مصابيح الظلام - ج ٤

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٤

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-4-3
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٣٣

١
٢

٣

٤

القول في الغسل

قال الله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (١) ، وقال عزوجل (حَتّى يَطْهُرْنَ) (٢).

٥٧ ـ مفتاح

[ما يجب له الغسل]

وجوب الغسل بالحدث الأكبر للصلاة الواجبة وشرطيّته لمطلق الصلاة من ضروريّات الدين ، وكذا للطواف الواجب.

ويجب لمسّ كتابة القرآن لما مضى في الوضوء ، وللمكث في المساجد ، ووضع شي‌ء فيها ، ودخول المسجدين ، وقراءة العزائم مع وجوب الأربعة ،

__________________

(١) المائدة (٥) : ٦.

(٢) البقرة (٢) : ٢٢٢.

٥

تحريمها على المحدث بالأكبر ، لقوله تعالى (وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ) (١) ، وللصحاح (٢).

وقول الديلمي بالكراهة في غير [قراءة العزائم] شاذّ ، كقوله بالتحريم فيها مطلقا (٣) ، وكقول القاضي بتحريم الزيادة على سبع آيات (٤). ويدفعها جميعا الصحاح الصريحة (٥).

وللدخول في صوم رمضان على المشهور ، للصحاح المستفيضة (٦) ، خلافا للصدوق (٧) ، لظاهر (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ). إلى قوله (حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) (٨) وللصحاح (٩) ، وحملت على التقيّة (١٠) ، وربّما يحمل الأولى على الاستحباب (١١) ، وليس بشي‌ء.

وكيف كان ، فلا يعمّ صوم غير رمضان ، وفاقا للمعتبر (١٢) ، وخلافا لظاهر الأكثر (١٣) ، للصحيح الصريح في الثلاثة الأيّام المسنونة في

__________________

(١) النساء (٤) : ٤٣.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٥ الباب ١٥ من أبواب الجنابة.

(٣) المراسم : ٤٢.

(٤) المهذّب : ١ / ٣٤.

(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢ / ٢١٥ الباب ١٩ من أبواب الجنابة.

(٦) وسائل الشيعة : ١٠ / ٦١ الباب ١٥ من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

(٧) المقنع : ١٨٩.

(٨) البقرة (٢) : ١٨٧.

(٩) وسائل الشيعة : ١٠ / ٥٧ الباب ١٣ من ابواب ما يمسك عنه الصائم.

(١٠) وسائل الشيعة : ١٠ / ٥٩ و ٦٠ ذيل الباب ١٣ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ذخيرة المعاد : ٤٩٨.

(١١) وسائل الشيعة : ١٠ / ٦٣.

(١٢) المعتبر : ٢ / ٦٥٥ و ٦٥٦.

(١٣) لاحظ! الحدائق الناضرة : ١٣ / ١٢١.

٦

الشهر (١) ، ولا غسل غير الجنابة ، وفاقا لجماعة من المتأخّرين (٢) ، وخلافا للآخرين (٣) ، ولا نصّ فيه للقدماء.

وذلك لاختصاص الدليل بهما ، على إشكال في الأخير ، لورود الموثّق بإلحاق الحيض (٤) ، والصحيح المشتمل على الحكم الغير المعمول بإلحاق الاستحاضة (٥).

نعم ، يلحق برمضان قضاؤه قطعا للصحيحين وغيرهما (٦) ، وعلّله في الخبر بأنّه لا يشبه رمضان شي‌ء من الشهور (٧) ، والحسن صريح في عدم إلحاق التطوّع حين سئل عنه (٨).

وعلى تقدير الوجوب فوقته تمام الليل كالنيّة ، لعدم إمكان التحديد ، ووجوب الإصباح متطهّرا.

وقد يجب الغسل بنذر وشبهه ، كما يأتي ، ولا يجب بغير ذلك بلا خلاف ولا لنفسه مطلقا ، للنصّ (٩) ، بل يستحبّ ، كما مرّ في الوضوء (١٠).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٠ / ٦٨ الحديث ١٢٨٤٦.

(٢) نهاية الإحكام : ١ / ١١٩ ، مجمع الفائدة والبرهان : ٥ / ٤٧ ، مدارك الأحكام : ٦ / ٥٧.

(٣) منتهى المطلب : ٢ / ٥٦٦ ، ذخيرة المعاد : ٤٩٨ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ١٣ / ١٢٣.

(٤) وسائل الشيعة : ١٠ / ٦٩ الحديث ١٢٨٤٩.

(٥) وسائل الشيعة : ١٠ / ٦٦ الحديث ١٢٨٤٢.

(٦) وسائل الشيعة : ١٠ / ٦٧ الباب ١٩ من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

(٧) وسائل الشيعة : ١٠ / ٦٧ الحديث ١٢٨٤٥.

(٨) وسائل الشيعة : ١٠ / ٦٨ الحديث ١٢٨٤٦.

(٩) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٢ الحديث ٦٧ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٤٠ الحديث ٥٤٦ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٣ الحديث ١٩٢٨.

(١٠) راجع! مفاتيح الشرائع : ١ / ٣٨.

٧

وذهب جماعة إلى وجوب غسل الجنابة خاصّة لنفسه (١) ، نظرا إلى إطلاق النصوص ، وهو ضعيف ، لأنّها مقيّدة بدلائل اخر ، منها مفهوم الشرط في الآية (٢). وحمل الواو على الاستيناف ضعيف ، كما بيّن في محلّه ، مع أنّه لا وجه لتخصيص ذلك بالجنابة. قال المحقق : وإخراج غسل الجنابة من دون ذلك تحكّم بارد (٣).

وربّما يقال : يتّجه ذلك في غسل مسّ الميّت ، لأنّ الثابت فيه أصل الوجوب (٤) ، ولم نقف على ما يقتضي اشتراطه في شي‌ء من العبادات ، فلا مانع من أن يكون واجبا لنفسه ، كغسل الجمعة والإحرام عند من أوجبهما.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ١ / ١٣٦ ، كفاية الأحكام : ٣ ، كشف اللثام : ٢ / ٢٢ و ٢٣ ، لاحظ! مفتاح الكرامة : ١ / ٤٩.

(٢) المائدة (٥) : ٦.

(٣) الرسائل التسع : ١٠٠.

(٤) لاحظ! مدارك الأحكام : ١ / ١٦.

٨

قوله : (وجوب الغسل). إلى آخره.

الحدث الأكبر : هو الجنابة والحيض والاستحاضة والنفاس ومسّ الميّت من الآدمي بعد برده وقبل غسله.

ومقتضى ظاهر هذه العبارة أنّ الغسل للأحداث كلّها ، إنّما يكون واجبا لغيره ، لا لنفسه ، وإن كان غسل المسّ ، وهذا هو الظاهر من المشهور ، وسيجي‌ء الكلام فيه.

وقوله : (من ضروريّات الدين) ، الضروري ما لا يحتاج ثبوته والعلم به إلى دليل ، فلا يحتاج ما ذكره إلى الاستدلال ، وأمّا الطواف الواجب ، فسيجي‌ء إن شاء الله تعالى في مبحثه.

وأمّا الوجوب لمسّ كتابة القرآن ، فقد مضى دليله ، وحرمة المسّ على المحدث بالأكبر إجماعي ، كما نقل الفاضلان وغيرهما (١) ، وإن نقل في «الذكرى» عن ابن الجنيد قوله بالكراهة ، إذ صرّح بأنّه كثيرا ما يطلق الكراهة على الحرمة (٢).

وكيف كان ، قوله غير مضرّ في الإجماع.

ثمّ اعلم! أنّه لا وجه للتأمّل في حرمة المسّ على المستحاضة وماسّ الميّت ، لكونهما حدثا يتوقّف دفعه على الطهارة ، فما لم يكن مطهّرا لا يجوز عليه مسّ القرآن ، إذ (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٣) ، وغير ذلك.

بل ورد في الموثّق عن عمّار عن الصادق عليه‌السلام : «لا يمسّ الجنب درهما ولا

__________________

(١) المعتبر : ١ / ١٨٧ ، تذكرة الفقهاء : ١ / ٢٣٨ ، ذخيرة المعاد : ٥٢.

(٢) لاحظ! ذكرى الشيعة : ١ / ٢٦٥.

(٣) الواقعة (٥٦) : ٧٩.

٩

دينارا عليه اسم الله تعالى» (١).

والموثّقة حجّة فلا يعارضه رواية أبي الربيع عنه عليه‌السلام : «أنّه لا بأس به وربّما فعلت» (٢) ، لعدم المقاومة ، ولأمرهم عليهم‌السلام بتعظيم شعائر الله ، وما كانوا يأمرون بالبرّ وينسون أنفسهم العياذ بالله.

وممّا ذكر ظهر الجواب عن غير رواية أبي الربيع أيضا ، مع إمكان الحمل على الدرهم الخالي عن اسم الله تعالى ، وكان معهودا بين السائل والمعصوم عليه‌السلام ، فلا يعارض النصّ ، فتأمّل!

ثمّ اعلم! أنّ المراد من المسّ ما هو بالبشرة لصدق مسّ القرآن بمسّها ، ولأنّها التي تصير محدثة ومتطهرة ، فلا يضرّ المسّ بالشعر ، لعدم الروح ، وعدم الحدث ، وكذا الظفر.

مع احتمال كون المس بالظفر مسّا للقرآن ، للصدق ، وعدم لزوم كون الماسّ ذا روح وتطهر ، مع أنّه يجب غسله (٣) في الغسل ، واحتمل العدم أيضا ، لعدم تبادره من قوله تعالى (لا يَمَسُّهُ). إلى آخره ، وكذا ما ورد في الأخبار ، وأنّ الظاهر أنّ الماس لا بدّ أن يكون متطهرا ولا يكون محدثا ، لأنّ الحدث ينافي تعظيم القرآن.

والأحوط الاجتناب ، بل في الظفر أقوى أيضا ، ووجوب الطهارة للمس إذا كان المس واجبا وإلّا فشرط ، وربّما يسمّى بالوجوب الشرطي ، وتسميته بالواجب مجاز ، لعدم وجوب فيه ، ولأنّ الواجب ما يكون على تركه عقاب ، ولذا قال المصنّف بعد هذا مع وجوب الأربعة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٣١ الحديث ٨٢ ، الاستبصار : ١ / ٤٨ الحديث ١٣٣ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢١٤ الحديث ١٩٦٠.

(٢) المعتبر : ١ / ١٨٨ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢١٥ الحديث ١٩٦٣ مع اختلاف يسير.

(٣) في (ف) و (ز ١) و (ط) : غسل الظفر.

١٠

قوله : (وللمكث في المساجد).

هذا أيضا كسابقه مقيّد ومشروط بالوجوب ، وإلّا فشرط ووجوب شرطي.

وظاهر العبارة أنّ الغسل عن كلّ حدث يجب للمكث ، كما يجب لمسّ كتابة القرآن.

أمّا مسّ كتابة القرآن ، فلاشتراط الطهارة فيه ، والمحدث غير متطهّر ، والجميع حدث حتّى مسّ الميّت ، كما ستعرف.

وأمّا المكث ، فقد ورد أنّ الجنب والحائض لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين ، رواه زرارة ومحمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام في الصحيح (١).

وفي صحيحة أبي حمزة عنه عليه‌السلام قال في الجنب : «لا بأس أن يمرّ في سائر المساجد ولا يجلس في شي‌ء من المساجد» (٢).

ومثلها حسنة جميل عن الصادق عليه‌السلام (٣) ، ومثل الاولى رواية ابن مسلم عن الباقر عليه‌السلام (٤).

وممّا ذكر ظهر ضعف القول بكراهة مكثهما فيها كما حكي عن سلّار (٥) ، فإذا وجب عليهما المكث فيها وجب عليهما الغسل له ، وكذا إذا أرادا ذلك وجب

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٨٨ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٧ الحديث ١٩٤٠.

(٢) الكافي : ٣ / ٧٣ الحديث ١٤ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٤٠٧ الحديث ١٢٨٠ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٦ الحديث ١٩٣٦.

(٣) الكافي : ٣ / ٥٠ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ١ / ١٢٥ الحديث ٣٣٨ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٥ الحديث ١٩٣٢.

(٤) تهذيب الأحكام : ١ / ٣٧١ الحديث ١١٣٢ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٩ الحديث ١٩٤٧.

(٥) نقل عنه في الحدائق الناضرة : ٣ / ٥٠ ، المراسم : ٤٢.

١١

بالوجوب الشرطي.

وأمّا النفاس ، فقد مرّ أنّ حكمه حكم الحيض ، إلّا أن يدلّ دليل على خلافه.

وهذا إجماعي أيضا على ما نقل (١) ، لكن مقتضى الأدلّة أنّ الحائض لا يجوز لها المكث ، وفي حال الحيض لا يرتفع حيضها بالغسل ، وبعد الخروج عن الحيض لا يسمّى حائضا حقيقة وإن قلنا بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق ، إذ معلوم أنّ الحائض بعد تماميّة حيضها لو كانت حائضا أيضا على سبيل الحقيقة تكون حائضا حقيقة في جميع أوقات عمرها بعد صدور حيض واحد ، إذ الغسل أمر شرعي لا يكون له مدخليّة في الوضع اللغوي والعرفي البتة ، فيكون انقطاع الحيض والدخول في الطهر كانقطاع الكفر والدخول في الإسلام.

فوجوب الغسل عليها للمكث فيها إنّما هو بعد الخروج عن الحيض وقبل الغسل استصحابا للمنع السابق ، حتّى يثبت خلافه ، ولم يثبت إلّا بعد الغسل.

ويؤيّده تعليق الحكم على الحيض المشعر بالعلّية مع ضمّها مع الجنب ، فيكون ظاهرا في كون حدثها المانع من المكث كحدث الجنب ، لا انحصار المنع في خصوص سيلان الدم وصدوره ، فتأمّل! وسيجي‌ء زيادة التوضيح في صحيحة زرارة ، فتأمّل!

مضافا إلى أنّ المشهور ألزموا عليها الغسل للمكث ، بل ادّعى في «المنتهى» الإجماع عليه (٢).

وسيجي‌ء أنّ الحائض تتيمم للخروج عن المسجدين ، فتأمّل!

وما ورد عن الصادق عليه‌السلام من أنّه : «لا بأس بأن ينام الجنب في المسجد» (٣)

__________________

(١) منتهى المطلب : ٢ / ٤٤٩.

(٢) منتهى المطلب : ٢ / ٣٤٩.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٣٧١ الحديث ١١٣٤ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢١٠ الحديث ١٩٤٨ ، في المصدرين

١٢

فشاذّ متروك أو مأوّل.

وهل لهما أن يتردّدا في جوانب المسجد بحيث يخرجان عن الاجتياز الوارد في الأخبار المزبورة؟

قيل : لا (١) ، لما ذكر. وقيل : نعم (٢) ، لأنّ المراد من الاجتياز ما هو في مقابل الجلوس ، ولرواية جميل عن الصادق عليه‌السلام : «للجنب أن يمشي في المساجد كلّها ولا يجلس فيها» (٣).

والأحوط الأوّل لو لم نقل أنّه أقوى.

وأمّا غسل الاستحاضة ، فقد مرّ في مبحثه ما يتعلّق بالمقام فلاحظ!

وأمّا غسل المسّ ، فسيجي‌ء إن شاء الله.

قوله : (ووضع شي‌ء فيها).

هذا هو المشهور ، بل مذهب الأصحاب ـ على ما نقل ـ عدا سلّار ، فإنّه كره الوضع فيها (٤).

ويدلّ على التحريم صحيحة عبد الله بن سنان أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن الجنب والحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟ قال : «نعم ، ولكن لا يضعان في المسجد شيئا» (٥).

__________________

(عن أبي الحسن عليه‌السلام).

(١) قاله الكركي في جامع المقاصد : ١ / ٢٦٦.

(٢) قاله العاملي في مدارك الأحكام : ١ / ٢٨١.

(٣) الكافي : ٣ / ٥٠ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٦ الحديث ١٩٣٤.

(٤) المراسم : ٤٢.

(٥) الكافي : ٣ / ٥١ الحديث ٨ ، تهذيب الأحكام : ١ / ١٢٥ الحديث ٣٣٩ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢١٣ الحديث ١٩٥٧.

١٣

وفي «الفقه الرضوي» : «وليس للحائض والجنب أن يضعا في المسجد شيئا ولهما أن يأخذا منه ، لأنّ ما فيه لا يقدران على أخذه من غيره وهما قادران على وضع ما معهما في غيره» (١).

وورد هذا المضمون في صحيحة زرارة وابن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام قالا : قلنا له : الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال : «لا يدخلان إلّا مجتازين إنّ الله تعالى يقول (وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (٢) ويأخذان من المسجد ولا يضعان فيه شيئا» ، قال زرارة : قلت : ما بالهما يأخذان منه ولا يضعان فيه؟ قال : «لأنّهما لا يقدران على أخذ ما فيه إلّا منه ، ويقدران على وضع ما بيدهما في غيره» ، قلت : فهل يقرءان من القرآن شيئا؟ قال : «نعم ما شاء إلّا السجدة ، ويذكران على كلّ حال» (٣).

قيل : ويختصّ التحريم بالوضع المستلزم للّبث (٤).

وفيه ، أنّ الأخبار المذكورة عامة.

وصرّح الشهيد الثاني بعدم الفرق بين الوضع من داخل المسجد أو من خارجه ، للعموم (٥).

وقيل بالاختصاص بالأوّل ، لكونه المتبادر (٦).

وربّما كان في هذه الصحيحة إيماء إلى أنّ الحائض مثل الجنب في وجوب

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٥ ، مستدرك الوسائل : ١ / ٤٦٣ الحديث ١١٦٩.

(٢) النساء (٤) : ٤٣.

(٣) علل الشرائع : ٢٨٨ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢١٣ الحديث ١٩٥٨.

(٤) المقتصر : ٤٩.

(٥) الروضة البهيّة : ١ / ٩٢.

(٦) قاله العاملي في مدارك الأحكام : ١ / ٢٨٢.

١٤

الغسل عليها بعد زوال حدثها ، كما أشرنا ، فتأمّل!

وقيل : ويلحق بالمسجد المشاهد المشرّفة والضرائح المقدّسة ، لاشتمالها على فائدة المسجد مع زيادة الشرف بالمنسوب إليه (١) ، وتوقّف بعض آخر فيه (٢).

واعلم! أنّ ما ذكر من عدم جواز المكث والوضع إنّما هما بالنسبة إلى الحائض والجنب والنفساء لا غير ، بل ما ذكره المصنّف لا يتمشّى إلّا في الجملة ، لا بالنسبة إلى كلّ واحد واحد من الأحداث الكبار ، إذ المستحاضة قد ظهر حكمها ، والمسّ سيظهر.

نعم ، وردت الأخبار بمنع دخول الجنب بيوت الأنبياء (٣) ، ولا يبعد شموله ضرائحهم المقدّسة ، لأنّ حرمة المؤمن حيّا حرمته ميّتا ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام (٤) ، وغير ذلك.

وشمول ذلك الحائض والنفساء محلّ تأمّل ، لحرمة القياس ، بل الظاهر كونه مع الفارق أيضا ، لأنّ الظاهر أنّ الحائض والنفساء ربّما كنّ يدخلن بيوتهم عليهم‌السلام للسؤال عن المشكلات التي كانت ترد عليهنّ.

مضافا إلى أنّ بيوتهم ما كانت خالية من النساء والجواري لهم ولخدمهم ومماليكهم وغيرهم ، من غير سلوك دخول المسجدين والمكث في المساجد معهنّ ، مع عموم البلوى وشدّة الحاجة ، فلو كان منع لاشتهر اشتهار الشمس ولم يخف ، فتأمّل جدّا!

إلّا أنّ الأحوط أن يكون حال الحيض والنفاس أيضا حال الجنابة بالنسبة

__________________

(١) قاله الشهيد في ذكرى الشيعة : ١ / ٢٧٨.

(٢) منهم صاحب مدارك الأحكام : ١ / ٢٨٢.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢ / ٢١١ الباب ١٦ من أبواب الجنابة.

(٤) تهذيب الأحكام : ١ / ٤٦٥ الحديث ١٥٢٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٢١٩ الحديث ٣٤٥٣ مع اختلاف يسير.

١٥

إلى ضرائحهم المقدّسة ، والأخبار الواردة بمنع دخول الجنب في بيوتهم عليهم‌السلام وهي كثيرة.

ومنها : صحيحة بكر بن محمّد المرويّة في «بصائر الدرجات» قال : خرجنا من المدينة نريد [منزل] الصادق عليه‌السلام فلحقنا أبو بصير خارجا من زقاق وهو جنب ، ولا نعلم حتّى دخلنا على الصادق عليه‌السلام ، فرفع رأسه إلى أبي بصير فقال : «يا أبا محمّد! أما تعلم أنّه لا ينبغي لجنب أن يدخل بيوت الأنبياء عليهم‌السلام؟» قال : فرجع أبو بصير ودخلنا (١).

ومثله روى في «قرب الإسناد» (٢) ، ولفظ «لا ينبغي» وإن لم يكن ظاهرا في الحرمة ، إلّا أنّ أبا بصير كان دخوله لأجل تحصيل الفقاهة الواجبة والمعارف اللازمة ، بل ربّما كان أبو بصير يسأل عن واجب أو حرام يجب معرفتهما ومعرفة بعض أحكامهما أو أحوالهما وجوبا مضيّقا أو فوريّا.

مع أنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم (٣) وفي كلّ وقت ، كما هو مقتضى الأخبار (٤) فكيف أخرج المعصوم عليه‌السلام ـ بهذا الكلام ـ أبا بصير؟ لأنّه فهم عدم رضاء المعصوم عليه‌السلام فخرج ، بل أنكر على دخوله ، فتعيّن خروجه خلوصا عن إنكاره ، وبعد ما خرج أقرّه عليه.

بل الكشّي روى هذه الحكاية بالنحو الذي ذكر ، إلّا أنّ فيها : أنّ المعصوم عليه‌السلام بعد دخولهم عليه أحدّ النظر إلى أبي بصير وقال : «هكذا تدخل بيوت الأنبياء وأنت جنب؟» فقال : أعوذ بالله من غضب الله وغضبك ، وأستغفر الله ولا

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٢٤١ الحديث ٢٣ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢١١ الحديث ١٩٥٢.

(٢) قرب الإسناد : ٤٣ الحديث ١٤٠.

(٣) في (ف) و (ز ١) و (ط) : مؤمن ومؤمنة ، بدلا من : مسلم.

(٤) الكافي : ١ / ٣٠ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه.

١٦

أعود (١).

ومعلوم أنّ حدّة النظر إنّما هو في حال الغضب على من يحدّ النظر إليه ، ولهذا قال : أعوذ بالله. إلى آخره.

ومقتضى الروايات المذكورة المنع عن الدخول مطلقا ، لا خصوص المكث ، ولذا ما قال : «يمكث» ، بل قال : «يدخل» ، ولا مانع عن المنع المذكور بعد ما ظهر من الأخبار ، ولم يظهر ما يخالفه من إجماع (٢) أو غيره من الأدلّة.

قوله : (ودخول المسجدين).

أي : مسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذا الحكم أيضا كسابقه في الجنب والحائض والنفساء موضع وفاق.

ويدلّ عليه الأخبار مثل صحيحة ابن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام : «أنّ الجنب والحائض لا يقربان المسجدين الحرمين» (٣).

ومثلها صحيحة محمّد بن حمران عن الصادق عليه‌السلام (٤).

وفي صحيحة أبي حمزة عن الباقر عليه‌السلام : «إنّ المحتلم فيهما يجب عليه التيمم للمرور» (٥). وسيجي‌ء التحقيق في ذلك إن شاء الله تعالى.

ورواية جميل عن الصادق عليه‌السلام : «للجنب أن يمشي في المساجد كلّها ولا يجلس فيها إلّا المسجد الحرام ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٦).

__________________

(١) رجال الكشي : ١ / ٣٩٩ الرقم ٢٨٨ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢١٢ الحديث ١٩٥٦.

(٢) في (ف) و (ز ١) و (ط) زيادة : أيضا.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٣٧١ الحديث ١١٣٢ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٩ الحديث ١٩٤٧.

(٤) تهذيب الأحكام : ٦ / ١٥ الحديث ٣٤ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٦ الحديث ١٩٣٥.

(٥) تهذيب الأحكام : ١ / ٤٠٧ الحديث ١٢٨٠ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٦ الحديث ١٩٣٦.

(٦) الكافي : ٣ / ٥٠ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٦ الحديث ١٩٣٤.

١٧

ونقل في «الذكرى» عن الصدوقين والمفيد أنّهم أطلقوا الحكم بحرمة المكث دون الاجتياز (١).

وربّما كان مرادهم سوى المسجدين الحرامين ، ولذا قال في «التذكرة» : وإليه ذهب علماؤنا (٢) ، وابن زهرة أيضا نقل الإجماع من دون إشارة إلى مخالف (٣).

قال في «المدارك» : تحريم الجواز في هذين المسجدين قول علمائنا أجمع (٤).

قوله : (وقراءة العزائم).

المراد منها السورة التي فيها سجدة واجبة وهي : «الم السجدة» ، و «حم السجدة» ، و «النجم» ، و «اقرأ» ، والحكم بتحريم قراءة هذه السور وأبعاضها إجماعي ، نقل عليه الإجماع جماعة منهم المحقّق في «المعتبر» (٥).

ويدلّ عليه موثّقة زرارة وابن مسلم عن الباقر عليه‌السلام : «أنّ الحائض والجنب يقرءان ما شاءا إلّا السجدة» (٦).

ونقل عن كتاب «العلل» هذه الرواية بطريق صحيح (٧) ، وفي الحسن بـ ـ إبراهيم ـ عنه عليه‌السلام : «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب ، ويقرءان من القرآن ما شاءا إلّا السجدة» (٨).

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ١ / ٢٦٧.

(٢) تذكرة الفقهاء : ١ / ٢٤٠.

(٣) غنية النزوع : ٣٧.

(٤) مدارك الأحكام : ١ / ٢٨٢.

(٥) المعتبر : ١ / ١٨٦ و ١٨٧.

(٦) تهذيب الأحكام : ١ / ١٢٩ الحديث ٣٥٢ ، الاستبصار : ١ / ١١٥ الحديث ٣٨٤ ، وسائل الشيعة : ١ / ٣١٢ الحديث ٨٢٢.

(٧) علل الشرائع : ٢٨٨ الحديث ١.

(٨) تهذيب الأحكام : ١ / ٣٧١ الحديث ١١٣٢ ، وسائل الشيعة : ٢ / ٢١٧ الحديث ١٩٧٠.

١٨

قال في «المدارك» : ليس في هاتين الروايتين مع قصور سندهما تحريم قراءة ما عدا نفس السجدة ، إلّا أنّ الأصحاب قاطعون بتحريم السورة كلّها ، ونقلوا عليه الإجماع ، ولعلّه الحجّة ، وعلى هذا فيحرم قراءة أجزائها المختصّة والمشتركة مع النيّة (١) ، انتهى.

أقول : الخدشة في السند لا وجه لها بعد ما عرفت مرارا ، مضافا إلى حجّية الموثّق ومثل الحسن المذكور.

مع أنّ الضعيف إذا انجبر بفتاوى الأصحاب يكون حجّة ، فما ظنّك بهما؟

وفي «الفقه الرضوي» : «ولا بأس بذكر الله وقراءة القرآن وأنت جنب ، إلّا العزائم التي تسجد فيها ، وهي : الم تنزيل ، وحم السجدة ، والنجم ، وسورة «اقرأ» ، ولا تمسّ القرآن إذا كنت جنبا أو [كنت على] غير وضوء ومسّ الأوراق» (٢) ، انتهى.

وهذه تدلّ على المنع من نفس السورة ، مع أنّ لفظ «السجدة» في الروايتين غير محمول على معناه الحقيقي قطعا ، فلا جرم يكون المراد منه معنى آخر ، وليس إلّا آية السجدة أو سورة السجدة ، والثاني متعارف في القرآن ، مثلا يقولون : «حم» ، ويريدون سورة «حم» ، وكذلك «الم» والبقرة والأنعام و «ص» والأعراف وتنزيل و «يس» والصافّات والفيل. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة ، فالموافق لهذا كون المراد سورة السجدة.

ولذلك فهم الأصحاب كذلك وأفتوا بذلك ، وفهمهم وفتواهم واتّفاقهم في الفتوى والفهم قرينة اخرى واضحة ، كذلك الإجماعات وعبارة «الفقه [الرضوي]» المذكورة.

__________________

(١) مدارك الأحكام : ١ / ٢٧٨ و ٢٧٩.

(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٤ و ٨٥ ، مستدرك الوسائل : ١ / ٤٦٥ و ٤٦٤ الحديث ١١٧٣ و ١١٧١.

١٩

وظهر ممّا ذكر حرمة الأجزاء المختصّة والمشتركة مع النيّة أيضا ، كما ذكر ، ومن المشتركة البسملة.

ثمّ اعلم! أنّ حال مسّ المصحف حال قراءة السجدة ، فيحرم مسّ كلّ جزء من القرآن المختصّ به والمشترك بينه وبين غيره إذا علم من القرينة أنّ المراد منه القرآن وجزؤه حتّى الحروف ، بل التشديد أيضا ، لأنّه حرف أيضا وجزء.

قوله : (وقول الديلمي). إلى آخره.

قد عرفت التحقيق في ذلك (١).

قوله : (كقوله). إلى آخره.

اختلف الأصحاب في قراءة القرآن للجنب والحائض عدا العزائم ، فالمشهور الجواز ، حتّى أنّه نقل عن المرتضى الإجماع عليه (٢) ، والشيخ في «الخلاف» ، والمحقّق في «المعتبر» (٣).

ونقل عن سلّار في أحد قوليه تحريم القراءة مطلقا (٤). وعن ابن البرّاج تحريم ما زاد على سبع آيات (٥). ونسب إلى الشيخ في كتابيه الحديث (٦).

ونقل في «المنتهى» عن بعض الأصحاب تحريم ما زاد على السبعين (٧).

__________________

(١) راجع! الصفحة : ١١ ـ ١٧ من هذا الكتاب.

(٢) نقل عنه في مدارك الأحكام : ١ / ٢٨٤ و ٢٨٥ ، لاحظ! الانتصار : ٣١.

(٣) الخلاف : ١ / ١٠١ المسألة ٤٧ ، المعتبر : ١ / ١٨٦ و ١٨٧.

(٤) نقل عنه الشهيد في ذكرى الشيعة : ١ / ٢٦٩.

(٥) المهذّب : ١ / ٣٤.

(٦) نسب إليه في مختلف الشيعة : ١ / ٣٣٤ ، لاحظ! تهذيب الأحكام : ١ / ١٢٨ ذيل الحديث ٣٤٩ ، الاستبصار : ١ / ١١٥ ذيل الحديث ٣٨٣.

(٧) منتهى المطلب : ٢ / ٢١٩.

٢٠