تفسير المراغي - ج ٩

أحمد مصطفى المراغي

بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢))

تفسير المفردات

موسى : هو موسى بن عمران (بكسر العين) وأهل الكتاب يقولون : (عمرام) بفتح أوله ، وإنما سمى موسى لأنه ألقى بين ماء وشجر ، فالماء بالقبطية (مو) والشجر : (سى) وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته فى تابوت : (صندوق) وأقفلته إقفالا محكما وألقته فى (نهر النيل) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه ، إذ كانوا يذبحون ذكور بنى إسرائيل عند ولادتهم ويتركون نساءهم.

وفرعون لقب لملوك مصر القدماء كلقب قيصر لملوك الروم وكسرى لملوك الفرس. والراجح لدى كثير ممن يعنون بالتاريخ المصري القديم أن فرعون موسى هو الملك منفتاح وكان يلقب بسليل الإله. (رع) أي الشمس وقد كتب بجانب هيكله الذي بدار الآثار المصرية الآية الكريمة : «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً».

والملأ أشراف القوم ، وظلموا بها : جحدوا بها وكفروا ، وحقيق : أي جدير وخليق به ، يقولون أنت حقيق بكذا كما يقول : أنت جدير به وخليق به ، والنزع : إخراج الشيء من مكانه ، وتأمرون : أي تشيرون فى أمره ، يقولون : مرنى بكذا على معنى : أشر علىّ وأدل برأيك ، وأرجئ : أي أرجئ أمره وأخره ولا تفصل فيه بادى الرأى ، وفى المدائن

٢١

أي مدائن ملكت ، وحاشرين أي جامعين سائقين السحرة منها ، وعليم : أي بفنون السحر ، ماهر فيها.

المعنى الجملي

هذه هى القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرت فى هذه السورة وفيها من الإيضاح والتفصيل ما لم يذكر فى غيرها ، لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات غيره ممن سبق ذكرهم ، وجهل قومه كان أفحش. وقد ذكرت قصته فى عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة ، وذكر اسمه فى سور كثيرة زادت على مائة وثلاثين مرة وسر هذا : أن قصته أشبه قصص الرسل بقصص النبي صلى الله عليه وسلم إذ أنه أوتى شريعة دينية دنيوية ، وكوّن الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية.

الإيضاح

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها) أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى بالمعجزات التي تدل على صدقه فيما يبلغه عنا إلى فرعون وأشراف قومه فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبرا وجحودا فكان عليهم إثم ذلك وإثم قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم ، وقال : «إلى فرعون وملئه» ولم يقل فرعون وقومه لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبنى إسرائيل وبيدهم أمرهم وليس لسائر المصريين من الأمر شىء لأنهم كانوا مستعبدين أيضا ، ولكن الظلم كان على بنى إسرائيل الغرباء أشد ، ولو آمن فرعون وملؤه لآمن سائر المصريين لأنهم كانوا تبعا لهم ، وقد كان موسى مرسلا إلى قومه بنى إسرائيل قصدا وإلى فرعون وملئه وسيلة.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة فرعون وملئه المفسدين فى الأرض بالظلم واستعباد البشر حين جحدوا آيات الله وكفروا بها.

٢٢

وفى هذا تشويق وتوجيه للنظر إلى ما سيقصه الله تعالى من عاقبة أمرهم ، إذ نصر رسوله موسى وهو واحد من شعب مستضعف مستعبد لهم ، على فرعون وملئه وهم أعظم أهل الأرض قوة وصولة بأن أبطل سحرهم وأقنع علماءهم وسحرتهم بصحة رسالته وكون آياته من عند الله ، ثم نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد ثم بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن تبعه من ملئه وجنوده. وهذه عبرة قائمة على وجه الدهر وحجة على أن الغلب ليس للقوة المادية فحسب ، كما يقوله المغرورون بعظمة الأمم الظالمة فى الغرب لمن استضعفتهم من أهل الشرق.

وبعد التشويق والتنبيه المتقدم ، قص الله تعالى ما كان من أولئك القوم فى مبدأ أمرهم حتى انتهوا إلى تلك العاقبة.

(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي إن موسى صلى الله عليه وسلم بلّغ فرعون أنه رسول من رب العالمين كلهم : أي سيدهم ومالكهم ومدبر جميع أمورهم ، فهو لا يقول على الله إلا الحق ، إذ لا يمكن أن يبعث الله رسولا يكذب عليه وهو الذي بيده ملكوت كل شىء ، فهو معصوم من الكذب والخطأ فى التبليغ.

والخلاصة ـ إن كلامه اشتمل على عقيدة الوحدانية ، وهى أن للعالمين ربا واحدا وعلى عقيدة الرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة فى التبليغ والهداية.

ثم ذكر بعد هذا أن الله أيده ببينة تدل على صدقه فى دعواه فقال :

(قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي قد جئتكم ببرهان من ربكم شاهد على صدق ما أقول.

وفى قوله : من ربكم إيماء إلى أنهم مربوبون وأن فرعون ليس ربا ولا إلها ، وإلى أن البينة ليست من كسب موسى ولا مما يستقل به عليه السلام. ثم رتب على مجيئه بالبينة طلبه منه أن يرسل معه بنى إسرائيل أي يطلقهم من أسره ويعتقهم من رقه وقهره ليذهبوا معه إلى دار غير داره ويعبدوا فيها ربهم وربه.

٢٣

ثم حكى سبحانه ما قاله فرعون حينئذ :

(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال فرعون لموسى إن كنت قد جئت مؤيدا بآية من عند من أرسلك كما تدّعى فأتنى بها وأظهرها لدىّ إن كنت ممن يقول الصدق ويلتزم قول الحق.

ثم ذكر أن موسى أجابه إلى ما طلبه فقال :

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي فلم يلبث موسى أن ألقى عصاه التي كانت بيمينه أمام فرعون فإذا هى ثعبان ـ ذكر الحيات ـ مبين ، أي ظاهر بيّن لا خفاء فى كونه ثعبانا حقيقيا يسعى وينتقل من مكان إلى آخر وتراه الأعين من غير أن يسحرها ساحر فيخيل إليها أنها تسعى ، وقوله : ونزع يده ، أي أخرجها من جيب قميصه بعد أن وضعها فيه بعد إلقاء العصا فإذا هى بيضاء ناصعة البياض تتلألأ لكل من ينظر إليها.

وقد ذكر رواة التفسير بالمأثور روايات غاية فى الغرابة فى وصف الثعبان ليس لها سند يوثق به وما هى إلا إسرائيليات تلقفها المفسرون من أهل الكتاب الذين كانوا يكيدون للإسلام وللعرب كروايات وهب بن منبّه ؛ وهو فارسى الأصل أخرج كسرى والده إلى بلاد اليمن فأسلم فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابنه من بعده يختلف إلى بلاده بعد فتحها ، ومثله روايات كعب الأحبار الإسرائيلى ، وقد كان كلاهما كثير الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول ، وقومهما كانوا يكيدون للمسلمين الذين فتحوا بلاد الفرس وأجلوا اليهود من الحجاز ، ألا ترى أن قاتل الخليفة الثاني فارسى مرسل من جماعة سرية لقومه ، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله بن سبأ اليهودي.

ويرى المحققون من أعلام المسلمين أن الفتن السياسية والأكاذيب التي حدثت فى الرواية فى الصدر الأول يرجع أمرها إلى جماعة السبئيين وجماعات الفرس التي كانت تزوّد هؤلاء الوضاعين بأسلحة من الغش والتدليس ليفسد الإسلام على أهله ، ولو لا أن قيض الله للاسلام جماعة من أهل التحقيق أخرجوا البهرج والزيوف وألقوه

٢٤

وراءهم ظهريا وأبقوا الجيّد الذي لا لبس فيه ولا شك فى صحة روايته لكان خطبهم قد استفحل فى الإسلام وأفسدوا كثيرا منه على أهله ، ولكن الله قد حفظ الحنيفية لأهلها بيضاء نقية سمحة لا عنت فيها ولا إرهاق :

ثم حكى ما قاله قومه بعد أن رأوا من موسى ما رأوا.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي قال الأشراف من قوم فرعون وهم أهل مشورته ورؤساء دولته : إن هذا لساحر عليم : أي ماهر فى فنون السحر قد وجه كل همه لسلب ملككم منكم وإخراجكم من أرضكم بسحره ، إذ به يستميل الشّعب وينتزع منكم الملك ، ثم يخرج الملك وعظماء رجاله من البلاد حتى لا يناوئوه فى شئون الملك واستعادته منه.

وقد أبان هذا المعنى بوضوح بقوله فى سورة يونس حكاية عنهم من مراجعتهم لموسى وأخيه : «قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ».

ولم يكن هذا القول منهم إلا صدى لما قاله فرعون وقد حكاه الله عنه فى سورة الشعراء بقوله : «قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ» وقد ردّدوه بعده وصار بعضهم يلقيه إلى بعض كما هى عادة الناس فى ترديد كلام الملوك والرؤساء إظهارا للموافقة عليه وتعميما لتبليغه ، وبعد أن أتموا مقالتهم موافقين ما قاله فرعون تشاوروا فى أمره بماذا يحتالون لإطفاء نوره وإخماد نار دعوته متخوّفين أن يستميل الناس بسحره ، فاتفقت كلمتهم على ما حكاه الله عنهم بقوله :

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي قال الملأ لفرعون حين استشارهم بقوله : فماذا تأمرون؟ أخّر الفصل فى أمره وأمر أخيه وأرسل فى مدائن ملكك جماعات من رجال شرطتك وجندك جاشرين : أي جامعين لك السحرة منها وسائقيهم إليك

٢٥

وقد كان السحر فى زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا ، ومن ثمّ خيّل إلى كثير منهم أن ما جاء به موسى من قبيل ما تشعبذ به سحرتهم فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات كما حكى الله عن فرعون حيث قال : «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى ، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ، فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى».

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي فإن ترسلهم يأتوك بكل ساحر مجيد لفنون السحر ماهر فيها فيكشفوا لك حقيقة ما جاء به موسى فلا يفتنّ به أحد.

وإنما قال فى المدائن لأن السحر من العلوم التي توجد فى المدائن الجامعة المأهولة بدور العلم والصناعة ، وإنما نصحوه بإحضار السحرة الماهرين ، لأنهم الجديرون أن يأتوا موسى بمثل ما أتى به من الأمر العظيم.

فذلكة فى السحر وضروبه

السحر أعمال غريبة وحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم لأسبابها ، وقد كان فنا من الفنون التي يتعلمها قدماء المصريين فى مدارسهم الجامعة مع كثير من العلوم الكونية ، واقتفى أثرهم فى ذلك البابليون والهنود وغيرهم ولا يزال يؤثر عن الوثنيين من الهنود أعمال غريبة مدهشة من السحر اهتم بعض الإنكليز وغيرهم بالبحث بن حقيقة أمرها فعرفوا بعضا وجهلوا تعليل الأكثر.

وهو لا يروج إلا بين الجاهلين وله مكانة عظيمة فى القبائل الهمجية ، والبلاد ذات الحضارة تسميه بالشّعوذة والاحتيال والدجل ، وهو أنواع ثلاثة :

(١) ما بعمل بأسباب طبيعية من خواص المادة معروفة للساحر مجهولة عند من يسحرهم بها كالزئبق الذي قيل إن سحرة فرعون وضعوه فى حبالهم وعصيّهم كما سنذكره بعد ، ولو ادعى علماء الطبيعة والكيمياء فى هذا العصر السحر فى أواسط إفريقيا

٢٦

وغيرها من البلاد التي يروج فيها السحر لأروهم العجب العجاب من غرائب الكهرباء وغيرها حتى لو ادّعوا فيهم الألوهية لخضعوا لهم فضلا عن النبوة والولاية.

(٢) الشعوذة التي ملاك أمرها خفة اليدين فى إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعض وإراءة بعضها بغير صورها وغير ذلك مما هو معروف فى هذه البلاد وغيرها من البلاد المتمدينة.

(٣) ما يكون مداره على تأثير الأنفس ذات الإرادة القوية فى الأنفس الضعيفة القابلة للأوهام والانفعالات التي يسميها علماء النفس : (بالأنفس الهستيرية) وأصحاب هذا النوع يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين ومنهم من يكتب الأوفاق والطلسمات للحب والبغض إلى نحو ذلك.

ومن ذلك ما استحدث فى هذا العصر من التنويم المغناطيسى.

وعلى الجملة فالسحر صناعة تتلقي بالتعليم كما ثبت بنص الكتاب الكريم.

وبالاختبار الذي لم يبق فيه شك بين العلماء فى هذا العصر.

قال أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص وهو من فقهاء الحنفية فى القرن الرابع : زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه : (إنه يخيّل إلىّ أنى أقول الشيء وأفعله ، ولم أقله ولم أفعله وإن امرأة يهودية سحرته فى جفّ طلعة : (وعاء طلع النخل) ومشط ومشاطة حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته فى جفّ طلعة وهو تحت راعوفة البئر (١). فاستخرج وزال عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك العارض.

إلى أن قال : ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا بالحشو الطّغام واستجرارا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها ، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة وأن جميعه من نوع واحد. والعجب ممن يجمع بين

__________________

(١) المشاطة : بالضم الشعر الذي يسقط حين تسريحه بالمشط ، وراعوفة البئر : الحجر الثابت الذي يقف عليه المستقى من البئر ، أي إنها وضعت المشط والمشاطة فى جف طلعة تحت حجر البئر.

٢٧

تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى : «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى» فصدّق هؤلاء من كذبه الله وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله ، وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها فعلت ذلك ظنا منها بأن ذلك يعمل فى الأجساد وقصدت به النبي عليه الصلاة والسلام فأطلع الله نبيه على موضع سرها وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنت ليكون ذلك من دلائل نبوته ، لا أن ذلك ضره ، وخلط عليه أمره ، ولم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه أمره ، وإنما هذا اللفظ زيد فى الحديث ولا أصل له ا ه.

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف أنهم طلبوا إليه تأخير الفصل فى أمره حتى يحضر السحرة ليفسدوا عليه أعماله ويبينوا خبىء حيله ـ ذكر هنا أن السحرة جاءوا وطلبوا المثوبة من فرعون إن هم نفذوا ما طلبه فأجابهم إلى ذلك ففعلوا أفاعيلهم السحرية التي أوقعت الرهب فى قلوب المشاهدين.

الإيضاح

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) أي وجاء السحرة الذين حشرهم أعوان فرعون وشرطته إليه ، وحين جاءوا قالوا لفرعون : هل لنا من أجر كفاء ما نقوم به من العمل العظيم الذي يتم به الغلب على موسى.

٢٨

(قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي قال فرعون مجيبا لهم إلى ما طلبوا : نعم إن لكم أجرا عظيما على ما تقومون به من ذلك العمل الجليل ، وأنتم مع ذلك تكونون من المقرّبين منا فتجمعون بين المال والجاه وذلك منتهى ما تطمعون فيه من نعيم الدنيا وسعادتها.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أي قال السحرة لموسى بعد عدة فرعون لهم : إما أن تلقى ما عندك أولا ، وإما أن نلقى ما عندنا ؛ وفى هذا التخيير منهم له ـ دليل على اعتدادهم بسحرهم وثقتهم بأنفسهم وعدم المبالاة بعمله ، ولو لا ذلك لما خيروه. إذ المتأخر فى العمل يكون أبصر بما تقتضيه الحال بعد وقوفه على منتهى جهد خصمه.

(قالَ أَلْقُوا) أي قال موسى عليه السلام وهو واثق بشأنه محتقر لهم غير مبال بهم : ألقوا ما أنتم ملقون وهو عليه السلام لم يأمرهم بفعل السحر ابتداء وإنما أمر بأن يتقدموه فيما جاءوا لأجله ولا بد لهم منه ، وأراد بذلك التوسل إلى إظهار بطلان السحر لا إثباته وإلى بناء ثبوت الحق على بطلانه ، ولم يكن هناك وسيلة للإبطال إلا ذلك ، وقد صرح به فيما حكاه تعالى عنه : «قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ».

(فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) استرهبه أوقع فى قلبه الرّهب والخوف ، أي فلما ألقوا ما ألقوا من حبالهم وعصيّهم سحروا أعين النظارة ومنهم موسى عليه السلام كما جاء فى سورة طه : «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» وجاءوا بسحر عظيم فى مظهره كبير فى تأثيره فى أعين الناس.

٢٩

قال ابن كثير أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة فى الخارج ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال.

قال ابن عباس رضي الله عنه : إنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فأقبلت يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى.

قال ابن اسحق : إن السحرة كانوا خمسة عشر ألف ساحر. وإن الحيات التي أظهروها بخيال سحرهم كانت كأمثال الجبال قد ملأت الوادي. وقال السدى : إن السحرة كانوا بضعا وثلاثين ألفا ا ه.

وكل هذا مبالغات إسرائيلية وتهويلات لم يصح شىء منها وليس فى التوراة ما يؤيدها.

وقال الجصاص فى تفسيره : سحروا أعين الناس ، يعنى موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى ، كما قال : «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى».

فأخبر أن ما ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا وإنما كان تخيلا. وقد قيل إنها كانت عصيا مجوّفة قد ملئت زئبقا وكذلك الحبال كانت معمولة من جلد محشوة زئبقا. وقيل حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا ملئوها نارا فلما طرحت عليه وحمى الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير ا ه.

فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية إذا صح خبرها. ويمكن أن تكون هناك حيلة أخرى كإطلاق أبخرة أثرت فى الأعين فجعلتها تبصر ذلك ، أو أن الحبال والعصى جعلت على صورة الحيات وحركت بمحركات خفية سريعة لا تدركها أبصار الناظرين.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا

٣٠

صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢))

تفسير المفردات

لقف الشيء وتلقفه : تناوله بحذق وسرعة ، والمأفوك : المصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ، ومن ثم يقال للرياح التي عدلت عن مهابها مؤتفكة كما قال : «وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ» وقال : «قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» أي يصرفون عن الحق فى الاعتقاد إلى الباطل ، وعن الصدق فى المقال إلى الكذب ، وعن الجميل فى الفعل إلى القبيح ، فالإفك يكون بالقول كالكذب وقد يكون بالفعل كعمل سحرة فرعون ، وانقلبوا عادوا ، وصاغرين أي أذلة بما رزئوا به من الخذلان والخيبة ، وألقى السحرة ساجدين : أي خرّوا سجدا لأن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود.

الإيضاح

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي أوحى الله إلى عبده ورسوله موسى عليه السلام فى ذلك الموقف العظيم الذي قرن فيه بين الحق والباطل ـ أن يلقى ما فى يمينه وهى عصاه فإذا هى تبتلع ما يلقون ويوهمون به أنه حق وهو باطل ـ قال ابن عباس فجعلت لا تمرّ بشىء من حبالهم ولا خشبهم إلا التقمته ، فعرفت السحرة أن هذا شىء من السماء وليس بسحر فخروا سجدا و «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ».

ويرى جماعة من المفسرين أن لقفها لما يأفكون ـ هو أنها أتت عليه حتى أظهرت بطلانه وبيان حقيقة أمره فى نفسه بسرعة ، فإن كان إفكهم بما أحدثوه من التأثير فى الأعين فلقفها إياه إزالته وإبطاله برؤية الحبال والعصىّ على حقيقتها ، وإن كان تحريكا لها بمحركات خفية سريعة فكذلك وإن كان قد حصل بجعلها مجوفة محشوّة

٣١

بالزئبق وتحريكه إياها بفعل الحرارة : (سواء كانت نارا أعدت لها أو الشمس حين أصابتها) فلقفها لذلك يكون بعمل من الحية أخرجت به الزئبق من الحبال والعصى فانكشفت به الحيلة ولو كانت قد ابتلعتها لبقى الأمر ملتبسا على الناس ، إذ قصاراه أن كلا من السحرة وموسى قد أظهر أمرا غريبا ولكن أحد الفريقين كان أقوى من الآخر فأخفاه على وجه غير معلوم ولا مفهوم ، وهذا لا ينافى كونهما من جنس واحد ـ ولكن زوال غشاوة السحر وتخييله حتى رأى الناس أن الحبال والعصى التي ألقاها السحرة ليست إلا حبالا وعصيا لا تسعى ولا تتحرك ، وأن عصا موسى لم تزل حية تسعى هو الذي ماز الحق من الباطل وعرفت به الآية الإلهية والحيلة الصناعية وقد فعلت ذلك بسرعة ومن ثم عبر عنه باللقف ، ولكن لا يعرف بما كان لها هذا التأثير؟ لأنها آية إلهية لا أمر صناعى حتى تدرك حقيقته.

(فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فثبت الحق وفسد ما كانوا يعملون من الحيل والتخييل وذهب تأثيره ، إذ تبين لمن شهده وحضره أن موسى رسول من عند الله يدعو إلى الحق وأن ما عملوه ما هو إلا إفك السحر وكذبه ومخايله.

(فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أي فغلب موسى فرعون وجموعه فى ذلك الجمع العظيم الذي كان فى عيد لهم ضربه موسى موعدا لهم كما جاء فى سورة طه : «قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» وعادوا من ذلك الحفل صاغرين أذلة بما رزئوا به من خيبة وخذلان.

(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي وألقى السحرة حينما عاينوا عظيم قدرة الله ساقطين على وجوههم سجّدا لربهم ، لأن الحق قد بهرهم واضطرهم إلى السجود ، حتى كأن أحدا دفقهم وألقاهم.

والخلاصة ـ إن ظهور بطلان سحرهم وإدراكهم فجأة لآية موسى وعلمهم بأنها من عند الله لا صنع فيها لمخلوق ملأت عقولهم يقينا وقلوبهم إيمانا فكأنّ اليقين الحاكم

٣٢

على الأعضاء والجوارح هو الذي ألقاهم على وجوههم سجدا لرب العالمين الذي بيده ملكوت كل شىء ـ وزالت من نفوسهم عظمة فرعون الدنيوية الزائلة ـ بعد أن ظهر لهم صغاره أمام هذه الآية فنطقوا بما حكى الله عنهم.

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أي قالوا صدقنا بما جاءنا به موسى ، وأن الذي علينا أن نعبده هو رب الإنس والجن وجميع الأشياء المدبر لها رب موسى وهارون.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

تفسير المفردات

المكر : صرف الإنسان عن مقصده بحيلة ، وهو نوعان : محمود ويراد به الخير. ومذموم يقصد به الشر ، وتقطيع الأيدى والأرجل من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والعكس بالعكس ، والصلب الشد على خشبة ونحوها ، وشاع فى تعليق الشخص بنحو حبل فى عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم ـ ونقمت الشيء : إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة كما قال تعالى «وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» ـ «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ» وأفرغ علينا : أي أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء من القرب.

٣٣

المعنى الجملي

فى هذه الآية إخبار بما توعد به فرعون السحرة لما آمنوا بموسى عليه السلام وبما عزم عليه من التنكيل بهم وبما رد به السحرة عليه من استسلامهم لأمر الله لا لأمره ودعائهم ربهم بالتوفى على ملة الإسلام.

الإيضاح

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) آمنتم إما خبر يراد به التوبيخ ، وإما استفهام يراد به الإنكار والتوبيخ : أي آمنتم به واتبعتموه مذعنين لرسالته قبل أن آذن لكم؟

(إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أي إن هذا الذي فعلتموه أنتم وهو ـ ليس إلا مكرا مكرتموه واتفاقا دبّرتموه من قبل بما أظهرتم من المعارضة والرغبة فى الغلب عليه ـ مع إسرار اتباعه بعد ادعاء ظهور حجته كما جاء فى سورة طه : «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» فأجمعتم كيدكم لنا فى هذه المدينة لأجل أن تخرجو المصريين منها بسحركم ، ويكون لكم فيها مع بنى إسرائيل ما هو لنا الآن من الملك والرياسة والتصرف فى البلاد.

وكل ذى لب وفطنة يعلم أن هذه مقالة لا نصيب لها من الصحة ، ولا ظل لها من الحقيقة ، فإن موسى إثر مجيئه من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر المعجزات الباهرة ، فلم يكن من فرعون إلا أن أرسل فى المدائن حاشرين ووعدهم بالعطاء الجزيل ، وموسى لا يعرف منهم أحدا ولا رآه ولا اجتمع به ؛ وفرعون يعلم ذلك وإنما قال ذلك تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم كما قال تعالى «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ».

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما أصنع بكم من العذاب جزاء على هذا المكر والخداع.

ثم بين ذلك بقوله :

٣٤

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي قسما لأنكلنّ بكم أشد التنكيل ، لأقطعن الأيدى والأرجل من خلاف ثم لأصلبنّ كل واحد منكم وهو على تلك الحال لتكونوا عبرة لمن تحدّثه نفسه بالكيد لنا والترفع عن الخضوع لعظمتنا.

والخلاصة ـ إن اتهامه السحرة بالتواطؤ مع موسى إثما كان تمويها على قومه المصريين ، إذ خاف عاقبة إيمان الشعب بموسى فادّعى أنه لا ينتقم من السحرة إلا حبّا فيهم ودفاعا عنهم وإبقاء لاستقلالهم فى وطنهم كما هو شأن كل رئيس أو ملك فى شعب يخاف أن ينتقض عليه وتجتمع كلمته على اختيار زعيم آخر يقوم بدعوة دينية أو سياسية.

وعند ما سمع السحرة هذا التهديد والوعيد من ذلك الجبار المتكبر أجابوه.

(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي إنهم لا يأبهون بقتلهم ، لأنهم راجعون إلى ربهم راجون مغفرته ورحمته ، فتعجيل القتل يكون سببا لقرب لقائه والتمتع بجزائه.

وقد يكون المعنى ـ إنا وإياك سننقلب إلى ربنا وما أنت بمخلّد بعدنا ، فلئن قتلتنا فسيحكم الله بعدله بينك وبيننا.

إلى ديّان يوم الدين نمضى

وعند الله تجتمع الخصوم

وفى هذا إيماء إلى تكذيبه فى دعوى الربوبية وتصريح بإيثار ما عند الله على ما عنده من الشهوات الدنيوية الزائلة.

وما جاء فى سورة الشعراء من قولهم : «قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» يؤيد المعنى الأول.

(وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) أي وما تعيب منا وما تنكر إلا خير الأعمال وأصل المفاخر وهو الإيمان بالله ، ومثل هذا لا يمكن العدول عنه مرضاة لك ولا طلبا للزلفى إليك.

وفيه تيئيس له ، وكأنهم قالوا لا مطمع لك فى رجوعنا عن إيماننا ، وإلى أن تهديدك لا يجدى فائدة.

٣٥

وما ذكره السحرة من نقم فرعون منهم كان بالقول بالاستنكار التوبيخي لإيمانهم والتهمة فيه والوعيد عليه ، وهل نفّذ الوعيد بالانتقام بالفعل؟ الظاهر نعم بدليل قوله «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» يعنى فرعون وملأه.

وقد ختم سبحانه كلام السحرة بدعائهم بقولهم :

«رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» أي ربنا هب لنا صبرا واسعا تفرّغه علينا وأيّدنا بروحك حتى لا يبقى فى قلوبنا شىء من خوف غيرك ولا من الرجاء فى سوى فضلك ، وتوفّنا إليك مذعنين لأمرك ونهيك مستسلمين لقضائك غير مفتونين بتهديد فرعون ولا مطيعين له فى قوله ولا فعله. وقد ذكر المؤرخون قديما وحديثا أن المؤمنين بالله واليوم الآخر من كل ملة ودين يكونون أعظم شجاعة وأكثر صبرا على مشاق الحروب من غيرهم ، ومن ثم يحرص زعماء الشعوب على بث النزعة الدينية بين رجالات الجيوش.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩))

٣٦

المعنى الجملي

يخبر سبحانه عما تمالأ عليه فرعون وملؤه وما أضمروه لموسى وقومه من الأذى والبغض وما كان من تأثير جوابه فى موسى وقومه ؛ لقد نصح موسى قومه ودار بينهم حوار قصه الله علينا فى تلكم الآيات.

الإيضاح

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟) أي وقال الأشراف من قوم فرعون لفرعون : أتترك موسى وقومه أحرارا آمنين فتكون عاقبتهم أن يفسدوا عليك قومك بإدخالهم فى دينهم ، أو بجعلهم تحت سلطانهم ورياستهم ويتركك مع آلهتك فلا يعبدوك ولا يعبدوها فيظهر لأهل مصر عجزك وعجزها ولا يغيبنّ عنك إيمان السحرة فقد يكون مقدمة لما بعده.

والتاريخ المصري المستمدّ من العاديات المصرية يدل على أنه كان للمصريين آلهة كثيرة منها الشمس ويسمونها (رع) وفرعون عندهم سليل الشمس وابنها.

(قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي قال فرعون مجيبا للملأ : سنقتّل أبناء قومه تقتيلا كلما تناسلوا ونستبقى نساءهم أحياء كما كنا نفعل قبل ولادته حتى ينقرضوا ويعلموا أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة.

(وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) أي وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان ، قاهرون لهم كما كنا من قبل ، فلا يقدرون على أذانا ولا الإفساد فى أرضنا ولا الخروج من عبوديتنا ، وقد جاء فى سورة المؤمن «وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ».

ولما سمع بنو إسرائيل هذا الوعيد خافوا من فرعون فطمأنهم موسى كما حكى الله عنه بقوله :

٣٧

(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي قال لهم يا قوم : اطلبوا معونة الله وتأييده على رفع ذلك الوعيد عنكم ، واصبروا ولا تحزنوا ، فإن الأرض (فلسطين) التي وعدكموها ربكم هى لله الذي بيده ملكوت كل شىء يورثها من يشاء من عباده لا لفرعون ، فهى على مقتضى سننه دول وأيام ، والعاقبة الحسنى لمن يتقون الله ويراعون سننه فى أسباب إرث الأرض باتحاد الكلمة والاعتصام بالحق وإقامة العدل والصبر على الشدائد والاستعانة بالله لدى المكاره ، ونحو ذلك مما هدت إليه التجارب ودلت عليه الشرائع.

والخلاصة ـ إن الأمر ليس كما قال فرعون ، بل القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله ، ولمن وعده الله تعالى توريث الأرض ونحن الموعودون بذلك ، ولكن بشرط أن نقيم شرعه ونسير على سننه فى الخلق.

وليس الأمر كما يظن فرعون وقومه من بقاء القوىّ على قوته ، والضعيف على ضعفه اعتمادا على أن الآلهة ضمنت له بقاء ملكه وعظمته وجبروته.

لكن هذه الوصية وتلك النصائح لم تؤثر فى قلوبهم ففزعوا من فرعون وقومه.

و (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) فقد كان بنو إسرائيل قبل مجىء موسى مستضعفين فى يد فرعون يأخذ منهم إتاوات مختلفة ، ويستعملهم فى الأعمال الشاقة ، ويمنعهم من الترف ، ويقتل أبناءهم ويستحيى نساءهم ، فلما بعث الله موسى لم يستطع أن ينقذهم من ظلم فرعون ، إذ كان يؤذيهم ويظلمهم بعد إرساله كما كان يؤذيهم من قبل ذلك أو أشد.

ولما ذكروا ذلك لموسى أجابهم :

(قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي قال موسى إن رجائى من فضل الله أن يهلك عدوكم الذي ظلمكم ويجعلكم خلفاء فى الأرض التي وعدكموها ومنعكم فرعون من الخروج منها ، فينظر سبحانه كيف

٣٨

تعملون بعد استخلافه إياكم فيها ـ أتشكرون النعمة أم تكفرون؟ وتصلحون فى الأرض أم تفسدون ، ويكون جزاؤكم فى الدنيا والآخرة وفق ما تعملون.

وعبر بالرجاء دون أن يجزم بذلك لئلا يتركوا ما يجب من العمل ويتكلوا على ذلك ، أو لئلا يكذّبوه لأن أنفسهم قد ضعفت بما طال عليها من الذل والاستخذاء لفرعون وقومه واستعظامهم لقومه وملكه.

وقد جاء فى الفصل السادس من سفر الخروج من التوراة : فقال الرب لموسى : ألا ترى ما أصنع بفرعون ، إنه بيد قديرة سيطلقكم ، وبيد قديرة سيطردكم من أرضه ـ وأعلمه بأنه أعطى إبراهيم وإسحق عهدا بأن يعطيهم أرض كنعان وأنه سمع أنين بنى إسرائيل الذين استعبدهم المصريون فذكر عهده ـ ثم قال : لذلك قل لبنى إسرائيل أنا الرب لأخرجنّكم من تحت أثقال المصريين ، وأخلصنّكم من عبوديتهم ، وأفدينّكم بذراع مبسوطة وأحكام عظيمة ، وأتخذنّكم لى شعبا ، وأكونن لكم إلها وتعلمون أننى أنا الرب إلهكم المخرج لكم من تحت أثقال المصريين وسأدخلنكم الأرض التي رفعت بدى مقسما أن أعطيها لإبراهيم وإسحق ويعقوب فأعطيها لكم ميراثا أنا الرب ، فكلم موسى بذلك بنى إسرائيل فلم يسمعوا لموسى لضيق أرواحهم وعبوديتهم الشاقة؟ ا ه.

وعلينا أن نعرف أن جل ما كتبه المفسرون عن بنى إسرائيل منقول مما سمعوه ممن أسلم منهم وليس كل من أسلم منهم كان حافظا ثقة صادقا فى النقل ، وإما مأخوذ من كتب غير موثوق بها ومن ثم كان أكثر ما كتبوه فى التفسير منها مهوّشا مضطربا حجة لأهل الكتاب علينا.

وإذا كان هذا حال علمائنا فى أخبارهم بعد انتشار العلوم فى البلاد الإسلامية ، فما بالك بأخبارهم لدى أهل مكة عند ظهور الإسلام ولم يكن فى مكة كتاب يقرأ ، ولا أحد يعرف القراءة والكتابة إلا ستة نفر من التجار يعرفونها معرفة ساذجة ، لا تشفى غليلا ، ولا تفيد فى تحقيق حادثة ولا حل مشكلة.

٣٩

فأنى لمحمد بن عبد الله أن يعرف حقائق أخبارهم ومعرفة أحوالهم لو لا الوحى الإلهى والفيض الرباني من لدن عليم خبير.

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣))

تفسير المفردات

كثر استعمال الأخذ فى العذاب كقوله «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» وآل فرعون : قومه وخاصته وأعوانه فى أمور الدولة ، وهم الملأ من قومه ولا يستعمل هذا اللفظ إلا فيمن يختص بالإنسان بقرابة قريبة كما قال عز اسمه «وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ» أو بموالاة ومتابعة فى الرأى كما قال «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» والسنون ، واحدها سنة : وهى بمعنى الحول ولكن أكثر ما تستعمل فى الحول الذي فيه الجدب كما هنا بدليل نقص الثمرات ، والمراد بالحسنة هنا : الخصب والرخاء ، وبالسيئة : ما يسوءهم من جدب وجائحة أو مصيبة فى الأبدان والأرزاق ، ويطيروا يتشاءموا ، وسر إطلاق التطير على التشاؤم أن العرب كانت تتوقع الخير والشر مما تراه من حركة الطير فإذا طارت من جهة اليمين تيمنت بها ورجت الخير والبركة ، وإذا طارت من جهة الشمال تشاءمت وتوقعت الشر ، ويسمى

٤٠