مصابيح الظلام - ج ٥

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٥

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-5-1
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٤٨

١
٢

٣
٤

٨٠ ـ مفتاح

[نجاسة الخمر والمسكرات]

المشهور نجاسة الخمر وكلّ مسكر مائع بالأصالة ، للآية (١) ، والصحاح (٢) والإجماع المدّعى من الشيخ والسيّد (٣) ، خلافا للصدوق وجماعة (٤) ، حملا للرجس في الآية على المأثم أو المستقذر مطلقا ، والاجتناب ، لكونه معصية وإثما ، كما في الميسر ، ومعارضة للصحاح بمثلها (٥) ، وطعنا في الإجماع ، وتمسّكا بالأصل.

وليس حمل أحد النصّين على التقيّة أولى من الآخر ، لأنّ معظم العامّة على النجاسة ، وولوع امرائهم بشربها يقتضي الفتوى بالطهارة فتعارضا.

__________________

(١) المائدة (٥) : ٩٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٨ الباب ٣٨ من أبواب النجاسات ، ٢٥ / ٣٦٨ الباب ٣٠ من أبواب الأشربة المحرّمة.

(٣) الناصريّات : ٩٥ و ٩٦ المسألة ١٦ ، المبسوط : ١ / ٣٦ ، لاحظ! مختلف الشيعة : ١ / ٤٧٠.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤٣ ذيل الحديث ١٦٧ ، مجمع الفائدة والبرهان : ١ / ٣٠٩ و ٣١٠ ، مدارك الأحكام : ٢ / ٢٩١ ، ذخيرة المعاد : ١٥٤.

(٥) انظر! وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧١ الحديث ٤٢٠٦ ـ ٤٢١٠.

٥

نعم ، حمل الأمر بالغسل منها على الاستحباب ممكن ، إلّا أنّ العمل على المشهور ، وهو أحوط ، بل أظهر وأقوى.

وألحقوا بها نجاسة الفقّاع (١) وإن لم يكن من المسكر ، للخبر : «لا تشربه فإنّه خمر مجهول ، فإذا أصاب ثوبك فاغسله» (٢) ، وفي سنده جهالة ، فإن ثبت إطلاق الخمر عليه حقيقة ـ كما ادّعاه بعضهم (٣) ودلّ عليه الخبر : «هي الخمر بعينها» (٤) ـ كان حكمه حكمها.

__________________

(١) غنيه النزوع : ٤١ ، المعتبر : ١ / ٤٢٥ ، نهاية الإحكام : ١ / ٢٧٢ ، تذكرة الفقهاء : ١ / ٦٥.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٩ الحديث ٤٢٠١.

(٣) المعتبر : ١ / ٤٢٥.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٦١ الحديث ٣٢١٢٧.

٦

قوله : (المشهور). إلى آخره.

بل الظاهر أنّها إجماعيّة أيضا ، كما قال الشيخ : الخمر نجسة بلا خلاف (١) ، والسيّد : لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلّا ما يحكى عن شاذّ لا اعتبار بقولهم (٢). وقال ابن زهرة : الخمر نجسة بلا خلاف ممّن يعتدّ به (٣). وعن ابن إدريس : إجماع المسلمين على ذلك (٤).

مع أنّ هذا الإجماع احتجّ به جماعة منهم العلّامة في «المختلف» (٥) ، وعرفت أنّ خروج معلوم النسب غير مضرّ بإجماع الشيعة أصلا ، ولم ينقل خلاف إلّا من الصدوق وابن أبي عقيل (٦).

حجّة المشهور ـ لو لم نقل الإجماع ـ وجوه :

الأوّل : الإجماع المستفيض الذي واحده حجّة فضلا عن المجموع ، فضلا عمّا ذكرنا.

الثاني : قوله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) (٧) الآية ، للوصف بالرجاسة ، والأمر بالاجتناب المطلق بمعونة تفسير أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم أدرى بما في البيت.

__________________

(١) المبسوط : ١ / ٣٦.

(٢) الناصريات : ٩٥ و ٩٦ المسألة ١٦.

(٣) غنية النزوع : ٤١.

(٤) السرائر : ١ / ١٧٨ و ١٧٩.

(٥) مختلف الشيعة : ١ / ٤٧٠.

(٦) نقل عنهما العلّامة في مختلف الشيعة : ١ / ٤٦٩.

(٧) المائدة (٥) : ٩٠.

٧

إذ روى خيران الخادم أنّه كتب إلى الرجل عليه‌السلام يسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلّي فيه أم لا؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : صلّ فيه لأنّ الله إنّما حرّم شربها ، وقال بعضهم : لا تصلّ فيه. فكتب عليه‌السلام : «لا تصلّ فيه فإنّه رجس حتّى تغسله» (١).

وهذه الرواية رواها في «الكافي» فتكون من اليقينيّات عنده ، ورواها غيره أيضا معتمدا عليها ، مع أنّه ليس في طريقها من ليس بثقة سوى سهل.

مع أنّه أيضا ثقة على الأصحّ ، وعلى الأضعف وإن كان ضعيفا إلّا أنّ ضعفه سهل.

وقريب منها صحيحة علي بن مهزيار الآتية عن أبي الحسن عليه‌السلام ، ويشير إلى ذلك الأخبار الاخر أيضا ، ولعلّه لهذا احتجّ الفحول بهذه الآية للمشهور من دون تأمّل.

الثالث : الأخبار منها رواية خيران السابقة المنجبرة بالشهرة العظيمة والإجماعات المنقولة ، والأخبار الاخر منها الصحيحة المذكورة.

ومرسلة يونس عن الصادق عليه‌السلام : «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه ، وإن لم تعرف موضعه فاغسل الثوب كلّه ، وإن صلّيت فيه فأعد صلاتك» (٢) وانجبارها ، كما عرفت ، مضافا إلى ما سيجي‌ء في النبيذ والفقاع.

ورواية زكريّا بن آدم عن أبي الحسن عليه‌السلام : عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٠٥ الحديث ٥ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٥٨ الحديث ١٤٨٥ ، الاستبصار : ١ / ١٨٩ الحديث ٦٦٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٩ الحديث ٤٢٠٠.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٠٥ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٧٨ الحديث ٨١٨ ، الاستبصار : ١ / ١٨٩ الحديث ٦٦١ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٩ الحديث ٤١٩٩ مع اختلاف يسير.

٨

قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير؟ قال : «يهراق المرق ، أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب ، واللحم اغسله وكله» ، قلت : فخمر أو نبيذ قطر في عجين ، أو دم ، قال : «فسد» ، قلت : أبيعه من اليهودي والنصراني وابيّن لهم؟ قال : «نعم فإنّهم يستحلّون شربه» ، قلت : فالفقاع بتلك المنزلة إذا قطر في شي‌ء من ذلك؟ قال : «أكره أن آكله إذا قطر في شي‌ء من طعامي» (١).

وفي الموثّق عن عمّار عن الصادق عليه‌السلام في دنّ فيه خمر ، هل يصلح أن يكون فيه الخلّ أو ماء كامخ أو الزيتون؟ قال : «إذا غسل فلا بأس». وعن الإبريق فيه خمر هل يصلح لأن يكون فيه ماء؟ قال : «إذا غسل فلا بأس».

وقال في قدح أو إناء فيشرب فيه الخمر قال : يغسله ثلاث مرّات (٢) الحديث.

وفي صحيحة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام : إنّ الدواء الذي عجن بالخمر بمنزلة شحم الخنزير (٣).

وفي بعض الروايات أنّه بمنزلة الميتة (٤).

وفي الموثّق بـ ـ عمّار ـ عن الصادق عليه‌السلام : الأمر بغسل الإناء الذي يشرب فيه النبيذ سبع مرّات (٥).

ورواية أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام في النبيذ : «ما يبلّ الميل ينجس حبّا من

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٧٩ الحديث ٨٢٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧٠ الحديث ٤٢٠٤ مع اختلاف يسير.

(٢) الكافي : ٦ / ٤٢٧ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٨٣ الحديث ٨٣٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٤ الحديث ٤٢٧٢.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٤٦ الحديث ٣٢٠٩٠ نقل بالمعنى.

(٤) تهذيب الأحكام : ٩ / ١١٤ الحديث ٤٩٣ ، وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٥٠ الحديث ٣٢١٠١.

(٥) تهذيب الأحكام : ٩ / ١١٦ الحديث ٥٠٢ ، وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٦٨ الحديث ٣٢١٤٣ نقل بالمعنى.

٩

الماء» يقولها ثلاثا (١).

ومن قال : بنجاسة النبيذ ، قال بنجاسة الخمر ، بل بطريق أولى.

ويدلّ على النجاسة أخبار ، منها ما سيجي‌ء في كتاب المياه ، وكتاب المطاعم والمشارب ، وغير ذلك.

حجّة القائل بالطهارة : ما رواه في «الفقيه» مرسلا قال : سئل أبو عبد الله وأبو جعفر عليهما‌السلام : إنّا نشتري ثيابا يصيبها الخمر وودك (٢) الخنزير ، يصلّى فيها قبل أن يغسلها؟ قال : «نعم لا بأس إنّما حرّم الله أكله وشربه ، ولم يحرّم مسّه والصلاة فيه» (٣).

ورواه في كتاب «العلل» عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام (٤) ، وغير خفيّ أنّها حجّة الصدوق.

وغير خفيّ أنّها تضمّنت طهارة ودك الخنزير أيضا ، وأنّه إنّما حرّم أكله لا الصلاة فيه. ومن بديهيّات الدين نجاسته وحرمة الصلاة فيه ، فالرواية مع ضعفها ومخالفتها للإجماعات وغيرها من الأخبار الصحاح والمعتبرة شاذّة يجب ترك العمل بها ، ولذا نسب الأصحاب القول بالطهارة إلى شاذّ (٥) لا يعتدّ بقوله في المقام ، ومنشأ عدم الاعتداد ظاهر غاية الظهور.

وأعجب من هذا أنّه رحمه‌الله منع من الصلاة في بيت يكون فيه خمر ، للرواية

__________________

(١) الكافي : ٦ / ٤١٣ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٩ / ١١٢ الحديث ٤٨٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧٠ الحديث ٤٢٠٢ نقل بالمعنى.

(٢) الودك ـ بالتحريك ـ : دسم اللحم ، ومنه ودك الخنزير ونحوه يعني شحمه. مجمع البحرين : ٥ / ٢٩٧.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٦٠ الحديث ٧٥٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧٢ الحديث ٤٢٠٩ مع اختلاف يسير.

(٤) علل الشرائع : ٣٥٧ الحديث ١.

(٥) الناصريّات : ٩٥ و ٩٦ المسألة ١٦ ، غنية النزوع : ٤١ ، المعتبر : ١ / ٤٢٢ ، تذكرة الفقهاء : ١ / ٦٤ المسألة ٢٠.

١٠

الدالّة على ذلك ، مع تضمّن تلك الرواية أنّ علّة المنع تنفّر الملائكة عنها ، ولذا ذكر فيها أيضا عدم جواز الصلاة في ثوب فيه خمر ، والصدوق رحمه‌الله عمل بصدرها وبالعلّة المذكورة (١).

وورد أخبار اخر دالّة على الطهارة ، أصحّها ما روي عن محمّد بن خالد البرقي ـ المختلف فيه ـ عن ابن أبي عمير ، عن الحسن بن أبي سارة ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لا بأس بالصلاة في الثوب الذي أصابه الخمر لأنّ الثوب لا يسكر» (٢).

لكن المذكور في «التهذيب» الحسين بن أبي سارة ، وحكاه في «المنتهى» و «المختلف» أيضا كذلك (٣) ، وإن كان في «الاستبصار» الحسن ، والحسين غير مذكور في الرجال أصلا ، مع أنّ الحسن من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام خاصّة (٤). وابن أبي عمير من أصحاب الرضا عليه‌السلام (٥) أدرك الكاظم عليه‌السلام ، فكيف يروي عن الحسن بلا واسطة؟

مع أنّ ابن بكير الذي من أصحاب الصادق والكاظم عليهما‌السلام يروي عن الحسن بواسطة صالح بن سيابة أنّه قال للصادق عليه‌السلام : إنّا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون فيمرّ ساقيهم فيصيب ثيابي الخمر ، فقال : «لا بأس به إلّا أن تشتهي أن تغسل أثره» (٦).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٦٠ الحديث ٧٥٢.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٨٠ الحديث ٨٢٢ ، الاستبصار : ١ / ١٨٩ الحديث ٦٦٤ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧١ الحديث ٤٢٠٦.

(٣) منتهى المطلب : ٣ / ٢١٦ ، مختلف الشيعة : ١ / ٤٧١.

(٤) رجال الطوسي : ١١٢ الرقم ٢ ، ١٦٧ الرقم ٣٦.

(٥) رجال الطوسي : ٣٨٨ الرقم ٢٦.

(٦) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٨٠ الحديث ٨٢٤ ، الاستبصار : ١ / ١٩٠ الحديث ٦٦٦ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧١ الحديث ٤٢٠٨ مع اختلاف يسير.

١١

وفيها ما يومي إلى طهارة أهل الذمّة وتمكينهم من شرب الخمر جهارا ، وعدم منعهم والمخالطة معهم في هذه الحالة ، وعدم الضرر أصلا في هذه المخالطة ، وأنّه لا حاجة إلى هجرانهم ، وأنّه لا بأس أصلا من الصلاة في الخمر ، حتّى أنّه لا كراهة أيضا. ويحصل ممّا ذكرنا وهن آخر.

وباقي الأخبار الدالّة على الطهارة ضعيفة ، إلّا أنّه يظهر من الأخيار ورود الأخبار الدالّة على الطهارة والأخبار الدالّة على النجاسة ، عنهم عليهم‌السلام ، وأنّه لذلك وقع الاختلاف في زمانهم عليهم‌السلام أيضا ، إلّا أنّه لمّا سألوهم عن هذا الاختلاف وأنّ الحقّ ما ذا؟ أجابوا عليهم‌السلام : بأنّ الحقّ مع ما دلّ على النجاسة.

ولذا وقع الإجماع على النجاسة ، إلّا من شذّ من الأصحاب من جهة الغفلة الواضحة ، كما عرفت ، إذ في صحيحة علي بن مهزيار ، روى زرارة عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : في الخمر يصيب ثوب الرجل به ، قالا : «لا بأس بالصلاة فيه ، إنّما حرم شربها». وروى غير زرارة عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه ، فإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه ، وإن صلّيت فيه فأعد صلاتك» فأعلمني ما آخذ به ، فكتب : «خذ بقول الصادق عليه‌السلام» (١).

وفيها شهادة على صحّة مرسلة يونس في كونها حقّا وأصوب من رواية زرارة ، ولا يمكن حملها على التقيّة ، لتضمّنها نجاسة النبيذ المسكر.

وكذا الحال في غيرهما من الروايات الدالّة على نجاستهما.

منها : ما مرّ ، ومنها : موثّقة عمّار عن الصادق عليه‌السلام : «لا تصلّ في ثوب أصابه

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٠٧ الحديث ١٤ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٨١ الحديث ٨٢٦ ، الاستبصار : ١ / ١٩٠ الحديث ٦٦٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٨ الحديث ٤١٩٨ مع اختلاف يسير.

١٢

خمر أو مسكر» (١). والمراد من المسكر المائع بالأصالة ، للاتّفاق ظاهرا على عدم نجاسة غيره ، وللتبادر.

نعم ، قال ابن أبي عقيل أيضا ـ على ما نقل عنه ـ أنّ من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما ، لأنّ الله تعالى إنّما حرّمهما تعبّدا لا لأنّهما نجسان (٢).

وما ذكره هو يعينه ما ورد في الأخبار الدالّة على الطهارة ، مثل مرسلة «الفقيه» وغيرها (٣).

وقد عرفت ما فيها ، وأنّ الرواة ذكروا لهم عليهم‌السلام أنّه روي عنكم : عدم البأس بالصلاة فيها ، لأنّ الله تعالى إنّما حرّم شربها. ومع هذا أجابوا عليهم‌السلام بمنع الصلاة فيها ، وأنّه لا عبرة بهذه العلّة ، وأنّ الله تعالى أمر بالاجتناب عنه ، لأنّه رجس ، إلى غير ذلك ممّا عرفت.

فما قالوا عليهم‌السلام في حال هذه الأخبار المتعارضة يكفي بل ويغني عن آرائنا ، بل ويمنع عنها ، سيّما وأن تحمل الأخبار المانعة على الكراهة ، كما فعله بعض المتأخرين (٤) ، إذ بالتأمّل ظهر ظهورا تامّا عدم القابليّة للحمل على الكراهة أصلا ، سيّما بعد ملاحظة أنّهم عليه‌السلام رجّحوا العمل بالأخبار المانعة وعيّنوا ذلك ، معلّلين بالرجاسة وغيرها.

مع أنّ الشهرة بين الأصحاب ، والأوفقيّة للكتاب ، وصحّة السند ، وكثرة

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٧٨ الحديث ٨١٧ ، الاستبصار : ١ / ١٨٩ الحديث ٦٦٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧٠ الحديث ٤٢٠٣.

(٢) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ١ / ٤٦٩.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٦٠ الحديث ٧٥٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧٢ الحديث ٤٢٠٩.

(٤) انظر! مجمع الفائدة والبرهان : ١ / ٣١٢.

١٣

العدد ، وغير ذلك من المرجّحات التي واحدها كاف للترجيح والتعيين ، فضلا عن الجميع ، يقتضي العمل بما دلّ على النجاسة ، والبناء على النجاسة لا تأويلها بالحمل على الكراهة.

على أنّ الأخبار الدالّة على نجاسة النبيذ لا تقبل الحمل على التقيّة أصلا ، بخلاف ما دلّ على الطهارة ، فإنّه موافق لرأي العامّة ، كما لا يخفى على المتأمّل فيها.

وكذلك الحال في الفقاع والعصير ، فإنّ نجاستهما يستلزم نجاسة الخمر بطريق أولى ، مع عدم قائل بالفصل.

روى في «الكافي» بسنده عن أبي جميلة قال : كنت مع يونس بن عبد الرحمن ببغداد أمشي معه في السوق ، ففتح صاحب الفقاع فقاعه فقفز فأصاب ثوب يونس فاغتمّ لذلك حتّى زالت الشمس ، فقلت : يا أبا محمّد ، ألا تصلّي؟ فقال : حتّى أرجع إلى البيت فأغسل هذا الخمر من ثوبي ، فقلت [له] : هذا رأيك أو شي‌ء ترويه؟ فقال : أخبرني هشام بن الحكم أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن الفقاع ، فقال : «لا تشربه فإنّه خمر مجهول ، فإذا أصاب ثوبك فاغسله» (١).

وهذه الرواية مع انجبارها بالجوابر التي عرفت وكونها من اليقينيّات عند الكليني واضحة الدلالة على نجاسة الخمر والفقاع أيضا.

ويدلّ على نجاسة النبيذ وغيرها من الأنبذة إطلاق لفظ «الخمر» عليها.

وقد عرفت أنّ الإطلاق وإن كان على سبيل المجاز ، كما هو الأظهر والأشهر ، إلّا أنّ أقربيّة المجازات إلى الحقيقة يقتضي نجاستها ، وكذا لو قلنا بأنّ العلاقة الخصال المشهورة للخمر ، لاشتهارها في النجاسة بين الشيعة.

وينادي بذلك تفريع الصادق عليه‌السلام : وجوب غسل الثوب على كون الفقاع

__________________

(١) الكافي : ٦ / ٤٢٣ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٩ الحديث ٤٢٠١ مع اختلاف يسير.

١٤

خمرا مجهولا في رواية يونس السابقة.

وممّا ذكر ظهر وجه ما اشتهر بين الفقهاء من نجاسة العصير العنبي إذا غلى بالنار أو غيرها ، إذ ما يظهر من الأخبار التي رواها في «الكافي» في باب أصل تحريم الخمر وبدئه (١) ورواها الصدوق رحمه‌الله في «العلل» (٢) : أنّه داخل في حقيقة الخمر ، فلاحظ وتأمّل!

والصدوق رحمه‌الله في «الفقيه» في باب حد شرب الخمر قال : قال : قال أبي في رسالته : اعلم! يا بنيّ! أنّ أصل الخمر من الكرم إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تمسّه فيصير أعلاه أسفله فهو خمر ، فلا يحلّ شربه حتّى يذهب ثلثاه.

ثمّ أتى بعبارات صريحة في أنّ مراده من الخمر هذا الخمر الحقيقي المعهود ، قال : وللخمر خمسة أسامي : العصير من الكرم (٣). إلى آخره.

فظاهر الصدوقين والكليني كونه خمرا حقيقة (٤) ، وهو الظاهر من «صحيح البخاري» من علماء العامّة (٥). وسنذكر من فقههم ما يصرّح بذلك.

وممّا يشير إلى ذلك أنّه سئل الصادق عليه‌السلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي؟ فقال : «لا بأس وإن غلى فلا يحلّ» (٦).

وفي آخر بعد ما سئل عليه‌السلام عنه فقال : «إذا بعته قبل أن يكون خمرا وهو حلال فلا بأس» (٧).

__________________

(١) الكافي : ٦ / ٣٩٣.

(٢) علل الشرائع : ٤٧٥ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٢٩ الحديث ٣٢٠٤٠.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٤٠ ذيل الحديث ١٣١ مع اختلاف يسير.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٤٠ ، المقنع : ٤٥٢ ، الكافي : ٦ / ٣٩٢ الحديث ٣.

(٥) صحيح البخاري : ٤ / ١١ و ١٢ الباب ٢.

(٦) الكافي : ٥ / ٢٣٢ الحديث ١٢ ، وسائل الشيعة : ١٧ / ٢٣٠ الحديث ٢٢٤٠٣ مع اختلاف يسير.

(٧) الكافي : ٥ / ٢٣١ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٧ / ١٣٦ الحديث ٦٠٢ ، الاستبصار : ٣ / ١٠٥ الحديث

١٥

وصرّح بعض المتأخّرين بمساواته للخمر في جميع الأحكام (١).

ويؤيّده أيضا أنّ حدّه حدّ شارب الخمر ، وكونه خمرا حقيقيّا مع عدم معروفيّته بالإسكار. وبسطنا الكلام فيه في الرسالة (٢) ، مع أنّه على القول بأنّه خمر مجازي ظهر حاله أيضا.

ثمّ اعلم! أنّ الأصحاب حملوا الأخبار الدالّة على طهارة الخمر والمسكرات على التقيّة ، لأنّ النبيذ والفقاع وأمثالهما طاهرة عند العامة.

فما نقل عن «قرب الإسناد» عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي أغسله أو اصلّي فيه؟ قال : «صلّ فيه إلّا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر ، إنّ الله تعالى [إنّما] حرّم شربها» (٣) ، وإن كان صحيحا ، إلّا أنّه موافق لمذهب العامة ، من جهة أنّ النبيذ المسكر كان عندهم طاهرا ، على حسب ما يظهر من الأخبار ، فلا يعارض ما دلّ على نجاسة الخمر والنبيذ ، لموافقته لمذهب الخاصة وللإجماعات ، ولمخالفته للعامة وغيرها.

مع أنّ الفقهاء أعرف بالتقيّة ، وفي غاية الاطّلاع بمذاهب العامة في جميع أبواب الفقه ، ومع ذلك حملوا الأخبار الدالّة على الطهارة على التقيّة.

والمدار في الحمل على التقيّة ومعرفة الشهرة والعدالة وغير ذلك على أقوالهم ، فلا يرد عليهم أنّ أكثر العامة قالوا بنجاسة الخمر ، إذا عرفت أنّ في الأخبار المعتبرة الدالّة على طهارة الخمر طهارة النبيذ المسكر أيضا ، والأخبار

__________________

٣٦٩ ، وسائل الشيعة : ١٧ / ٢٢٩ الحديث ٢٢٣٩٩.

(١) ذخيرة المعاد : ١٥٥ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٥ / ١١٨ و ١١٩.

(٢) انظر! الرسائل الفقهية (رسالة في حكم العصير التمري والزبيبي) : ٩٤ و ٩٥.

(٣) قرب الإسناد : ١٦٣ الحديث ٥٩٥ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧٢ الحديث ٤٢١٠.

١٦

الدالّة على نجاسة الخمر نجاسة النبيذ المسكر ، ونحوه أيضا (١).

ومع ذلك العبرة في التقيّة بزمان صدور الرواية ، فلعلّ بعض العامة القائلين كان في ذلك الزمان كان مذهبه رائجا يلزم التقيّة منه ، سيّما إذا كان السلاطين والحكّام يكونون مولعين بشرب الخمر. وورد منهم عليهم‌السلام : أنّ الخبرين المتعارضين إذا وافقا العامة يجب ترك العمل بما يكون حكامهم إليه أميل (٢).

قوله : (بل أظهر وأقوى).

لا يخفى أنّ نجاسة اليهود والنصارى والمجوس أظهر من نجاسة الخمر بمراتب ، لكون الأوّل من شعار الشيعة ، وخلافه من شعار العامة ، ولم يظهر خلاف من أحد من فقهائنا أصلا.

بل الظاهر وفاق الكلّ ، وخلافه وفاقي بين العامة ، ولأنّ أهل الذمّة ونساءهم وأطفالهم يعرفون مذهب الشيعة فيه ، بخلاف نجاسة الخمر ، ولكون الأخبار في الأوّل أرجح منها في الثاني ، من جهة الكثرة والتشتّت في تضاعيف مواضع الأحكام الفقهيّة ، ومع وضوح دلالة القرآن فيه أزيد منه في الثاني ، وغير ذلك من وجوه الأظهريّة ، كما يظهر بالتأمّل فيما ذكرنا.

فكيف يقول في الخمر إنّ نجاستها أظهر وأقوى؟ وفي الأوّل اختار الطهارة ، وقال : هذه الأخبار تدلّ على أنّ الأمر بالاجتناب عنهم من جهة تنجّسهم بالخمر ولحم الخنزير ، وقال : وفي هذه الأخبار دلالة على أنّ المراد من نجاستهم الخبث الباطني.

ولا يخفى ما في كلامه من التدافع أيضا ، مضافا إلى عدم فهم أحد من الفقهاء

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٨ الباب ٣٨ من أبواب النجاسات.

(٢) الكافي : ١ / ٦٧ و ٦٨ الحديث ١٠ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الحديث ٣٣٣٣٤.

١٧

ما ذكره ، مع نهاية كثرتهم وخبرتهم وقرب العهد منهم بالأخبار ، وكونها واصلة منهم إليه إلى غير ذلك ، مع عدم المأنوسيّة والمعهوديّة من أحد من الشيعة ، فلا شكّ في فساده من هذه الجهة أيضا.

قوله : (وإن لم يكن من المسكر).

نقل ابن زهرة والعلّامة إجماع الأصحاب (١).

وقال الشيخ : ألحق أصحابنا الفقاع بالخمر في التنجيس (٢) ، وهذا انفراد الطائفة.

ومرّ ما دلّ على النجاسة (٣) ، وأمّا نجاسته وإن لم يكن مسكرا فهو المعروف من أصحابنا ، لتعلّق الحكم على الاسم وكون حرمته وإطلاق الخمر عليه منوطا بالغليان.

__________________

(١) غنية النزوع : ٤١ ، منتهى المطلب : ٣ / ٢١٧.

(٢) المبسوط : ١ / ٣٦.

(٣) راجع! الصفحة ٨ ـ ١٠ من هذا الكتاب.

١٨

٨١ ـ مفتاح

[أصالة طهارة الأشياء]

كلّ شي‌ء غير ما ذكر فهو طاهر ما لم يلاق شيئا من النجاسات برطوبة للأصل السالم عن المعارض ، وللموثّق : «كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (١) ، خلافا للمشهور بين المتأخّرين في العصير العنبي إذا غلى واشتدّ (٢) ، ومأخذه غير معلوم حتّى عند الشهيد (٣) ، والعماني صرّح بطهارته (٤) ، ووافقه الشهيد الثاني وابناه (٥).

وللشيخين في عرق الإبل الجلّالة (٦) ، للأمر بالغسل منه في الصحيحين (٧) ، وحمل على الاستحباب (٨) وإن كان أحوط.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٧ الحديث ٤١٩٥.

(٢) انظر! مسالك الأفهام : ١ / ١٢٣ ، مدارك الأحكام : ٢ / ٢٩٢ و ٢٩٣.

(٣) ذكرى الشيعة : ١ / ١١٥ ، البيان : ٩١.

(٤) نقل عنه في مختلف الشيعة : ١ / ٤٦٩.

(٥) مسالك الأفهام : ١ / ١٢٣ ، مدارك الأحكام : ٢ / ٢٩٣ ، معالم الدين في الفقه : ٢ / ٥١٣.

(٦) المقنعة : ٧١ ، النهاية للشيخ الطوسي : ٥٣ ، المبسوط : ١ / ٣٨.

(٧) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٢٣ الحديث ٤٠٥٢ و ٤٠٥٣.

(٨) المعتبر : ١ / ٤١٤ و ٤١٥ ، مختلف الشيعة : ١ / ٤٦٢ و ٤٦٣.

١٩

ولهما وللصدوق في عرق الجنب من الحرام (١) ، للخبر (٢) ، وهو ضعيف ، فيحمل على الكراهة.

وللإسكافي في المذي عقيب الشهوة (٣) ، للخبرين (٤) ، ويدفعهما مع ضعفهما الصحاح (٥). وفي لبن الجارية (٦) للخبر (٧) وهو ضعيف.

وللمقنعة و «النهاية» في الفأرة والوزغة (٨).

وللحلبي و «النهاية» في الثعلب والأرنب (٩).

والكلّ للأخبار (١٠) وهي في الفأرة معتبرة ، إلّا أنّها معارضة بمثلها (١١) ، وليس تأويل المطهّر أولى من حمل الآخر على استحباب التجنّب وإن كان أحوط.

__________________

(١) المقنعة : ٧١ ، النهاية للشيخ الطوسي : ٥٣ ، المبسوط : ١ / ٣٧ و ٣٨ ، تنبيه : لم نعثر في كتب الصدوق على ما يدلّ على نجاسة عرق الجنب من الحرام.

نعم ، هو أفتى بأنّه : إن كانت الجنابة من حرام فحرام الصلاة فيه ، لاحظ! المقنع : ٤٣ و ٤٤ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤٠ ذيل الحديث ١٥٣.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٤٧ و ٤٤٨ الحديث ٤١٣٤ ـ ٤١٣٦.

(٣) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ١ / ٤٦٣.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٢٦ الحديث ٤٠٦٣ و ٤٠٦٤.

(٥) انظر! وسائل الشيعة : ١ / ٢٧٦ الباب ١٢ من أبواب نواقض الوضوء.

(٦) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ١ / ٤٦٠.

(٧) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤٠ الحديث ١٥٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٩٨ الحديث ٣٩٧٠.

(٨) المقنعة : ٧٠ ، النهاية للشيخ الطوسي : ٥٢.

(٩) الكافي في الفقه : ١٣١ ، النهاية للشيخ الطوسي : ٥٢.

(١٠) وسائل الشيعة : ١ / ١٨٧ الحديث ٤٧٧ ، ٣ / ٤٦٠ الحديث ٤١٧٦ ، ٤٦٢ الحديث ٤١٨٠ ، ٤٦٥ الحديث ٤١٨٩ و ٤١٩٠.

(١١) وسائل الشيعة : ١ / ٢٣٨ الباب ٩ من أبواب الأسآر ، ٣ / ٤٦٠ الحديث ٤١٧٥ ، ٢٤ / ١٩٧ الحديث ٣٠٣٣٣.

٢٠