مصابيح الظلام - ج ٢

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٢

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-2-7
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٤١

ولو ردّته الريح ، فإن بلغ سماع الأذان ورؤية صورة الجدران أتمّ ، وإلّا قصّر ، وكذا الحال في ردّ القاسر الآدمي في كلّ سفر يكون ، أو من استعصاء الدابة ، وأمثال ذلك.

التاسع : قد عرفت أنّ المسافر لا يقصّر إذا شكّ في بلوغ سفره حدّ المسافة الشرعيّة ، فإذا صام وأتمّ الصلاة ، ثمّ ظهر عليه بلوغه حدّ المسافة أو ما زاد عنه ، حكم العلّامة في «التحرير» بعدم الإعادة (١).

ولعلّه لأنّه صلّى صلاة مأمورا بها ، وكذا الصيام ، وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء ، ولأنّه قبل ظهور البلوغ كان ممتثلا مطيعا ، لأنّ الشارع ما كلّفه إلّا بذلك ـ على ما عرفت ـ وكان يكفيه لامتثاله البتة.

والاحتياط الذي ذكرناه لم يكن واجبا عليه ، بل كان احتياطا ، طلب منه على سبيل الاحتياط لا الوجوب ، كما حقّق في محلّه ، ومرّ في بحث صلاة الجمعة وغيره.

ويمكن أن يقال : إنّ تكليفه وامتثاله إنّما كان بناء على أنّ مسافته لم تبلغ في أمثال المقام شرعا حدّ القصر ، بل كانت على حدّ التمام والصيام ، فإذا ظهر خلاف ذلك كشف عن كون الواجب عليه القصر والإفطار ، فإذا حصل اليقين بالبلوغ ، حصل العلم ـ من عمومات الأخبار وغيرها ـ بأنّه ما أتى بما امر به وكلّف عليه ، لأنّ فرضه القصر والإفطار بمقتضى العمومات ، سيّما إذا كان الوقت باقيا ـ مثل أن يكون في يوم صومه ظهر عليه جزما ـ أنّه مسافر ـ يجب عليه الإفطار ، وكذا لو صلّى في أوّل الوقت ، وظهر عليه بعد الفراغ.

نعم ، إن ثبت معذوريّته شرعا ـ كما ثبت في المتمّم الجاهل بوجوب القصر ـ

__________________

(١) تحرير الأحكام : ١ / ٥٧.

٢٦١

ثبت براءة ذمّته ، وصحّة ما فعله ، وإلّا فإنّه لم يأت بالمأمور به على وجهه ، أو لم يعلم أنّه أتى به على وجهه أم لا؟ فربّما كان باقيا تحت العهدة ، فتأمّل!

وبالجملة ، الاحتياط ظاهر ومطلوب ، بل الإفطار في الصوم متعيّن ، لا يجوز البقاء عليه بعد ظهور كونه حراما عليه ، بل الصلاة أيضا كذلك ، بأن ظهر عليه ، وهو في الصلاة ولم يدخل في ركوع الركعة الثالثة ، لا يجوز الإتمام مع ظهور وجوب القصر عليه.

بل بعد الدخول أيضا لا يجوز الإتيان بباقي الأربعة ركعات ، مع ظهور كون الواجب عليه الركعتين ليس إلّا ، وأنّ التعدّي حرام ، لما ورد منهم عليهم‌السلام : «أنّ من صلّى في السفر أربعا فأنا منه بري‌ء» (١) ، وأنّه عاص (٢) ، وأمثال ذلك (٣).

بل إذا فرغ عن الإتمام ، فظهر عليه أنّ اللازم على من بلغ سفره المسافة هو القصر ليس إلّا ، ويتأتّى منه ما هو اللازم على البالغ ـ لأنّ الوقت باق ـ كيف يتيسّر له إخراج نفسه عن الأدلّة الدالة على تحتّم القصر وعدم جواز غيره وحرمته عليه؟

ثمّ اعلم! أنّه مثل ما ذكرناه ما هو عكس ذلك ، بأنّ صلّى قصرا باعتقاده بلوغ المسافة ثمانية ثمّ ظهر عدم البلوغ ، وأمّا لزوم الكفّارة في إفطاره أم لا فسيجي‌ء تحقيقه.

العاشر : قد عرفت أنّ كلّ سفر يوجب القصر بعد اجتماع الشرائط ، منها

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨١ الحديث ١٢٧٣ ، المقنع : ١٢٨ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢١٨ الحديث ٦٣٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٨ و ٥١٩ الحديث ١١٣٢٨ و ١١٣٣٣.

(٢) الكافي : ٤ / ١٢٧ الحديث ٦ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٨ الحديث ١٢٦٦ و ٢ / ٩١ الحديث ٤٠٦ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢١٧ الحديث ٦٣١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٨ الحديث ١١٣٣٠.

(٣) الخصال : ١٢ الحديث ٤٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٠ الحديث ١١٣٣٦.

٢٦٢

عدم كونه حراما ، فلازم ذلك أنّ السفر لمحض الإفطار أو القصر يوجبهما ويصحّ ، وإن كان الأولى ترك السفر في شهر رمضان إلى انقضاء ثلاث وعشرين منه ، على ما سيجي‌ء.

وعرفت أنّ القصر والإفطار واحد إذا قصّر أفطر وإذا أفطر قصّر على ما ورد في صحيحة ابن وهب (١) وغيرها من الأخبار (٢).

وما استثناه الشيخ من سفر الصيد للتجارة ـ بأنّ اللازم فيه الإفطار دون قصر الصلاة ، بل يتمّها (٣) ، فإنّما دعاه إلى ذلك «الفقه الرضوي» (٤) ، فإنّه صريح فيما ذكره الشيخ ـ كما أشرنا سابقا ـ وإن ذكرنا للشيخ وجها آخر أيضا فيما سبق.

الحادي عشر : قال الفقهاء : إذا قصّر المسافر اتّفاقا لم يصحّ ، ويجب الإعادة قصرا ، يعني أنّه من جهله بأنّه يجب عليه القصر يصلّي تماما باعتقاد أنّه كالحاضر ، تكليفه هكذا ، ومرّ أنّه يصحّ صلاته حينئذ ، ولا إعادة عليه بعد معرفته أنّ اللازم كان عليه القصر ، لكن لو اتّفق أنّه صلّى قصرا أو أفطر ناسيا أو عامدا ، لم تكن صلاته صحيحة ، لأنّها إن كانت عن عمد يكون عاصيا ، ولا يتأتّى منه نيّة القربة وقصد الامتثال والإطاعة ، فيبطل من الجهتين : أمّا الثانية فظاهرة ، وأمّا الاولى ، فلعدم جواز كون الفعل الواحد إطاعة وعصيانا ، حراما وعبادة ، فضلا عن كونه واجبا.

وأمّا إذا كان ناسيا ، فلعدم العبرة بالنسيان في مقام لزوم الإطاعة وقصد

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٠ الحديث ١٢٧٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٠ الحديث ٥٥١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٣ الحديث ١١٢٩١.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٢ الحديث ١١١٤٢ ، ٤٦٢ الحديث ١١١٧٣ و ١١١٧٥.

(٣) المبسوط : ١ / ١٣٦ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٢.

(٤) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٦٢ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٥٣٣ الحديث ٧٤٤٢.

٢٦٣

الامتثال والقربة ، فإنّ النسيان والغفلة ليس بإرادة حقيقة ، وما كان ذلك قصد المكلّف ومنظوره ومراده ، بل صدر عنه غفلة ، ونسي ما كان يريد أن يأتي به لامتثاله.

غاية ما في الباب أنّه اتّفق المطابقة للواقع ، ومجرّد الاتّفاق لا يكفي ، لأنّه ما كان يريده ويشتهيه ، بل كان يتنفّر عنه ، وما كان يريده ، إلّا أنّه اتّفق أنّه صدر عنه خطأ وغفلة ، مثل سائر غفلاته ، ومثل ذلك لا يعدّ في العرف إطاعة وامتثالا ، فلا يكون صحيحة ، لعدم تحقّق قصد الامتثال حقيقة ، فيكون عليه الإعادة قصرا ، للخروج عن العهدة.

وقيل بصحّة مثل هذه العبادة (١) ، لأنّ الصحّة هي المطابقة للمطلوب ، واتّفق أنّها طابقت المطلوب ، وكون ذلك عن معرفته وعلمه غير لازم.

وفيه ، أنّ مثل هذا لا يقال في العرف : إنّه أطاع المولى ، بل يقال : صدر منه غفلة ما هو مطابق لطلب المولى ، وبينهما فرق ، إلّا أن يمنع وجوب تحقّق الإطاعة بالنحو المذكور ، وقد بسطنا الكلام في المقام في «الفوائد الحائريّة» فليلاحظ (٢).

ثمّ اعلم! أنّ حال الإتمام اتّفاقا مثل حال القصر اتّفاقا من دون تفاوت أصلا.

الثاني عشر : لو خرج وينتظر رفقة إن حصلت سافر وإلّا فلا ، أتمّ ما لم يبلغ خروجه حدّ المسافة ، وهي الثمانية ، أو الأربعة مع الإياب ، أو الذهاب بقدرها على أيّ حال ، وإلّا فيقصّر في طريقه ذهابا وإيابا وموضعه وقدر انتظاره ما لم يتجاوز شهرا.

__________________

(١) قال به المقدّس البغدادي ، كما في جواهر الكلام : ١٤ / ٣٥٢.

(٢) الفوائد الحائريّة : ٤١٥.

٢٦٤

هذا إذا كان الحدّ قصده من أوّل سفره ، وإذا لم يكن ذلك قصده أوّلا ، يتمّ إلى أن يقصد مسافة القصر ، أو يمضي ثمانية فراسخ.

ثمّ بعد بلوغ الثمانية يقصّر على رأي الشيخ (١) ، والمصنّف رحمه‌الله في «الوافي» (٢) ، كما هو الظاهر من موثّقة عمّار (٣).

وربّما كان رأي بعض آخر أنّ القصر إنّما هو بعد الشروع في الإياب.

هذا إذا كان قصده الإياب إلى وطنه ، وإلّا يكون عليه التمام ما دام هائما بأن لا يكون له عزم الرجوع إلى الوطن أصلا ، ولا الذهاب قدر المسافة ، وكذا الحال في كلّ هائم.

ولو كان عزمه السفر ـ إن جاءت رفقة أو لم يجيئوا ـ أتمّ إذا لم يخف عليه الأذان وصورة الجدران ، وقصّر بعد خفائهما ـ على النحو الذي مرّ ـ ما لم يتجاوز شهرا ، وقد مرّ أنّ الشهر عندي هو الثلاثون يوما (٤).

الثالث عشر : لو قصد الصبي مسافة فبلغ في أثنائها ، فالأقرب وجوب القصر عليه وإن لم يكن الباقي مسافة ، لعموم الأدلّة ، وعدم ثبوت مانع ومخرج.

وكذا لو عرض المسافر جنون أو إغماء أو سكر أو نوم أو ذهول أو غفلة أو نسيان ، على حسب ما مرّ ، فلاحظ وتأمّل جدّا!

وحكم القصر موضع الإتمام أو عكسه ـ جهلا أو عمدا أو نسيانا ـ قد مرّ.

الرابع عشر : قد مرّ أنّ ناوي الإقامة لو بدا له ، يرجع إلى التقصير والإفطار

__________________

(١) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٤ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٦ ذيل الحديث ٦٦٣.

(٢) الوافي : ٧ / ١٣٨ ذيل الحديث ٥٦٢٧.

(٣) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٦ الحديث ٦٦٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٧ الحديث ٨٠٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٩ الحديث ١١١٩١.

(٤) راجع! الصفحة ١٤٥ و ١٤٦ من هذا الكتاب.

٢٦٥

ما لم يصلّ فريضة مقصورة على التمام ، فقبل البداء لا يجوز له القصر والإفطار بوجه من الوجوه ، فلو قصّر بغير بداء له ورجوع عن قصده تكون باطلة ، عليه الإعادة في الوقت وفي خارجه ، سواء كان القصر عمدا أو جهلا أو نسيانا ، مع أنّه في صورة العمد آثم عاص ، وربّما يصير كافرا.

وأمّا الجاهل ، فغير معذور إجماعا ، بل مؤاخذ في تركه تحصيل المعرفة.

وأمّا الناسي ، فإن تذكّر خارج الوقت قضى ، وإن تذكّر في الوقت ـ بعد استدبار القبلة ، أو انتقاض الطهارة ، أو فعل ما لو وقع بعد السهو عن الركعتين لكان مبطلا لصلاته مانعا عن البناء ـ يعيد ، وأمّا لو تذكّر بعد فراغه قبل حدوث الامور المذكورة يقوم ويأتي بالباقي من غير تكبيرة الافتتاح والنيّة ، ويسجد سجدتي السهو ، للتسليم السهوي والتكلّم لو اتّفق ، كما إذا سهى عن الركعتين ، وسلّم بعد التشهّد الأوّل ، هذا إذا نسي عن قصده الإقامة.

وإذا بدا له التسليم السهوي ، لم يجب عليه الإتيان بالباقي ، بل يحرم ، وهل يكتفي بالتسليم السهوي أم يجب إعادته على القول بوجوبه؟ ظاهر الفقهاء الثاني ، لما مرّ في بحث ما إذا قصّر المسافر اتّفاقا ، ولأنّه حين التسليم ما كان مكلّفا بالتسليم ، بل كان مكلّفا بعدمه ، فيسجد سجدتي السهو من جهة التسليم السهوي ، ولا شكّ في أنّ ذلك أحوط أيضا.

وأمّا إذا تذكّر قبل التسليم عدل إلى الأربع وأتمّها أربعا ، ولا يضرّ قصده القصر ، لعدم وجوب نيّة القصر والإتمام ، فضلا أن يكون شرطا للصحّة.

وأمّا الإفطار العمدي ، فهو إثم وعصيان ، وربّما يكون كفرا ، وموجب للقضاء والكفّارة ، وأمّا إذا كان جهلا فموجب للقضاء ، وأمّا الكفّارة فسيجي‌ء.

وأمّا إذا كان نسيانا وناويا للصوم ، فلا يضرّ ، ولا يكون إفطارا إن تذكّر في يومه ، بل كلّ ما يكون في فيه من اللقمة يرميه وجوبا ، ولا يبلغ منه شيئا حتّى من

٢٦٦

لعابه ومائه وما بقي تحت أسنانه.

ولو لم يكن ناويا للصوم ، يمسك عن الأكل وغيره من المفطرات على ما سيجي‌ء.

ثمّ اعلم! أنّه إذا صلّى الفريضة بتمام قبل البداء ، فالتماميّة لا تتحقّق إلّا بالإتيان بالسلام المخرج عن الصلاة ، والفراغ من ذلك التسليم ، فلا يكفي ما نقل عن الشيخ من اكتفائه بالدخول في تلك الفريضة (١) ، ولا ما نقلنا عن العلّامة من الدخول في الثالثة (٢) ، لما عرفت سابقا.

وأمّا إذا كان التسليم المخرج قبل السّلام الآخر ـ كما هو المتعارف الآن من تقديم «السّلام علينا» على «السّلام عليكم» ، وسيجي‌ء أنّ الأوّل يخرج عن الصلاة ، وإن كان «السلام عليكم» جزءا أيضا مستحبّا ـ فالظاهر تحقّق الإتمام بالفراغ من «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» وإن كان عزم المكلّف ذكر «السلام عليكم» بعد ذلك ، لأنّه إمّا مستحبّ وجزء لها ، أو واجب خارج عنها ، على ما اخترناه من الخروج عنها بـ «السلام علينا».

ومثل هذا ما إذا قيل باستحباب التسليم ، والخروج عن الصلاة بالفراغ عن التشهّد ، أو عن الصلاة على محمّد وآله بعد التشهّد ، مع احتمال أن يكون التمام لم يتحقّق إلّا بالفراغ عن السلام الآخر على القول بكونه جزءا للصلاة مستحبّا إذا كان المكلّف كان عزمه أن يقول ، لصدق عدم التمام حينئذ ، مع أنّ كونه مسافرا سفر القصر مستصحب حتّى يثبت خلافه ، لقولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين إلّا بيقين» (٣). والأوّل أقوى وأظهر.

__________________

(١) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٣ / ١٣٩ ، لاحظ! المبسوط : ١ / ١٣٩.

(٢) راجع! الصفحة : ٢٤٧ من هذا الكتاب.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٨ الحديث ١١ ، وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١ نقل بالمضمون.

٢٦٧

وأمّا الاكتفاء برفع الرأس عن السجدتين في الركعة الرابعة ، بناء على تماميّة أركان الصلاة التي هي العمدة ، ويتحقّق أربع ركعات ، ففيه ما فيه.

الخامس عشر : إذا شكّ بعد الفراغ من الفريضة التي بدا له بعدها ، فلا شكّ في أنّه عليه أن يبني على كونها تامّة لا نقص فيها ، لكون الشكّ بعد الفراغ ، ولا يمكنه غير هذا ، فالظاهر أنّها داخلة في قوله عليه‌السلام : وإن صلّى فريضة بتمام ، فعليه التمام والصيام حتّى يخرج (١).

وكذا إذا كان كثير الشكّ ، وشكّ في الأثناء ، كما إذا كان ظانّا بالتمام ، فإنّ التماميّة والنقيصة في العبادة باعتبار الشرع ، فتأمّل ، مع احتمال عوده إلى القصر ، لأنّ المتبادر من قوله عليه‌السلام : «صلّى فريضة بتمام» ، أن يفعلها كذلك ، لا أن يبني على التمام.

ولعلّ الأوّل أقرب ، لأنّها فرضه بتمام شرعا ، فتأمّل. والاحتياط في مثل ذلك لازم.

وأمّا إذا سها في هذه الفريضة ، فترك سجدة أو تشهّدا ، فبدا له بعد التسليم قبل أن يأتي بالمنسي ، فهل يرجع إلى التقصير ، لأنّه لم يصلّ فريضة بتمام أو لا ، لأنّه صلّى بتمام وفرغ ممّا هو الأصل في الفريضة؟ ولعلّ الأوّل أظهر ، فإنّه مثل ما إذا سهى فترك بعض الركعات ، فبدا له قبل فعله.

وأمّا إذا سها سهوا لا يوجب إلّا سجدة السهو خاصّة ، فالظاهر هو الثاني لأنّها ليست جزءا للصلاة ، بل واجب على حدة.

مع احتمال الفرق بين ما إذا كانت لأجل ترك جزء للصلاة مثل «الحمد»

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٠ الحديث ١٢٧٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢١ الحديث ٥٥٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٨ الحديث ٨٥١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥ نقل بالمعنى.

٢٦٨

والسورة وغيرهما ، أو لأجل زيادة وقعت ، أو لتبديل جزء بآخر على القول بوجوبها ، لما ذكر بأنّ ما في الأوّل موضع الجزء ، فلا يصدق قبل فعلها أنّه صلّى الفريضة بتمام ، فتأمّل فيه!

ولو شكّ في كون بدائه قبل فعل الفريضة بتمام أو بعده ، وأنّ الفريضة بتمام هل صدر منه في حال الغفلة عن البداء أو في حال عدم البداء؟ فالظاهر بقاء سفر القصر على حاله للاستصحاب ، مع احتمال ثبوت خلاف الاستصحاب ، بأنّ الأصل في أفعال المسلم الحمل على الصحّة وبعد وقوعها (١) غفلة ، ولعلّ الأوّل أقوى.

ولو صلّى الفريضة قصرا سهوا ، مع كون إرادته الإتمام ، لكونه ناوي الإقامة ، ثمّ بدا له وصلّى صلاة أو صلوات تامّات باعتقاد كونه ممّن يجب أن يصلّي تماما وأنّه بمنزلة المتوطّن ، فتذكّر أنّ صلاته التي صلّى أوّلا في حال قصده الإقامة كانت قصرا لسهوه ، فهل يرجع إلى القصر ، لأنّه ما صلّى فريضته بتمام قبل أن يبدو له ، أو أنّه يتمّ ، لأنّ ذمّته كانت مشغولة بالإتمام ، لكون الخطاب بالنسبة إليه كان هو الإتمام وإن كان قد صلّى قصرا؟ والأوّل أظهر ، بل هو متعيّن.

السادس عشر : قد عرفت أنّ ناوي الإقامة يجب عليه الإتمام والصيام ، وكلّ واحد منهما واجب عليه على حدة ، من دون توقّف على الآخر واشتراط به ، كما هو الحال في الحاضر ، فلو صام ولم يصلّ عمدا لفقد الطهور أو عصيانا ، أو صلى قصرا نسيانا أو جهلا ، أو لعدم المبالاة ـ لا من جهة البداء ـ يكون ما صام صحيحا ـ وإن صام جميع العشرة ، بل وكلّ الشهر ، بل وأزيد ـ ما لم يحصل له البداء في أثناء العشرة على حسب ما عرفت ، لأنّه صام صوما واجبا عليه ، ولا يمكنه شرعا

__________________

(١) في (ز ٣) : واستبعاد وقوعها.

٢٦٩

تركه ، وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء.

وأمّا إذا بدا له في أثناء العشرة ، فمقتضى ما ذكرناه صحّة صومه الذي وقع قبل البداء جزما ، لأنّه قبل البداء كان مخاطبا بالصوم جزما ، وما كان مرخّصا شرعا في تركه بمقتضى الأخبار والإجماع ، وقد عرفتهما ، والتكليف به مع عدم القبول منه وعدم صحّته تكليف بما لا يطاق.

أمّا في صورة عدم التمكّن من الصلاة ، أو عدم التمكّن من إتمامها فظاهر.

وأمّا في صورة التمكّن ، فلما عرفت من عدم كون أحدهما شرطا لصحّة الآخر ، بل كلّ واحد منهما واجب مستقلّ برأسه ، إلّا أن يقال : أنّ الصوم الذي ارتكبه قبل البداء وإن كان صحيحا بما ذكر من الدليل ، إلّا أنّه بعد ما بدا له قبل أن يصلّي فريضة بتمام بطل جميع ما كان صحيحا بمقتضى ما يظهر من صحيحة أبي ولّاد (١) التي هي حجّة إجماعا ، يعني هذا البداء صار كاشفا عن بطلانه من أوّل الأمر ، وعدم كون المسافر مكلّفا به من أوّله إلى الآن.

وفيه ، أنّ ثبوت فساد ما كان الواجب على المكلّف فعله على سبيل التعيين ـ بحيث لم يكن مرخّصا أصلا في الترك ولا المساهلة والمسامحة بوجه من الوجوه ـ أمر في نفسه مشكل ، فضلا أن يكون ثابتا من صحيحة أبي ولّاد ، إذ قبيح على الحكيم عدم قبول مثله من المكلّف ، وردّه عليه مع إيجابه عليه من دون توقّف على شي‌ء سامح المكلّف فيه ، ولا اشتراط بشي‌ء لم يراعه.

مع أنّ جميع ما ذكرناه فروض نادرة ، فكيف يتبادر من صحيحة أبي ولّاد؟ فضلا أن يكون بحيث يغلب على ما ذكر ، سيّما مع ما ورد منهم من أنّ المتيقّن لا يجوز تركه إلّا بيقين (٢) ، وإلى حين البداء كان صحيحا على اليقين ، لأنّه لو كان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥.

(٢) وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١ نقل بالمضمون.

٢٧٠

يسافر أو يموت أو يجنّ كان ممتثلا ، وصومه كان صحيحا.

وصحيحة أبي ولّاد مبنيّة على الفروض المتعارفة ، فإذا ثبت كونه مقيما غير مسافر فيما تقدّم على البداء ثبت فيما تأخّر أيضا ، لعدم القول بالفصل ، ولما عرفت سابقا في بحث انقطاع السفر بالقواطع الثلاث.

السابع عشر : قد مرّ مرارا أنّ من نوى الإقامة وصلّى صلاة بتمام انقطع سفره قطعا ، ولا يجوز له التقصير إلّا بعد أن يسافر سفرا جديدا مستجمعا لشرائط القصر ، فإذا خرج إلى ما دون المسافة يتمّ في الذهاب وموضع قصده ، والإياب وموضع إقامته.

وكذا لو خرج إلى المسافة وما فوقها غير قاصد ، أو يقصد ما دون المسافة ثمّ قصد ما دونها ، وهكذا ، لكن في الإياب إلى موضع الإقامة لو كان قاصدا له يقصّر إذا كانت ثمانية أو ما فوقها ، وأمّا في موضع الإقامة يتمّ ، إذا كان قاصدا لإقامة عشرة اخرى فيه ، لأنّ قصد الإقامة السابق انقطع بقصد المسافة بعده ، وإن لم تكن ثمانية ، أو كان لكن لا يكون قاصدا لها ، يتمّ أيضا فيه وفي موضع الإقامة إلى أن يقصد مسافة جديدة.

هذا إذا كان قصده الإقامة السابق موافقا للعرف من دون تزلزل ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل كان قصده الذهاب في ضمن العشرة إلى مواضع خارجة عن موضع إقامته ، بحيث لا يصدق في العرف أنّه قصد إقامة العشرة المتوالية فيه ، فالظاهر عدم تحقّق قصد الإقامة الشرعيّة ، لأنّ الوارد في الأخبار مقام عشرة أيّام (١) ، والمتبادر منه التوالي العرفي والمقام العرفي ، وإن كان الظاهر من بعض الأخبار عدم اعتبار التوالي مطلقا ، وهو رواية محمّد بن إبراهيم الحضيني (٢) ، ولم

__________________

(١) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٨ الباب ١٥ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٧ الحديث ١٤٨٤ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٢ الحديث ١١٨٠ ، وسائل الشيعة :

٢٧١

أطّلع على من أفتى بظاهرها سوى الشيخ ، وجعل ذلك من خواصّ الحرمين (١) ، فلاحظ كلامه وتأمّل!

وأمّا ما ظهر ممّا سبق من القول بعدم اعتبار التوالي ، فهو أن يخرج إلى خارج الحدود مع العود إلى موضع الإقامة ليومه أو ليلته ، فيشكل العمل بالرواية المذكورة ، ورفع اليد عمّا ظهر من الأخبار الصحاح الكثيرة المفتى بها المعوّل عليها.

نعم ، ما لا يضرّ التوالي العرفي ، أو المقام العرفي ، فهو غير مضرّ بقصد الإقامة الشرعيّة ، فمن نوى الإقامة في النجف الأشرف ـ على مشرّفه ألف صلاة وسلام ـ مثلا ، مريدا للذهاب إلى مسجد الكوفة في ضمن إقامته ، والرجوع من يومه أو ليلته إلى النجف ، يحتمل أن يكون ناوي إقامة العشرة المتوالية عرفا ، لاحتمال كون مسجد الكوفة من توابع النجف الأشرف ، والنجف الأشرف من توابع الكوفة ، بحيث لا يقدح في قصد الإقامة فيهما الخروج من كلّ منهما إلى الآخر ، كما أنّ الحال في بغداد والكاظمين عليهما‌السلام أيضا كذلك. وقس عليهما حال غيرهما.

سيّما وفي بعض الأخبار : «إذا دخلت أرضا ، فأيقنت أنّ لك بها مقام عشرة فأتمّ» (٢).

مع أنّه على تقدير الخروج وعدم التابعيّة ، فلعلّ هذا المقدار من الذهاب والإياب إليه لا يكون قادحا في الصدق ، مع كون رحله فيه ومنامه ومقرّه ومقامه إذ يقال عرفا : إنّه ناوي الإقامة فيه ، لكن الاحتياط في أمثال هذا ممّا لا ينبغي أن يترك ، بأن يكون نيّة الإقامة من دون قصد الخروج في ضمن العشرة في حال

__________________

٨ / ٥٢٨ الحديث ١١٣٥٧.

(١) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٧ ذيل الحديث ١٤٨٣.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٣٥ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٩ الحديث ٥٤٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٧ الحديث ٨٤٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٠ الحديث ١١٢٨٣.

٢٧٢

قصد الإقامة.

نعم ، إذا كان من دون قصد الخروج في ضمن العشرة ، لا يجب عليه الصبر إلى انقضاء العشرة ، بل بعد ما صلّى صلاة واحدة بتمام ثمّ بدا له ، فلا غبار ولا شبهة أصلا في أنّه يتمّ الصلاة ويصوم إلى أن ينشأ سفرا جديدا مستجمعا للشرائط ، وقبل إنشاء مثل هذا السفر يتمّ ويصوم ، كما قلنا.

الثامن عشر : قد قلنا سابقا أنّ قصد الإقامة يتحقّق بشيئين :

أحدهما : اليقين بكونه في المقام مدّة عشرة أيّام ، وإن لم يكن ذلك مشتهى نفسه ولم يكن هو قاصدا للقيام فيه.

وثانيهما : أن يكون هو قاصدا للإقامة فيه عازما لها ، وإن لم يحصل له اليقين السابق ، ولذا ربّما يبدو له من دون داع يضطرّ بسببه إلى البداء ، وربّما تحصل الدواعي التي تلجئه إلى البداء.

نعم ، لا بدّ أن يكون في حال قصده على وثوق من أنّه يقيم عشرة أيّام ، بأن لا يخطر بخاطره احتمال الخلاف والدواعي له ، أو يخطر لكنّه من جهة بعده في نظره يكون واثقا وإن كان ظانّا.

وإن كان يشتهي المقام ، لكن من جهة أنّه لا يدري أنّه يتيسّر له أم لا؟ لا يقصد ولا يعزم ـ وإن كان الراجح عنده أنّه يقيم هذا القدر ـ فهذا ليس بقصد الإقامة ، كما أنّه إذا كان يظنّ ـ بظنّ قوى ـ أنّه يقيم عشرا ، لكن لا يقصد ولا يريد ، ليس ذلك بقصد الإقامة.

وإن كان إرادته الإقامة مع حصول ظن بها ـ ليس بقوي ـ ففي كونه قصد الإقامة إشكال ، بل الظاهر أنّه ليس قصد الإقامة ، سيّما مع ما في بعض الصحاح من اشتراط العزم على الإقامة (١).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٨ الباب ١٥ من أبواب صلاة المسافر.

٢٧٣

التاسع عشر : روي عن حمزة بن عبد الله الجعفري قال : لمّا أن نفرت من منى نويت المقام بمكّة فأتممت الصلاة حتّى جاءني خبر من المنزل فلم أجد بدا من المصير إلى المنزل ولم أدر أتمّ أم اقصّر ، وأبو الحسن عليه‌السلام يومئذ بمكّة فأتيته فقصصت عليه القصّة ، فقال : «ارجع إلى التقصير» (١).

حملها في «التهذيب» على ما إذا حصل مسافرا وخرج (٢).

ويحتمل أن يكون قوله : فأتممت الصلاة ، مثل قول أبي ولّاد : فأتمّ الصلاة ، بعد قوله : نويت حين دخلت المدينة أن اقيم بها عشرا (٣).

ويحتمل أن يكون نوى المقام مطلقا من دون تقييد بعشرة أيّام ، أو الدوام ، أو غير ذلك ، كما هو منطوق الخبر.

وتبادر إقامة العشرة في أمثال زماننا ، إنّما هو بسبب الفتاوى واشتهارها عند المتشرّعة ، فلا يلزم أن يكون ذلك الزمان أيضا كذلك ، سيّما عند كلّ أحد ـ حتّى عند هذا الراوي أيضا ـ حتّى يلزم الإشكال ، سيّما أنّ الأصل عدم التقدير ، وعدم الزيادة.

مع أنّه على تقدير التقدير ، فيحتمل أن يكون المقدّر خمسة ، لما مرّ في صحيحتي ابن مسلم من أنّ إقامة الخمسة بالحرمين يوجب الإتمام (٤) ، مع أنّ الشيخ

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٣ الحديث ١٢٨٦ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢١ الحديث ٥٥٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٩ الحديث ٨٥٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٩ الحديث ١١٣٠٦.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٢ ذيل الحديث ٥٥٤.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٠ الحديث ٥٤٨ و ٥٤٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٨ الحديث ٨٤٩ و ٨٥٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠١ الحديث ١١٢٨٦ ، ٥٠٢ الحديث ١١٢٩٠.

٢٧٤

والشهيد وغيرهما يقولون بكفاية الخمسة في الحرمين (١) ، أو من جهة مستند ابن الجنيد القائل بالخمسة مطلقا (٢).

فلعلّ حال الراوي ، حال ابن الجنيد والشيخ وشركائه ، وأنّه سمع حديث الخمسة في الحرمين ، المفتى به عند المشايخ ، فلا حاجة إلى ارتكاب البعيد.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٠ ذيل الحديث ٥٤٨ ، مختلف الشيعة : ٣ / ١١٤ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١٢.

(٢) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٣ / ١١٣ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٣٠.

٢٧٥
٢٧٦

١٧ ـ مفتاح

[ما يتحقّق به الوطن]

الوطن ما يكون له فيه منزل يقيم فيه ستّة أشهر ، فإذا كان كذلك يتمّ فيه متى يدخله ، كذا في الصحيح (١).

وللأصحاب هنا اختلاف شديد وأقوال شتّى ، وكذا النصوص مع اعتبار سند أكثرها. لكنّ العمل على ما ذكر ، وفاقا للصدوق (٢) ، لعلوّ السند ووضوحه واعتضاده بالعمومات.

وللتخيير فيما اختلفت الروايات فيه وجه.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٦.

(٢) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٣.

٢٧٧
٢٧٨

قوله : (والوطن ما يكون). إلى آخره.

لا يخفى أنّ الأصل في الصلاة هو الإتمام ، وهو الذي وضع الله تعالى الصلاة عليه ، والقصر لا يكون إلّا لعروض السفر أو الخوف ، وبمجرّد السفر أيضا لا يجوز القصر حتّى يتحقّق شرائطه ، كما عرفت.

فالمكلّف لا يجوز له القصر إلّا أن يثبت له أنّه مسافر بلا شكّ ولا شبهة ، ولا يكون مسافرا إلّا إذا كان خارجا عن وطنه ومنزله ومسكنه جزما ، والكائن في الوطن الحاضر فيه حاضر غير مسافر بالبديهة.

مع أنّك عرفت أنّه لا بدّ من ثبوت كونه مسافرا حتّى يجوز له القصر ، فلا معنى لأنّ يقال : الوطن ما يكون. إلى آخره ، إذ المسافر لفظ يرجع فيه إلى اللغة والعرف ، وليس في اللغة والعرف إلّا من هو خارج عن موضع حضوره ووطنه ، ولا دخل للملك في هذا المعنى أصلا ورأسا ، كما أنّه ليس كلّ من هو في ملكه حاضرا ، بل غالبهم مسافرون ـ لغة وعرفا ـ حين ما كانوا في أملاكهم.

كما أنّ غالب الحاضرين وغير المسافرين ليسوا في ملكهم جزما ، بل الذين ليسوا بمسافرين ـ لغة وعرفا ـ ربّما لا يكون لهم ملك أصلا ، وربّما يكون لهم ملك ليس قابلا للسكنى ، وربّما يكون قابلا ، لكنّهم ليسوا بساكنين فيه ، وعلى ذلك المدار في الأعصار والأمصار ، فكيف يمكن أن يقال : من لم يكن له ملك قد استوطنه ستّة أشهر يكون دائما في السفر؟ بل لا يمكن أن يصير حاضرا أصلا ، لعدم ذلك الوطن له ، بل يكون لازم السفر محال الانفكاك منه ، وأعجب من هذا أن يكون كثير السفر.

ومن كان السفر عمله يجب عليه الإتمام ، ومن كان لازم السفر ، محال

٢٧٩

الانفكاك عنه يجب عليه القصر من يوم تولّدهم إلى أن يموتوا ، إلّا أن يكونوا أرباب ملك يستوطنون فيه كلّ سنة ستّة أشهر ، ولا بدّ أن يكون ذلك منزلا له ، وأين هذا ممّا ذكر من أنّ الأصل هو الإتمام ولا يمكن القصر إلّا بعد ثبوت كونه مسافرا؟ ولا يكفي هذا أيضا ، بل لا بدّ من شرائط كثيرة لا يكفي واحد ولا اثنان ولا ثلاثة ولا أربعة ولا خمسة ، وهكذا.

فالظاهر أنّ مراد الفقهاء ـ ومنهم المصنّف رحمه‌الله ـ من هذا ، تعريف الوطن الذي عدّوه من القواطع للسفر ، كما لا يخفى على من تأمّل كلامهم ، وليس مرادهم أنّ الإتمام والصيام مطلقا منحصر في ما ذكر ، بل مرادهم تعريف الوطن الذي يكون المسافر يتمّ فيه إذا دخله مع كونه على سفر ، لا حال كونه متوطنا فيه ، وهو وقت ستّة أشهر الذي استوطنه في ذلك الوقت ، بل حال وقت الاستيطان وكلوه إلى الظهور ، كسائر أوقات التوطّن والحضور ، وعدم السفر الذي لا غبار ولا شبهة فيها ، ولا يحتاج إلى التنبيه. كما أنّهم ما عرفوا معنى الحاضر ، ولا معنى المسافر ، ولا معنى الخروج عن البلد أو البيت أو الدار أو الأهل ، وأمثال ذلك.

ويؤيّد ذلك أيضا أنّ مستندهم في هذا الحكم لا يدلّ إلّا على ما ذكرناه من أنّه موضع يتمّ فيه الصلاة والصيام ، لا أنّ إتمام الصلاة والصيام منحصر فيه محال في غيره ، على النهج الذي ذكر.

وبالجملة ، كون ما ذكرناه هو مراد الفقهاء ومقتضى أدلّتهم ممّا لا شبهة فيه بعد التأمّل وإمعان النظر ، فمن لم يتأمّل يتوهّم الانحصار ، ويدّعي أنّ الإتمام لا يمكن شرعا إلّا في الوطن الشرعي ، ومن لم يكن له وطن شرعي أو كان لكنّه ليس فيه يقصّر إلى أن يموت ، ويجعل فرض جميع المكلّفين هو القصر ليس إلّا ، ويخرج من هذه الكلّية من له ملك يكون ذلك الملك منزلا له ، ومع ذلك استوطنه ستّة أشهر

٢٨٠