تفسير المراغي - ج ٢٥

أحمد مصطفى المراغي

١

٢

الجزء الخامس والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

تفسير المفردات

الساعة : يوم القيامة ، الأكمام : واحدها كمّ (بالكسر) : وعاء الثمرة ؛ وقد يطلق على كل ظرف لمال أو غيره ، آذناك : أي أعلمناك ؛ يقال آذنه يؤاذنه أي أعلمه كما قال :

آذنتنا بينها أسماء

رب ثاو يملّ منه الثّواء

ضل عنهم : أي غاب وزال ، ظنوا : أي أيقنوا وعلموا ، محيص : أي مهرب ؛ يقال حاص يحيص حيصا : إذا هرب.

٣

المعنى الجملي

بعد أن هدد الكافرين بأن جزاء كل عامل سيصل إليه يوم القيامة كاملا غير منقوص ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ـ أردف ذلك بيان أن هذا اليوم لا سبيل للخلق إلى معرفته ، فلا يعلمه إلا هو ، وأن علم الحوادث المقبلة فى أوقاتها المعينة مما استأثر الله به ، فلا يعلم أحد متى تخرج الثمر من الأكمام ، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع. ثم ذكر أنه سبحانه يوم القيامة ينادى المشركين تهكما وتقريعا لهم : أين شركائى الذين كنتم تزعمون؟ فيجيبون : الآن لا نشهد لأحد منهم بالشركة فى الألوهية ، وقد غابوا عنهم فلا يرجون منهم نفعا ، ولا يفيدونهم خيرا ، وأيقنوا حينئذ أن لا مهرب لهم من العذاب.

روى أن المشركين قالوا يا محمد إن كنت نبيا فخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت الآية :

الإيضاح

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي إذا سئل عنها أحد ردّ علمها إليه تعالى ، فإنه لا يعلم متى قيامها سواه ، وقد جاء فى الحديث «أن جبريل عليه السّلام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل».

ونحو الآية قوله تعالى : «إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها» وقوله : «لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ».

وبعد أن ذكر أنه استأثر بعلم الساعة بين أنه اختص أيضا بعلم الغيب ومعرفة ما سيحدث فى مستأنف الأزمنة فقال :

(وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي وما تبرز الثمرة من وعائها الذي هى مغلّفة به ، وما تحمل أنثى ولا تضع ولدها إلا يعلم

٤

من الله ، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.

ونحو الآية قوله : «يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ».

وفى هذا دليل على أن المنجمين لا يمكنهم الجزم بشىء مما يقولون البتة ، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف قد يصيب وربما لا يصيب ، وعلم الله هو المقطوع به الذي لا يشركه فيه أحد.

ثم ذكر بعض ما يحدث فى هذا اليوم فقال :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادى سبحانه عباده المشركين على رءوس الأشهاد تهكما بهم واستهزاء بأمرهم ـ أين شركائى الذين عبدتموهم معى؟ فيجيبون ويقولون : أعلمناك أنه ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكا ، ونفى الشهادة يراد به التبرؤ منهم ، لأن الكفار يوم القيامة ينكرون عبادة غير الله كما حكى الله عنهم أنهم قالوا : «وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ».

والخلاصة ـ إن قوله آذناك إخبار بإعلام سابق علمه الله من أحوالهم يوم القيامة ، وأنهم لم يبقوا على الشرك ، وعلى تلك الشهادة ، كأنهم يقولون أنت أعلم به ، ثم يأخذون فى الجواب.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي وغابت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها فى الدنيا ، فأخذ بها طريق غير طريقهم فلم تنفعهم ولم تدفع عنهم شيئا من عذاب الله الذي حل بهم.

(وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي وأيقنوا حينئذ أنه لا ملجأ لهم من عذاب الله.

٥

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١))

تفسير المفردات

لا يسأم : أي لا يملّ ، والخير : المال والصحة والعزة والسلطان ونحوهما ، والشر : الفقر والمرض ونحوهما ، واليأس : انقطاع الرجاء من حصول الخير ، والقنوط : (بالفتح) من اتصف بالقنوط (بالضم) وهو ظهور أثر اليأس على الإنسان من المذلة والانكسار ، والرحمة هنا : الصحة وسعة العيش ، والضراء : المرض وضيق العيش ونحوهما ، هذا لى : أي هذا ما استحقه لما لى من الفضل والعمل ، والحسنى : الكرامة ، والغليظ هنا : الكثير ، نأى بجانبه : أي تكبر واختال ، وعريض : أي كثير مستمر ؛ يقولون أطال فى الكلام ، وأعرض فى الدعاء : إذا أكثر.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه حال الكافرين فى الآخرة ، وذكر أنهم حينئذ يتبرءون من الشركاء بعد أن كانوا معترفين بهم فى الدنيا ـ أردف ذلك بيان أن الإنسان متبدّل الأحوال ، متغير الأطوار ، إن أحسّ بخير وقدرة انتفخت أوداجه وصعّر خديه ومشى الخيلاء ، وإن أصابته محنة وبلاء تطامن واستكان ويئس من الفرج ، وهذا دليل على شدة حرصه على الجمع ، وشدة جزعه من الفقد ، إلى ما فيه من طيش يتولد عنه إعجابه واستكباره حين النعمة ، وتطامنه حين زوالها ، وذلك مما يومىء بشغله بالنعمة عن

٦

المنعم فى حالى وجودها وفقدها ، أما فى حال وجودها فواضح ، وأما فى حال فقدها فلأن التضرع جزعا إنما كان على الفقد الدالّ على الشغل عن المنعم بالنعمة.

الإيضاح

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل الإنسان من دعائه ربه ومسألته إياه أن يؤتيه صحة وعافية وسعة فى الرزق ، فهو مهما أوتى من المال فهو لا يقنع ، وقد جاء فى الأثر «منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب مال» وجاء أيضا «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا».

(وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) أي وإن أصابه بؤس وضيق فى المال أو ابتلى بمرض أنهك قواه واضمحلّ به جسمه ـ يئس من فضل الله ورحمته ، وظهر عليه سيمى الذل والانكسار ، والخنوع والخضوع.

وخلاصة ذلك ـ إن الإنسان متبدل الأحوال ، متغير الأطوار ، إن أحس بخير بطر وتعظم ، وإن شعر ببؤس ذل وخضع ، فهو شديد الحرص على الجمع ، شديد الجزع على الفقد.

ثم ذكر حال هذا اليئوس القنوط فقال :

(١) (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي ولئن كشفنا ما أصابه من سقم فى نفسه أو شدة وجهد فى معيشته ، فوهبنا له العافية بعد السقم ، والغنى بعد الفقر ـ ليقولن هذا حقى قد وصل إلىّ ، لأنى أستوجبه بما حصل لى من ضروب الفضائل وأعمال البر والقرب من الله ، لا تفضل منه علىّ ـ أو لا يعلم أن هذه الفضائل لو وجدت فإنما هى بفضل الله وإحسانه ، وهو لا يستحق على الله شيئا؟

(٢) (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي وما أظن الساعة ستقوم ، فلا رجعة ولا حساب

٧

ولا عقاب على شىء من الآثام التي يقترفها الإنسان فى دنياه ، ويجترمها مدى حياته الدنيوية.

وما نتج هذا إلا من شدة رغبته فى الدنيا ، وعظيم نفرته من الآخرة ، فهو حين ينظر إلى أحوال الدنيا يقول : إنها لى وأنا جدير بها ، لما لى من فضل به استحققتها ، وحين ينظر إلى أحوال الآخرة يقول : وما أظن الساعة قائمة.

(٣) (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي وإن الغالب على ظنى أن لا رجعة ولا بعث ولا قيامة ، ولئن كان البعث حقا فإن لى عنده لكرامة فى الآخرة ، فإن حالها كحال الدنيا ، فما استحققته من النعيم فيها سيكون لى مثله فى الآخرة.

وبعد أن حكى عنهم هذه الأقوال ذكر أنه سيظهر لهم أن الأمر بعكس ما يظنون ، وبضد ما يعتقدون فقال :

(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي فلنخبرن هؤلاء الكافرين يوم يرجعون إلينا بما عملوا من المعاصي ، واجترحوا من الآثام ، وما دسّوا به أنفسهم من الخطايا ، ثم لنجازينّهم عليها ، فيستبين لهم أنهم جديرون بالإهانة والاحتقار لا بالكرامة والإحسان ، ولنذيقنهم عذابا غليظا لا يمكنهم الفكاك منه وهو عذاب جهنم التي لا موت فيها ولا يجدون عنها حولا.

وبعد أن حكى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه فى الجهد الجهيد ـ حكى أفعاله فقال :

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي وإذا نحن أنعمنا عليه فكشفنا عنه المرض ووهبنا له الصحة والعافية ورزقناه سعة العيش ـ أعرض عما دعوناه إليه من طاعتنا ، واستكبر عن الانقياد لأمرنا.

ثم ذكر أنه حين الضراء يكون على عكس هذا فيتضرع ويبتهل إلى ربه فقال :

(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي وإذا أصابته شدة من فقر ومرض ونحوهما

٨

أطال الدعاء والتضرع إلى الله ، لعله يكشف عنه تلك الغمة ، ويزيل عنه برحمته هاتيك الملمّة.

ونحو الآية قوله «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» الآية.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

تفسير المفردات

أرأيتم : أي أخبرونى ، أضل : أي أكثر ضلالا وبعدا عن الحق ، والشقاق : الخلاف ، والآفاق : النواحي من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها واحدها أفق (بضمتين وبضم فسكون) وشهيد : أي شاهد على كل ما يفعله خلقه ، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض ، ومرية : أي شك ، من لقاء ربهم : أي من البعث بعد الممات ، محيط : أي عالم بجميع الأشياء لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.

المعنى الجملي

بعد أن أوعد سبحانه على الشرك وهدد ، وحذر وأنذر ، وذكر أن المشركين ينكرون الشرك يوم القيامة ويتبرءون من الشركاء ، ويظهرون الذل والخضوع ، لاستيلاء الخوف عليهم لما يرون من شديد الأهوال ، وأردف هذا ذكر طبيعة الإنسان وأنه

٩

متبدل لا يثبت على حال واحدة ، فإن أحس القوة تكبر وتعظم ، وإن شعر بالضعف أظهر المسكنة والمذلة ـ أعقب ذلك بلفت أنظار الطاعنين فى ثبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى التأمل والتفكر فيما بين أيديهم من الدلائل ، ليرعووا عما هم فيه من الغى والضلال ، ويقروا بها لتظاهر الأدلة عليها ، وعلى أن القرآن منزل من عند الله حقا ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور.

الإيضاح

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالقرآن الذي جئتهم به من عند ربك : أخبرونى أيها القوم إن كان هذا الذي أنتم به تكذبون ـ من عند ربى ثم كفرتم به ، أفلا تكونون مفارقين للحق بعيدين من الصواب؟.

وقد كانوا كلما سمعوا القرآن أعرضوا عنه وبالغوا فى النفرة منه ، حتى قالوا : قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر ، فلفت أنظارهم إلى أنه يجب عليهم النظر والتأمل فيه ، فإن دل الدليل على صحته قبلوه ، وإن أرشد إلى فساده تركوه ، أما قبل ذلك فالإصرار على الإعراض والإنكار بعيدان عو الصواب وعما يحكم به العقل. فما أضلكم وأكثر عنادكم ومشاقتكم للحق واتباعكم للهوى.

وخلاصة ذلك ـ قل لهم : من أشد ذهابا عن قصد السبيل ، وأسلك لغير طريق الصواب ، ممن هو فى فراق لأمر الله وخلاف له ، وبعد عنه؟

وبعد أن ذكر أدلة التوحيد والنبوة أجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال :

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) أي سنرى هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد المحيطة بمكة وبمكة بما أجريناه على يدى نبينا وعلى يدى خلفائه وأصحابه من الفتوح الدالة على قوة الإسلام وأهله ، ووهن الباطل وحزبه حتى

١٠

يعلموا حقيقة ما أوحينا به إليك وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأن وعده صادق وأنه مظهر دينك على الأديان كلها.

والخلاصة ـ سنيسر لهم من الفتوح ما لم يتيسر لأحد ممن قبلهم ، ونظهرهم على الجبابرة والأكاسرة ، ونجرى على أيديهم من الأمور الخارجة عن المعهود ، الخارقة للعادة ، فيستبين لهم أن هذا القرآن هو الحق ، ومن ثمّ نصر حامليه ، وأظهرهم على أعدائهم فى قليل من الزمان.

ثم وبخهم على إنكارهم تحقق هذه الإراءة وحصولها فقال :

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟) أي كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم ، وهو يشهد بأن محمدا صادق فيما أخبر به عنه كما قال : «لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ» الآية ، وقوله : «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللهُ».

وقصارى ذلك ـ ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها سبحانه فى هذه السورة وفى كل سور القرآن ، وفيها البيان الكافي لإثبات وحدانية الله وتنزيهه عن كل نقص ، وإثبات النبوة والبعث.

وبعد أن أقام الأدلة ، وأوضح الحجج حتى لم يبق بعدها مقال لمتنعت ولا جاحد ـ بين سبب عنادهم واستكبارهم فقال :

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي إنهم فى شك من البعث والجزاء ، واستبعادهم إحياء الموتى بعد تفرق أجزائهم ، وتبدد أعضائهم ، ومن ثم لا يلتفتون إلى النظر فيما ينفعهم عند لقائه كالتفكر فى صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن القرآن حق لا شك فيه.

ثم دفع مريتهم وشكهم فى البعث وإعادة ما تفرق واختلط ، مما يتوهم منه عدم إمكان تمييزه فقال :

١١

(أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي إنه تعالى عليم بجمل الأشياء وتفاصيلها ، مقتدر عليها لا يفوته شىء منها ، فهو يعلم ما تفرق من أجزاء الأجسام ، ويقدر على إعادتها إلى مكنتها ، ثم بعثها وحسابها ، لتستوفى جزاءها على ما قدمت من عمل.

مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة

(١) وصف الكتاب الكريم.

(٢) إعراض المشركين عن تدبره.

(٣) جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين.

(٤) إقامة الأدلة على الوحدانية.

(٥) إنذار المشركين بأنه سيحل بهم ما حل بالأمم قبلهم.

(٦) شهادة الأعضاء عند الحشر على أربابها.

(٧) ما يفعله قرناء السوء من التصليل والصد عن سبيل الله.

(٨) ما كان يفعله المشركون حين سماع القرآن.

(٩) طلب المشركين إهانة من أضلوهم انتقاما منهم.

(١٠) ما يلقاه المؤمنون من الكرامة يوم العرض والحساب.

(١١) إعادة الأدلة على الوحدانية.

(١٢) القرآن هداية ورحمة.

(١٣) إحاطة علم الله وعظيم قدرته.

(١٤) من طبع الإنسان التكبر عند الرخاء والتضرع وقت الشدة.

(١٥) آيات الله فى الآفاق والأنفس الدالة على وحدانيته وقدرته.

(١٦) شك المشركين فى البعث والنشور ثم الرد عليهم.

١٢

سورة الشورى

هى مكية إلا الآيات ٢٣ ، ٢٤ ، ٢٥ ، ٢٦ ، ٢٧ فمدنية.

وآيها ثلاث وخمسون ، نزلت بعد فصلت.

ومناسبتها لما قبلها ـ اشتمال كل منهما على ذكر القرآن ، ودفع مطاعن الكفار فيه ، وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦))

تفسير المفردات

حم عسق ـ تقدم أن قلنا إن الحروف المقطعة التي جاءت فى أوائل السور حروف تنبيه نحو ألا ويا ونحوهما ، يؤتى بها لإيقاظ السامع وتنبيهه إلى ما سيلقى إليه من الأمور العظام المشتملة عليها هذه السورة ، وينطق بأسمائها هكذا (حاميم. عين. سين. قاف.) يتفطرن : أي يتشققن ، يسبحون : أي ينزهون الله عما لا يليق به ، والأولياء : الشركاء والأنداد ، حفيظ : أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم ، بوكيل :

١٣

أي بموكول إليك أمورهم حتى تؤاخذهم بها ولا وكل إليك هدايتهم ، وإنما عليك البلاغ فحسب.

المعنى الجملي

بين سبحانه أن ما جاء فى هذه السورة موافق لما فى تضاعيف الكتب المنزلة على سائر الرسل ، من الدعوة إلى التوحيد ، والإيمان باليوم الآخر ، والتزهيد فى جمع حطام الدنيا ، والترغيب فيما عند الله ، ثم ذكر أن ما فى السموات والأرض فهو مهلكه وتحت قبضته ، وله التصرف فيه إيجادا وإعداما وتكوينا وإبطالا ، وأن السموات والأرض على عظمهما تكاد تتشقق فرقا من هيبته وجلاله سبحانه ، وأن الملائكة ينزهونه عما لا يليق به من صفات النقص ، ويطلبون المغفرة لعباده المؤمنين ، ثم أردف هذا تسلية رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأنه ليس بالرقيب على عبدة الأصنام والأوثان يستطيع أن يردهم إلى سواء السبيل ، بل ليس عليه إلا البلاغ وعلينا حسابهم ، فلا يبخع نفسه عليهم حسرات ، إن الله عليم بما يصنعون.

الإيضاح

(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي بمثل ما فى هذه السورة ، من الدعوة إلى التوحيد ، والنبوة ، والإيمان باليوم الآخر ، وتجميل النفس بفاضل الأخلاق ، وإبعادها عن رذائل الخلال ، والعمل على سعادة المرء والمجتمع ، يوحى إليك الله العزيز فى ملكه ، الغالب بقهره ، الحكيم بصنعه ، المصيب فى قوله وفعله ، كما أوحى إلى الأنبياء بمثله من قبلك.

وسيأتى تفصيل هذا فى سورة «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» فقد ذكر فى أولها التوحيد ، وفى وسطها النبوة وفى آخرها المعاد. ثم قال : «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» أي إن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه

١٤

المطالب الثلاثة العالية التي لا تتم السعادة إلا بها ، ولا الفوز بالنعيم فى الدارين إلا بسلوكها.

ثم بين سبحانه عظمته وكبرياءه وحكمته فقال :

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أي إن ما فى السموات والأرض تحت قبضته وفى ملكه وله التصرف فيه إيجادا وإعداما ، وهو المتعالي فوقه ، العظيم عن مماثلته ، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) أي تكاد السموات يتشققن من هيبة من هو فوقهن بالألوهية والقهر ، والعظمة والقدرة.

وبعد أن بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات ، انتقل إلى ذكر الروحانيات فقال :

(وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي والملائكة ينزهون ربهم عن صفات النقص ، ويسمونه بسمات الجلال والكمال ، شاكرين له على ما أنعم به عليهم من طاعته ، وسخرّهم لعبادته.

ونحو الآية قوله : «لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ».

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي يسألون ربهم المغفرة لذنوب من فى الأرض من أهل الإيمان به ، ويلهمونهم سبل الخير الموصلة إلى السعادة ، فمثلهم مثل الضوء يعطى الحياة بحرارته ، ويعطى الهدى بنوره.

ونحو الآية قوله : «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ».

١٥

ثم بين سبحانه أن من شأنه المغفرة والرحمة لعباده فقال :

(أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فما من مخلوق إلا له حظ من رحمته ، وهو سبحانه ذو مغفرة للناس على ظلمهم.

وفى الآية إيماء إلى قبول استغفار الملائكة ، وهو يزيد على ما طلبوه من المغفرة ، الرحمة بهم ، وتأخير عقوبة الكافرين والعصاة نوع من المغفرة والرحمة ، لعلهم يرعوون عن غوايتهم ، ويثوبون إلى رشدهم ، وينيبون إلى ربهم.

ثم أبان وظيفة الرسل فقال :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي والمشركون الذين اتخذوا آلهة من الأصنام والأوثان يعبدونها ـ الله هو المراقب لأعمالهم ، المحصى لأفعالهم وأقوالهم ، المجازى لهم يوم القيامة على ما كانوا يفعلون ، ولست أنت أيها الرسول بالحفيظ عليهم ، إنما أنت نذير تبلغهم ما أرسلت به إليهم ، إن عليك إلا البلاغ وعلينا الحساب ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإنك لست بمدرك ما تريد من هدايتهم إلا إذا شاء ربك.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨))

تفسير المفردات

الإنذار : التخويف : وأم القرى : مكة ، ويوم الجمع يوم القيامة : سمى بذلك لاجتماع الخلائق فيه كما قال تعالى : «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ» والفريق : الجماعة ، والسعير : النار المستعرة الموقدة.

١٦

المعنى الجملي

بعد أن أبان فيما سلف أنه هو الرقيب على عباده ، المحصى لأعمالهم ، وأنه عليه السلام نذير فحسب ، وليس عليه إلا البلاغ ـ ذكر هنا أنه أنزل كتابه بلغة العرب ليفهمه قومه من أهل مكة وما حولها كما قال : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» وينذرهم بأن يوم القيامة آت لا شك فيه ، وأن الناس إذ ذاك فريقان : فريق يدخل الجنة بما قدم من صالح الأعمال ، وفريق يدخل النار بما دسّى به نفسه من سيىء الفعال ، ثم ذكر أن حكمته اقتضت أن يكون الإيمان بالتكليف اختيارا ولم يشأ أن يكون قسرا وجبرا ، ولو شاء أن يكون كذلك لفعل ، فمن أخبت لله وأناب وعمل صالحا أفلح وفاز بالسعادة ، ومن عاث فى الأرض فسادا ، واتجهت همته إلى ارتكاب الشرور والآثام خسر وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المهاد ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا.

الإيضاح

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح ، أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسان قومك ، لاخفاء فيه عليك ولا عليهم ، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره ولتنذر به أهل مكة وما حولها من البلاد ، كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه.

وقصارى ذلك ـ إنا كما أوحينا إليك أنك لست بالحفيظ عليهم ولا بالوكيل ، أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أهل مكة وما حولها.

وخص هؤلاء بالذكر ، لأنهم أول من أنذروا ، ولأنهم أقرب الناس إليه ، فلا دليل فيها على أنه أرسل إليهم خاصة ، كيف وقد جاء فى آية أخرى «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ».

١٧

وهذا الإنذار يعم شئون الدنيا وشئون الآخرة. ثم خص من بينها أمور الآخرة بيانا لعظيم أهوالها وشديد نكالها فقال :

(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي ولتنذر الخلائق كافة عقاب الله يوم جمعهم للعرض والحساب ، وهو يوم لا شك فيه ، لتظاهر الأدلة على تحققه عقلا ونقلا ، فالحكمة قاضية بجزاء المحسن على إحسانه ، ومعاقبة المسيء على إساءته ، ولما فيه من نصوص قاطعة على وجوده لا تحتمل تأويلا ولا تفسيرا.

ثم ذكر عاقبة العرض والحساب فقال :

(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي إنهم بعد جمعهم وعرضهم للحساب يفرقون ، ففريق منهم يدخل الجنة لإيمانه بالله ورسوله وبما أحسن من عمل فى دنياه استحق به الكرامة عند ربه ، والنعيم المقيم فى جنته ، وفريق منهم فى نار الله الموقدة المسعورة على أهلها ، وهم الذين كفروا بالله وخالفوا ما جاءهم به رسوله ، فدسّوا أنفسهم بما أساءوا إليها من شرور وآثام ، وبما عبدوه من أوثان وأصنام.

ونحو الآية قوله : «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ».

ثم سلّى رسوله على ما كان يناله من الغم والهم بتولي قومه عنه ، وعدم استجابة دعوته ، وأعلمه أن أمور عباده بيده ، وأنه الهادي إلى الحق من يشاء ، والمضل من أراد فقال :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي ولو شاء الله لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص عليه ، ولكن حكمته اقتضت أن يكون بعضهم مؤمنين كما تحب ، وبعضهم كفارا وهم الذين اتخذوا من دون الله أولياء ؛ لأنه سبحانه شاء أن يكون الإيمان مبنيا على التكليف

١٨

والاختيار ، يدخل فيه المرء بمحض الرضا والتأمل فى الأدلة الموصّلة إلى الهدى ، وبذلك يتم الفوز والسعادة فى الدارين ، وينفر منه من دنّس نفسه بإدران الشرك ، وركب رأسه وأطاع هواه فكان من الخاسرين.

ولو شاء لجعل الإيمان بالقسر والإلجاء فكان الناس جميعا أمة واحدة ، ولكن له الحجة البالغة ، والمثل الأعلى ، لم يشأ ذلك ، فلا تأس على عدم إيمان قومك ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات كما قال : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقد جاء هذا المعنى فى غير آية سلف كثير منها كقوله : «وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» وقوله : «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها».

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

تفسير المفردات

الولي : الناصر والمعين ، أنيب : أي أرجع ، فاطر السموات والأرض : أي مبدعهما لا على مثال سابق ، من أنفسكم : أي من جنسكم ، يذرؤكم : أي يكثّركم يقال ذرأ الله

١٩

الخلق : بثهم وكثّرهم ، مقاليد : واحدها مقلاد أو مقليد أو إقليد ، وهو المفتاح ، يبسط أي يوسع ، يقدر : أي يقتّر ويضيق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنهم اتخذوا من دون الله أولياء ، وأن الله وكيل عليهم ، ولست أيها الرسول بالحفيظ عليهم ـ طلب إليه هنا أن يدع الاهتمام بأمرهم ، ويقطع الطمع فى ايمانهم ، مبينا أنهم اتخذوا من دون الله أولياء ، وهو سبحانه الولي حقا ، القادر على كل شىء ، فقد عدلوا عنه إلى ما لا نسبة بينه وبينهم بحال.

الإيضاح

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن هؤلاء المشركين من قومك ، قد اتخذوا أولياء ينصرونهم من دون الله ، وقد ضلوا ضلالا بعيدا ، فهؤلاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فإن أرادوا وليّا بحق يدفع عنهم الملمات ، ويجلب لهم الخيرات ، فالله هو القادر على ذلك ، وهو المحيي الموتى ، ويحشرهم يوم القيامة ، فجدير بمثله أن يتّخذ وليّا ، لا من يستطيع دفع الضر عن نفسه ولا جلب الخير لها.

ونحو الآية قوله : «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ».

وبعد أن منع رسوله أن يحمل الكفار على الإيمان قسرا ـ منع المؤمنين أن يتنازعوا معهم فى شأن من شؤون الدين فقال :

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) أي وما اختلف فيه العباد من أمر الدين فحكمه ومرجعه إلى الله ، يحكم فيه يوم القيامة بحكمه ، ويفصل بين المختصمين ، وحينئذ يظهر المحق من المبطل ، ويتميز أهل الجنة وأهل النّار.

٢٠