مصابيح الظلام - ج ٢

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٢

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-2-7
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٤١

قوله : (الفرسخ ثلاثة أميال بالإجماع). إلى آخره.

لا شبهة في أنّه يظهر من الأخبار أنّ الفرسخ ثلاثة أميال ، مثل صحيحة عمران بن محمّد عن الجواد عليه‌السلام أنّه قال له : «إنّ لي ضيعة على خمسة عشر ميلا خمسة فراسخ» (١).

وموثّقة عبد الرحمن بن الحجّاج عن الصادق عليه‌السلام ـ وهي كالصحيحة ـ وفي آخرها : «ثمّ أومأ بيده أربعة وعشرين ميلا يكون ثمانية فراسخ» (٢). إلى غير ذلك من الأخبار (٣).

وأمّا كون الميل ما ذكره ، فلأنّه من موضوعات الأحكام ، يرجع فيه إلى اللغة والعرف.

وفي «القاموس» : الميل قدر مدّ البصر. إلى أن قال : ومائة ألف إصبع إلّا أربعة آلاف إصبع (٤).

وجه الدلالة ، أنّ الذراع أربعة وعشرون إصبعا ، كما ذكره المصنّف.

وأمّا العرف ، فالظاهر أنّه مشهور.

والمحقّق في «الشرائع» ـ بعد جعل حدّ الميل ما ذكرناه ـ قال : تعويلا على المشهور بين الناس ، ثمّ قال : أو مدّ البصر من الأرض (٥) ، انتهى.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٠ الحديث ٥٠٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٩ الحديث ٨١١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٦ الحديث ١١٢٦٩.

(٢) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٢ الحديث ٦٤٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٥ الحديث ١١١٥٣.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٧ الحديث ١١١٦٠ ، ٤٦١ الحديث ١١١٧٢ ، ٤٦٢ الحديث ١١١٧٥.

(٤) القاموس المحيط : ٤ / ٥٤.

(٥) شرائع الإسلام : ١ / ١٣٢.

٦١

والحدّ الثاني : ذكره أيضا أهل اللغة ، وأكثرهم اقتصر عليه (١).

ولعلّ الحدّين مآلهما واحد ، إلّا أنّ الثاني فيه إجمال ، وإن ضبط ذلك بأنّ يتميّز الفارس عن الراجل للمبصر المتوسّط في الأرض المستوي ، إذ لا تأمّل في أنّه بعد لا يخلو عن إجمال وعدم انضباط تامّ.

ولعلّ لذلك اختار المشهور الأوّل ، والفقهاء أكثرهم اقتصر عليه (٢) ، وظاهر المحقّق أيضا أنّ تعويله على الأوّل أزيد حيث قدمه ، وقال : تعويلا على المشهور بين الناس.

ولا شبهة في أنّ هذا أقوى وأضبط ، سيّما على القول بتقديم العرف على اللغة عند التعارض ، بل على القول بتقديم اللغة أيضا ، لأنّ أهل اللغة أيضا ذكروا الأوّل ، فصار متّفقا عليه بين أهل العرف واللغة ، مضافا إلى الأضبطيّة ، بل الضبط ، لأنّ ما ذكر في الثاني لم يظهر بعد وجهه ، ومع ذلك لا ينفع ، لعدم الإخراج عن الإجمال بالمرّة.

وأمّا ما ذكر في الروايتين اللتين ذكرهما (٣) ، فمع ضعف السند لا يمكن الاحتجاج بهما ، لما حقّق من اشتراط العدالة ، أو ما يجبر ضعف السند ، حتّى يتحقّق التبيّن ، ولم يوجد جابر ، بل المخالفة لفتوى الفقهاء تجعلهما شاذّتين ، لا يجوز العمل بهما عقلا ونقلا.

هذا ، مضافا إلى المخالفة بينهما وعدم ظهور قائل بمضمونهما ، وعدم معلوميّة المراد من الذراع المذكور فيهما ، لأنّ الذراع الهاشمي ، والذراع المكسر ، وذراع

__________________

(١) مجمع البحرين : ٥ / ٤٧٦.

(٢) السرائر : ١ / ٣٢٨ ، المعتبر : ٢ / ٤٦٧ ، منتهى المطلب : ٦ / ٣٣٥ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٠.

(٣) مرّت الإشارة إليهما آنفا.

٦٢

الكرباس ، لعلّ كلّ واحد مغاير الآخر ، ولا يدلّ دليل على تعيينه.

ومع ذلك لا توافقان الحدّ الآخر في مسافة القصر ، وهو بياض يوم بالنسبة إلى سير الأحمال والجمال المتعارف ، سيّما الرواية الثانية.

وكذا لا توافقان ما ذكر في صحيحة زرارة من أنّ الجمعة واجبة على من إن صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة (١) ، والعلّة المذكورة في ذلك وإرجاعها إلى الفرسخين المذكورين في أكثر الأخبار. إلى غير ذلك من مبعداتهما.

ويمكن أن يكون الثانية سهوا ، كما ذكره المصنّف ، بل الظاهر ذلك ، لما ذكره المصنّف ، ولغاية منافرتها مع الامور التي أشرنا إليها وغيرها ، بحيث يحصل القطع بذلك ، إلّا أن يجعل المراد من الذراع أمرا آخر غير المعهود.

وأمّا الاولى ، فيمكن أن يكون المراد من الذراع فيها ما يساوي القدمين ، إذ في الأخبار يجعل الذراع والقدمان متّحدين ، معرّفا كلّ منهما الآخر ، منها الأخبار الواردة في أوقات الصلاة ، ونوافل الظهرين (٢).

ومعلوم أنّ القدمين يزيد على الذراع المحدود بأربعة وعشرين إصبعا بشي‌ء يسير ، كما لا يخفى ، بل لعلّه أقرب إلى مساحة ما بين ظلّ عائر وفي‌ء وعير المذكور في الروايتين (٣) ، فتأمّل جدّا!

وممّا يؤيّد ما ذكرناه ، أنّ الفقهاء المتأخّرين بأجمعهم اتّفقوا على الحدّ المذكور ، ولم يتعرّضوا حال الروايتين أصلا ورأسا.

بل لم يظهر من القدماء التعرّض والفتوى ، غير أنّ الصدوق رحمه‌الله لمّا نقل

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٠ الحديث ٦٤٢ ، الاستبصار : ١ / ٤٢١ الحديث ١٦٢١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٧ الحديث ٩٤٢٧.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ١٤٠ الباب ٨ ، ١٥٦ الباب ١٠ من أبواب المواقيت.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٠ الحديث ١١١٦٨ و ١١١٦٩ مع اختلاف يسير.

٦٣

الثانية (١) والكليني نقل الاولى في «الكافي» (٢) ، ربّما يظهر منهما الفتوى بمضمونهما.

لكن الفتوى بظاهر الثانية ممّا لا يمكن تجويز نسبته إلى الصدوق رحمه‌الله ، للقطع الحاصل من الأمارات الاخر بفساد ذلك ، فلا بدّ من أن يكون الاشتباه من النسّاخ ، كما ذكره ، أو يكون مراده من الذراع أمرا آخر.

وأمّا الاولى ، فقد عرفت أنّه لا منافاة بينها وبين ما أفتى به الفقهاء وما هو مستندهم.

وفي «شرح اللمعة» : كلّ إصبع سبع شعيرات متلاصقات بالسطح الأكبر. إلى أن قال : ويجمعها مسير يوم معتدل الوقت والمكان والسير لأثقال الإبل ، ومبدء التقدير من آخر خطّة البلد المعتدل وآخر محلّته في المتّسع عرفا (٣) ، انتهى.

هذا المبدأ بالنسبة إلى المسافر في التقصير والإفطار ، وأمّا بالنسبة إلى البعيد عن الجمعة ، فالظاهر موضع إيقاع الجمعة ، كما يظهر من الأخبار (٤) ، فتأمّل!

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٦ الحديث ١٣٠٣.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٣٣ الحديث ٤.

(٣) الروضة البهيّة : ١ / ٣٦٩.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٤ الباب ٧ من أبواب صلاة الجمعة.

٦٤

١٠ ـ مفتاح

[أحكام الخطبتين]

يجب تقديم الخطبتين على الصلاة ، والطهارة فيهما ، والقيام إلّا مع العجز ، واشتمال كلّ منهما على حمد الله والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والوعظ ، بل والقراءة ، وقيل باستحبابها (١) ، والأولى أن يعمل بالمأثور.

وفي وجوب عربيّتهما ورفع الصوت بهما بحيث يسمع العدد ، والفصل بينهما بجلسة خفيفة ، والإصغاء لهما ، وترك الكلام في أثنائهما ، أو استحباب ذلك كلّه خلاف.

أمّا استقبال الناس والسّلام عليهم أوّل ما يصعد ، والجلوس حتّى يفرغ المؤذّن ، والتعمّم شاتيا وقائظا ، والتردّي ببرد يمنيّة ، والاعتماد على عصا أو سيف أو قوس ، وبلاغة الخطيب واتّصافه بما يأمر به ، وانزجاره على عمّا ينهى عنه ، فكلّها مستحبّة.

وأكثر ما ذكر منصوص (٢) على أصله دون وجوبه واستحبابه.

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٤١ الباب ٢٤ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ، ٣١٣ الحديث ٩٤٤٢.

٦٥
٦٦

قوله : (يجب تقديم الخطبتين على الصلاة). إلى آخره.

الأخبار في وجوب تقديم الخطبتين كادت تبلغ التواتر ، منها ما سيجي‌ء في بحث تقديمها على الزوال.

وأمّا الأصحاب ، فالمعروف منهم ذلك ، حتّى قال في «المنتهى» : لا نعرف فيه مخالفا (١).

لكنّ الصدوق رحمه‌الله في «العلل» صرّح بتأخيرهما عن الصلاة ، وأنّ أوّل من قدّمهما عثمان ، من جهة أنّ الناس ما كانوا يقفون لخطبته ، من جهة أنّه أحدث ما أحدث (٢).

وقال في «الفقيه» ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أوّل من قدّم الخطبة على الصلاة يوم الجمعة عثمان ، لأنّه كان إذا صلّى لم يقف الناس على خطبته [وتفرّقوا] وقالوا : ما نصنع بمواعظه وهو لا يتّعظ بها وقد أحدث ما أحدث ، فلمّا رأى ذلك قدّم الخطبتين على صلاة الجمعة» (٣).

وقال في «العيون» : الخطبتان في الجمعة والعيدين بعد الصلاة ، لأنّهما بمنزلة الركعتين الاخراويين ، وأوّل من قدّمهما عثمان (٤). إلى آخره.

ولم أجد من أحد من الفقهاء تعرّض لذكر خلافه أصلا ، ولم يعتنوا به مطلقا.

وسيجي‌ء في بحث صلاة العيدين حكاية تقديم عثمان فيها ، فلعلّ راوي الرواية التي رواها في «الفقيه» وقع منه وهم سمع العيد فتوهّم الجمعة ، أو كتب في

__________________

(١) منتهى المطلب : ٥ / ٤٠٢.

(٢) علل الشرائع : ١ / ٢٦٥ و ٢٦٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٨ الحديث ١٢٦٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٢ الحديث ٩٥٠٩ مع اختلاف يسير.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١١٨ و ١١٩ مع اختلاف يسير.

٦٧

الأصل اشتباها ، فصار سبب فتوى الصدوق رحمه‌الله ، مع انضمام ما نقلنا عن «العيون».

وكيف كان ، لا تأمّل في عدم صحّة الرواية وعدم انجبارها أيضا ، بل تكون شاذّة ، فلا تصلح للحجّية ، فضلا عن أن تعارض الصحاح وغيرها المنجبرة بفتاوى الأصحاب ، وكذا الحال فيما نقلناه.

قوله : (والطهارة فيهما).

أقول : اختلف الأصحاب فيه ، وإن اتّفقوا على الرجحان ، فعن الشيخ في «المبسوط» و «الخلاف» أنّه شرط (١) ، وعن ابن إدريس ، والمحقّق ، والعلّامة : منعه (٢).

احتجّ الشيخ بالاحتياط ، لتوقّف يقين البراءة عليه (٣) ، وبفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولصحيحة ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام : «إنّما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين ، فهي صلاة حتّى ينزل الإمام» (٤) ، والاتّحاد لا معنى له ، فالمراد المماثلة في الأحكام والشرائط ، إلّا ما وقع عليه الإجماع.

واجيب عن الأوّل : بمنع كون الاحتياط دليلا شرعيّا ، ومنع الاحتياط أيضا ، فإنّ إلزام المكلّف بها بغير دليل إثم ، كما أنّ إسقاط الواجب أيضا إثم.

وعن الثاني : أنّ فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعمّ من الواجب (٥).

__________________

(١) المبسوط : ١ / ١٤٧ ، الخلاف : ١ / ٦١٨ المسألة ٣٨٦.

(٢) السرائر : ١ / ٢٩١ ، شرائع الإسلام : ١ / ٩٥ ، المعتبر : ٢ / ٢٨٥ ، المختصر النافع : ٣٥ ، قواعد الأحكام : ١ / ٣٧ ، مختلف الشيعة : ٢ / ٢٠٩ ، تبصرة المتعلّمين : ٣١.

(٣) الخلاف : ١ / ٦١٨ المسألة ٣٨٦.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢ الحديث ٤٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٣ الحديث ٩٤٤١.

(٥) لاحظ! المعتبر : ٢ / ٢٨٦.

٦٨

وعن الثالث : أنّ إثبات المماثلة بين شيئين لا يستلزم أن يكون من جميع الوجوه ، كما تقرّر في مسألة أنّ نفي المساواة لا يفيد العموم (١).

وهذه الأجوبة فاسدة ، لأنّ الاحتياط دليل شرعي ، لعموم الأخبار مثل قولهم عليهم‌السلام : «احتط لدينك بما شئت» (٢) وقولهم عليهم‌السلام : «عليك بالحائطة لدينك» (٣) وغيرهما ، ويدلّ عليه العقل أيضا ، وظاهرهما الوجوب أيضا ، إلّا أنّ أدلّة أصل البراءة تمنع عنه ، إذ الحكم إن كان ثابتا شرعا ، فلا معنى للقول بأنّه احتياط ، وإلّا فالأصل براءة الذمّة عن الوجوب ، فعلى هذا يكون الاحتياط راجحا.

والأمر كذلك عند المجتهدين ، إلّا أنّه فرق بين ابتداء ثبوت التكليف والخروج عن عهدة التكليف الثابت اليقيني ، كما حقّقناه في «ملحقات الفوائد» (٤) ، فإنّ الاحتياط في الأوّل مستحبّ ، كما عرفت ، وأمّا في الثاني فواجب جزما إذا توقّف تحصيل البراءة اليقينيّة والامتثال العرفي عليه.

أمّا الأوّل ، فلقولهم عليهم‌السلام : «لا ينقض اليقين إلّا بيقين مثله» (٥).

وأمّا الثاني ، فللآيات (٦) والأخبار الدالّة على وجوب إطاعة الله وحججه عليهم‌السلام (٧) ، فإنّ لفظ «الإطاعة» يرجع في معناه إلى العرف ، فلا بدّ من تحقّق الامتثال العرفي ، بل مجرّد الإيجاب والأمر الصادر من الله تعالى ومنهم يقتضي

__________________

(١) لاحظ! مدارك الأحكام : ٤ / ٤١.

(٢) أمالي الطوسي : ١١٠ الحديث ١٦٨ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٦٧ الحديث ٣٣٥٠٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٧٣ الحديث ٣٣٥٢٨.

(٤) الفوائد الحائريّة : ٤٤٥ و ٤٤٦.

(٥) تهذيب الأحكام : ١ / ٨ الحديث ١١ ، وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١ مع اختلاف يسير.

(٦) آل عمران (٣) : ٣٢ ، ١٣٢ ، النساء (٤) : ٥٩ ، المائدة (٥) : ٩٢ ، النور (٢٤) : ٥٢.

(٧) لاحظ! الكافي : ١ / ١٨٥ باب فرض طاعة الأئمّة عليهم‌السلام.

٦٩

وجوب الإطاعة عرفا.

ولا يخفى أنّ أهل العرف لا يعدّون أحدا ممتثلا إلّا بعد العلم بأنّه أتى بما أمر به ، فإنّ الظن بإتيانه ليس عندهم امتثالا ، فما ظنّك بالشكّ؟

ومن البديهيّات أنّ المكلّف في ظهر الجمعة مأمور بإتيان فريضة ، فإذا فرض أنّها الجمعة ، فلا شكّ في أنّه مأمور بإتيانها ، فإذا وقعت الخطبة مع الطهارة علم بأنّه ممتثل ، وإذا لم تقع بها لم يعلم ، بل لم يظن أيضا ، فيجب الطهارة من باب المقدّمة لتحصيل البراءة اليقينيّة والامتثال العرفي.

مع أنّ هذا إجماعي عند الفقهاء ، يظهر من تضاعيف أحكامهم ، ومن ناقش فيه فإنّما يكون مناقشته من باب الغفلة والاشتباه وعدم الفرق بين ابتداء التكليف والخروج عن عهدة اليقيني.

وبالجملة ، العبادة توقيفيّة ، ولم يعلم من الشرع أنّ الجمعة التي خطبتها بغير طهارة جمعة أو صحيحة ، على التفصيل الذي عرفت في بحث اشتراط الإمام عليه‌السلام أو من نصبه (١).

وظهر أيضا من هذا فساد قوله : فإنّ إلزام المكلّف. إلى آخره (٢).

وظهر منه أيضا حال فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه أيضا على قسمين :

فعل ابتدائي منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه مذاهب للفقهاء حقّقناه في «الفوائد» (٣) ، وأنّ الأقوى رجحان المتابعة.

وفعل في مقام الإتيان بالعبادة التوقيفيّة ، وحيث لم يكن قول منه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٢٩٩ (المجلد الأوّل) من هذا الكتاب.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٤١.

(٣) الفوائد الحائريّة : ٣١٥ الفائدة ٣٢.

٧٠

يظهر منه مجموع ماهيّتها انحصر ثبوتها في الإجماع ، وفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام بيانها ، أو في مقام إتيانها ، والجمعة الصحيحة بالإجماع ما إذا كانت خطبتها مع الطهارة.

وفعلها أيضا يدلّ على ذلك ، أمّا في مقام البيان فظاهر ، وأمّا في مقام الإتيان بها ، فلظهور أنّ هذه صلاة الجمعة جزما ، وأمّا غيرها فلم يظهر من الشرع أصلا ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلّوا كما رأيتموني اصلّي» (١).

وعرفت في بحث اشتراط الإمام أو نائبه عدم جريان الأصل في إثبات ماهيّة العبادات ، وصرّحوا في كتب الاصول أيضا بذلك.

وأمّا ما ذكره من أنّ إثبات المماثلة. إلى آخره (٢) ، ففيه إنّ الظاهر من أمثال هذه العبارة اتّحاد الماهيّة ، وهي حقيقة فيها ، كما يظهر من كلامه الاعتراف به ، ومن المسلّمات أنّه إذا تعذرت الحقيقة ، فأقرب المجازات متعيّن ، ومقتضاه المماثلة من جميع الوجوه ، إلّا ما وقع عليه الإجماع ، ولذا قال عليه‌السلام : هي هي بعينها (٣) ، فلا يكون إجمال.

وهذا هو الظاهر من قدماء فقهائنا ، بل المتأخّرين أيضا (٤) ، وفرق واضح بين نفي المساواة وإثباتها ، فإنّ نفي بعض الأحكام نفي المساواة ، بخلاف إثبات البعض ، فإنّه لا يحسن بمجرّد ذلك أن يقال : هما متّحدان ، وهو هو.

نعم ، يمكن أن يقال بعدم المماثلة في بعض الأحكام الذي ليس من الأحكام الظاهرة الشائعة المتداولة للمشبّه به ، كما حقّقناه في «الفوائد» (٥) ، ولا شكّ في أنّ

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ١٩٨ الحديث ٨.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٤١.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٣ الحديث ٩٤٤١ نقل بالمعنى.

(٤) رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٤١ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٠٥ ، الهداية : ١٤٦ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ١٣٥ ، جامع المقاصد : ٢ / ٤٠٠.

(٥) الفوائد الحائريّة : ١٠٩ و ١١٠.

٧١

الطهارة ليست من الأحكام الخفيّة للصلاة.

وفي «المدارك» بعد ما أتى بالأجوبة المذكورة ، قال : الاشتراط لا يخلو عن رجحان تمسّكا بظاهر الرواية (١) ، انتهى.

ولا يخلو عن غرابة ، فإنّ عادته أن يقول : العبادة توقيفيّة ، والمنقول من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو هكذا ، فلا بدّ من الاقتصار عليه ، وأمّا مثل تلك العبارة ، فيجعله مجملا وهو أعرف.

قوله : (والقيام إلّا مع العجز). إلى آخره.

نقل في «التذكرة» عليه الإجماع (٢) ، فهو دليله.

وفي «المدارك» : والمستند فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان الواجب ، وقوله عليه‌السلام في صحيحة ابن وهب : «إنّ أوّل من خطب وهو جالس معاوية واستأذن الناس في ذلك من وجع كان في ركبتيه» ، ثمّ قال : «الخطبة وهو قائم خطبتان» (٣) الحديث.

فلو منعه مانع عن القيام ، فالظاهر جواز الجلوس مع تعذّر الإمام الذي يخطب قائما ويصلّي قائما (٤) ، انتهى.

أمّا إذا تعذّر القيام في الصلاة ، فلا يجوز الجلوس مطلقا ، إلّا أن يكون المأمومون كلّهم جالسين ، لما سيجي‌ء في بحث الجماعة ، ولعدم معهوديّة مثل هذه الجمعة من الشرع ، بل المعهود منه خلافه.

وأيضا إطلاقات الأخبار لا تنصرف إليه ، فعلى هذا يشكل الحكم بالجواز

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤١.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٧٠.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠ الحديث ٧٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٤ الحديث ٩٥١١.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ٣٨ مع اختلاف يسير.

٧٢

على ما اخترنا من لزوم اتّحاد الخطيب والإمام ـ وقد مرّ ـ لأنّ العاجز عن القيام قدر الواجب من الخطبة ، عاجز عن قدر الواجب من القراءة البتّة.

فالجواز إنّما هو بناء على تجويز تعدّدهما ، وهو خلاف ما نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، والوظائف الشرعيّة يستفاد من الشرع ، فلعلّ هذا يمنع عن جواز الجلوس أيضا ، فتجويز التعدّد يقتضي تجويز الجلوس.

وأمّا الحكم بجوازه حينئذ ، فلعموم ما دلّ على وجوب الجمعة واشتراط الخطبة ، وأمّا وجوب القيام فيها ، فلم يثبت كونه بعنوان الشرطيّة لها ، لأنّ الإجماع لا يدلّ على أزيد من وجوبه حال التمكّن ، إذ لا يتمّ إلّا فيه.

وأمّا الحديث ؛ فلأنّ الإطلاق فيه ينصرف إلى الفروض الشائعة.

هذا ، مضافا إلى قاعدة البدليّة ومساواة الأحكام ، لأنّ وجوبه لها ليس بعنوان الشرطيّة ، والمأمومون لا يجب أن يكونوا قائمين حال الخطبة.

هذا ، لكنّ الإشكال الذي ذكرناه لم يرتفع من أصله.

ثمّ اعلم! أنّ جواز الجلوس إنّما يكون بعد العجز ، بل مع التمكّن يعتمد على قوس أو غيره ، كما سيجي‌ء ، وإن حدث العجز في الأثناء يخطب وهو شارع في الجلوس ، بخلاف ما إذا زال العذر فيه ، فلا يخطب إلّا بعد ما قام.

ولو خطب جالسا مع القدرة بطلت صلاته ، وصلاة المأمومين أيضا ، لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه.

ونسب إلى المشهور القول بصحّة صلاة من لم يعلم بحال إمامه ، كما إذا كان إمامه محدثا (١). وهو مشكل ، لأنّ القياس حرام ، والتنظير لا بدّ لصحّته من دليل شرعي.

__________________

(١) لاحظ! مدارك الأحكام : ٤ / ٣٨.

٧٣

قوله : (اشتمال كلّ منهما على حمد الله والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله). إلى آخره.

يظهر من الفاضلين أنّ وجوب الحمد والصلاة على محمّد وآله والوعظ في كلّ منهما موضع وفاق بين علمائنا وأكثر العامّة (١).

وفي «المدارك» : وذلك لعدم تحقّق الخطبة بدونه عرفا (٢).

ولا يخلو من تأمّل ، لأنّ الوعظ غير مأخوذ فيما يتحقّق به عرفا ، إلّا أن يكون مراده خطبة صلاة الجمعة في عرف المتشرّعة ، لكنّه رحمه‌الله غير قائل بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، ومع ذلك كون (٣) عرف جميع المتشرّعة كذلك ربّما يكون محلّ مناقشة ، كيف لا؟ وهو رحمه‌الله نقل عن المرتضى رحمه‌الله : إنّ خطبة صلاة الجمعة عنده أنّه : يحمد الله ، [ويمجده] ويثني عليه ، ويشهد لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة ، ويوشح الخطبة بالقرآن ، ثمّ يفتتح الثانية بالحمد والاستغفار ، والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والدعاء لأئمّة المسلمين (٤).

مع أنّه روى موثّقة سماعة ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «ينبغي للإمام الذي يخطب بالناس يوم الجمعة أن يلبس عمامة في الشتاء والصيف ، ويتردّى ببرد يمنيّة أو عدنيّة ويخطب وهو قائم يحمد الله ويثني عليه ثمّ يوصي بتقوى الله ثمّ يقرأ سورة من القرآن قصيرة ثمّ يجلس ، ثمّ يقوم فيهما فيحمد الله ويثني عليه ويصلّي على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة المسلمين ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات» (٥).

__________________

(١) نقل عنهما في مدارك الأحكام : ٤ / ٣٢ ، ذخيرة المعاد : ٢٩٩.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٣٢.

(٣) في جميع النسخ : يكون ، والصواب ما أثبتناه.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ٣٢.

(٥) الكافي : ٣ / ٤٢١ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٣ الحديث ٦٥٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤١ و ٣٤٢

٧٤

ثمّ قال : ولا ريب أنّ العمل بمضمونها يحصل معه الامتثال ، وإنّما الكلام في وجوب ما تضمّنته ممّا يزيد على مسمّى الخطبتين ، فإنّها قاصرة عن إفادة ذلك متنا وسندا (١).

هذا ، ونقل عن الشيخ في «المبسوط» : إنّ أقلّ ما يكون الخطبة أربعة أصناف : حمد الله [تعالى] ، والصلاة على النبي [وآله عليهم‌السلام] ، والوعظ ، و [قراءة] سورة خفيفة [من القرآن] ، ونحوه عن خلافه وعن ابن حمزة (٢).

ونقل عن «اقتصاد» الشيخ أنّه قال فيه أيضا : أربعة ، إلّا أنّه جعل قراءة سورة خفيفة بين الخطبتين (٣).

وعن أبي الصلاح : عدم وجوب القراءة في شي‌ء من الخطبة (٤).

إذا عرفت هذا ، فاعلم! أنّ لفظ «الخطبة» له معنى معروف لغة وعرفا ، ولم نعلم من الشارع تغييره إلى معنى آخر يكون من مستحدثاته ، حتّى يكون من قبيل العبادات توقيفيّة ، والأصل عدم النقل وعدم التغيير وعدم التعدّد ، وبقاء ما كان على ما كان ، فلهذا اتّفقت كلمات الأصحاب ـ سوى الشهيد الثاني في «شرح اللمعة» (٥) ـ في واجبات الخطبة ، في التحميد والصلاة وغيرهما ممّا ذكر ، من دون إشارة من أحد منهم إلى قصد القربة وغيرها أصلا ، مع كون عادتهم ذكر النيّة في

__________________

الحديث ٩٥٢٦ و ٩٥٢٨ مع اختلاف يسير.

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٣٣.

(٢) نقل عنهم في مدارك الأحكام : ٤ / ٣١ ، لاحظ! المبسوط : ١ / ١٤٧ ، الخلاف : ١ / ٦١٦ المسألة ٣٨٤ ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ١٠٣.

(٣) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٣١ ، لاحظ! الاقتصاد : ٢٦٧.

(٤) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٣٢ ، لاحظ! الكافي في الفقه : ١٥١.

(٥) الروضة البهيّة : ١ / ٢٩٦ و ٢٩٧.

٧٥

أوّل كلّ عبادة ، من دون تجويز الإخلال والإهمال والتأخير.

مع أنّه معلوم أنّ نيّة صلاة الجمعة غير نيّة الخطبة ، مع أنّ كونها من التوقيفيّات يتوقّف على ثبوت كون لفظها حقيقة عند جميع المتشرّعة في معنى مغاير لمعناه اللغوي والعرفي وصحّة سلبه عنه ، كما حقّقناه في «ملحقات الفوائد» (١) فلا بدّ من الرجوع في معرفتها إلى العرف ، إلّا أن يثبت من الإجماع أو الحديث وجوب شي‌ء زائد.

ومقتضى الإجماع المذكور وجوب الوعظ بعد الحمد والصلاة.

ولعلّه هو الظاهر من الأخبار ، من جهة أنّ فائدة الجمعة والمصلحة في إحداثها الوعظ والاتّعاظ ، وأنّ ذلك هو السبب في وجوب الاستماع والإصغاء ، ومنع الكلام وأمثاله ممّا سيجي‌ء.

والتزام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام في مقام بيانه وفعله ، لاتّفاق الأخبار والآثار ، مضافا إلى شهادة الاعتبار في ذلك.

وفي «العلل» الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليه‌السلام : «فإن قال : فلم جعلت الخطبة؟ قيل : لأنّ الجمعة مشهد عام فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية ، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم» (٢). إلى آخره ، فلاحظ.

والأحوط والأولى مراعاة موثّقة سماعة المذكورة (٣) ، بل الخطب الواردة عن أمير المؤمنين والباقر عليهما‌السلام ، المرويّة في الكتب المعتبرة من كتب الأحاديث (٤)

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : ٤٧٧ الفائدة ٣٠.

(٢) علل الشرائع : ١ / ٢٦٥ الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٤ الحديث ٩٥٣٣ مع اختلاف يسير.

(٣) راجع! الصفحة ٧٤ من هذا الكتاب.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٢ الباب ٢٥ من أبواب صلاة الجمعة.

٧٦

زائدا على الإجماع.

فروع :

الأوّل : نقل عن جماعة من الأصحاب أنّه يجب في الخطبتين التحميد بصيغة الحمد لله (١).

وفيه ، أنّها لو كانت من مقولة العبادة ، لكان الأمر كما ذكروا ، مع إمكان المناقشة حينئذ أيضا ، لعموم قوله عليه‌السلام : «يحمد الله» في مقام بيان الخطبة ، فتأمّل جدّا!

الثاني : نقل عن جمع منهم أنّه يجب الترتيب بين أجزاء الخطبة ، بتقديم الحمد ثمّ الصلاة ثمّ الوعظ ثمّ القراءة (٢) ، فلو خالف أعاد على ما يحصل معه الترتيب ، وهو أحوط ، لما يظهر من الأخبار (٣) ، وفتاوى الأخيار ، بل الظاهر أنّه المعهود والمتعارف في طريقة الخطبة ، والإطلاق ينصرف إليه ، كما هو ظاهر ، فيشكل الخروج عنه.

الثالث : نقل عن أكثرهم المنع من إجزاء الخطبة بغير العربيّة ، للتأسّي ، ولأنّ الإطلاق ينصرف إلى العربيّة (٤).

وفي «المدارك» استحسنه ، معلّلا بما ذكرنا من التأسّي ، مع أنّه رحمه‌الله كثيرا ما

__________________

(١) منهم المحقّق في شرائع الإسلام : ١ / ٩٥ ، العلّامة في قواعد الأحكام : ١ / ٣٧ ، والشهيد الثاني في الروضة البهيّة : ١ / ٢٩٦.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٧٥ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ١٣٧ ، ١٣٨ ، الروضة البهيّة : ١ / ٢٩٧.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٢ الحديث ٩٥٢٨ و ٩٥٢٩.

(٤) نهاية الإحكام : ٢ / ٣٥ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ١٣٨ ، مسالك الأفهام : ١ / ٢٣٧.

٧٧

يمنع وجوب التأسّي ، منه ما مرّ في اشتراط الإمام أو من نصبه.

ثمّ قال : ولو لم يفهم العدد العربيّة ، ولا أمكن التعلّم ، قيل : يجب العجميّة ، لأنّ مقصود الخطبة لا يتمّ بدون فهم معانيها (١) ، ويحتمل سقوط الجمعة ، لعدم ثبوت شرعيّتها على هذا الوجه (٢) ، انتهى.

انظر إلى مراعاته رحمه‌الله حكاية وجوب التأسّي إلى هذه المثابة ، وفي مبحث اشتراط المنصوب أنكر الوجوب رأسا (٣) ، وكذا في بعض المواضع الاخر ، كما مرّ.

الرابع : الأقرب أنّ الوعظ لا ينحصر في لفظ وكيفيّة ، بل يجزي كلّ ما يكون وعظا ، بل الأولى مراعاة خصوصيّات المقام ، وإجراء الكلام على وفق ما اقتضاه كلّ مقام ، والمبالغة في الترغيب والترهيب ، سيّما بالنسبة إلى المعاصي المتداولة عند الحاضرين للجمعة ، وكذا الواجبات التي يكثر تركها منهم أو يتكرّر.

وبالجملة ، لا بدّ أن يكون الواعظ طبيبا لأمراضهم ، حاذقا في المعالجة مبالغا فيها.

وهل تجزي الآية المشتملة على الوعظ عنها؟ فيه إشكال ، وكذا الكلام في الآية المشتملة على التحميد ونحوه.

والخروج عن عهدة شغل الذمّة اليقيني يقتضي عدم الاجتزاء ، سيّما بعد ظهور أنّ المطلق لا ينصرف إلى مثله ، أو الإشكال في ذلك ، لعدم ثبوت عموم ، فتأمّل جدّا!

الخامس : هل يجب رفع الصوت بحيث يسمع العدد المعتبر فصاعدا؟

__________________

(١) كما في جامع المقاصد : ٢ / ٣٩٧.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٣٥.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٢١.

٧٨

الأظهر ذلك ، لأنّ الغرض من الخطبة لا يحصل إلّا بذلك ، بل عرفت أنّ الغرض من هذه الصلاة لعلّه الخطبة ، مع أنّ الخطبة لا شكّ في اعتبارها ، وللتأسّي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمامين عليهما‌السلام ، ولأنّ المدار في الأعصار والأمصار على ذلك ، ولأنّ مضمون الخطبة تفيد ذلك ، لما عرفت من وجوب الوعظ.

بل الظاهر أنّ الخطبة بنفسها تقتضي الإسماع ، وإلّا لا تكون خطبة ، ولأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة ، ولا يتحقّق بدونه.

وفي «المدارك» رجّح الوجوب ، للتأسّي ، وتحقّق الغرض به وغيرهما ، ثمّ قال : ولو حصل مانع من السمع سقط الوجوب ، مع احتمال سقوط الصلاة أيضا إذا كان المانع حاصلا للعدد المعتبر في الوجوب ، لعدم ثبوت التعبّد بالصلاة على هذا الوجه (١).

السادس : يجب الإصغاء أيّ الإنصات والاستماع لها ، لعين ما ذكرنا في الخامس.

فما نسب إلى الشيخ في «المبسوط» ، والمحقّق في «المعتبر» من القول بالاستحباب ، لأنّه مقتضى الأصل السالم عن المعارض (٢) ، فيه ما فيه.

وهل يختصّ الوجوب بالعدد المعتبر ، كما اختاره في «القواعد» (٣) أم يعمّ المأمومين كما اختاره في «المختلف» (٤)؟ الأظهر الثاني ، لعموم دليل عليه ، وكذا الكلام في تحريم الكلام الذي سنذكر ، والإخلال بهما لا يكون مبطلا للجمعة ، سواء وقع من الخطيب أو العدد أو سائر المأمومين ، للإجماع الذي ادّعاه في

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤١.

(٢) نسب إليهما في ذخيرة المعاد : ٣١٥ ، لاحظ! المبسوط : ١ / ١٤٨ ، المعتبر : ٢ / ٢٩٤ و ٢٩٥.

(٣) قواعد الأحكام : ١ / ٣٧.

(٤) مختلف الشيعة : ٢ / ٢١٥ و ٢١٦.

٧٩

«التحرير» (١).

ولأنّه إذا صدر عن المأموم ، فغاية ما يكون أنّ الخطبة باطلة بالنسبة إليه وأنّه أدرك الجمعة الخالية عنها ، وإذا أدرك الجمعة ولم يدرك الخطبة صحّ صلاته إجماعا ، فإذا صحّت صلاته مع الإخلال عمدا صحّت مع العذر في الإخلال بطريق أولى.

والظاهر أنّ وجوب الإصغاء وحرمة الكلام من أوّل الخطبة إلى آخرها ، لا أقلّ الواجب من الخطبة خاصّة ، كما هو ظاهر الروايات ، والله يعلم.

السابع : يحرم الكلام في أثنائها من الخطيب والسامع عند أكثر الأصحاب (٢) ، لكونهما في مقام الركعتين ، ولقوله عليه‌السلام : «هي صلاة حتّى ينزل الإمام» (٣) ، لما عرفت من أنّ الاتّحاد باطل ، فيكون المراد أقرب المجازات ، وهو التسوية في جميع الأحكام ، إلّا ما خرج بالدليل.

ولما رواه في «الفقيه» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث مناهيه : «نهى عن الكلام يوم الجمعة والإمام يخطب» (٤).

ولما روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لا كلام والإمام يخطب ، ولا التفات» (٥) الحديث.

ولصحيحة ابن وهب السابقة أنّه : «يجلس بينهما جلسة لا يتكلّم فيها» (٦).

__________________

(١) تحرير الأحكام : ١ / ٤٤.

(٢) لاحظ! مدارك الأحكام : ٤ / ٦٣.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢ الحديث ٤٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٣ الحديث ٩٤٤١.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٥ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣١ الحديث ٩٥٠٤.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٦٩ الحديث ١٢٢٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣١ الحديث ٩٥٠٢.

(٦) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠ الحديث ٧٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٤ الحديث ٩٥١١.

٨٠