تفسير المراغي - ج ٢٨

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء الثامن والعشرون

سورة المجادلة

هى مدنية وعدة آيها ثنتان وعشرون ، نزلت بعد سورة المنافقين.

ووجه اتصالها بما قبلها :

(١) أن الأولى ختمت بفضل الله ، وافتتحت هذه بما هو من هذا الوادي.

(٢) أنه ذكر فى مطلع الأولى صفاته الجليلة ومنها الظاهر والباطن ـ وذكر فى مطلع هذه أنه سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا

٣

ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))

شرح المفردات

سمع : أي أجاب وقبل ، كما يقال سمع الله لمن حمده ، والتي تجادلك فى زوجها : هى خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية ، وتجادلك : أي تراجعك الكلام فى أمره وفيما صدر منه فى شأنها ، وتشتكى إلى الله : أي تبثّ إليه ما انطوت عليه نفسها من غمّ وهمّ وتضرع إليه أن يزيل كربها ، وزوجها : هو أوس بن الصامت أخو عبادة ابن الصامت ، والسمع : صفة تدرك بها الأصوات أثبتها الله تعالى لنفسه ، والتحاور : المرادّة فى الكلام ، والكلام المردّد ، كما يقال كلمته فما رجع إلىّ حوارا : أي ماردّ علىّ بشىء ، والظهار : لغة من ظاهر ؛ ويراد به معان مختلفة باختلاف الأغراض فيقال ظاهر فلان فلانا : أي نصره ، وظاهر بين ثوبين : أي لبس أحدهما فوق الآخر ، وظاهر من امرأته : أي قال لها أنت علىّ كظهر أمي ، أي محرمة ، وقد كان هذا أشدّ طلاق فى الجاهلية ، والظهار شرعا : تشبيه المرأة أو عضو منها بامرأة محرمة نسبا أو رضاعا أو مصاهرة بقصد التحريم لا بقصد الكرامة ، ولهذا المعنى نزلت الآية ، «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ» : أي ما أمهاتهم ، والمنكر : ما ينكره الشرع والعقل والطبع ، وزورا : أي كذبا ، فتحرير رقبة : أي عتق عبد أو جارية ، أن يتماسا : أي يجتمعا اجتماع الأزواج ، متتابعين : أي متواليين ، فمن لم يستطع : أي لم يقدر على ذلك لكبر سنّ أو ضعف أو شبق إلى النساء ، حدود الله : أي أحكام شريعته ، وللكافرين : أي للذين يتعدّون الأحكام ولا يعملون بها.

٤

المعنى الجملي

روى أن هذه الآيات الأربع نزلت فى خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت ومن حديث ذلك : «أن أوسا كان شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، فدخل على خولة يوما فراجعته بشىء فغضب ، فقال لها : أنت علىّ كظهر أمي (وكان الرجل فى الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه) وكان هذا أول ظهار فى الإسلام ، فندم لساعته ، فدعاها (طلب ملامستها) فأبت ، وقالت : والذي نفسى بيده لاتصل إلىّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله ، فأتت الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أوسا تزوجنى وأنا شابة مرغوب فىّ ، فلما خلا سنى ونثرت بطني (كثر ولدي) جعلنى عليه كأمه إلى غير أحد ، فإن كنت تجد لى رخصة تنعشنى بها وإياه فحدثنى بها ، فقال عليه الصلاة والسلام : والله ما أمرت فى شأنك بشىء حتى الآن ، وفى رواية ما أراك إلا قد حرمت ، قالت : ما ذكر طلاقا ، وجادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا ثم قالت : اللهم إنى أشكو إليك شدة وحدتي ، وما يشق علىّ من فراقه ، وفى رواية أنها قالت : أشكو إلى الله فاقتى وشدة حالى ، وإن لى صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلىّ جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إنى أشكو إليك ، اللهم فأنزل على لسان نبيك ، وما برحت حتى نزل القرآن فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا خولة أبشرى ، قالت خيرا فقرأ عليها «قَدْ سَمِعَ اللهُ» الآيات.

روى البخاري فى تاريخه أنها استوقفت عمر يوما فوقف ، فأغلظت له القول ، فقال رجل يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم ، فقال رضى الله عنه ، وما يمنعنى أن أستمع إليها وهى التي استمع الله لها ، فأنزل فيها ما أنزل «قَدْ سَمِعَ اللهُ» الآيات.

والشارع اعتبر الظهار يمينا وأوجب فيها الكفارة عند إرادة الملامسة بأحد أمور ثلاثة على الترتيب الآتي :

٥

(١) تحرير رقبة (عتق عبد أو جارية).

(٢) صيام شهرين متواليين إن لم يجد ما يعتقه.

(٣) إطعام ستين مسكينا إن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله ، لكل مسكين نصف صاع من بر (رطل وثلث) أو صاع من تمر أو شعير.

الإيضاح

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي قد قبل الله شكوى التي جادلت رسوله صلى الله عليه وسلم فى شأن زوجها ، وبثّت أمرها إلى ربها ، وسمع ما سمع من تحاورها مع رسوله ، والله سميع لما يقال ، خبير بحال عباده ، فأنزل فيها ما أزال غصّتها ، وفرج كربتها ، وأقرّ به عينها ، وبلّ ريقها ، وأرجع إلى كنفها صبيتها ، الذين كانوا مصدر شقوتها ، وبهم اعتلّت (تعلّلت واحتجت) على رسوله.

وقد فصل ما أنزل من الحكم فى حادثتها وأمثالها فقال :

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) أي الذين يقع منهم الظهار من نسائهم ، فيقول أحدهم لامرأته : أنت علىّ كظهر أمي ، يريد أنك علىّ حرام ، كما أن أمي علىّ حرام ـ مخطئون فيما صنعوا.

(ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فكيف يجعلونهن كذلك ، ما أمهاتهم إلا من ولدنهم ، فلا ينبغى تشبيههن بهن.

ثم زاد الأمر إيضاحا وبالغ فى الاستهجان فقال :

(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أي وإنهم ليقولون قولا منكرا لا يجيزه شرع ، ولا يرضى به عقل ، ولا يوافق عليه ذو طبع سليم ، فكيف تشبّه من يسكن إليها وتسكن إليه وجعل بينه وبينها مودة ورحمة ، وصلة خاصة لا تكون لأم ولا لأخت ، بمن جعل صلتها بابنها صلة الكرامة والحنوّ والإجلال والتعظيم ، إلى

٦

أن الرجل قوّام على المرأة له حق تأديبها إذا اعوجّت ، وهجرانها فى المضاجع إذا جمحت ولم يعط ذلك لابن ليعامل به أمه ، فهذا زور وبهتان عظيم.

وغير خاف ما فى هذا من الاستهجان ، وشديد التشنيع على صدور هذا القول منهم.

(وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) لما سلف من الذنب متى تاب فاعله منه.

ثم فصل حكم الظهار فقال :

(١) (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي والذين يقولون هذا القول المنكر ثم يتدار كونه بنقضه ويرجعون عما قالوا فيريدون المسيس فعلى كل منهم عتق عبد أو أمة قبل التماسّ إن كان ذلك لديه.

ثم بين السبب فى شرع هذا الحكم فقال :

(ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي إنه شرع لكم حكم الكفارة عند طلب العودة إلى المسيس ، ليكون ذلك زاجرا لكم عن ارتكاب المنكر ، فإن الكفارة تمنع من وقوع الجرم ، والله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شىء منها ، وهو مجازيكم بها ، فانتهوا عن قول المنكر ، وحافظوا على ما شرع لكم من الحدود ، ولا تخلوا بشىء منها.

(٢) (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فمن لم يجد رقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته ؛ فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس ، فإن أفطر يوما من الشهرين ولو اليوم الأخير لعذر أو مرض أو سفر لزمه الاستئناف بصوم جديد لزوال التتابع.

(٣) (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي فمن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين لكبر سنّ أو مرض لا يرجى زواله ـ فعليه إطعام ستين مسكينا لكل منهم نصف صاع من برّ ، أو صاع من شعير أو تمر قبل التماس أيضا.

(ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ذلك

٧

الذي بيّناه لكم من وجوب الكفارة حين الظهار ، لتقروا بتوحيد الله وتصدقوا رسوله وتنتهوا عن قول الزور والكذب ، وتتبعوا ما حده الدين من حدود ، وبينه لكم من فرائض ، وللجاحدين بهذه الحدود وغيرها من فرائض الله عذاب مؤلم على كفرهم بها.

وأطلق اسم (الكافر) على متعدّى هذه الحدود تغليظا للزجر كما قال فى المتهاون فى أداء فريضة الحج «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ».

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧))

شرح المفردات

يحادون : أي يشاقون ويعادون ، وأصل المحادّة الممانعة ؛ ومنه قيل للبواب حداد ، كبتوا : أي خذلوا ، وقال المبرد : كبت الله فلانا إذا أذله ، والمردود بالذل : مكبوت ، آيات بينات : أي حججا وبراهين مبينة لحدود شرائعنا ، مهين : أي يلحق بهم الهوان والذل ، فينبئهم بما عملوا : أي يخبرهم بأعمالهم توبيخا وتقريعا لهم ، أحضاه الله : أي أحاط به عدّا لم يغب عنه شىء منه ، شهيد : أي مشاهد لا يخفى عليه شىء

٨

ألم تر : أي ألم تعلم ، ما يكون : أي ما يوجد ، والنجوى : التناجي والمسارّة كما قال : «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ» وقد يستعمل فى المتناجين كما قال : «وَإِذْ هُمْ نَجْوى» أي أصحاب نجوى.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أحكام كفارة الظهار وبيّن أنه إنما شرعها تغليظا للناس حتى يتركوا الظهار ، وقد كان ديدنهم فى الجاهلية ، ويتبعوا أوامر الشريعة ، ويلين قيادهم لها ، ويخلصوا لله ربهم فى جميع أعمالهم ، فتصفو نفوسهم ، وتزكو بصالح الأعمال.

أردف هذا ببيان أن من يشاقّ الله ورسوله ويعصى أوامره ، يلحق به الخزي والهوان فى الدنيا وله فى الآخرة العذاب المهين فى نار جهنم ؛ ثم أعقب ذلك بالوعيد الشديد فبين أنه لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء ، فهو عليم بمناجاة المتناجين ، فإن كانوا ثلاثة فهو رابعهم ، وإن كانوا خمسة فهو سادسهم ، وإن كانوا أقل من ذلك أو أكثر فهو معهم أينما كانوا ، فلا تظنوا أنه تخفى عليه أعمالكم ، وسينبئكم بها عند العرض والحساب ، وحين ينصب الميزان ، فتلقون جزاء ما كسبت أيديكم ، وتندمون ولات ساعة مندم.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إن الذين يختارون لأنفسهم حدودا غير ما حده الله ورسوله ، ويضعون شرائع غير ما شرعه ، سيلحقهم الخزي والنكال فى الدنيا كما لحق من قبلهم من كفار الأمم الماضية الذين حادوا الله ورسله ، وقد تحقق ذلك يوم الخندق.

وفى هذا بشارة للمؤمنين بظهورهم على عدوهم ونصر الله لهم.

٩

كما أن فيه وعيدا عظيما للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا قوانين وشرائع وضعية غير ما شرع الله ، وألزموا رعاياهم العمل بها ، والجري على نهجها ، وعينوا لذلك قضاة يحكمون بها ، ونبذوا ما جاء فى شرعهم ، والله يقول : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».

نعم إنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوى الآراء من أهل الحلّ والعقد على وجه يكون به انتظام شمل الجماعات ، إذا كانت لا تخالف فى أحكامها روح التشريع الديني كتعيين مراتب التأديب للزجر على المعاصي ، والجنايات التي لم ينص الشارع فيها على حد معين ، بل فوض الأمر فيها للإمام ، وليس فى ذلك محادة لله ورسوله ، بل فيها استيفاء لحق الله على الوجه الأكمل.

(وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) أي وكيف يفعلون ذلك وقد أقمنا دلائل واضحات تبين معالم الشريعة وتوضح حدودها ، وتفصل أحكامها ؛ وتبين سرّ تشريعها؟ فلا عذر لهم فى مخالفتها ، والانحراف عن سننها.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي وللجاحدين بتلك الآيات عذاب يذهب بعزهم وكبريائهم.

والخلاصة ـ إن لهؤلاء المحادين عذابا فى الدنيا بالخزي والهوان ، وعذابا فى الآخرة فى جهنم وبئس القرار.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي واذكر لهم أيها الرسول حالهم يوم يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد ، فيخبرهم بما كسبت أيديهم تشهيرا لهم وخزيا على رءوس الأشهاد ، والله قد حفظه وضبطه وهم قد نسوه ، والله شهيد على كل شىء ، فلا يغيب عنه شىء ، ولا ينسى شيئا.

وفى هذا شديد الوعيد والتقريع العظيم والتنديم ، ليعرفوا أن ما حاق بهم من العذاب ، إنما كان من جراء أعمالهم وقبيح أفعالهم.

١٠

ثم أكد ما سبق من إحاطة علمه تعالى بكل شىء فقال :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) أي ألم تعلم أنه تعالى يعلم ما فى السموات وما فى الأرض ، فلا يتناجى ثلاثة إلا والله معهم ويعلم ما يقولون وما يدبرون ، ولا خمسة إلا وهو سادسهم يعلم ما به يتناجون ، ولا نجوى أكثر من هذه الأعداد ولا أقل منها إلا وهو عليم بها ، وعليم بزمانها ومكانها لا يخفى عليه شىء من أمرها.

وإنما خص هذه الأعداد ، لأن أقل ما لا بد منه فى المشاورة التي يكون الغرض منها تدبير المصالح العامة ـ ثلاثة فيكون الاثنان كالمتنازعين نفيا وإثباتا ، والثالث كالحكم بينهما ، وحينئذ تكمل المشورة ويتم الغرض ، وهكذا فى كل جمع اجتمعوا المشورة لا بد من واحد يكون حكما مقبول القول ، ومن ثم يكون عدد رجال المشورة فردا كما جاء فى الآية ونحوها قوله : «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» وقوله : «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ».

(ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ثم ينبئ هؤلاء المتناجين بما عملوا من عمل يحبه أو يسخطه يوم القيامة ، وإنه لعليم بنجواهم وأسرارهم لا تخفى عليه خافية من أمرهم.

وقد علمت أن هذا الإنباء إنما هو للتنديم وزيادة التقريع والتوبيخ على مرأى ومسمع من أهل الموقف ، فيكون ذلك أنكى وأشد إيلاما لهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ

١١

اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

شرح المفردات

الذين نهوا عن النجوى : هم اليهود والمنافقون ، بالإثم : أي بما هو معصية وذنب ، والعدوان : الاعتداء على غيرهم كمعصية الرسول ومخالفته ، لو لا يعذبنا الله : أي هلا يعذبنا بسبب ذلك ، حسبهم جهنم : أي عذاب جهنم كاف لهم ، يصلونها : أي يقاسون حرّها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه عليم بالسر والنجوى ، وأنه لا تخفى عليه خافية من أمرهم ، فهو عليم بما يكون من التناجي بين الثلاثة والخمسة والأكثر والأقل ، ومجازيهم على ما يكون من التناجي ـ خاطب رسوله معجّبا له من اليهود والمنافقين الذين نهوا عن التناجي دون المؤمنين ، فعادوا لما نهوا عنه ، وما كان تناجيهم إلا بما هو إثم وعدوان على غيرهم ، ثم ذكر أنهم كانوا إذا جاءوا الرسول حيّوه بغير تحية الله ، فيقولون له : السام عليك (يريدون الموت) ثم يقولون فى أنفسهم : لو كان رسولا لعذبنا الله للاستخفاف به ، وإن جهنم لكافية جد الكفاية لعذابهم ؛ ثم نهى المؤمنين أن يفعلوا مثل فعلهم ، بل يتناجون بالبر والتقوى ؛ ثم بين أن التناجي بالإثم والعدوان من الشيطان ولن يضيرهم شىء منه إلا بإذن الله ، فعليه فليتوكلوا.

١٢

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) «روى أن اليهود كانوا إذا مر بهم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون فيما بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره ، حتى إذا رأى ذلك خشيهم ، فترك طريقهم ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى فأنزل الله الآية».

ثم بيّن ما به يتناجون فقال :

(وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي وهم يتحدثون فيما بينهم بما هو إثم فى نفسه ووباله عليهم ، وبما هو تعدّ على المؤمنين ، وتواص بمخالفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

ثم ذكر جرما آخر يقع منهم فقال :

(وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ)

روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة «أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقال عليه السلام : وعليكم ، قالت عائشة : وقلت : عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم؟ فقال عليه الصلاة والسلام : يا عائشة عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش ، فقلت : ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أو ما سمعت ما أقول : وعليكم؟ فأنزل الله تعالى (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ) الآية».

(وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإبهام السلام وهم يريدون شتمه ، ويحدّثون أنفسهم أنه لو كان نبيّا حقا لعذبنا الله بما نقول ، لأن الله يعلم ما نسره ، فلو كان نبيا حقا لعاجلنا بالعقوبة فى الدنيا فردّ الله عليهم بقوله :

(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وإن جهنم وما فيها من العذاب الأليم لكافية لعقابهم ونكالهم ، وقد أجّل عذابهم إلى هذا اليوم.

١٣

ثم قال تعالى مؤدبا عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل اليهود والمنافقين فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي إذا حدث منكم أيها المؤمنون تناج ومسارّة فى أنديتكم وخلواتكم ، فلا تفعلوا كما يفعل أولئك الكفار من أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين.

(وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وتناجوا بما هو خير واتقوا الله فيما تأتون وما تذرون ، فإليه تحشرون فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم ، وسيجزيكم بها.

ثم بين الباعث لهم على هذه النجوى والمزين لهم ذلك فقال :

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) أي إنما التناجي بالإثم والعدوان من وسوسة الشيطان وتزيينه.

ثم ذكر السبب الذي حداه إلى ذلك فقال :

(لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إنما فعل ذلك يسوء الذين آمنوا بإيهامهم أن ذلك فى نكبة أصابتهم ، وليس الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا إلا بإرادة الله ومشيئته.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إن ما يتناجى به المنافقون مما يحزن المؤمنين إن وقع ، فإنما يكون بإرادة الله ومشيئته ، فلا يكترثنّ المؤمنون بتناجيهم ، وليتوكلنّ على الله ولا يحزننّ.

وقد وردت السنة بالنهى عن التناجي إذا كان فى ذلك أذى لمؤمن.

أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه ، فإن ذلك يحزنه».

١٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

شرح المفردات

تفسحوا : أي توسعوا وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم : افسح عنى أي تنحّ ، يفسح الله لكم : أي فى رحمته ويوسع لكم فى أرزاقكم ، انشزوا : أي انهضوا للتوسعة على المقبلين ، فانشزوا أي فانهضوا ولا تتباطئوا ، يرفع الله الذين آمنوا : أي يرفع منزلتهم يوم القيامة ، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات ، أي ويرفع العالمين منهم خاصة درجات فى الكرامة وعلوّ المنزلة.

المعنى الجملي

بعد أن نهى عباده المؤمنين عما يكون سببا للتباغض من التناجي بالإثم والعدوان ـ أمرهم بما يكون سبب التوادّ والتوافق بين بعض المؤمنين وبعض : من التوسع فى المجالس حين إقبال الوافد ، والانصراف إذا طلب منكم ذلك.

فإذا فعلتم ذلك رفع الله منازلكم فى جناته ، وجعلكم من الأبرار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا برسوله ، إذا قيل لكم توسعوا فى مجالس رسول الله أو فى مجالس القتال ، فافسحوا يفسح الله فى منازلكم فى الجنة.

١٥

أخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حبان قال : «كان صلى الله عليه وسلم يوم جمعة فى الصّفّة وفى المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس منهم ثابت بن قيس وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم ، فلم يفسحوا لهم ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله : قم يا فلان ، قم يا فلان ، فأقام نفرا بمقدار من قدم ، فشق ذلك عليهم ، وعرفت كراهيته فى وجوههم ، وطعن المنافقون وقالوا : والله ما عدل على هؤلاء ، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه ، أقامهم وأجلس من أبطأ عنه فنزلت الآية».

وقال الحسن : كان الصحابة يتشاحون فى مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة فى الشهادة ، ومن الآية نعلم :

(١) أن الصحابة كانوا يتنافسون فى القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع حديثه ، لما فيه من الخير العميم ، والفضل العظيم ، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام : «ليلينى منكم أولو الأحلام والنّهى».

(٢) الأمر بالتفسح فى المجالس وعدم التضامّ فيها متى وجد إلى ذلك سبيل ، لأن ذلك يدخل المحبة فى القلوب ، والاشتراك فى سماع أحكام الدين.

(٣) إن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة ، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة.

وعلى الجملة فالآية تشمل التوسع فى إيصال جميع أنواع الخير إلى المسلم وإدخال السرور عليه ، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام «لا يزال الله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه».

١٦

(وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي وإذا دعيتم إلى القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوموا ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤثر الانفراد أحيانا لتدبير شئون الدين ، أو لأداء وظائف تخصه لا تؤدى أو لا يكمل أداؤها إلا بالانفراد.

وقد عمموا هذا الحكم فقالوا : إذا قال صاحب مجلس لمن فى مجلسه قوموا ينبغى أن يجاب.

ولا ينبغى لقادم أن يقيم أحدا ليجلس فى مجلسه ؛ فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا».

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله ، والعالمين منهم خاصة درجات كثيرة فى الثواب ومراتب الرضوان.

والخلاصة ـ إنكم أيها المؤمنون إذا فسح أحدكم لأخيه إذا أقبل ، أو إذا أمر بالخروج فخرج ، فلا يظننّ أن ذلك نقص فى حقه ، بل هو رفعة وزيادة قربى عند ربه ، والله تعالى لا يضيع ذلك بل يجزى به فى الدنيا والآخرة ، فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره ، ونشر ذكره.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والله بأعمالكم ذو خبرة لا يخفى عليه المطيع منكم من العاصي ، وهو مجازيكم جميعا بأعمالكم ، فالمحسن بإحسانه ، والمسيء بالذي هو أهله أو يعفو.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ

١٧

فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

شرح المفردات

ناجيتم الرسول : أي أردتم مناجاته والحديث معه ، فقدموا بين يدى نجواكم صدقة : أي فتصدقوا قبلها ، أطهر : أي أزكى ، لتعويد النفس بذل المال وعدم الضنّ به ، أشفقتم : أي خفتم ، تاب الله عليكم : أي رخص لكم فى المناجاة من غير تقديم صدقة.

المعنى الجملي

علمت من الآية السالفة أن المؤمنين كانوا يتنافسون فى القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع أحاديثه ولمناجاته فى أمور الدين ، وأكثروا فى ذلك حتى شقّ عليه صلى الله عليه وسلم وشغلوا أوقاته التي يحب أن تكون موزعة بين إبلاغ الرسالة والعبادة ، والقيام ببعض وظائفه الخاصة ، فإنه بشر يحتاج إلى قسط من الراحة ، وإلى التحنث إلى ربه فى خلواته.

من أجل هذا نزلت هذه الآيات آمرة بوجوب تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه ، لما فى ذلك من منافع ومزايا :

(١) إعظام الرسول وإعظام مناجاته ، فإن الشيء إذا نيل مع المشقة استعظم ، وإن نيل بسهولة لم يكن له منزلة ورفعة شأن.

(٢) نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة.

(٣) تمييز المنافقين الذين يحبون المال ويريدون عرض الدنيا ـ من المؤمنين حقّ الإيمان الذين يريدون الآخرة وما عند الله من نعيم مقيم.

١٨

قال ابن عباس : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، وأراد الله أن يخفف عن نبيه فأنزل هذه الآيات فكف كثير من الناس عن المناجاة.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي أيها المؤمنون إذا أراد أحد منكم أن يناحى الرسول ويسارّه فيما بينه وبينه ـ فليقدم صدقة قبل هذا ، لما فى ذلك من تعظيم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونفع الفقراء والتمييز بين المؤمن حقا والمنافق ، ومحب الآخرة ومحب الدنيا ، ومن دفع التكاثر عليه صلى الله عليه وسلم من غير حاجة ملحّة إلى ذلك.

ثم ذكر العلة فى هذا فقال :

(ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي إن فى هذا التقديم خيرا لكم لما فيه من الثواب العظيم عند ربكم ، ومن تزكية النفوس وتطهيرها من الجشع فى جمع المال وحب ادخاره ، وتعويدها بذله فى المصالح العامة كإغاثة ملهوف ، ودفع خصاصة فقير ، وإعانة ذى حاجة ، والنفقة فى كل ما يرقّى شأن الأمة ويرفع من قدرها ، ويعلى كلمتها ، ويؤيد الدين وينشر دعوته.

ثم أقام العذر للفقراء فقال :

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن لم تجدوا الصدقة أيها الفقراء وعجزتم عن ذلك فالله قد رخص لكم فى المناجاة بلا تقديم لها ، لأنه ما أمر بها إلا من قدر عليها.

وقد شرع هذا الحكم لتمييز المخلص من المنافق ، فلما تم هذا الغرض انتهى ذلك الحكم ورخص فى المناجاة بدون تقديم صدقة ، فقال :

١٩

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أي أبخلتم وخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم الصدقات ، ووسوس لكم الشيطان أن فى هذا الإنفاق ضياعا للمال؟

(فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي فحين لم تفعلوا ما أمرتم به ، وشق ذلك عليكم ، خفف عليكم ربكم فرخص فى المناجاة من غير تقديم صدقة ، فتداركوا ذلك بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كما قال :

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي فأدوا الصلاة وقوّموها بأدائها على أكمل الوجوه ، لما فيها من الإخبات إلى الله والإنابة إليه والإخلاص له فى القول والعمل ، ونهيها عن الفحشاء والمنكر ، ولما فى الزكاة من تطهير النفوس وإزالة الشح بالمال المستحوذ على القلوب الدافع لها إلى ارتكاب الشرور والآثام.

وأطيعوا الله فيما يأمركم به من الفرائض والواجبات ، وينهاكم عنه من الموبقات.

ثم وعد وأوعد فقال :

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو محيط بنواياكم وأعمالكم ، ومجازيكم بما قدمتم لأنفسكم من خير أو شر ، كما قال «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» وقال : «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى».

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ

٢٠