محمّد باقر الوحيد البهبهاني
المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-2-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٤١
كلّ سنة أو سنة واحدة ، ويأمرون غير من ذكر بقصد الإقامة في بيته ووطنه ، ويجرون عليه أحكام ناوي الإقامة.
ولو لم يقصدوا إقامة يوجبون عليه القصر والإفطار إلى أن ينقضي ثلاثون يوما ، ولا يتأمّلون في أنّ القصر والإفطار لا يجوزان إلّا لمن ثبت أنّه مسافر وغير حاضر.
مع أنّ الأعراب مع كونهم يدورون ولا يسكنون ، بل ظاعنون ، ومع ذلك حكم الشارع بوجوب الصوم والإتمام عليهم ، من جهة أنّ بيوتهم معهم ، وهم في منازلهم ، أو معهم المنازل ، فكيف يكون الساكن المطمئنّ الذي هو في بيته أو منزله معه يفطر ويقصّر؟ مع عدم تحرّك بيته ومنزله وعدم تحرّك نفسه ، وإنّما تعرّضنا لما ذكرنا وطوّلنا الكلام تنبيها للغافل ، وتعليما للجاهل العامل بما يفهمه من كتب الفقهاء.
لا يقال : لعلّ المصنّف رحمهالله لا يقول باعتبار الملك.
لأنّا نقول : ليس المراد الاعتراض ، بل لمّا رأيت الاتّفاق على اعتبار الملك واستيطان ستّة أشهر ـ وإن اختلفوا في اعتبار كونه منزلا ، وفي اتّصال ذلك الاستيطان ، وفي دوامه كلّ سنة (١) ، وفي أنّه هل يلحق بالملك ما لو اتّخذ البلد دار إقامة على الدوام أم لا؟ ـ شرعت في تحقيق الحال في الكلّ.
مع أنّ «المفاتيح» مختصر «المدارك» و «المسالك» ، وفي «المدارك» أظهر الاتّفاق على اعتبار دوام الملك (٢) ، فلو كان المصنّف مخالفا لأظهر وأنكر عليهم وأصرّ ، كما هو دأبه.
__________________
(١) في (ف) و (ط) : ستّة أشهر.
(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٤.
مع أنّه في معتصمه الذي هو شرح لهذا الكتاب ، كما صرّح به هكذا : وقيل : لا بدّ من دوام الاستيطان ستّة أشهر كلّ سنة ، كما يعتبر دوام الملك ، لظاهر صحيحة محمّد بن إسماعيل (١). (٢) وهي بعينها الصحيح الذي ذكره في المتن متمسّكا به ، والقائل بعينه هو الصدوق (٣).
وفي «الوافي» أيضا صرّح بذلك (٤) ، مع أنّ كثيرا من الأخبار تدلّ على اعتبار الملك (٥) ، ولم يطرحها ولا أظهر لها وجها.
إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّه ورد في كثير من أخبارنا الأمر بالإتمام في الملك والضيعة ، من دون اعتبار استيطان أصلا (٦) ، وفي كثير من الأخبار الأمر بالإتمام في الوطن والمستوطن ، من دون اعتبار ملك أصلا (٧).
وجماعة من المتأخّرين ، ومنهم المصنّف رحمهالله ـ اعتبروا الأمرين ، جمعا بين الأخبار ، وقالوا : لا بدّ من الملك والاستيطان ستّة أشهر (٨). وهو مشكل. لأنّ ما دلّ على اشتراط الملك واعتباره مطلقا ـ من دون اشتراط الاستيطان ـ وارد على سبيل التقيّة بحسب الظاهر.
قال خالي العلّامة المجلسي رحمهالله : هو قول جماعة من العامّة (٩).
__________________
(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٣ الحديث ٥٢٠ ، الاستبصار : ١ / ٢٣١ الحديث ٨٢١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٦.
(٢) معتصم الشيعة : (مخطوط).
(٣) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٣.
(٤) الوافي : ٧ / ١٦٢ ذيل الحديث ٥٦٨٦.
(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٢ الباب ١٤ من أبواب صلاة المسافر.
(٦) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٢ الباب ١٤ من أبواب صلاة المسافر.
(٧) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٢ الباب ١٤ من أبواب صلاة المسافر.
(٨) قواعد الأحكام : ١ / ٥٠ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٨ ، بداية الهداية : ١ / ١٥٥ ، الوافي : ٧ / ١٦٣ ذيل الحديث ٥٦٨٦.
(٩) بحار الأنوار : ٨٦ / ٣٧.
ومذهب مالك : أنّ من مرّ بقرية فيها أهله أو ماله أتمّ ، إذا أراد أن يقيم فيها يوما أو ليلة (١) ومذهب مالك كان هو المشهور المتداول في زمان صدور الروايات.
ونقل عن شارح «السنّة» ، عن ابن عبّاس ، وأحمد : أنّ المسافر إذا قدم على أهل أو ماشية أتمّ الصلاة ، وهو أحد قولي الشافعي (٢) ، انتهى.
أمّا ما دلّ على اعتبار الملك ، فهو صحيحة عمران بن محمّد السابقة (٣) ، وصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج أنّه قال للصادق عليهالسلام : الرجل يكون له الضياع بعضها قريب من بعض يخرج فيطوف فيها ، أيتمّ أو يقصّر؟ قال : «يتمّ» (٤).
وفي سند فيه أبان ، عن إسماعيل بن الفضل ، عن الصادق عليهالسلام : عن رجل سافر. إلى أن قال : «إذا نزلت قراك وضيعتك فأتمّ الصلاة ، وإن كنت في غير أرضك فقصّر» (٥).
وفي ضعيفة البزنطي بسهل عن الرضا عليهالسلام أنّه قال : «يتمّ الصلاة كلّما أتى ضيعة من ضياعه» (٦).
وفي موثّقة عمّار ، عن الصادق عليهالسلام : في الرجل يخرج في سفر فيمرّ بقرية له أو
__________________
(١) المغني لابن قدامة : ٢ / ٦٦.
(٢) نقل عنه في بحار الأنوار : ٨٦ / ٣٧ ، لاحظ! شرح السنّة : ٢ / ٥٣٩.
(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٦ الحديث ١١٢٦٩.
(٤) الكافي : ٣ / ٤٣٨ الحديث ٦ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٢ الحديث ١٢٨١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٣ الحديث ٥٢٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٣١ الحديث ٨٢٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٥ الحديث ١١٢٦٧.
(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٠ الحديث ٥٠٨ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٨ الحديث ٨١٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٢ الحديث ١١٢٥٧.
(٦) الكافي : ٣ / ٤٣٧ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٤ الحديث ٥٢٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٣١ الحديث ٨٢٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٧ الحديث ١١٢٧٢.
دار فينزل فيها ، قال : «يتمّ الصلاة ولو لم يكن له إلّا نخلة واحدة» (١) الحديث.
وهذه الأخبار كما ترى في غاية الظهور في عدم اشتراط الاستيطان أصلا ، وأنّ العبرة بالملك من حيث هو ملك ، وقد عرفت أنّ المناسب أن يكون تقيّة ، بل بعضها يبعد ـ غاية البعد ـ حمله على الاستيطان ، بل ربّما يأبى عنه مثل : صحيحة عبد الرحمن والموثّقة ، سيّما ولم يذهب إلى ذلك أحد من الخاصّة ، لأنّ المشهور بين المتأخّرين وإن كان اعتبار الملك ، إلّا أنّه مع اعتبار الاستيطان.
ومنهم من اعتبر المنزل الذي يكون ملكه مع الاستيطان ، وما اكتفى بالملك ، نقل ذلك عن الشيخ في نهايته ، وابن البرّاج ، وأبي الصلاح ، والمحقّق في «النافع» (٢).
فمثل ما ذكر من الأخبار ورد من الأئمّة عليهمالسلام الأمر بترك العمل به من جهتين.
سيّما مع ورود الأخبار الكثيرة على عدم اعتبار الملك أصلا مثل : كالصحيح عن موسى بن حمزة بن بزيع أنّه قال للكاظم عليهالسلام : «إنّ لي ضيعة. إلى أن قال : اقصّر أم أتمّ؟ فقال : «إن لم تنو المقام عشرا فقصّر» (٣).
وفي كالصحيح بـ ـ إسماعيل بن مرار ـ عن الصادق عليهالسلام : «من أتى ضيعته ثمّ لم يرد المقام عشرة أيّام قصّر ، وإن أراد المقام عشرة أيّام أتمّ [الصلاة]» (٤).
__________________
(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١١ الحديث ٥١٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٩ الحديث ٨١٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٣ الحديث ١١٢٦٠.
(٢) نقل عنهم في مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٣ ، لاحظ! النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٤ ، المهذّب : ١ / ١٠٦ ، الكافي في الفقه : ١١٧ ، المختصر النافع : ٥١.
(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٢ الحديث ٥١٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٩ الحديث ١١٢٨١.
(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١١ الحديث ٥١٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٩ الحديث ٨١٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٩ الحديث ١١٢٨٠.
وصحيحة علي بن يقطين أنّه سأل الكاظم عليهالسلام عن رجل يمرّ ببعض الأمصار وله بالمصر دار وليس المصر وطنه ، أيتمّ صلاته أم يقصّر؟ قال : «يقصّر ، والضياع كذلك إذا مرّ بها» (١).
وفي الصحيح ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن الرضا عليهالسلام : عن الرجل يقصّر في ضيعته؟ قال : «لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيّام إلّا أن يكون له منزل يستوطنه» ، فقلت : فما الاستيطان؟ فقال : «أن يكون له منزل يقيم فيه ستّة أشهر» (٢).
والأخبار الدالّة على أنّه ما لم يستوطن الضيعة أو المنزل لا يتمّ كثيرة وصحيحة ومعتبرة ، مثل : صحيحة علي بن يقطين ، عن الكاظم عليهالسلام أنّه قال : «كلّ منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل وليس لك أن تتمّ فيه» (٣).
وصحيحة الحلبي ، عن الصادق عليهالسلام عن الرجل يسافر فيمرّ بالمنزل له في الطريق يتمّ أم يقصّر؟ قال : «يقصّر إنّما هو المنزل الذي توطّنه» (٤). إلى غير ذلك.
فظهر لك أنّ ما دلّ على اعتبار الملك خاصّة لا بدّ من حملها على التقيّة ، وأمّا ما دلّ على الاستيطان ، أو نيّة الإقامة عشرا ، لا يدلّ على اشتراط الملك أصلا ـ كما لا يخفى ـ فإنّ قول المعصوم عليهالسلام : «لا تقصّر في الضيعة ما لم تنو مقام عشرة» لا
__________________
(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٢ الحديث ٥١٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٣ الحديث ١١٢٦٢.
(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٨ الحديث ١٣١٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٣ الحديث ٥٢٠ ، الاستبصار : ١ / ٢٣١ الحديث ٨٢١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٦.
(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٢ الحديث ٥١٥ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٠ الحديث ٨١٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٣ الحديث ١١٢٦١.
(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٢ الحديث ٥١٧ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٠ الحديث ٨١٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٣ الحديث ١١٢٦٣.
يدلّ على اشتراط الملكيّة لقصد إقامة العشرة ، فكما لا يدلّ عليه ، كذا لا يدلّ قوله عليهالسلام : «لا تتمّ في الضيعة والمنزل حتّى تستوطنه» على اشتراط الملكيّة في الاستيطان ، فلا داعي إلى اعتبار الملكيّة ، لأجل اعتبار الاستيطان أصلا.
وليس في الأخبار الدالّة على اعتبار الاستيطان ما يشير إلى ذلك أصلا ، مضافا إلى ما عرفت من عدم مدخليّة الملك في السفر والحضر مطلقا بالبديهة.
وأمّا ما دلّ على اعتبار ستّة أشهر ، فيمكن أن يكون اعتبارها لأنّ يتحقّق التوطّن العرفي الذي يقال عرفا : إنّه في وطنه ، وأنّه حاضر ، بأن يكون عرض السنة ستّة أشهر في موضع متوطّنا وستّة أشهر في موضع آخر ، بأن يكون له بيت وأهل ومنزل في الأوّل ، وبيت وأهل ومنزل في الثاني ، فأيّ وقت دخل في أحد منزليه وأحد بيتيه صدق عرفا أنّه في بيته وفي منزله.
فيكون المراد من قوله عليهالسلام : «يستوطنه» أنّه يستوطنه كلّ سنة ستّة أشهر ـ كما اختاره الصدوق والمصنّف وغيرهما (١) ـ لأنّ فعل المضارع يفيد الاستمرار التجددي.
ولعلّ مراد الصدوق رحمهالله ـ أيضا ـ هو ما ذكرناه ، لا أنّ الملكيّة شرط ، إذ لا يظهر ذلك من عبارته.
والحاصل ، أنّ الكلام في القواطع ، والأصل في المسافر القصر حتّى يثبت القاطع ، وهو ثلاثة ـ بالنصّ والإجماع ـ : الوطن ، وما هو بمنزلته شرعا من قصد الإقامة ، والتردّد ثلاثين يوما ، والوطن هو الوطن العرفي جزما ، لا ما هو بمنزلته شرعا ، ولذا لم يذكروا في الأخبار سوى لفظ الوطن والاستيطان ، من دون إظهار كونه بمنزلة الوطن ، كما فعلوا في الأخيرين.
__________________
(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٨ الحديث ١٣١٠ ، الروضة البهيّة : ١ / ٣٧٢.
ومع أنّه لا يفهم منه سوى العرفي ، مع أنّك عرفت من القاعدة أنّه لا بدّ من الوطن العرفي حتّى يتحقّق خلاف السفر فيتمّ.
وفي صحيحة ابن بزيع ـ أيضا ـ قال عليهالسلام : «إلّا أن يكون له منزل يستوطنه» (١) وسكت ، فلا شكّ في أنّه مراده أيضا هو العرفي ، وإلّا لزم الإغراء بالجهل وغيره ممّا هو قبيح على الحكيم.
ثمّ لمّا رأى ابن بزيع أنّ الوطن العرفي لا يكاد يتحقّق في الضيعة ـ لما ستعرف من أنّه مأخوذ في معناه اللزوم ، وهو متحقّق في وطن الشخص ، لا في ضيعته ـ سأل ما الاستيطان؟ فأجاب بـ «أن يكون فيها له منزل يقيم دائما ستّة أشهر» ، فالدوام وإن كان مأخوذا فيه ، لكن غير مأخوذ فيه وحدة الموضع ، بل يكفي كونهما اثنين ، فالدوام في موضعين يقتضي دوام ستة أشهر في موضع على التوالي أو التفرقة ، لأنّ الدوام في موضعين مع كون المتوطّن واحدا شخصيّا يقتضي عدم قابليّته أزيد من ستّة أشهر في موضع.
فإن قلت : يجوز أن يكون الموضع أزيد من اثنين ، أو يكون اثنين لكنّهما بعيدان بقدر لا يمكن الاستيطان في واحد منهما ستّة أشهر ، أو يكون بناء توطّنه على سبيل الدوام في موضع أزيد من الستّة ، وفي موضع أقلّ ، فعلى أيّ تقدير لا وجه لاعتبار خصوص الستّة في كلّ سنة.
قلت : قد عرفت أنّه لا بدّ من ثبوت القاطع ، والوطن لا يثبت بمجرّد الفرض والتجويز ، بل لا بدّ من المعروفيّة والمعهوديّة عن العرف ، والقدر الثابت هو ما ذكر ، لأنّه غالبا يتحقّق منزل شتاء ومنزل صيف في بلاد كثيرة والوطن فيهما ، وليس أحدهما أولى بالوطنيّة من الآخر ، والفروض الاخر ـ لو كانت ـ فليست بمتعارفة
__________________
(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٦.
شائعة ، وفي الغالب لم يعتبر غير الغالب ، لأنّ الإطلاقات الشرعيّة منصرفة إلى الغالب ، فلعلّ المقام أيضا كذلك.
مع أنّ فعليّة الكون في الوطن غير معتبر ، وإلّا لم يتحقّق وطن ، بل المعتبر كونه معدّا للتوطّن ، بأنّه متى شاء يستقرّ ويسكن فيه ، فالمناط هو التهيئة والاستعداد والقابليّة ، كما أشرنا.
سلّمنا تعارف الكلّ ، لكن الشارع ربّما لم يعتبر للقاطعيّة إلّا ما هو استيطان ستّة أشهر دائما لا أقلّ ، كما أنّه اعتبر في المسافة ثمانية وغير ذلك ، مع أنّ السفر معناه عرفي.
مع أنّ المتبادر من لفظ الوطن ليس إلّا الموضع الواحد ، أو الموضعين ـ أيضا ـ في بعض الأمكنة ، فتأمّل جدّا!
وأمّا ما رواه علي بن يقطين ، عن الكاظم عليهالسلام عن الدار تكون للرجل [بمصر] أو الضيعة فيمرّ بها ، قال : «إن كان ممّا قد سكنه أتمّ فيه الصلاة ، وإن كان ممّا لم يسكنه فليقصّر» (١) ، فظاهر أنّ السكون من حيث هو سكون لا عبرة به عند أحد من الفقهاء ، بل العبرة بالتوطّن ، فالمراد إن كان ممّا قد توطّنه ، ومعنى الوطن كونه المقرّ على الدوام ، فالمعنى جعله دار سكناه على الدوام ، وما فيه النزاع ـ وهو الاستيطان بقدر ستّة أشهر فقط ـ خلاف المتبادر من هذا الخبر ، فلا حجّة في هذا الخبر لهم ، ولا يعارض الأخبار الدالّة على الاستمرار التجدّدي.
وعلى تقدير شمول هذا الخبر لمحلّ النزاع ، فمعلوم أنّه من الأفراد النادرة ، لا ينصرف الإطلاق إليها ، سيّما وأن يعارض ويقاوم ما دلّ على الاستمرار المذكور.
__________________
(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٢ الحديث ٥١٨ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٠ الحديث ٨١٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٤.
على أنّه يمكن أن يكون المراد أن يكون ساكنا ، بقرينة أنّ الرواية عن علي بن يقطين ، فإنّه يروي مكرّرا بعنوان المضارع أو النفي المفيد للاستمرار.
مع أنّ المقام في هذا الحديث مقام إجمال ، لعدم معلوميّة (١) كونه بعنوان التوطّن ، وعدم مقدار السكون ولذا لم يتعرّض لمقدار السكون ، ولا كونه بعنوان التوطّن ، فلا يعارض المفصّل المتكرّر.
وهذا هو الجواب عن صحيحة الحلبي حيث قال : «إنّما هو المنزل الذي توطنه» (٢) ، مع احتمال كونه بصيغة المضارع من باب الإفعال أو التفعّل بحذف أحد التاءين ، بل غير خفي أنّ الماضي لا يناسب الحصر المذكور ، بل لا شكّ في أنّ الوطن الحالي وطن ، وكون الشرط أن لا يكون الآن وطنه ، بل لا بدّ أن يكون سابقا وطنه فاسد بالبديهة ، فكيف يجعله المعصوم عليهالسلام شرطا في رواية علي بن يقطين ومنحصرا فيه في هذه الرواية؟
وهذان قرينتان قطعيّتان على عدم إرادة الماضي في الروايتين ، وأنّ المراد هو وجود التوطّن وفعليّته ، وأنّ عدم التوطّن مضرّ بأن لا يكون المنزل وطنه.
مع أنّ الظاهر أنّ «توطّن» لم يجيء بمعنى اتّخذه وطنا ، لكونه لازما مطاوعا ، ويظهر ذلك من «القاموس» أيضا (٣) ، مع أنّه لا تأمّل في أنّ المقام ، مقام إظهار عدم الاكتفاء بالمنزليّة وأنّه لا بدّ من الوطنيّة ، لا أنّه لا بدّ من خصوص وطنيّته السابقة ، وإنّما هي المعتبرة ، وإن لم يكن الآن وطنا ، إذ لا تأمّل في أنّه ليس المراد ذلك ، على أنّه ليس في هذين الخبرين قيد «ستّة أشهر» أصلا ، والمراد أنّ الرواية المتضمّنة
__________________
(١) لم ترد في (د ٢) و (ز ٢ ، ٣) من قوله : لعدم معلوميّة. إلى قوله : مقدار السكون.
(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٣ الحديث ١١٢٦٣.
(٣) القاموس المحيط : ٤ / ٢٧٨.
لاستيطان ستة أشهر المتبادر منها الاستمرار ، فظهر أنّ هذين الخبرين لا يظهر منهما ما يخالف الأخبار الاخر ، ولذا حصر المحقّقون الخبر في فعل المضارع ، منهم خالي العلّامة المجلسي في «البحار» (١) ومنهم المصنّف (٢).
ثمّ اعلم! أنّه ألحق العلّامة رحمهالله في بعض كتبه ، وبعض من تأخّر عنه ، بالوطن المذكور الموضع الذي اتّخذه دار وطن ومقام على الدوام (٣).
ووجهه ظهر ممّا سبق ، بل عرفت أنّ العبرة بالتوطّن ، ولا دخل للملك أصلا ، فهذا داخل في الأخبار الدالّة على اعتبار التوطّن والاستيطان في المنزل الذي يتمّ فيه إذا دخله ، لا أنّه ملحق بالملك ، إذ عرفت عدم دلالة خبر من الأخبار على اعتبار الملك.
فإذا كان الموضع اتّخذ للوطن بأن يكون في كلّ سنة ستّة أشهر فيه فهو وطنه مطلقا عرفا على حسب ما ذكر ، وإن كان وطنه الأصلي الذي سافر منه إلى هذا لم يعرض عنه بعد لم يتأمّل أحد فيه ، وفي أنّه غير مسافر إذا كان فيه.
وأمّا هذا الوطن ، فقد ألحقه بعض الفقهاء بالوطن القاطع للسفر ، وأمّا باقي الفقهاء فما ألحقوا به أيضا ، وفي «الدروس» إلحاقه به (٤) ، وهو أقرب ، فإنّ هذا ممّا لا يتأمّل فيه وإن علّل الإلحاق بصدق عدم المسافريّة عرفا بالدخول فيه ، فهذا وطن ما دام متّخذا ، فلو أعرض عن التوطّن فيه لا يكون وطنه ، فإذا دخله يقصّر إلّا أن ينوي الإقامة ، كما هو الحال في المنزل الذي هو ملكه ، فإنّه لو أعرض عن التوطّن فيه لم يكن وطنه ، فيكون إذا دخله لم يكن في بيته ولم يكن حاضرا ، بل هو غائب
__________________
(١) بحار الأنوار : ٨٦ / ٣٦.
(٢) الوافي : ٧ / ١٦٢ ذيل الحديث ٥٦٨٦.
(٣) نهاية الإحكام : ٢ / ١٧٨ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٩.
(٤) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١١.
عن وطنه فهو مسافر ، والمسافر يقصّر بالأخبار المتواترة.
وينبّه على ذلك الأخبار الواردة في أنّ الأعراب والملّاحين يتمّون ، لأنّ بيوتهم معهم ، ولأنّ منازلهم معهم (١).
وكذا الأخبار في حدّ الترخّص من اعتبار البيت والبلد والأهل (٢) ، من دون إشارة إلى اعتبار ملكيّة بوجه من الوجوه.
وكذا ما ورد فيمن سافر بعد دخول الوقت ، وهو في منزله أو بيته أو بلده ، ولم يصلّ حتّى خرج أو دخل كذلك (٣) ، وكذا الأخبار الدالّة على علّة التقصير ، وغير ذلك ، فتأمّل!
قال في «الذكرى» : وهل يشترط استيطان ستّة أشهر؟ الأقرب ذلك ، لتحقّق الاستيطان الشرعي ، مضافا إلى العرفي (٤).
ونفي عنه في «المدارك» البعد ، معلّلا بأنّ الاستيطان على هذا الوجه إذا كان معتبرا مع وجود الملك فمع عدمه أولى (٥) ، انتهى.
وفيهما نظر ظهر لك وجهه ، مع أنّه اختار في «المدارك» استيطان ستّة أشهر في كلّ سنة ، فعلى هذا يكون هذا المنزل وطنه عرفا مطلقا ، سواء كان نوبة توطّنه فيه أولا ، إذ الظاهر أنّه بحسب العرف يصدق على أيّ تقدير في كلّ مرتبة دخله أنّه في وطنه ، فراجع وتأمّل ، فلا يكون استيطان شرعي مغايرا للعرف.
__________________
(١) الكافي : ٣ / ٤٣٧ و ٤٣٨ الحديث ٥ و ٩ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٥ الحديث ٥٢٧ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٣ الحديث ٨٢٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٥ الحديث ١١٢٣٧.
(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٠ الحديث ١١١٩٤ ، ٤٧٣ الحديث ١١٢٠٢ و ١١٢٠٣.
(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٢ الباب ٢١ من أبواب صلاة المسافر.
(٤) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٩.
(٥) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٥.
نعم ، إذا بني على كفاية استيطان ستّة أشهر واحد ـ كما هو المشهور عند المتأخّرين ـ يتحقّق استيطان شرعي مغاير للعرفي ، والعرفي إنّما يكون متوطّنا إذا لم يعرض عن توطّنه ، ويكون متوطّنا فيه بالفعل ، فإذا أعرض وتوطّن في غيره لا جرم يكون مسافرا ، إذا دخله يكون عليه القصر ، إلّا أن ينوي إقامة عشرة ، وهذا هو مراد المشهور.
وعلى هذا لا وجه لاشتراط استيطان ستّة أشهر في العرفي ، لأنّ العرفي دائر مع فعليّة الاستيطان ، لا أنّه مع الإعراض عن توطّنه صادق ـ أيضا ـ متوطّن فيه عرفا ، بل هو فاسد بالبديهة ، وحين فعليّة الاستيطان لا شكّ في كونه في وطنه كلّما دخله ، وإن اتّفق أنّه بدا له في استيطانه فيه قبل تماميّة ستّة أشهر ، بل في الشهر الأوّل أيضا ، بل وأقلّ منه ، إذا كان عزمه التوطّن فيه دائما ثمّ بدا له. فإذا صدق أنّه في منزله وأهله ووطنه عرفا لا جرم لا يجوز له أن يقصّر ، كما أنّه عند استيطانه فعلا في منزله الذي هو ملكه في ظرف ستّة أشهر يجب عليه كلّما دخله أن يتمّ الصلاة فيه ، لما ذكر من أنّه في وطنه ومنزله وأهله الآن.
وإن كان مراد الشهيد وصاحب «المدارك» أنّه إذا اتّخذ البلد دار مقامة على الدوام فحكمه حكم الوطن الشرعي ، حتّى في صورة الإعراض أيضا ، فمع أنّه لا شبهة في فساده ـ سيّما مع تعليلهما الإلحاق بأنّ المسافر بالوصول إليها يخرج عن كونه مسافرا عرفا ـ فاسد من جهة اخرى أيضا ، وهي أنّه على هذا لا يبقى لاشتراط الملكيّة وجه أصلا.
ثمّ اعلم! أنّ المشهور لا يشترطون التوالي في استيطان ستّة أشهر ، وهذا أيضا بعد آخر ، لأنّ المتبادر هو التوالي.
نعم ، لا يقدح الخروج إلى مواضع اخر حتّى إلى السفر ، لأنّه لا ينافي الاستيطان ، بل المنافي إنّما هو ترك الاستيطان.
وأيضا ، الصحاح تدلّ على اشتراط الاستيطان حال الإتمام ، وإنّه لا يكفي الاستيطان السابق ، وما ورد بصيغة الماضي قد ظهر حاله.
وأيضا ، الصحاح تدلّ على كفاية كون المنزل وطنا من دون اشتراط ملكيّته أصلا ، وتوهّم اشتراط الملكيّة عن رواية ابن بزيع فاسد ، لتصريح المعصوم عليهالسلام بالقصر في الضيعة مطلقا مع كونها ملكا ، واستثنى من المطلق صورتين :
الاولى : قصد الإقامة ، ومعلوم أنّه علّة مستقلّة في الإتمام من دون توقّف على ملكيّة.
والثانية : الاستيطان ، وهو أيضا علّة مستقلّة ، لأنّ الوطن إذا كان متوطّنه فيه ، فهو غير مسافر ، لأنّ المسافر من سافر عن الوطن ، لا من دخل الوطن.
وأمّا اعتبار المنزل ، فهو لأن يكون القيام فيه استيطانا ، إذ ما لم يكن الإقامة في المنزل ودار السكنى لم يصدق عليه الاستيطان.
على أنّا نقول : أقصى ما يستفاد منها اشتراط المنزل ، وأين هذا من اشتراط الملك؟ إذ لو كان الشرط هو الملكيّة لقال المعصوم عليهالسلام : لا بدّ أن يكون موضع استيطانه ملكه ، مع أنّ الراوي فرض كونه في ضيعته ، والضيعة هي الملك ، ومع ذلك لم يعتبره المعصوم عليهالسلام في الإتمام مطلقا ، بل أمر بالقصر مطلقا ، ولم يستثن سوى الصورتين اللتين ذكرناهما.
وما دلّ على الإتمام في الضيعة والنخلة ، لا يدلّ على كونهما شرطا للإتمام بالبديهة ، فدعوى فهم الملك من المنزل فاسد ، وكذا خارج المنزل.
وتوهّم الإجماع على اشتراط الملك فاسد ـ كما ستعرف ـ مضافا إلى أنّه كيف يجوّز عاقل أنّ من لم يكن مسافرا يقصّر بغير خوف؟
وأيضا كثير منهم لا يشترطون السكنى في ملكه ، بل يكتفون بالاستيطان في البلد أو القرية ، وأمثالهما ممّا يكون ملكه فيه ، وهذا أيضا بعد آخر بالنظر إلى دلالة
الأخبار ، إذ ليست مستقيمة إذا كان المراد من المنزل هو الملك على ما فهموا.
ولا يكفي عندهم استيطان الوقوف العامّة كالمدارس ، وذهب جماعة إلى الاكتفاء بالوقف الخاصّ (١).
واشترط الشهيد ملك الرقبة ، فلا يجزي عنده الإجارة (٢) ، وقد ظهر لك أنّ الملك ليس بشرط.
واشترط جماعة في الستّة أن يكون مقيما فيها ومتمّا للصلاة فيها للإقامة (٣) ، فلا يكفي عندهم مطلق الإقامة ، كما لو أقام ثلاثين متردّدا ثمّ أتمّ ، ولا الإتمام بسبب كثرة السفر أو المعصية أو شرف البقعة ، نعم لا يضرّ مجامعتها لها.
وهذه الشروط من جهة أنّ الوارد في الأخبار استيطان ستّة أشهر ، ولا يصدق ذلك إلّا بأن يقصد التوطّن ويقيم فيه من جهة أنّه وطنه ، لكن عرفت أنّ الخروج منه لا ينافي استيطانه.
وبالجملة ، المعتبر ما يصدق عليه أنّه استيطان ستّة أشهر عرفا ، وعرفت أيضا وجه اعتبار الاستيطان ، فلا يكفي اتّفاق الإقامة في موضع ، ولو كانت سنين عديدة.
وكذا لا يكفي قصد الإقامة ولو كان قصد إقامة سنين كثيرة حتّى يتحقّق قصد الاستيطان ، فإنّ التوطّن أمر على حدة ، وقصد الإقامة أمر مغاير له.
وعرفت أيضا أنّه لا بدّ من أن يكون ستّة أشهر لأجل الصلاة والصوم فيما بعدها وفي غيرها ، لا في نفس هذه الستة أشهر.
__________________
(١) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١١ ، روض الجنان : ٣٨٦ ، ذخيرة المعاد : ٤٠٨.
(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٩.
(٣) الروضة البهيّة : ١ / ٣٧٢ ، الحدائق الناضرة : ١١ / ٣٧٣.
وعرفت أيضا وجه اعتبار هذا المقدار ، وأنّه ليس أمرا تعبّديا محضا ، وعلى فرض كونه كذلك يكون ستّة أشهر في كلّ سنة ، إلّا أن يبدو له في الاستيطان ، ويمنع مانع عنه ، لا كلّ سنة من مدّة عمره ، وقبل عروض المانع وحصول البداء لا بدّ أن يكون القصد دوام التوطّن ، إذ التوطّن على ما نقل عن الشهيد هو أن يجعل الموضع دار إقامته دائما على سبيل الوطنيّة (١).
ولعلّ مراده أنّ الوطن يزيد بالقيد المذكور عن المقام والتوطّن عن الإقامة ، ولا بدّ من الرجوع إلى اللغة والعرف ، فإن كان المتبادر من اللفظ الخالي عن القرينة هو الذي ذكره ، فالأمر كما ذكره.
وانظر هل يحسن أن يقال : اريد أن أتوطّن سنة أو سنتين ـ مثلا ـ ثمّ أخرج إلى موضع آخر؟ وإذا قيل : فلان يريد التوطّن في بلد كذا ، فهل يتبادر منه الدوام أم لا؟ والظاهر التبادر ، وعدم حسن السابق ، فراجع واستعلم.
فعلى هذا يكون المراد من استيطان ستّة أشهر الوارد في خصوص خبر ابن بزيع ، أنّه يكون قصده الدوام ، إلّا أنّه اتّفق البداء بعد ستّة أشهر ـ كما قاله المشهور ـ أو أنّ المراد اختيار كونه فيه في عرض السنة بعد مقدار ستّة أشهر دائما ، كما هو حال من له بيتان وأهلان في موضعين ، كما قلنا.
وممّا ذكر ظهر وجه آخر لإفادة الاستمرار وأنّه لا يكفي سنة واحدة ، كما قلنا ، وفي باقي الأخبار ـ مع كثرتها ـ لم يقيّد بستّة أشهر.
وفي خبر ابن بزيع إظهار لأقصى ما يتحقّق به التوطّن عرفا ، كما هو ظاهر ، وأنّه إذا تحقّق الإقامة فيه دائما ستّة أشهر يصدق عليه أنّه وطنه عرفا ، سواء كان فيه أم لم يكن ، فمتى دخله يتمّ ، لكونه في وطنه.
__________________
(١) نقل عنه في روض الجنان : ٣٨٦ ، لاحظ! ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٩.
وممّا يؤمي إلى ذلك أنّ المعصوم عليهالسلام قال : «إلّا أن يكون فيها منزل يستوطنه» ، فلمّا سأله الراوي أنّ الاستيطان ما هو؟ أجابه عليهالسلام : «أن يكون له منزل يقيم فيه ستّة أشهر» (١) فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى دخلها ، فظهر الإيماء من التأمّل التامّ في السؤال والجواب.
مع أنّ ما ذكرناه هو الموافق للأخبار المتواترة الدالّة على أنّ الحاضر يتمّ والمسافر يقصّر ، وما ورد في علّة القصر وعلّة إتمام الأعراب ، وغير ذلك ممّا ذكرنا لعدم اعتبار الملك.
ومع ذلك الأحوط مراعاة المشهور أيضا ، وإن كانت الشهرة عند المتأخّرين خاصّة.
قال الشيخ في «النهاية» : من خرج إلى ضيعة له ، وكان له فيها موضع ينزله ويستوطنه وجب عليه التمام ، فإن لم يكن فيها مسكن فإنّه يجب عليه التقصير (٢).
وهذا ينادي بأنّه رحمهالله فهم الأخبار كما فهمنا ، إذ لم يعتبر استيطان ستّة أشهر في سنة ، بل اعتبر الدوام والاستمرار والمنزليّة والمسكنيّة.
قال خالي العلّامة المجلسي رحمهالله : وقريب منه عبارة ابن البرّاج ، وقال أبو الصلاح : إن دخل مصرا له فيه وطن فنزل فيه فعليه التمام ، والظاهر منه المنزل الذي يستوطنه ، وإن لم يكن ملكا له. ثمّ نقل قولا عن ابن البرّاج وقال : وهو ينفي القول المشهور مطلقا ، كما حكي عنه (٣) ، انتهى. وعبارة الصدوق قد عرفت.
ثمّ انظر إلى جميع العبارات في المقام ، فإنّها تنادي بأنّ نظرهم إلى المنزل الذي
__________________
(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٦.
(٢) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٤.
(٣) بحار الأنوار : ٨٦ / ٣٥.
يكون في طريق سفره ، لا كلّ منزل ووطن يكون.
ثمّ نقول : لم يظهر من كثير من عبارات المتأخّرين أيضا اعتبار الملكيّة مثل «المنتهى» و «النافع» و «اللمعة» أصلا (١) ، فنسبة اعتبار الملكيّة إلى المشهور محلّ تأمّل ، مضافا إلى أنّ من ألحق الوطن العرفي الدائمي لا يشترط الملكيّة مطلقا وفي جميع الصور.
وكذا من اكتفى بملكيّة المنافع كالإجارة وغيرها ، فهو أيضا لا يشترط الملكيّة مطلقا.
هذا ، والظاهر من الكليني أنّه كان يقول بالتمام في الضيعة من دون اشتراط الاستيطان (٢).
ثمّ اعلم! أنّ المنزل والوطن لو لم يكن منزله ووطنه يقصّر فيه ، إلّا أن ينوي الإقامة وإن كان منزل أبيه أو أخيه وأمثالهما ، خلافا لابن الجنيد في منزل أبيه وابنه أو زوجته أو أخيه مع كونهم لا يزعجونه (٣).
ومستنده «الفقه الرضوي» إذ فيه : «وإن كنت مسافرا فدخلت منزل أخيك ، أتممت الصلاة والصوم ما دمت عنده ، لأنّ منزل أخيك مثل منزلك» (٤).
فإذا حكم بهذا في منزل الأخ ، ففي منزل الأب والابن والزوجة بطريق أولى.
وروى في «التهذيب» في الموثّق ، عن البقباق ، عن الصادق عليهالسلام في المسافر ينزل على بعض أهله يوما [أو ليلة] أو ثلاثا ، قال : «ما احبّ أن يقصّر
__________________
(١) منتهى المطلب : ٦ / ٣٥٦ ، المختصر النافع : ٥١ ، اللمعة الدمشقيّة : ٣٩.
(٢) الكافي : ٣ / ٤٣٧ الحديث ٣ و ٤٣٨ الحديث ٦.
(٣) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٣ / ١٤٤.
(٤) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليهالسلام : ١٦٠ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٥٤٨ الحديث ٧٤٨٥.
الصلاة» (١) ، والتقييد بعدم الإزعاج ظاهر.
والظاهر أنّ ما في «الفقه الرضوي» محمول على التقيّة ، لموافقته لمذهب جماعة من العامّة (٢) ، وكذلك الحال فيما روى عن البقباق ، وما في «التهذيب» من الخبر الدالّ على الإتمام والصيام في ضياع بني العمّ (٣) ، إذ عرفت أنّ عدم القصر في الضيعة مذهب العامّة ، مع عدم صحّة سنده واحتمال توجيه آخر.
مع أنّ البقباق روى عنه بسند آخر أنّه سأل الصادق عليهالسلام عن المسافر ينزل على بعض أهله يوما وليلة؟ قال : «يقصّر الصلاة» (٤).
وهذا السند صحيح ، إذ ليس فيه سوى أبان وهو ثقة عند جماعة من المحقّقين (٥) ، وبسطنا الكلام في توثيقه في «التعليقة» (٦).
مع احتمال أن يكون المراد ممّا هو في الموثّق ما هو في الصحيح ، إذ الظاهر اتّحاد الروايتين ، كما لا يخفى على المتأمّل.
فيكون المعنى : الذي أحبّه أن يقصّر الصلاة ، أو يكون أفعل تعجّب ، أو غير ذلك ، أو توهّم الراوي الآخر عن البقباق. وكيف كان ، لا يقاوم الحجج ، وإن سلّمنا كونه حجّة.
__________________
(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٣٣ الحديث ٦٠٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٠ الحديث ١١٣٠٩.
(٢) لاحظ! المغني لابن قدامة : ٢ / ٦٦.
(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١١ الحديث ٥١١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٠ الحديث ١١٣٠٨.
(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٧ الحديث ٥٣٥ ، الاستبصار : ١ / ٢٣١ الحديث ٨٢٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٠ الحديث ١١٣٠٧ ، ولا يخفى أنّ المراد من فضل بن عبد الملك في هذه الرواية هو البقباق ، لاحظ! تنقيح المقال : ٣ / ٢٣.
(٥) خلاصة الرجال للحلّي : ٢١ ، جامع الرواة : ١ / ٩.
(٦) تعليقات على منهج المقال : ١٥.
١٨ ـ مفتاح
[وجوب الإتمام على كثير السفر]
اشترط في وجوب الإتمام على كثير السفر أن لا يقيم في بلده عشرة أيّام ، فلو أقام عشرة ثمّ أنشأ سفرا قصّر.
وألحق بعضهم أن لا ينوي الإقامة عشرا في غير بلده أيضا (١) ، وبعضهم العشرة الحاصلة بعد التردّد في ثلاثين (٢) ، ثمّ لو أقام خمسة في بلده قيل : يقصّر نهارا صلاته دون صومه ويتمّ ليلا (٣) للخبر (٤) ، وعندي في هذا الاشتراط من أصله توقّف ، لضعف المستند ومتروكيّته ومعارضته للصحاح (٥) ، اللهمّ إلّا إذا ثبت عليه الإجماع.
__________________
(١) المختصر النافع : ٥١ ، قواعد الأحكام : ١ / ٥٠.
(٢) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١٢ ، جامع المقاصد : ٢ / ٥١٣ ، روض الجنان : ٣٩١.
(٣) المبسوط : ١ / ١٤١ ، مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٤.
(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٩ الحديث ١١٢٤٩.
(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٤ ـ ٤٨٨ الباب ١١ من أبواب صلاة المسافر.