مصابيح الظلام - ج ٦

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٦

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-6-X
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٥١

١
٢

٣
٤

القول في مكان المصلّي

قال الله تعالى (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (١).

١١٢ ـ مفتاح

[اشتراط إباحة مكان المصلّي]

المشهور ؛ أنّه يشترط في مكان المصلّي أن يكون مسجدا ، أو مملوكا ، أو مأذونا فيه ، ولو بالفحوى ، أو شاهد الحال ، فتبطل في المغصوب عالما اختيارا ، أمّا مع الجهل أو الاضطرار فلا. وليس لهم على ذلك دليل تسكن النفس إليه.

وللسيّد رحمه‌الله قول بالصحّة في الصحراء مطلقا ، استصحابا لما كان قبل الغصب من شاهد الحال (٢) ، وربّما يختصّ بغير الغاصب عملا بالظاهر.

وربّما يقال بإطلاق جواز الصلاة في مكان لم يأذن مالكه الدخول فيه

__________________

(١) التوبة (٩) : ١٨.

(٢) نقل عنه في كشف اللثام : ٣ / ٢٧٤.

٥

وإن كان عاصيا ، وفاقا للفضل بن شاذان رحمه‌الله (١) ، لأنّ الدخول فيه منهيّ عنه صلّى أو لم يصلّ ، فإنّ الله لم يقيّد النهي عنه بالصلاة ولم يجعله شرطا لها. وتحقيق ذلك في الاصول (٢).

وقد بسط الفضل بن شاذان رحمه‌الله الكلام في ذلك (٣) ، ونقله عنه صاحب «الكافي» في كتاب الطلاق منه (٤).

__________________

(١) نقل عنه في الكافي : ٦ / ٩٣ و ٩٤ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٧ / ١٠٣ و ١٠٤.

(٢) لاحظ! معالم الدين في الاصول : ٩٣ ـ ٩٩ ، الرسائل الاصوليّة : ٢٣٣ ـ ٢٤٩.

(٣) قال الفضل بن شاذان رحمه‌الله : من دخل دار قوم بدون إذنهم فصلّى فيها فهو عاص في دخوله الدار ، وصلاته جائزة ، لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة ، لأنّه منهيّ عن ذلك صلّى أو لم يصلّ ، وكذلك من لبس ثوبا بغير إذن مالكه لكانت صلاته جائزة ، وكان عاصيا في لبسه ، لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة ، لأنّه منهيّ عن ذلك صلّى أو لم يصلّ.

وهذا بخلاف من لبس ثوبا غير طاهر ، أو لم يطهّر نفسه ، أو لم يتوجّه نحو القبلة ، فإنّ صلاته فاسدة غير جائزة ، لأنّ ذلك من شرائط الصلاة وحدودها ، لا يجب إلّا للصلاة.

وكذلك من كذب في شهر رمضان وهو صائم بعد أن لا يخرجه كذبه عن الإيمان لكان عاصيا في كذبه ذلك ، وكان صومه جائزا ، لأنّه منهيّ عن الكذب صام أو أفطر ، ولو ترك العزم على الصوم أو جامع لكان صومه باطلا ، لأنّ ذلك من شرائط الصوم وحدوده ، لا يجب إلّا مع الصوم.

وكذلك لو حجّ وهو عاقّ لوالديه أو لم يخرج لغرمائه من حقوقهم لكان عاصيا في ذلك ، وكانت حجّته جائزة ، لأنّه منهيّ عن ذلك حجّ أو لم يحجّ ، ولو ترك الإحرام أو جامع في إحرامه قبل الوقوف لكانت حجّته فاسدة ، لأنّ ذلك من شرائط الحجّ وحدوده ، ولا يجب إلّا مع الحجّ لأجل الحجّ.

وكلّ ما كان واجبا قبل الفرض وبعده فليس ذلك من شرائط الفرض ، وكلّ ما لم يجب إلّا مع الفرض فإنّ ذلك من شرائطه ، لا يجوز الفرض إلّا به ، على ما بيّناه ، انتهى كلامه ملخّصا «منه رحمه‌الله».

(٤) الكافي : ٦ / ٩٣ ـ ٩٥.

٦

قوله : (المشهور). إلى آخره.

أقول : أجمع جميع علماء الإسلام على كون الصلاة في المكان المغصوب حراما ، أعمّ من أن تكون الصلاة واجبة أو مستحبة ، لكونها تصرّفا في ملك الغير بغير إذنه ولا أذن الشرع في كلّ ما هو كذلك ، فهو حرام بالنصوص والإجماع ، بل ضرورة الدين.

فلا بدّ أن يكون مملوكا عينا ، أو منفعة ، أو مأذونا فيه شرعا ، وأجمع الأصحاب والمعتزلة على بطلانها أيضا إذا كان غير مملوك ، ولا مأذون فيه شرعا.

وأمّا الأشاعرة فحكموا بصحّتها ، وإن كان حراما عندهم أيضا ، لأنّهم يجوّزون كون الفعل الواحد الشخصي الذي جزئي حقيقي مطلوبا من جهة ، ومبغوضا من جهة ، لما رأوا من اجتماع المطلوب والمبغوض في الخياطة في المكان الذي نهى المولى عن كون عبده المأمور بخياطة ثوبه منه فيه ، بأن قال له : اختط لي ثوب كذا ، ولا تكن في مكان كذا ، فاتّفق أنّه خاطه في ذلك المكان (١).

وهذا غفلة منهم لأنّ متعلق الأمر هنا الثوب المخيط لا الخياطة ، وإن علّقه عليها لفظا.

فالوجوب المفهوم منه وجوب توصّلي ، كالأمر بقطع المسافة إلى درك الحجّ ، ومثل هذا الوجوب يجتمع مع الحرمة اتفاقا ، لأنّه وجوب شرطي وتوصّلي ، لا أنّه وجوب شرعي ومطلوب في نفسه.

والوجوب الشرطي والتوصّلي لا مطلوبية فيه ، ولذا وقع النزاع في أنّ مقدّمة الواجب المطلق واجب أم لا.

__________________

(١) المجموع للنووي : ٣ / ١٦٤ ، لاحظ! الخلاف : ١ / ٥٠٩ المسألة ٢٥٣.

٧

وأمّا الجزئي الحقيقي الذي هو مطلوب واقعا ، كيف يمكن أن يكون مبغوضا حين ما هو مطلوب؟ مقرّبا حين ما هو مبعّد؟ ومبعّدا حين ما هو مقرّب؟ مرضيّا حين ما هو غير مرضي؟ غير مرضي حين ما هو مرضي؟ وإن كان من جهتين متعدّدتين ، لأنّ الجهة إن كانت تعليليّة فضروري أنّ الجزئي الحقيقي لا يمكن أن يكون مطلوب الحصول حين ما هو مبغوض الحصول وبالعكس ، وإن كان لكلّ علّة ، إذ لا يؤثّر علّة المطلوبية حين تأثير علّة المبغوضية وبالعكس ، لأنّ الحاصل في الواقع إمّا مطلوبية الحصول أو مبغوضية الحصول.

وأمّا حصولهما معا في وقت واحد بالنسبة إلى الجزئي الحقيقي فمحال بالبديهة.

فإن قلت : الأمر كما ذكرت إذا كانت الجهة تعليليّة ، ولم لا يجوز أن تكون الجهة تقييدية؟

قلت : الكلام إنّما هو بالنسبة إلى ما صدر عن المكلّف في مقام الامتثال ، وهو جزئي حقيقي بسيط لا تركيب فيه أصلا في الخارج ، إذ لا يصدر منه إلّا قيام وقعود وانحناء وسجود ، مع أذكار ونيّة.

وهذا القيام مثلا الموجود في الخارج ليس إلّا هو هو ، دون انضمام شي‌ء معه حتّى يحصل بانضمامه معه مركّب تقييدي في الخارج يكون هذا المركّب مطلوبا من جهة جزئه وقيده ، وهو كونه للصلاة ، وكذا لا ينضمّ إليه في الخارج قيد آخر وهو كونه غصبا ، حتّى يحصل بانضمامه معه مركّب تقييدي آخر في الخارج ، يكون مبغوضا من جهة قيده ، وهو كونه غصبا.

وبالجملة ؛ إن أردت أنّ الصادر من المكلّف في الخارج مركّبان تقييديان ، أحدهما مطلوب والآخر مبغوض ، فهو بديهي البطلان.

٨

وكذا ، إن أردت أنّ الحاصل من المكلّف ثلاثة موجودات ، أحدها : القيام ، وثانيها : كونها للصلاة ، وثالثها : كونها غصبا ، وإنّ الأوّل : لا يتعلّق به حبّ ولا بغض ، والثاني : متعلّق الحبّ ، والثالث : متعلّق البغض ، فهو أيضا بديهي البطلان ، إذ ليس الموجود إلّا نفس القيام ، وإن كان مع نيّة وذكر أيضا.

وإن أردت أنّ متعلّق المطلوبيّة والمبغوضيّة لم يصدر عن المكلّف ، ولم يتحقّق في الخارج ، ومع ذلك مطيع عاص ، ففساده واضح لأنّ الطاعة هي الإتيان لما امر به ، والعصيان هو العصيان بما نهي عنه.

فالطاعة والعصيان ليسا إلّا من جهة أنّ هذا القيام الحاصل منه البسيط هو المأمور به وهو المنهيّ عنه ، لأنّ ما يفعله المكلّف بقصد الامتثال والإطاعة ليس إلّا الشخص الواحد البسيط ، الذي هو بعينه جزء الصلاة ، وهو بعينه غصب ، إذ وجود كلّ من الطبيعتين عين وجود هذا الشخص بالبديهة فيكون الشي‌ء الواحد إذا كان موجبا للتقرّب يكون موجبا للتبعّد.

ويكون المكلّف أيضا بإتيان الفعل المذكور مطيعا وعاصيا ، وهو أيضا باطل قطعا ، وأيضا قصد القربة شرط في العبادة ، للإجماع والأخبار.

وكيف يمكن قصد التقرّب بفعل يكون موجبا للتبعّد والسخط من الله وغضبه عليه؟ ولا يرضى به جاهل فضلا عن عاقل ، فضلا عن فقيه ، فضلا عن حكيم.

فظهر الجواب عن قول بعض المحقّقين بأنّ عدم جواز الاجتماع إنّما هو إذا كان متعلّق التكليف هو الأفراد ، وأمّا إذا كان متعلّق التكليف هو الطبيعة فلا إشكال في جواز الاجتماع ، لما عرفت من أنّ الكلام فيما صدر من المكلّف ، وهو جزئي حقيقي بسيط.

٩

هذا ؛ مضافا إلى ما روى خالي العلّامة المجلسي رحمه‌الله في «البحار» عن كتاب «تحف العقول» ، وعن كتاب الطبرسي ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيّته لكميل ، قال : «يا كميل! انظر فيما تصلّي وعلى ما تصلّي إن لم يكن من وجهه وصلّيت فلا قبول» (١).

وممّا ذكر ظهر عدم الضرر من خروج الفضل بن شاذان عن هذا الإجماع لكونه معلوم النسب ، مع أنّك عرفت أنّ الفساد قطعي ثبت من دليل قطعي.

فظهر فساد قول الفضل أيضا ، لأنّه كان قائلا بعدم جواز اجتماع المطلوبية والمبغوضية في الذي صدر عن المكلّف موافقا لغيره من الأصحاب ، إلّا أنّه توهّم كون الكون المنهي عنه خارجا عن الصلاة ومن لوازم ذات المصلّي ، صلّى أم لم يصلّ ، ولم يتفطّن بأنّ القيام والقعود والركوع والسجود أجزاء للصلاة.

وهي بأنفسها تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، وغير إذن الشرع ، فتكون بأنفسها غصبا وحراما.

ثمّ اعلم! أنّ مدار المسلمين في الأعصار والأمصار كان على الصلاة في الصحارى من دون تحصيل إذن من صاحبها فيه ، وكان ذلك عادة الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم وغيرهم من الشيعة في زمانهم وزمان غيبة القائم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآن من الفقهاء والصلحاء ، والعدول والأتقياء وغيرهم ، على ما هو المشاهد المحسوس.

بل لا شكّ في أنّهم كانوا يسلكون في الأراضي والصحارى ، ويمشون ويمرّون راكبين ، وبمحمولهم ودوابّهم وحيواناتهم له ، وللرعي والنوم وغير ذلك ، مع أنّ كلّ ذلك تصرّف في ملك الغير بغير إذنه.

__________________

(١) بحار الأنوار : ٨٠ / ٢٨٣ و ٢٨٤ الحديث ٧ و ٨ ، لاحظ! تحف العقول : ١٧٤ مع اختلاف يسير.

١٠

فلعلّ صحّة الكلّ ثبت من الإجماع ، وطريقة الأئمّة عليهم‌السلام وشيعتهم ، على النحو الذي ذكر.

ويمكن أن يكون أمثال هذه التصرّفات من قبيل الاستظلال بحائطهم ، والاستضاءة من سراجهم ، وأمثال ذلك ممّا عدّوه غير غصب ، وحكموا بعدم توقّفه على إذنهم ، ومثل الشرب من أنهارهم ، وسقي دوابّهم منها ، وأخذ شي‌ء منها ، في أدواتهم وظروفهم للطريق والطبخ وغير ذلك.

وما ظهر من المرتضى ، والقاضي أبي الفتح ، وغيرهما ، من أنّ المنشأ هو الإذن الحاصل بشاهد الحال والفحوى (١) ، لا يخلو من الإشكال الظاهر ، لتوقّفه على العلم بكونه ملك من اعتبر إذنه ، ومن ليس بمحجور ، كالطفل والمجنون والسفيه.

مع أنّ العوام ربّما لا يتفطّنون إلى أمثال هذه الامور ، حتّى يرضون ويجوّزون ، مع أنّ المخالف والناصبي ، بل اليهودي والنصراني والمجوسي غير ظاهر رضاهم بما ذكر من التصرّفات ، سيّما الصلاة.

والظاهر أنّ ما ذكرناه من صحّة الصلاة وغيرها ممّا ذكر لا تأمّل لأحد من الفقهاء فيه ، وإن وقع النزاع في صحّتها في الملك الغصبي ، أي الذي غصبه غاصب عن صاحبه ، فمنع بعضهم عن الصلاة فيها ، للإجماع المذكور وغيره.

وفيه أنّ الغصب هو التصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، ولا إذن الشرع ، وإن لم يغصبه غاصب ، ولهذا اشترطوا ملكيّة المكان وكونه مأذونا فيه من المالك أو الشارع ، ومن هذا حكم المرتضى ومن وافقه بصحّة الصلاة في الصحراء المغصوبة أيضا (٢) ، استصحابا للإذن الحاصل قبل الغصب ، والحلّيّة الحاصلة مقدّمة عليه.

__________________

(١) نقل عنهما في الحدائق الناضرة : ٧ / ١٧١.

(٢) مرّ آنفا.

١١

والظاهر أنّ مرادهما ، أنّ العلّة التي كنّا نصحّح الصلاة فيها باقية على حالها لم تتفاوت ، لأنّ غصب الغاصب لا يصير منشأ لعدم الإذن لغيره وعدم الرضا.

نعم ؛ الغاصب لا يجوز أن يصلّي فيها ، لحصول العلم العادي بعدم رضاء المغصوب منه ، بفعل الغاصب مطلقا.

ولا يرد على السيّد بأنّك لا تقول بحجّية الاستصحاب ، فكيف تمسكت به؟ لأنّ مراده الاستصحاب اللغوي ، كما هو عادتهم في استعمال ذلك أيضا ، مع أنّ الاستصحاب لم يكن حجّة عند المرتضى ، فكيف يتمسّك في المقام به؟

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرنا مختص بحال كون المكلّف عالما بالغصبية ومختارا.

أمّا المضطر ، فلا شكّ في صحّة صلاته ، وأمّا الناسي ؛ فالظاهر أنّ صلاته أيضا صحيحة ، لكون النهي مرتفعا عنه.

وأمّا الجاهل بالغصب فصلاته صحيحة إجماعا ، ومنشأه عدم توجّه النهي إليه بالبديهة ، لكونه معذورا بالنسبة إلى موضوعات الأحكام ، فلا معنى للإبطال.

وأمّا الجاهل بالحكم فصرّح الأصحاب بأنّه غير معذور ، فتبطل صلاته كما حقّق في محلّه ، وفي إلحاقه بجاهل الغصب ، كما عليه بعض المتأخّرين (١) ، نظر ظاهر.

ثمّ اعلم! أنّه لو أذن المالك للغاصب أو غيره ، فالصلاة فيه صحيحة ، لعدم النهي المانع حينئذ ، ونقل عن الشيخ في «المبسوط» أنّه قال : لو صلّى في مكان مغصوب مع الاختيار لم تجز الصلاة فيه (٢).

ولا فرق بين أن يكون هو الغاصب أو غيره ، ممّن أذن له في الصلاة ، لأنّه إذا كان الأصل مغصوبا ، لم يجز الصلاة فيه.

__________________

(١) نهاية الإحكام : ١ / ٣٧٨.

(٢) المبسوط : ١ / ٨٤.

١٢

واختلف كلام الفاضلين في فهم مراد الشيخ ، فالعلّامة على أنّ مراده بالآذن الغاصب (١) ، والمحقّق في «المعتبر» على أنّ مراده بالآذن هو المالك (٢) ، بناء على أنّه إذا صار مغصوبا ، دخل تحت كلام الأصحاب المدّعين للإجماع ، على أنّ الصلاة في المكان الغصبي باطل وحرام ، ولذا ربّما قيل ببطلان صلاة صاحب المكان المغصوب منه.

لكنّ الظاهر عدم الحرمة وعدم الفساد بالنسبة إلى صلاته ، وصلاة من أذن له ، لعدم تحقّق الغصبيّة في صلاتهما ، لكن على هذا كان التعرّض لحال صلاة نفس المالك أولى ، كما لا يخفى.

وتوجيه الشهيد في «الذكرى» بأنّ المالك لمّا لم يتمكّن من التصرّف ، لم يفد إذنه الإباحة كما لو باعه ، فإنّ البيع يكون باطلا ، ولا يجوز للمشتري التصرّف فيه (٣) ، ضعيف ؛ لأنّه على الظاهر قياس ، مع أنّ بطلان بيعه مع علم المشتري ورضاه ، أو إمضاءه بعد اطّلاعه محلّ نظر ظاهر.

وعلى فهم العلّامة ، يكون قول الشيخ ممّن أذن له في الصلاة مستدركا ، إذ لا يحتمل أحد جواز الصلاة مع إذن الغاصب ، فلا يحتاج إلى البيان.

ولو أذن بالصلاة والكون ثمّ أمر بالخروج قبل الشروع فيها ، يجب عليها المبادرة إلى الخروج على الفور ، لأنّ التصرّف بدون إذنه ممتنع شرعا ، فمع التصريح بطريق أولى.

فإن كان الوقت ضيّقا صلّى حال كونه مشتغلا بالخروج وصحّت صلاته ،

__________________

(١) منتهى المطلب : ٤ / ٢٩٩ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ٣٩٨ المسألة ٨٣.

(٢) المعتبر : ٢ / ١٠٩.

(٣) ذكرى الشيعة : ٣ / ٧٩.

١٣

لأنّ الصلاة والخروج أمران مضيّقان ، فالجمع بينهما بحسب الإمكان واجب.

ولا يمكن إلّا بما قلنا ، وإن كان الوقت واسعا يجب تأخير الصلاة إلى أن يخرج ، ولو كان الأمر بالخروج في أثنائها ، ففيه أقوال :

أحدها : القطع مطلقا ، مراعاة لحقّ المالك (١).

وثانيها : الإتمام مطلقا (٢).

وثالثها : القطع مع السعة ، والخروج مع الضيق ، متشاغلا بالصلاة (٣).

ورابعها : الإتمام مطلقا إن كان الإذن صريحا ، وإن كان مطلقا فمع السعة القطع والخروج متشاغلا مع الضيق (٤).

والقول الثاني لا يخلو عن قوّة ، وفاقا للشهيد في «الذكرى» و «البيان» (٥) للاستصحاب ، ولأنّ الصلاة على ما افتتحت عليه ، وأنّ الظاهر من إذن المالك أنّه أذن له بقدر الصلاة وأنّه يعلم أنّه يجب عليه إتمام الصلاة ، ويحرم عليه قطعها ، سيّما إذا وقع الإذن الصريح.

فظهر الجواب عن تضعيف صاحب «المدارك» هذا القول بتوجّه النهي المنافي للصحّة ، وابتناء حقّ العباد على التضيّق (٦) ، فتأمّل!

وأمّا الوضوء والغسل في المكان المغصوب فاختار في «المدارك» صحّتهما (٧) ، لأنّ الكون الحرام ليس نفسهما ولا يجزئهما ، بل هو خارج عنهما ، ولازم

__________________

(١) جامع المقاصد : ٢ / ١١٨ و ١١٩.

(٢) روض الجنان : ٢٢٠.

(٣) مدارك الأحكام : ٣ / ٢٢٠.

(٤) مسالك الأفهام : ١ / ١٧١ و ١٧٢.

(٥) ذكرى الشيعة : ٣ / ٧٩ ، البيان : ١٢٩.

(٦) مدارك الأحكام : ٣ / ٢٢٠.

(٧) مدارك الأحكام : ٣ / ٢١٨.

١٤

للمغتسل والمتوضّئ اغتسل وتوضّأ أم لا.

وقيل : بفسادهما لتوقّفهما على الحركة ، مثل أخذ الماء ورفعه وصبّه ، بل وإمرار اليد غالبا ، وإن لم تكن هذه الأمور عين الوضوء والغسل ولا جزؤهما ، فلا يجتمع الأمر والنهي في محلّ واحد ، إلّا أنّ المفسدة غير منحصرة في الاجتماع ، لأنّ تكليف ما لا يطاق باطل ، وعدم إمكان الامتثال أيضا مفسدة ، وهو متحقّق في الاجتماع في المتلازمين ، وفي اللزوم واللازم ، مثل ذي المقدّمة والمقدّمة ، لأنّه لا يتحقّق إلّا بها مطلقا ، أو ما دام لا يتحقّق إلّا بها ، فكيف يمكن فعل ذي المقدّمة الواجب بدون مقدّمة الحرام ، بل ومع وجوب تركها (١)؟

وفيه ؛ أنّ الجمع بين الواجب والحرام غير واجب من الشرع ، بل غير جائز ، لعدم تجويز فعل الحرام.

نعم ؛ المكلّف هو بنفسه وباختياره جمع بينهما ، مع تمكّنه من عدم الجمع.

ومثل هذا لا نسلّم كونه تكليفا بما لا يطاق. سلّمنا ، لكن نمنع قبح مثله ، بل ربّما تأمّل بعض في قبح تكليف المكلّف بغسل يده ومسح رجله في الوضوء مع قطع ذلك يده ورجله بفعله واختياره ، وإن كان الآن لا اختيار له ، ولا تمكّن منه في غسلها ومسحها.

فإذا كان مثل هذا محلّ التأمّل فما نحن فيه بطريق أولى ، فلا مانع من إبقاء العمومات في الأمر والغصب على حالهما ، والقول بالصحّة والحرمة ، لكنّ الحقّ أنّ تكليف قاطع اليد والرجل بغسلها ومسحها قبيح ، وإن جاز مؤاخذته في قطعه بالنسبة إلى كلّ واحد واحد من وضوءاته.

وأمّا المقام ؛ فلا يعلم قبح بعد ملاحظة أنّ المكلّف باختياره جمع مع تمكّنه من

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٣ / ٨٠ ، روض الجنان : ٢١٩ و ٢٢٠.

١٥

عدم الجمع حين الجمع.

لكن لا يخفى أنّ المسح هو إمرار اليد ، وهو كون حرام ، والوضوء بالنسبة إلى المسح يكون باطلا ، يعني مسحه باطل ، كما أنّ الصلاة ـ قيامها وقعودها وركوعها وسجودها ـ في المكان المغصوب باطلة ، ومنه يظهر حال التيمّم أيضا فإنّه مسح الجبهة والكفّين بعد الضرب.

ويمكن أن يقال : إنّ الغسل في المكان المغصوب تصرّف فيه عرفا ، سيّما الحمّام المغصوب ، فيكون حراما ، فتأمّل!

وكيف كان ؛ الأحوط عدم الاكتفاء بمثل هذا الغسل ، فما ظنّك بالوضوء والتيمّم؟

١٦

١١٣ ـ مفتاح

[عدم لزوم خلوّ المكان عن النجاسة]

لا يشترط خلوّ المكان عن النجاسة إلّا في محلّ الجبهة أو المتعدّي إلى المصلّي ، وفاقا للأكثر (١) ، للعمومات ، والصحاح المستفيضة (٢).

وقيل : بل يشترط طهارته مطلقا (٣) ، للنهي عن الصلاة في المزابل والحمّامات وهي مواطن النجاسة (٤) ، وللموثّق (٥) ، وحملا على الكراهة (٦) ، والحلبي رحمه‌الله اشترط طهارة المساجد السبعة (٧) ، ولم نقف على مستنده.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٤٠٠ المسألة ٨٤ ، ذكرى الشيعة : ٣ / ٨٠ ، مدارك الأحكام : ٣ / ٢٢٥.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٣ الباب ٣٠ من أبواب النجاسات.

(٣) لاحظ! تذكرة الفقهاء : ٢ / ٤٠١ المسألة ٨٤ ، ذكرى الشيعة : ٣ / ٨٠.

(٤) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٤٦ الحديث ٧٤٦ و ٧٤٧.

(٥) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٥ الحديث ٤١٥٨.

(٦) مدارك الأحكام : ٣ / ٢٢٦.

(٧) الكافي في الفقه : ١٤٠ و ١٤١.

١٧
١٨

قوله : (لا يشترط). إلى آخره.

أقول : المشهور عدم اشتراط طهارة موضع المصلّي غير موضع الجبهة ، وغير المتعدّي إلى ثوب المصلّي أو بدنه.

وعن المرتضى اشتراط طهارة جميع مكان المصلّي (١) ، وعن أبي الصلاح اشتراط طهارة موضع المساجد السبعة (٢) ، والأقوى ما ذهب إليه المشهور.

وأمّا اشتراط طهارة موضع الجبهة فإجماعي ، نقله المحقّق والعلّامة في «المعتبر» و «التذكرة» و «المنتهى» و «المختلف» ، وابن زهرة ، والشهيد في «الذكرى» (٣) ، بل لا أعرف في ذلك مخالفا.

وعليه المسلمون في الأعصار والأمصار ، مع كونه ممّا يعم به البلوى ، ويكثر إليه الحاجة ، وللأخبار السابقة في بحث تطهير الشمس.

وأمّا أنّه لا يشترط الطهارة مع عدم التعدّي فيدلّ عليه مضافا إلى الأصل والعمومات ، صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : سألته عن الشاذ كونة (٤) يكون عليها الجنابة أيصلّى عليها في المحمل؟ فقال : «لا بأس بالصلاة عليها» (٥) إلى غير ذلك من الأخبار الصحاح.

__________________

(١) نقل عن المرتضى في كشف الرموز : ١ / ١٤٣ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ٤٠١ المسألة ٨٤.

(٢) الكافي في الفقه : ١٤٠ و ١٤١.

(٣) المعتبر : ١ / ٤٣٣ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ٤٠٠ المسألة ٨٤ ، منتهى المطلب : ٤ / ٣٦٩ ، مختلف الشيعة : ٢ / ١١٤ ، غنية النزوع : ٨٠ ، ذكرى الشيعة : ٣ / ١٥٠.

(٤) الشاذكونة : ثياب غلاظ مضرّبة تعمل باليمن. (القاموس المحيط : ٤ / ٢٤١).

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٥٨ الحديث ٧٣٩ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٦٩ الحديث ١٥٣٧ ، الاستبصار : ١ / ٣٩٣ الحديث ١٤٩٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٤ الحديث ٤١٥٥ مع اختلاف يسير.

١٩

ومنها صحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام : عن البواري يبلّ قصبها بماء قذر أيصلّى عليها؟ قال : «إذا يبست فلا بأس» (١).

وصحيحته الاخرى عنه عليه‌السلام : عن البواري يصيبها البول هل تصلح الصلاة عليها إذا جفّت من غير أن تغسل؟ قال : «نعم لا بأس» (٢).

وصحيحته الاخرى عنه عليه‌السلام : عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول [ويغتسل فيها من الجنابة] ، أيصلّى فيهما إذا جفّا؟ فقال : «نعم» (٣). مرّ الكلام في هذه الأخبار في بحث مطهريّة الشمس (٤).

وحجّة المرتضى النهي عن الصلاة في المزابل والحمّامات وهي مواطن النجاسات ، فالطهارة معتبرة (٥).

والجواب عنه : أنّ النهي محمول على الكراهة جمعا لضعف سندها وتعارضها بالصحاح والمعتبرة الكثيرة.

وأمّا أبو الصلاح ؛ فلعلّ مستنده ما دلّ على اشتراط طهارة المسجد ، فإنّه بعمومه يشمل مواضع غير الجبهة من المساجد السبعة.

وصحيحة ابن محبوب ، عن الرضا عليه‌السلام : عن الجصّ يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى [ثم] يجصص به المسجد ، أيسجد عليه؟ فكتب عليه‌السلام [إليه بخطه] : «إنّ الماء والنار قد طهّراه» (٦) ، وغيرها من الأخبار ، فلاحظ وتأمّل!

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٧٣ الحديث ١٥٥٣ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٣ الحديث ٤١٥٤.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٧٣ الحديث ١٥٥١ ، الاستبصار : ١ / ١٩٣ الحديث ٦٧٦ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥١ الحديث ٤١٤٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٥٨ الحديث ٧٣٦ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٣ الحديث ٤١٥٣.

(٤) راجع! الصفحة : ٢١١ ـ ٢٢٧ (المجلّد الخامس) من هذا الكتاب.

(٥) نقل عنه في تذكرة الفقهاء : ٢ / ٤٠١ المسألة ٨٤.

(٦) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٧٥ الحديث ٨٢٩ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٣٥ الحديث ٩٢٨ ، وسائل

٢٠