مصابيح الظلام - ج ٢

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٢

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-2-7
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٤١

دولة المخالفين.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه أنّ في كلام القدماء : أنّ الجمعة مع الإمام واجبة (١).

وقلنا : إنّ المتبادر من لفظ «الإمام» هو الأولى بالتصرّف ، كما قال عزوجل : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) (٢) الآية ، وكذا غيره من الآيات (٣) ، والأخبار المتواترة الظاهرة (٤) ، مضافا إلى التبادر وأنّ الإطلاق ينصرف إلى الكامل ، وغير ذلك ممّا مرّ.

والعامّة نقلوا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من ترك الجمعة وله إمام عادل أو جائر» (٥) ، حيث ذكروا «جائر» ، ولم يذكروا فاجر وفاسق ، فظهر أنّ الإمام كان مطلقا منصرفا إلى ما ذكرناه.

والشيعة نقلوا ذلك الحديث هكذا : وله إمام عادل (٦).

ويظهر من الفقهاء أنّ الإمام العادل كان اصطلاحا فيما ذكرنا.

ويظهر ذلك من الأخبار مثل ما رواه في «التهذيب» ، عن الباقر عليه‌السلام فيمن قتل ناصبيّا غضبا لله تعالى أنّه قال : «أمّا هؤلاء فيقتلونه ، ولو رفع إلى إمام عادل لم يقتله» (٧).

وفي «الكافي» و «الفقيه» ، عن الصادق عليه‌السلام في امرأة قتلت من قصدها

__________________

(١) المقنعة : ١٦٣ ، رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٤١ ، الخلاف : ١ / ٦٢٦ المسألة ٣٩٧ ، المراسم : ٧٧.

(٢) القصص (٢٨) : ٥.

(٣) البقرة (٢) : ١٢٤ ، الإسراء (١٧) : ٧١ ، الأنبياء (٢١) : ٧٣.

(٤) مناقب ابن المغازلي : ١١٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٦ / ١٦٧ و ١٦٨ ، الأربعين للفخر الرازي : ٢ / ٢٩٤ ، لاحظ! الغدير : ١ / ١٥٩ ـ ١٦٣.

(٥) سنن ابن ماجة : ١ / ٣٤٣ الحديث ١٠٨١.

(٦) رسالة في صلاة الجمعة للشهيد الثاني : ٦١ ، الوافي : ٨ / ١١٢٤ ذيل الحديث ٧٨٧٤.

(٧) تهذيب الأحكام : ١٠ / ٢١٣ الحديث ٨٤٣ ، وسائل الشيعة : ٢٩ / ١٣٢ الحديث ٣٥٣٢٣.

٤١

بحرام أنّه : «ليس عليها شي‌ء ، وإن قدمت إلى إمام عادل أهدر دمه» (١).

وفي «الكافي» ـ في باب التحديد ـ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة ، وحدّ يقام في أرضه أفضل من مطر أربعين صباحا» (٢).

وفي «الكافي» أنّه ذكر عن الصادق عليه‌السلام : «لا غزو إلّا مع إمام عادل» (٣).

وفي «التهذيب» ـ في باب قتال أهل البغي ـ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إن خرجوا على إمام عادل [أو جماعة] فقاتلوهم ، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم» (٤).

وفيه أيضا الإشعار الذي ذكرنا عن رواية العامّة.

وفي «التهذيب» أيضا ـ في باب حدّ السرقة ـ عن الصادق عليه‌السلام : «إذا سرق السارق من البيدر من إمام جائر فلا قطع عليه ، فإذا كان مع إمام عادل عليه القطع» (٥).

وفي «الكافي» ـ في باب أنّ الأرض لا تخلو عن حجة ـ عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله أعزّ وأجلّ أن يترك الأرض بغير إمام عادل» (٦).

وفي «المحاسن» ، عن الباقر عليه‌السلام : «من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه بلا إمام

__________________

(١) الكافي : ٧ / ٢٩١ الحديث ٢ ، من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٧٥ الحديث ٢٣٢ ، وسائل الشيعة : ٢٩ / ٦١ الحديث ٣٥١٥٤ مع اختلاف يسير.

(٢) الكافي : ٧ / ١٧٥ الحديث ٨ ، وسائل الشيعة : ٢٨ / ١٢ الحديث ٣٤٠٩٦ مع اختلاف يسير.

(٣) في الكافي : ٥ / ٢٠ الحديث ١ ، الكلام ليس عن الصادق عليه‌السلام ، وهو في تحف العقول : ١٧٥ ، بحار الأنوار : ٧٤ / ٢٧٤ الحديث ١ ، ٤١٦ الحديث ٣٨ من وصية أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد.

(٤) تهذيب الأحكام : ٦ / ١٤٥ الحديث ٢٥٢ ، وسائل الشيعة : ١٥ / ٨٠ الحديث ٢٠٠٢٥.

(٥) تهذيب الأحكام : ١٠ / ١٢٨ الحديث ٥١٠ ، وسائل الشيعة : ٢٨ / ٢٨٩ الحديث ٣٤٧٩١ مع اختلاف يسير.

(٦) الكافي : ١ / ١٧٨ الحديث ٦ مع اختلاف يسير.

٤٢

عادل فهو غير مقبول» (١).

وفي ثواب زيارة الحسين عليه‌السلام : «من أتى الحسين عليه‌السلام عارفا بحقّه». إلى قوله : «عشرين حجّة وعمرة مع نبي مرسل أو إمام عادل» (٢).

وفي الاعتكاف عن الصادق عليه‌السلام : «لا اعتكاف إلّا في مسجد جماعة صلّى فيه إمام عادل» (٣) ، إلى غير ذلك.

وأمّا كلام المتقدّمين والمتأخّرين من الفقهاء ، فأكثر من أن يذكر ، انظر إلى كتاب الجهاد وغيره ، منها ما مرّ في الجمعة.

فإن قلت : القرائن المانعة عن الحمل على إمام الجماعة موجودة في كثير ممّا ذكرت ، بل أكثر.

قلت : نعم والغرض إظهار الاستعمال ونهاية كثرته ، بل أكثر استعمالا بالنسبة إلى إمام الجماعة بمراتب شتّى.

ومع ذلك يدّعي الموجبون تبادر إمام الجماعة من جهة كثرة الاستعمال فيه ، ومعلوم أنّ ذلك الاستعمال أيضا بمعونة القرينة ، وإلّا فمن أين يعرفون أنّ المراد إمام الجماعة؟!

بل في مقام صلاة الجمعة لا شكّ في أنّ المراد إمام الجمعة لا إمام الجماعة جزما ، وكونه إمام الجماعة واتّحاده معه من أين؟!

بل المستفاد من الأخبار وفتاوى الأصحاب والأدلّة العقليّة والشواهد والقرائن والمؤيّدات المغايرة قطعا ، كما لا يخفى.

__________________

(١) المحاسن : ١ / ١٧٦ الحديث ٢٧٤ ، وسائل الشيعة : ١ / ١١٨ الحديث ٢٩٧ مع اختلاف يسير.

(٢) كامل الزيارات : ٣١٦ الحديث ٥٣٦ ، وسائل الشيعة : ١٤ / ٤٥٩ الحديث ١٩٥٩٧ مع اختلاف يسير.

(٣) الكافي : ٤ / ١٧٦ الحديث ١ ، من لا يحضره الفقيه : ٢ / ١٢٠ الحديث ٥١٩ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٩٠ الحديث ٨٨٢ ، وسائل الشيعة : ١٠ / ٥٤٠ الحديث ١٤٠٦٩.

٤٣

فلا بدّ من التنبيه على فهرست ما يوقع المغرور في القول بالوجوب العيني من جهة الغفلة والقصور ، كيلا يقع فيه بسبب عدم الاطّلاع ، أو عدم الشعور.

الأوّل : احتجّ القائلون به بالآية والأخبار (١) ، فيتوهّم المغرور أنّ أحدا أنكر عينيّة وجوب الجمعة.

وقد عرفت أنّها بديهي الدين يقطع كلّ أحد بأنّ الأمين نزل بها من عند ربّ العالمين ، كما هو مدلول القرآن والأخبار المتواترة ، ومحلّ النزاع أمر آخر ، وهو أنّ هذه الجمعة ما هي على قول؟ أو أنّ من شرائطها الإمام عليه‌السلام أو من نصبه أم لا؟ على قول آخر.

وبديهي أنّ محلّ النزاع غير محلّ الإجماع ، لأنّ محلّ الإجماع حكم صلاة الجمعة ، وهو الوجوب العيني ، ومحلّ النزاع معنى صلاة الجمعة أو زيادة شرط في شرائطها ، فما هو مضمون أدلّتهم لا نزاع فيه ، وما هو محلّ النزاع لا يأتون بدليل له ، وربّما يشيرون بإشارة إجماليّة فاسدة ، كما عرفت وستعرف.

الثاني : يقولون : إنّ المحرّمين يحرّمون صلاة الجمعة ، وحاشاهم عن ذلك ، بل ويقولون : صلاة الجمعة من الواجبات العينيّة ليس إلّا.

وأمّا ما يقولون بحرمته فليس إلّا ما أطلق عليه خصمهم لفظ صلاة الجمعة حقيقة ، وأمّا هؤلاء فإن كان يطلقون فعلى سبيل التوسّع ، كما يطلقون لفظ الأمر على الأمر التهديدي ، ويقولون : هذا الأمر أمر حرمة ، وإن كان الأمر عندهم حقيقة في الوجوب ، أو يطلقون على حسب اصطلاح هذه الأزمنة ، كما ستعرف.

وإنّما قلنا : يقولون بعينيّة وجوبها ليس إلّا ، لأنّ ابن البراج قال : فهذه الشروط إذا اجتمعت يثبت كون هذه الصلاة فريضة جمعة ، وإن لم تجتمع لم يثبت

__________________

(١) رسائل الشهيد : ٥١ ـ ٥٨ ، ذخيرة المعاد : ٢٩٨ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٩ / ٣٩٨ و ٤٠٨.

٤٤

كونها كذلك (١).

ومثل هذا كلام السيّد بأنّ الجمعة حقيقة ما يكون مع مجموع الشرائط (٢).

وقال الفاضل التوني مولانا عبد الله في رسالته : إنّ صلاة الجمعة ما تصلّي خلف الإمام عليه‌السلام أو نائبه. إلى أن قال : والحقّ أنّ صلاة الجمعة عبارة عن تلك (٣) ، إلى غير ذلك.

مع أنّ المحقّق الثابت أنّ ألفاظ العبادات أسام للصحيحة ، للتبادر وعدم صحّة السلب ، ولعدم التبادر وصحّة السلب بالنسبة إلى فاقد الشرائط ، وغير ذلك من الأدلّة ، ولعلّه المشهور عند القدماء ، ومعظم (٤) المتأخّرين ، فصلاة الجمعة الباطلة لا تكون صلاة جمعة ، بل تكون غير صلاة الجمعة ، فالحرام غير صلاة الجمعة.

وكذلك يقولون : إنّ المخيّر يقول : إنّ صلاة الجمعة واجبة تخييرا ، فيشمئزّ منه المغرور ، بأنّ الفرض العيني القرآني والأخباري والإجماعي ، كيف يكون تخييريّا؟ لأنّ الشرائط إن كانت موجودة ، فالوجوب العيني ليس إلّا ، وإلّا فحرام ليس إلّا ، ولا يدري المغرور أنّ المخيّر قائل بما هو بديهي الدين وما يظهر من القرآن والأخبار ، وأنّ التخييري غيره قطعا عنده ، لأنّه مستحبّ ، وبديهي أنّ المستحبّ مغاير للواجب ، وإنّما يطلق عليه لفظ الوجوب التخييري ، من جهة أنّ بفعل هذا المستحبّ يسقط هذا الواجب عنه ، فتخيّر بين فعله وإسقاط الواجب عنه ، أو تركه والإتيان بالواجب.

__________________

(١) المهذّب : ١ / ١٠٠.

(٢) رسائل الشريف المرتضى : ١ / ٢٧٢.

(٣) رسالة نفي الوجوب العيني لصلاة الجمعة في زمن الغيبة : ١٠ (مخطوط).

(٤) في (ز ٢) و (ط) : بعض.

٤٥

ألا ترى أنّ صلاة العيد من الواجبات العينيّة قطعا ، إلّا أنّ لها شرائط ، فبعد انتفاء بعض الشرائط ينتفي ذلك الواجب ، إلّا أنّه يستحبّ الإتيان بها بفرادى أو جماعة ، ومعلوم أنّ صلاة الفرادى مثلا أمر آخر جزما.

وأيضا عرفت أنّ المطلق ينصرف إلى الكامل ، ولذا يستدلّ هؤلاء بمطلق الوجوب على عينيّته ، ومعلوم أنّ صلاة الجمعة أيضا مطلقها ينصرف إلى الكامل التي هي الواجب عينا.

وممّا يشير إلى أنّ هذا المستحبّ أمر على حدة ، أنّهم ما يعتبرون باقي الشرائط ، وإن تيسّر مثل الإمام ، والعدد ، والفاصلة بثلاثة أميال ، إمّا كلّهم ما يعتبرون ، أو بعضهم والباقي لا يستنكف ولا يتعجّب ، حتّى أنّ في الجمعة المستحبّة أيضا ، قال بعض الأصحاب بعدم وجوب الفاصلة بثلاثة أميال بين متعدّدها (١).

وقال الشيخ مفلح الصيمري في شرح قول المحقّق : إذا لم يكن الإمام أو من نصبه ، وأمكن الاجتماع استحبّ فعل الجمعة ، قال : هذا مذهب الشيخ والعلّامة والشهيد ، لعموم قوله تعالى ولروايات لهم على الاستحباب. والمنع مذهب ابن إدريس والسيّد ، لأنّ شرط الجمعة الإمام أو من نصبه ، ولأنّ الظهر ثابتة في الذمّة بيقين ، فلا يخرج عن العهدة إلّا بفعلها ، وأخبار الآحاد المظنونة لا يجوز التعويل عليها.

ثمّ قال : على القول بانعقادها حال الغيبة يجوز إيقاع جمعتين بينهما أقلّ من فرسخ ، قاله أبو العبّاس في موجزه ، وقال : الأقوى عدم الجواز (٢) ، انتهى.

ألا ترى أنّ واحدا منهم يجوّز عدم الفاصلة ، وغير المجوّز يقول : الأقوى

__________________

(١) انظر! مفتاح الكرامة : ٣ / ١٣٠ ، جواهر الكلام : ١١ / ٢٤٦.

(٢) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ١٧٥ و ١٧٦.

٤٦

عدم الجواز ، لا أنّه كذلك قطعا.

ثمّ أطال الكلام في أنّه على القول باستحباب الجمعة ، هل يفعل بنيّة الاستحباب أو الوجوب؟ وإن فعل بنيّة الاستحباب ، هل تبرئ الذمّة أم لا؟ وأطال الكلام في ذلك.

الثالث : إنّ القائلين بالوجوب استدلّوا بإطلاق الآية والأخبار ، فالمغرور يتوهّم أنّ هذا الاستدلال نافع بأنّ الخصم منحصر في منكر الإطلاق.

وقد عرفت فساده ، لأنّ جمعا منهم صرّح بأنّ الجمعة حقيقة فيما فعل مع الإمام أو نائبه مع باقي الشرائط ليس إلّا.

فكيف يمكن أن يقال : إطلاق الآية والأخبار حجّة عليهم؟ مع أنّهم يقولون بإطلاقها وعمومها قطعا ، ولا يجوّزون التخصيص والتقييد أصلا ورأسا ، وكذا الكلام بالنسبة إلى من قال : الجمعة اسم للصحيحة فقط.

ولا شكّ في أنّ الجمعة المستجمعة لجميع شرائطها واجبة عينا ، إنّما النزاع في أنّها ما هي؟ فما أشاروا إلى بطلان مذهبهم أصلا.

لا يقال : لمّا تحقّق عندهم أنّ الجمعة اسم لمجرّد الأركان ، استدلّوا كذلك.

لأنّا نقول : إنّهم يعرفون أنّ جمعا من الفقهاء يعتقدون أنّه اسم للمستجمعة لجميع الشرائط ، كما هو حال في سائر ألفاظ العبادات.

فلعلّ المحرّم والمخيّر يقولون كذلك ، بل عرفت أنّ المحرّمين صرّحوا بذلك ، وعرفت الحال في المخيّرين أيضا.

فاللازم على المستدلّ إبطال هذا المعنى خاصّة ، لا إثبات وجوب الجمعة مع كونه مسلّما ، بل ضروري الدين ، فكيف يطوّلون في الكلام بما لا طائل تحته أصلا ويسكتون بالمرّة عمّا هو نزاع الخصم؟ فهل هذا إلّا الخلط بين المقامين؟!

فإن قلت : لعلّ مرادهم الردّ على المخيّرين فقط من حيث إنّ هذه الجمعة

٤٧

صحيحة عندهم جزما ، فتكون داخلة في الآية والأخبار عندهم قطعا.

قلت : فكيف يقولون : أثبتنا الوجوب العيني؟ ويصرّون في ذلك ، ويشنّعون على المتأمّل ، بل وتشنيعهم على المحرّمين أزيد وأزيد (١).

ومع ذلك نقول : هذه الجمعة ليست داخلة فيها عندهم قطعا ، كما عرفت.

وعرفت أنّ الوجوب العيني للجمعة من ضروريّات الدين عندهم أيضا ، وأنّها كانت كذلك في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي والحسن عليهما‌السلام ، وكذا إلى يوم القيامة إذا حصل الإمام عليه‌السلام أو من ينصبه.

وكانوا يجزمون أنّ هذا الضروري لا مانع من ورودها في الآية والأخبار ، بل لا تأمّل في ورودها ، بل اعترفوا به ، فإذا كانت داخلة فكيف يمكنهم التأمّل؟! إذ ما كانوا بمجانين ـ العياذ بالله منه ـ إذ عرفت أنّ لفظ الوجوب حقيقة في الأعم من العيني قطعا ، والبناء على الانصراف إلى العيني خاصّة ليس إلّا من جهة انصراف الإطلاق إليه ، وهذا يستلزم أن يكون لفظ صلاة الجمعة كذلك أيضا ، إذ لا شكّ في أنّ الكاملة منها هي الواجبة عينا ، مع أنّها الأصل ، كما أنّ الكامل من الوجوب أيضا كذلك ، فبمجرّد كون المستحبّة والواجبة تخييرا من أفراد الجمعة حقيقة لا يستلزم انصراف الإطلاقات إليها أيضا.

فعلى هذا فكيف تصير الأخبار والآية ردّا عليهم؟ إلّا أن يكونوا يقولون : هذه الفرائض الواردة في الآية والأخبار هي عين المستحبّة.

وفيه ما فيه ، ولا شكّ في أنّهم قالوا بثبوت المستحبّة من حديث «أحبّ» ، و «حثّ» ، وأمثالهما (٢) ، ولذا قال السيّد وابن إدريس : إنّه أخبار آحاد (٣) ، وإلّا

__________________

(١) رسالة في صلاة الجمعة للشهيد الثاني : ٩٣ ، ذخيرة المعاد : ٣٠٨ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٩ / ٤٠٨.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٩ و ٣١٠ الحديث ٩٤٣٣ و ٩٤٣٤ ، ٢١ / ١٤ الحديث ٢٦٣٩٤.

(٣) رسائل الشريف المرتضى : ١ / ٢١ و ٢٢ ، الذريعة إلى اصول الشريعة : ٢ / ٥١٧ ، السرائر : ١ / ٣٠٣.

٤٨

فالقرآن عندهما من القطعيّات ، وكذلك الأخبار المتواترة.

الرابع : على تقدير تسليم كون الجمعة مجرّد الأركان ، ومرادهم الردّ على المحرّم والمخيّر جميعا أو اسما للصحيحة ، ومرادهم الردّ على المخيّر خاصّة.

نقول : الإطلاق يستعمل على ثلاث صور :

الأولى : أن يراد نفس وجوب الجمعة من غير مدخليّة الأفراد والشرائط ، مثل ما نقول : إنّ الجهاد من الواجبات الفروعيّة ، وهذا هو الأصل في مثل هذه الاستعمالات ، لأنّ الأصل عدم التقدير.

الثانية : أنّ المراد أنّها واجبة بشرط تحقّق شروطها بعنوان الإجمال من دون تفصيل وتعيين في الشروط ، وهذا أيضا لا بأس به ، لأنّ كون الجمعة مشروطة بشروط من جملة ضروريّات الدين ، فلا مانع من إرادته من دون إظهار بلفظ ـ لأنّ الضروري من جهة حضوره في الأذهان ربّما لا يحتاج إلى ذكره ـ فالمراد حينئذ أنّها واجبة بعد تحقّق شرائطها بعنوان الإجمال.

وهذه كالصورة الاولى لا ينفع للمستدلّ أصلا ، لأنّهما لا يزيدان على ما هو ضروري الدين أصلا ورأسا ، إذ ضروري نفس وجوب الجمعة ، كما عرفت ، وكذا عند استجماع جميع ما هو شرط من دون تعيين وتفصيل.

الثالثة : أن يكون المراد طلب إيجاد الجمعة بشرائطها المفصّلة ، وقد عرفت سابقا أنّها ليست مرادة بالضرورة ، من جهة التقيّة ومن جهة عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

مضافا إلى القطع بفساد دعوى تحقّق البيان التفصيلي بأنّ كذا وكذا شرط خاصّة ، فعدم ذكر شرط في هذا المقام لا يدلّ على عدم اشتراطه بالضرورة ، وجعل الوقت الأخير ـ غير وقت الخطاب ـ وقت حاجته وأنّه وصل إليه الشرائط

٤٩

الوفاقيّة خاصّة دون الخلافيّة ليس إلّا من باب الرجم بالغيب ، إذ لم يوجد في الأخبار منه عين ولا أثر ، بل أيّ فرق بين ذلك ، وبين أن يقول : وقت الخطاب ذكر له الشرائط الوفاقيّة دون الخلاقيّة ، وإن لم نجد هناك ممّا ذكر عينا ولا أثرا؟

وكون بعض الشرائط وصل إلى بعض الرواة ، وبعض إلى بعض آخر ، وهكذا لا يسمن ولا يغني من جوع ، بل القطع حاصل بأنّ مجموع زمان الأئمّة عليهم‌السلام ما كان يمكن تحقّق مصداق تلك الروايات.

وبالجملة ، الصور الثلاثة صار منشأ للخلط والخبط على المغرور.

الخامس (١) : كما أنّ أخبار الجمعة مطلقة ، وكذلك أخبار الظهر أيضا مطلقة ، مثل ما روى في «الكافي» ـ في باب التفويض ـ عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله زاد ركعتين في الظهر والعصر والعشاء فلا يجوز تركهنّ إلّا في سفر ، ولم يرخّص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمّهما [إلى ما فرض الله عزوجل] ، بل ألزمهم إلزاما واجبا لم يرخّص لأحد في شي‌ء من ذلك إلّا للمسافر» (٢) ، وأمثال هذه الروايات متواترة ، بل ربّما كانت أقوى دلالة.

مع أنّ الإطلاق كيف لا يكون مؤثّرا في أخبار الظهر أصلا؟ مع أنّهم يقولون : وجوب الجمعة مشروط بشرائط زائدة على شرائط الظهر ، ولا يقولون في الظهر ذلك.

ومعلوم أنّ الأمر كذلك ، فمع ذلك لعلّ إطلاق الظهر يصير أقوى لأنّه يصير أصلا بالنسبة إلى الجمعة.

سلّمنا التساوي ، فالترجيح من أين؟ سلّمنا الترجيح ، لكنّهم لم يتعرّضوا

__________________

(١) أي : الخامس ممّا يوقع المغرور في الغلط.

(٢) الكافي : ١ / ٢٦٦ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٤٥ الحديث ٤٤٧٤ مع اختلاف يسير.

٥٠

لذلك أصلا ، فكيف يقولون : ثبت الوجوب العيني ممّا لا مزيد؟!

مع أنّه لم نر ثبوتا بعد أصلا ، فالمغرور يتوهّم أنّ الإطلاق منحصر في الجمعة.

السادس : إنّ التمسّك بالإطلاق فرع معرفة معناه قطعا ، ومعناه لم يعلم بعد أصلا ، وإن كنّا نعرف إطلاقنا ومعناه ، فإنّ إطلاقنا لم يعلم بعد أنّه إطلاق المعصوم عليه‌السلام بعينه ، وهو ليس من الامور البيّنة ولا المبيّنة ولا المسلّمة ، مع أنّ المسلّمة لا تنفع إلّا في مقام الجدل ، فلا يناسب الفقيه.

ومعلوم ـ يقينا ـ أنّ الحجّة إنّما هي إطلاق المعصوم عليه‌السلام خاصّة ، ولمّا يرى المغرور أنّ في بعض المقامات نجعل إطلاقنا إطلاق المعصوم عليه‌السلام يتوهّم أنّ المدار على ذلك ، ولا يعلم أنّه ليس كذلك قطعا ، إذ لو كان كذلك لما وقع النزاع العظيم في أنّ الحقيقة الشرعيّة ثابتة أم لا؟ والنزاع في أنّ عرفنا العام مقدّم على اللغة أم لا؟ ولم يقع الوفاق في أنّ عرفنا الخاص لا عبرة به شرعا يقينا ، مثل الرطل وغيره ، إلى غير ذلك ، مع أنّ كون إطلاقنا إطلاق الشارع جزما غلط جزما.

وفي الموضع الذي يجعل إطلاقنا إطلاقه إنّما هو من دليل ، ولا يتمشّى ذلك الدليل في أمثال المقام قطعا ، لأنّه ليس إلّا أصالة عدم التغيير والتعدّد ، وفيما نحن فيه تحقّق التغيّر والتعدّد جزما ، لأنّ عرف اللغوي غير عرف المتشرّعة جزما.

والقرينة الصارفة عن اللغوي لا تغني للزوم تحقّق المعيّنة أيضا ، ولم يوجد عند المستدلّين أصلا ، لأنّهم لا يعتبرون مجرّد الصارفة ، ومن يعتبره لا بدّ أن يكون له دليل شرعي ، وعلى تقدير تماميّته ، فإنّما هو في المقام الذي علمنا أنّ الشارع استعمل فيه كثيرا إلى حدّ توهّم القائل بثبوت الحقيقة الشرعيّة صيرورته حقيقة فيه ، وتحقّق ذلك في المقام غير معلوم ، لأنّه إنّما يتمّ في موضع يكون عند جميع

٥١

المتشرّعة حقيقة ، ولم يعلم أنّ المقام كذلك ، لما عرفت من أنّ جمعا من المتشرّعة يقولون : ليس ذلك صلاة الجمعة أصلا ، بل فعل آخر مغاير لصلاة الجمعة.

وجماعة آخرون يقولون : إنّ الجمعة اسم لمستجمعة لجميع شرائط الصحّة ليس إلّا (١).

مضافا إلى أنّ إطلاقنا ليس أزيد من استعمال ، والاستعمال أعم من الحقيقة فالمغرور الذي لا اطّلاع له بالفقه ، يتوهّم أنّ كلّ إطلاق يكون إنّما هو عين إطلاق المعصوم عليه‌السلام ، وقد عرفت فساده ، وليس غروره في هذا السادس من جهة ، بل من جهات.

السابع : أنّهم يستدلّون بأنّها واجبة على جميع المكلّفين (٢) ، وأنّ الأخبار عامة في ذلك ، فيتوهّم المغرور أنّ أحدا أنكر ذلك ، وليس كذلك بالبديهة ، فإنّ المحرّم والمخيّر يقولان أيضا : إنّ وجوبها العيني على المكلّفين ولا يخصّصانه بصنف منهم.

نعم ، يقولان : وجوبها مشروط بشروط ، كما أنّ المستدلّ أيضا يقول كذلك.

غاية ما في الباب أنّهما يزيدان شرطا آخر ، وهذا لا يمنع شمول جميع المكلّفين ، إذ هي واجبة على كلّ واحد واحد منهم ، ولكن ذلك الواجب له شروط ، وبين المقامين فرق واضح.

ألا ترى أنّ المستدلّ مع قوله بالعموم وشمول جميع المكلّفين ، يقول بأنّ لها شروطا كثيرة ، فكيف لا يصير ذلك منشأ لعدم العموم والشمول؟! وبمجرّد أن يقول الخصم لها شرط واحد آخر ، تخرج الأخبار من الشمول إلى عدم الشمول.

__________________

(١) انظر! المهذّب : ١ / ١٠٠.

(٢) رسائل الشهيد : ٥١ ، ذخيرة المعاد : ٣٠٨ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٩ / ٤٠٨.

٥٢

ففي المقام لا بدّ من نفي الشرط فقط ، لأنّه محلّ النزاع فقط ، لا أن يثبت العموم ، لما عرفت من عدم تأمّل أحد في العموم.

الثامن : إنّهم حين الاستدلال يقولون : وجوبها باق إلى يوم القيامة ، وأمثال هذه العبارات ، فيتوهّم المغرور أنّ أحدا قال بأنّه منسوخ في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو بعده ، حاشاهم عن ذلك ، للقطع بقولهم بالبقاء إلى يوم القيامة.

نعم بشروط وبانتفاء الشروط لا يجوز فعلها ، وهذا من المسلّمات ، إنّما النزاع في شرط زائد ليس إلّا.

فمنهم من يقول باختلاله لا يجوز فعلها (١) ، ومنهم من يقول : يستحبّ فعلها (٢) ، فلا معنى لنسبتهم إلى القول بعدم البقاء.

ألا ترى أنّ المستدلّ أيضا يقول بعدم وجوبها على من اختلّ شرط من الشرائط بالنسبة إليه ، وهذا لا يقتضي قوله بالنسخ حينئذ.

التاسع : إنّ بعض المستدلّين حين ما يعترض عليهم في استدلالهم بالآية والأخبار ، بأنّها دالة على ما لا نزاع لأحد فيه ، وهو القدر الضروري ، وأنّ الكلّ قائلون بإطلاق الآية والأخبار ، والكلّ قائلون بشمولها لجميع المكلّفين وبعدم النسخ ـ على حسب ما قرّرنا ـ إلّا أنّهم يقولون بزيادة شرط واحد ، وهذا هو محلّ نزاعهم لا غير ، يجيبون بأنّ الأصل عدم زيادة شرط زائد ، ولا يتفطّن أنّ الدليل على ذلك ليس سوى هذا الأصل ، فالإتيان بالآية والأخبار والتطويل فيها من أيّ جهة؟! فإنّ الكلّ يقولون بالوجوب العيني على النحو الذي قرّرنا ، فكان يكفي أن يقولوا : الأصل عدم زيادة الشرط ، وبه يتمّ مطلوبكم لو تمّ من دون حاجة أصلا

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى : ١ / ٢٧٢ ، السرائر : ١ / ٣٠٣.

(٢) المعتبر : ٢ / ٢٩٧ ، روض الجنان : ٢٩٠.

٥٣

إلى التمسّك بآية أو خبر.

فالمغرور يتوهّم الحاجة أو اطمئنانه من جهة الآية التي هي قول الله تعالى ، والأخبار المتواترة ، حتّى أنّ منهم من يقول : كما أنّ خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ثبت من التواتر بعنوان اليقين ، كذلك وجوب صلاة الجمعة.

والمغرور المسكين لا يتفطّن أنّ الأمر اليقيني حقّ البتة ، وهو الضروري ، لا ينكره أحد من المسلمين ، وأنّ منكره كافر بلا شبهة.

وأنّ ما قال ليس إلّا خبط النزاعي بالإجماعي ، وخلط النظري بالضروري واشتباه الظنّي باليقيني ، لأنّ أصل دليل الموجبين عينا ليس سوى الأصل المذكور السخيف المردود ، لما ستعرف.

العاشر : إنّ أصل العدم الذي ذكر لا خصوصيّة بالجمعة ، بل يجري أيضا في الظهر جزما ، فكيف في الجمعة يؤثّر وفي الظهر لا يؤثّر؟! مع أنّ الظهر هو الأصل بالنسبة إلى الجمعة ـ على حسب ما عرفت وستعرف ـ فيكون تأثيره فيه أولى ، على قياس ما قلنا في الإطلاق.

الحادي عشر : إنّ الأصل المذكور من أين ثبت كونه حجّة؟ حتّى صدر منكم ما صدر من الحكم الثابت الجازم المخالف لفتاوى القدماء والمتأخّرين والأدلّة العقليّة والنقليّة الكثيرة التي مرّت وسيجي‌ء.

مع أنّ الأصل ليس إلّا استصحاب العدم الأصلي ، والاستصحاب ليس حجّة عند المستدلّين (١).

بل وربّما يصرّحون بعدم جواز ابتناء الأحكام الشرعيّة على هذه الاصول السخيفة ، فالمغرور يتوهّم أنّ أصل العدم من الحجج الشرعيّة وأنّه غير

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٣٠٩ ، الدر النجفيّة : ٣٦ ـ ٤٠ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ١ / ٥٢.

٥٤

الاستصحاب.

الثاني عشر : إنّ أصل العدم إن كان حجّة ، فهو حجّة المحرّمين بلا شبهة ، لأنّ الفرض الإلهي من أوّل البعثة إلى مدّة مديدة كان هو الظهر خاصّة ، وبعد ذلك تغيّر التكليف إلى الجمعة ، لا بالنسبة إلى جميع المكلّفين جزما ، بل بالنسبة إلى من اجتمع له شرائط الجمعة خاصّة ، وهذا من القطعيّات.

وينادي بذلك كون الخطبتين بدل الركعتين وعوضهما ، على ما صرّحت به الأخبار الصحاح (١) ، وفرّع الفقهاء على ذلك تفريعات كثيرة تأتي.

ومعلوم بلا شبهة أنّ الحكم الشرعي إذا كان ثابتا يكون باقيا إلى يوم القيامة حتّى يثبت نسخه ، وما لم يثبت يحكم بالبقاء جزما ، من جهة الاستصحاب والإجماع والأخبار ، وهو مسلّم عند المستدلّين أيضا.

فالقدر الذي ثبت تغيّره إنّما هو بالنسبة إلى الجماعة الذين تحقّق فيهم شرائط الجمعة الوفاقيّة والخلافيّة ، يعني من كان عنده الإمام أو من نصبه مع باقي الشرائط.

وأمّا تغيّر حكم من عنده الشرائط سوى الإمام أو من نصبه فلم يثبت بعد لو لم نقل بثبوت عدم التغيّر ، فيكون حكمه السابق المعلوم باقيا إلى يوم القيامة ، وأيضا الأصل بقاء ما كان على ما كان.

وأيضا الأصل عدم كون ما فعل بغير إمام أو من نصبه صلاة الجمعة.

وأيضا الأصل عدم الخروج عن عهدة التكليف اليقيني بمجرّد الجمعة. إلى غير ذلك.

فالمغرور يتوهّم أنّ أصل العدم ليس إلّا واحدا ، وهو الذي يتمسّك به

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٢ و ٣١٣ الحديث ٩٤٤٠ و ٩٤٤١ ، ٣١٤ الحديث ٩٤٤٦.

٥٥

المستدلّ.

الثالث عشر : يستدلّون بالآية ، مع أنّ الشيعة لا يجوّزون الخطاب بالمعدوم (١) ، ومثله كالغائب ، ويقولون بأنّه محال على الله تعالى وحججه عليهم‌السلام ، ويقولون بأنّ الخطاب يختصّ بالحاضرين ، والغائبين مشاركتهم معهم بالإجماع (٢).

والإجماع في المقام إنّما تم فيما إذا كان الغائب له إمام عليه‌السلام أو من نصبه ، وأمّا إذا لم يكن فليس شريك الحاضر في كون تكليفه الوجوب العيني ، وعلى فرض عدم تماميّة هذا الإجماع ، لا إجماع على أنّهم مع عدم الإمام أو نائبه يكونون شركاء ، ولا شبهة في ذلك.

مع أنّه على هذا يصير الغائب حكمه مخالفا لحكم الحاضرين ، إذ عرفت أنّ الحاضرين كانوا يصلّون خلف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من نصبه ، وهو مسلّم عند المستدلّين أيضا ، ظاهر من الأخبار والآثار والاعتبار ، كما عرفت.

فإنّ صحيحة زرارة المتضمّنة لـ «إنّ من صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة» (٣) في غاية الظهور كما مرّ ، وظهر من غيرها أيضا ، بل عرفت أنّه يقيني.

فالمغرور يتوهّم أنّ الشيعة رأيهم رأي الأشاعرة ، وحاشاهم عن ذلك ، أو يتوهّم الإجماع الفاسد بلا شبهة.

الرابع عشر : يستدلّون بكلمة «إذا» مثلا على العموم (٤) وكذا المطلقات ، مع أنّ المحقّق عندهم أنّ «إذا» من أداة الإهمال ، وأنّ المطلق ينصرف إلى الأفراد

__________________

(١) مبادئ الأصول : ١١٤ ، معالم الدين في الاصول : ١٠٨.

(٢) معالم الدين في الاصول : ١٠٩ ، الوافية : ١٢٠.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٠ الحديث ٦٤٢ ، الاستبصار : ١ / ٤٢١ الحديث ١٦٢١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٧ الحديث ٩٤٢٧.

(٤) ذخيرة المعاد : ٣٠٩ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٩ / ٣٩٩.

٥٦

الشائعة في زمان الخطاب خاصّة ، وكذا كلمة «إذا» ، وعمومها عموم عرفي لا لغوي ، والمستدلّون بناؤهم على العموم اللغوي.

فالمغرور يتوهّم أنّ عمومها عموم لغوي ، ولا شكّ في أنّه ليس كذلك ، أو يتوهّم عدم التفاوت بين العمومين ، ولا شكّ في أنّه ليس كذلك ، وأنّه فرق بين قولك : بع شيئا بالنقد ، وبين : بعه بأيّ نقد يكون ، والفرق في غاية الوضوح.

هذا كلّه ، مضافا إلى ما ظهر ممّا ذكرناه سابقا من الخلط والاشتباهات ، مثل أنّهم رووا ما دلّ على وجوب الجمعة عينيّا من الأخبار ، ورووا ما دلّ على طلب الجمعة (١) من دون ظهور وجوب ، بل وظهور خلافه ، فتوهّموا أنّ الكلّ على نسق واحد ، فحملوا الأخيرة أيضا على الوجوب بدلالة الأدلّة ، ولم يتفطّنوا بأنّ الأدلّة لم تكن على طريقة الطلب ، ولم تكن لها وقت حاجة. وغير ذلك ممّا عرفت مشروحا ، فهي ما أفادت أزيد من ضروري الدين ، ولم يتفطّنوا بأنّ الأخيرة لا يمكن إرجاعها إلى الأدلّة قطعا ، ولا وجه لحملها على الوجوب بل لا يستقيم.

وأيضا رووا أنّ الفقهاء يخصّصون العمومات ، فتوهّموا جريانه في المقام ، ولم يتفطّنوا بالموانع التي عرفت.

وأيضا خلطوا بين مدلول عبارة الآية والأخبار ، وكون الأصل عدم زيادة شرط ، فتوهّموا أحدهما الآخر. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة ، ويظهر من التأمّل فيما ذكرناه.

واعلم! أنّ جميع ما ذكر بناء على عدم الدليل على اشتراط الإمام عليه‌السلام أو من نصبه ، وإلّا فقد عرفت الأدلّة على ذلك من جهة الإجماعات والأخبار والآثار

__________________

(١) رسائل الشهيد : ٥٤ ـ ٥٨ ، مدارك الأحكام : ٤ / ٦ ـ ٨ ، ذخيرة المعاد : ٣٠٨ ، الحدائق الناضرة :

٩ / ٤٠٨ ـ ٤١٩.

٥٧

والاعتبار ، بحيث لا يكاد يحصى ، ولا يمكن أن يخفى على ذي حجى ، بل يقينيّة أغلبها.

٥٨

٩ ـ مفتاح

[بيان مقدار الفرسخ]

الفرسخ ثلاثة أميال بالإجماع والصحاح (١) ، والميل أربعة آلاف ذراع ، كما قالوه (٢) ، ويعضده اللغة (٣) ، بذراع اليد الذي طوله أربعة وعشرون إصبعا غالبا.

وفي رواية : «ثلاثة آلاف وخمسمائة» (٤) ، وفي اخرى : «ألف وخمسمائة» (٥) ، ويشبه هذه أن يكون سهوا وقع من النسّاخ ، لأنّ القصّة فيهما واحدة.

والإصبع سبع شعيرات عرضا (٦) ، وقيل : ستّ (٧).

والشعيرة سبع شعرات من البرذون (٨).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٦ الباب ٢ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ١١ / ٣٦٦ ، الحدائق الناضرة : ١١ / ٣٠١.

(٣) مجمع البحرين : ٥ / ٤٧٦.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٠ الحديث ١١١٦٩.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦١ الحديث ١١١٧٢.

(٦) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٣٠.

(٧) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ٢٢٣ ، المجموع للنووي : ٤ / ٢٣٢.

(٨) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٣٠.

٥٩
٦٠