا منهم بقوتكم وعدتكم ولكن قتلهم بأيديكم ، بما كان من تثبيت قلوبكم بمخالطة الملائكة وملابستها لأرواحكم ، وبإلقائه الرعب فى قلوبهم ، وهذا بعينه هو ما جاء فى قوله تعالى : «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ».

والمؤمن أحرى بالصبر الذي هو من أجل عوامل النصر من الكافر ، إذ هو أقل حرصا على متاع الدنيا وأعظم رجاء لله والدار الآخرة ، يؤيد هذا قوله تعالى : «وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ».

ثم انتقل من خطاب المؤمنين الذين قتلوا أولئك الصناديد بسيوفهم إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو قائدهم الأعظم فقال :

١٨٠