مصابيح الظلام - ج ٢

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٢

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-2-7
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٤١

الجميع ، وخرج المسافر للأخبار الدالّة على أنّها ليست واجبة عليه ، بل الله تعالى وضعها عنه وإن تمكّن من فعلها ، بل لم يكن من المخاطبين بوجوب فعلها أصلا ، لأنّ الخاصّ خارج عن الحكم العام من أوّل الأمر ، كما هو المحقّق والمسلّم ، وليس مثل النسخ.

فعلى هذا لو كان هذا المسافر داخلا في تلك الأخبار ، فلا جرم لا يكون الجمعة واجبة عليه أصلا ، والله وضعها عنه مطلقا من دون إثم ، كما هو مقتضى تلك الأخبار.

وإن قال بأنّ ذلك مخالف للإجماع وغيره ، فمقتضى ذلك عدم شمول تلك الأخبار له ، فالمقتضي لوجوب الجمعة موجود ، والمانع مفقود ، فلم ينهض دليل على حرمة السفر حينئذ ، وأيضا وجوبها عليه مستصحب حتّى يثبت خلافه ، ولم يثبت ، لما عرفت (١).

كما أنّ الظهر لو كانت واجبة عليه بالإتمام ، يكون وجوبها كذلك حتّى يثبت خلافه ، وما دلّ على القصر في خصوص المقام معارض بمثله.

وأمّا العمومات ، فلعلّ المقام خارج عنها ، لأنّ الخاصّ مقدّم ، سيّما إذا لم يكن من الأفراد الشائعة للعام.

والظاهر أنّ نظر المحقّق الشيخ علي إلى هذا ، لا إلى القياس ، حاشاه عنه ، وإن أمكن التنظر فيه وتقوية كون المعيّن عليه هو القصر ، كما ذكره ، وسيجي‌ء إن شاء الله تعالى في موضعه.

الثالث : لو كان بعيدا عن الجمعة بفرسخين فما دون ، فخرج مسافرا في صوب الجمعة ، قيل : يجب عليه الحضور عينا وإن صار في محلّ الترخّص ، لأنّه

__________________

(١) في (ز ١ ، ٢) و (ط) : على حئ ما عرفت.

١٢١

لولاه لحرم عليه السفر (١) ، ولأنّ من هذا شأنه يجب عليه السعي قبل الزوال ، فيكون سبب الوجوب سابقا على السفر ، كما في الإتمام لو خرج بعد الزوال.

واحتمل في «الذكرى» عدم كون هذا المقدار محسوبا من المسافة ، لوجوب قطعه على كلّ تقدير (٢).

ولعلّ مراده أنّ الله تعالى أمره بالسعي إلى الجمعة في كلّ جمعة ، وكان يفعل كذلك وما كان يحاسب من جملة السفر الشرعي أصلا ، وإن كان مسافرا لغة وعرفا ، ففي كلّ جمعة كان يسافر هذا السفر بأمر الله تعالى ، وما كان يقال بأنّه سافر بالسفر الشرعي.

فهذه الجمعة أيضا مثل الجمعات السابقة يجب عليه السعي إلى الجمعة ، لعموم ما دلّ عليه ، وبطريق عادته لا بدّ أن يسعى ويوجد ما لم يكن يقال فيه : إنّه سفر شرعي ، فالسفر الشرعي ، وما يقال : إنّه الذي يجب عليه القصر ابتداؤه ممّا زاد على ما امر به ، وما كان يسعى في طيّه بعنوان الوجوب لدرك الجمعة ، فلا يكون داخلا في السفر الذي وضع الجمعة عنه فيه ، فتأمّل!

واستقرب في «المدارك» كون وجوب السعي له في غير هذه الصورة ، بل في الصورة التي لم ينشأ من المكلّف سفر مسقط للجمعة (٣).

وفيه تأمّل ، لأنّ ما دلّ على وجوب السعي عام مقدّم على إنشاء السفر ، ومستصحب حتّى يثبت خلافه وهو الإسقاط ، فإنّ الإسقاط فرع الثبوت ويترتّب عليه ، ولم يعلم السقوط بعد ، إذ على تقدير تسليم عموم يشمل الفرض النادر ،

__________________

(١) لاحظ! ذكرى الشيعة : ٤ / ١١٥.

(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ١١٥.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٦٢.

١٢٢

يمكن أن يقال : إنّ الخاصّ مقدّم ، فتأمّل ، والاحتياط طريقه واضح ، بل لعلّه لا محيص عنه في أمثال المقام.

قوله : (ويكره). إلى آخره.

ادّعى في «التذكرة» إجماع علمائنا عليه (١) ، والخبر هو الذي ذكرنا عن «التذكرة» (٢) ، وتنزيله على الكراهة من جهة ضعف السند مع عدم الانجبار ، لما عرفت من أنّه ليس دليل علمائنا على حرمة السفر بعد الزوال ، فلا يثبت به الحرمة ، مع احتمال كونه حقّا ، لأنّ الحرمة لا تثبت بالاحتمال ، إلّا أنّه يحصل منه شبهة ما ، والتجنّب عن الشبهات مهما أمكن مطلوب شرعا ، على أنّه بملاحظة الإجماع ينتفي احتمال الحرمة ، فيحمل على الكراهة من جهة هذه القرينة ، وهو قابل للحمل على الكراهة بعد وجود القرينة.

وممّا ذكر ظهر التأمّل فيما ذكره المصنّف من قوله : (ويحتمل التحريم). إلى آخره ، إذ كيف يحتمل مع وجود الإجماع الذي استند إليه ، إلّا أن يكون متأمّلا فيه ، أو في كون المراد من الكراهة المعنى المصطلح عليه الآن عند الفقهاء ، فتأمّل!

ثمّ اعلم! أن المشهور عند فقهائنا المسامحة في أدلّة السنن ، بل في أدلّة الكراهة أيضا على ما نجد.

ومنشأ المسامحة هو ما ذكرناه من أنّ المستند الضعيف وإن لم يثبت الوجوب أو الحرمة ، لعدم العلم ولا الظن المنتهي إلى العلم ، والأصل براءة الذمّة من التكاليف حتّى يعلم ويثبت ، إلّا أنّ التجنّب عن الشبهات ، ودفع الضرر المحتمل مهما أمكن

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٨.

(٢) راجع! الصفحة : ١١٥ من هذا الكتاب.

١٢٣

وتيسّر مطلوب شرعا ، وكذلك الاحتياط ، لعموم أدلّتها (١).

وأيضا من خبر الفاسق ـ مثلا ـ وإن لم يثبت حكم شرعي ، بل وامرنا بالتثبّت فيه (٢) ، إلّا أنّه من جهة أنّه يحتمل أن يكون صادقا (٣) ، فيدخل في عموم ما دلّ على الاحتياط والاحتراز عن الشبهات ، أو ما فيه ريبة ما ، أو ضرر ما.

وأيضا العقل يحكم بدفع الضرر المحتمل ، أيّ ضرر كان ، بأيّ احتمال يكون ، إلّا أنّه تتفاوت مراتبه شدّة وضعفا ، بحسب الحسن عنده واهتمامه في الدفع.

وورد في الشرع متابعة العقل (٤) ، سيّما في أمثال هذه الامور ، مع أنّ الحسن والقبح عندنا عقليّان ، والشرع كاشف عنه ، وموافق إيّاه.

وأيضا ورد في غير واحد من الأخبار ، أنّ «من بلغه شي‌ء من الثواب على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه ، وإن لم يكن الحديث على ما بلغه ، أو كما بلغه» (٥) وأمثال هذه العبارات.

والسند منجبر بالشهرة بين الأصحاب ، مع أنّ منها حسن كالصحيح ، بل ومنها صحيح على ما نقل ، وجعلوا هذا الثواب أعمّ من أن يذكر صريحا أو التزاما ، بأن ورد «افعل» أو «لا تفعل» ، أو مطلوب شرعا ، وأمثال ذلك ممّا يكون على امتثاله ثواب البتة شرعا إن ثبت منه.

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٥٤ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) الحجرات (٤٩) : ٦.

(٣) في (د ٢) : صادقا شرعا.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ٣٩ الباب ٣ من أبواب مقدّمة العبادات.

(٥) لاحظ! الكافي : ٢ / ٨٧ باب من بلغه ثواب من الله على عمل ، وسائل الشيعة : ١ / ٨٠ الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات.

١٢٤

وقيل بأنّ المستحبّ الشرعي أيضا حكم شرعي ، فيتوقّف على الثبوت من الشرع ، كسائر الأحكام.

وأجاب عن الأخبار المذكورة ، بأنّ المراد من بلغه شي‌ء من الثواب على عمل شرعي ثبت شرعيّته ، فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه ، وإن لم يكن الحديث في الثواب كما بلغه (١).

وفيه ، أنّه تقييد من غير دليل ، سيّما مع أنّ الأصحاب فهموا على ما هو الظاهر منها ، فيقوى الظهور غاية القوّة ، مع أنّك عرفت أنّ وجه المسامحة غير منحصرة في هذه الأخبار.

واعترض آخر على المستدلّ بها ، بأنّ غاية ما يستفاد منها أنّ الله تعالى يعطي الثواب ، وأين هذا من الاستحباب؟ لأنّه رجحان الفعل مع تجويز الترك (٢).

وهذا الاعتراض أيضا ليس بشي‌ء ، لأنّ الفعل إذا كان في فعله ثواب من الشرع ، فلا شكّ في أنّه ليس مساويا لتركه ، بحيث لا يكون فيه رجحان على الترك ، كيف وبإزائه الثواب الموعود من الشرع؟ فكيف لا يصلح هذا للرجحانيّة؟ وأيّ رجحان أولى منه في المستحبّات؟ بل الرجحان فيها مداره عليه.

واعترض آخر بأنّ هذه الأخبار وإن دلّت بظواهرها على قبول خبر ناقل المستحبّ أعمّ من أن يكون عادلا أو فاسقا ، إلّا أنّ الآية الشريفة (٣) دلّت على عدم قبول خبر الفاسق ، أعمّ من أن يكون في المستحبات أو غيرها ، فالتعارض بينهما ليس من باب الخاصّ والعام ، بل من باب العموم من وجه ، فكلّ منهما يصلح لأن

__________________

(١) الدرر النجفيّة : ٢٢٨.

(٢) الدرر النجفيّة : ٢٢٨.

(٣) الحجرات (٤٩) : ٦.

١٢٥

يكون مخصّصا للآخر ، فلا بدّ في ترجيح مخصّصية أحدهما من مرجّح ، والرجحان في طرف الآية ، لقوّة السند والمتن ، واتّفاق الفتوى والعمل (١).

وهذا الاعتراض أيضا ليس بشي‌ء ، إذ يظهر بالتأمّل أنّ التعارض بينهما من باب العموم والخصوص المطلقين ، لأنّ المستفاد من الآية عدم قبول خبر الفاسق من جهة احتمال كذبه وعدم الوثوق بقوله ، إذ لعلّه يكذب على ما يشير إليه التعليل المذكور فيها ، وهو قوله تعالى (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) (٢).

ويظهر من هذه الأخبار أنّ الكذب غير مضرّ في نقل الثواب على عمل بأنّه تعالى يعطي الثواب وإن كان الحديث كذبا ، وأيضا لو كان قبول نقل الثواب مشروطا بكونه من العادل ـ كغيره من الأحكام الشرعيّة ـ فلعلّه لم يبق لهذه الأخبار فائدة ، مع أنّك عرفت أنّ الفقهاء الفحول فهموها بالاتّفاق ، كما فهمنا ، وحسبك هذا.

فإن قلت : ما ذكرت لا يتمّ في جميع موارد مسامحاتهم ، لأنّ الاحتياط والتجنّب عن الريبة والضرر ، إنّما يكون فيما احتمل في تركه الضرر ، مثل أن يرد بلفظ الأمر أو النهي وأمثالهما ممّا يدلّ على الضرر والحظر ، وأمّا الأخبار ، فالمتبادر منها ما إذا ذكر الثواب صريحا لا التزاما.

قلت : الاحتياط كما يتحقّق في دفع الضرر ، كذا يتحقّق في جلب المنفعة ، ولا تأمّل في تحقّقه بالنسبة إلى الدينار ، بل الدرهم ، بل وأدون منهما بحسب العرف والعقل ، وثواب الله أعظم ، ثمّ أعظم بمراتب لا تحصى ، سيّما والحسنات يذهبن السيّئات.

__________________

(١) الدرر النجفيّة : ٢٢٨.

(٢) الحجرات (٤٩) : ٦.

١٢٦

بل من بذل جهده في إيجاد جميع ما هو مطلوب لمحبوبه ، ولو بعنوان الاحتمال ، وبمحض أنّه لعلّ المحبوب يحبّ هذا ، يرتكبه ليس مرتبته بحسب عرف العقلاء ، بل وبحسب الشرع أيضا ، مثل مرتبة المقتصر على القدر اليقيني من المطلوب ، كما أنّ مرتبة من ارتكب المستحبّات والواجبات ، ليس مثل مرتبة من اقتصر على الواجبات.

فإنّ الأوّل باحتمال أن يكون المحبوب يحبّه ولا مانع منه ، يرغب ويحرص في إيجاده ، فهو في غاية مرتبة من الإطاعة العرفيّة واللغويّة والشرعيّة ، حيث قال تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١) وغير ذلك ، وهي موكولة إلى اللغة والعرف بلا شبهة ، وكذا في غاية مرتبة من النصح للأئمّة عليهم‌السلام ، ورد فيه أيضا ما ورد (٢) ، وفي غاية مرتبة من المسارعة إلى تحقّق مطالب الشرع ومقاصده ، وورد فيه أيضا ما ورد (٣).

بل من ارتكب مباحا بملاحظة أنّ الله تعالى أباحه ، وفعله من هذه الجهة والحيثيّة ، لعلّه تصير حسنة ووسيلة إلى التقرّب ، وجالبة للمحبّة بلا شبهة ، وورد في تحصيل محبّة الله ما ورد (٤) ، وأيضا ربّما يرتكب من حيث أنّه نسب إلى الله تعالى أنّه أحبّه واستحسنه ، وهذا أيضا طريق آخر للمسامحة (٥).

ولعلّ ما ورد من أنّه من بلغه شي‌ء من الثواب من طرف الله تعالى على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب يعطيه الله تعالى (٦) من جهة أنّه عمل بما نسب

__________________

(١) النساء (٤) : ٥٩.

(٢) بحار الأنوار : ٢٧ / ٦٧ ـ ٧٣.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ١١١ الباب ٢٧ من أبواب مقدّمة العبادات.

(٤) لاحظ! بحار الأنوار : ٦٧ / ١٣ باب حبّ الله تعالى.

(٥) في (ز ١) و (ط) : طريق آخر بل حجّة.

(٦) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ٨٠ الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات.

١٢٧

إلى الله تعالى أنّه يعطيه الثواب ، فكرمه وفضله وجوده وإحسانه يقتضي إعطاء هذا الثواب حينئذ وإن لم يكن الحديث كما بلغه.

فيفهم من هذه الأخبار أنّ إعطاء هذا الثواب محض كرمه وجوده من جهة أنّه نسب إليه ، ففعله المكلّف طمعا فيه والتماسا إيّاه ، فلا يتفاوت أن يكون الثواب مذكورا صريحا ، أو ضمنا والتزاما ، ولا خصوصيّة للصراحة فيما ذكر ، بل لا مناسبة لجعل الصراحة لها مدخليّة ، لما عرفت من أنّ الإعطاء بمحض الكرم والتفضّل ، ولذا فهم الفقهاء الفحول أيضا العموم من دون تأمّل منهم ، فيقوى فهم العموم من هذه الجهة أيضا ، مع أنّ في لفظ الحديث ليس ما يشير إلى اعتبار الصراحة ، فتأمّل جدّا!

وممّا ذكرنا ظهر السرّ في المسامحة ورضاء الشارع فيها في خصوص المستحبّات فعلا أو تركا ، دون غيرها من الأحكام ، والله تعالى هو العالم بأحكامه ، ورسوله وحججه صلوات الله عليهم أجمعين.

وممّا ذكر ظهر حال الكراهة أيضا ، فتأمّل جدّا!

١٢٨

١٣ ـ مفتاح

[كراهة ترك صلاة الجمعة]

من ترك ثلاث جمع متوالية طبع الله على قلبه ، كذا في الصحيح (١) ، وغيره.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله قد فرض عليكم الجمعة ، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي ، وله إمام عادل استخفافا بها أو جحودا لها ، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ألا ولا زكاة له ، ألا ولا حجّ له ، ألا ولا صوم له ، ألا ولا برّ له ، حتّى يتوب» ، نقله المخالف (٢) والمؤالف (٣).

١٤ ـ مفتاح

[أحكام المسافر]

يشترط في وجوب التقصير في السفر أن يكون مسافة ، وستعرفها ، وأن

__________________

(١) بحار الأنوار : ٨٦ / ١٦٥ الحديث ٥.

(٢) إتحاف السادة المتّقين : ٣ / ٢١٤.

(٣) بحار الأنوار : ٨٦ / ١٦٦.

١٢٩

يكون المسافر قاصدا لها ، مستمرّا إلى انتهائها ، وأن لا يقطع سفره بنيّة إقامة عشرة أيّام ، أو بمضي ثلاثين يوما عليه متردّدا في محلّ واحد ، أو بالوصول إلى وطنه ، وأن لا يكون السفر عمله إلّا إذا جدّ به [السير] ، وشقّ له مشقّة شديدة ، كما في الصحيحين (١) (٢) ، خلافا للمشهور ، وأن يكون جائزا له ، وأن يتوارى عن جدران البلد ، أو يخفى عليه أذانه.

وقيل : كلاهما معا (٣) ، وقيل : الثاني فقط (٤) ، والخلاف فيه قليل الجدوى ، لأنّهما متقاربان.

ومع اجتماع هذه الشروط لا يجوز الإتمام ولا يجزي ، كما لا يجزي القصر مع فقدها ، إلّا إذا كان جاهلا بالحكم ، أو كان ناسيا وقد خرج الوقت ، أو كان في أحد المواطن الأربعة : مكّة ، والمدينة ، ومسجد الجامع بالكوفة ، وحائر الحسين عليه‌السلام ، فإنّ الإتمام في هذه المواضع أفضل.

وقيل : الجاهل يعيد في الوقت (٥) ، وقيل : الناسي يعيد مطلقا (٦).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٠ الحديث ١١٢٥١ و ١١٢٥٢.

(٢) والأصحاب حملوا الصحيحين على محامل بعيدة أقلّها بعدا حمل الشهيد رحمه‌الله في «الذكرى» وهو أنّ المراد به ما إذا أنشأ المكاري والجمّال سفرا غير صنعتهما ، قال : ويكون المراد بجدّ السير أن يكون مسيرهما متّصلا كالحجّ ، والأسفار التي لا يصدق عليها صنعته (ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٧).

ولا ريب أنّ إبقاء هما على ظاهرهما وتخصيص الأخبار الدالّة على إتمام كثير السفر بهما ، كما احتمله قويّا في «المدارك» أولى ، لعدم باعث على التأويل (مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٤). «منه رحمه‌الله».

(٣) الخلاف : ١ / ٥٧٢ المسألة ٣٢٤ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ١١ / ٤٠٥.

(٤) المراسم : ٧٥ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ١١ / ٤٠٥.

(٥) الكافي في الفقه : ١١٦.

(٦) المبسوط : ١ / ١٤٠ ، لاحظ! مدارك الأحكام : ٤ / ٤٧٤.

١٣٠

وهذه الأحكام سوى ما ذكر فيه الخلاف مجمع عليها ، والصحاح بها مستفيضة (١).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥١ الباب ١ ، ٤٥٦ الباب ٢ ، ٤٦٣ الباب ٣ ، ٤٦٨ الباب ٤ ، ٤٦٩ و ٤٧٠ الباب ٥ و ٦ ، ٤٩٨ الباب ١٥ ، ٥٠٥ الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر.

١٣١
١٣٢

قوله : (يشترط في وجوب التقصير). إلى آخره.

اعلم! أنّ الأصل في الصلاة الإتمام ، وإنّما تقصر للسفر أو الخوف ، وكلّ منهما مستقلّ في العلّية.

أمّا الأوّل ، فبالإجماع والأخبار ، وأمّا الثاني ؛ فهو المشهور بين الأصحاب ، وسيجي‌ء تحقيقه ، فالآية الشريفة مأوّلة ، كما سيجي‌ء.

وهذا السفر أعمّ من أن يكون بالأصالة أو بالتبع ـ كسفر الزوجة والمملوك اتّباعا للزوج والمولى ، وكذا الخادم والأجير والأسير والمأمور بأمر الجائر ـ للعمومات والإطلاقات.

وليس الثاني من الأفراد النادرة ، حتّى يقال : المطلق ينصرف إلى غير النادر.

وأيضا المدار في الأعصار والأمصار على ذلك ، وأنّ التابعين كان حالهم حال المتبوعين في القصر يسلكون سلوكهم فيه.

وأيضا مولانا وسيّدنا الرضا عليه‌السلام كان في سفره إلى خراسان يقصر ، كما يظهر من رواية رجاء بن أبي ضحّاك المرويّة في «العيون» (١) المشتملة على أحكام كثيرة كلّها على وفق الحقّ والصواب ، وكان عليه‌السلام مكرها في هذا السفر.

وأيضا العلّة التي ذكرها الرضا عليه‌السلام لأجل القصر جارية فيه شاملة له ، ذكر الفضل ابن شاذان في العلل التي سمعها منه عليه‌السلام ، ورواها الصدوق رحمه‌الله في «الفقيه» (٢) ، مع أنّه ذكر في أوّله ما ذكر.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٩٦ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٣٩ الحديث ١١٣٨٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٩٠ الحديث ١٣٢٠.

١٣٣

ورواها في «العيون» و «العلل» أيضا أنّه عليه‌السلام قال : «إنّ الصلاة إنّما قصرت في السفر ، لأنّ الصلاة المفروضة أوّلا إنّما هي عشر ركعات والسبع إنّما زيدت فيما بعد ، فخفّف الله عزوجل عن العبد تلك الزيادة لموضع سفره وتعبه ونصبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته ، لئلّا يشتغل عمّا لا بدّ له من معيشته رحمة من الله عزوجل وتعطّفا» (١) الحديث.

بل إذا كان السفر بعنوان الطوع والرغبة ، بل والاشتهاء والشوق يقصر فيه ، للعلّة المذكورة ، فالذي يكون بعنوان عدم الطوع والرغبة ، بل ويكون بالكره والنفرة يكون القصر فيه بالعلّة المذكورة بطريق أولى.

فإن قلت : التابع غير قاصد ، وسيجي‌ء أنّ قصد المسافة شرط.

قلت : هو قاصد بالضرورة ، كيف؟ وهو يمشي ويحرّك رجله إلى صوب المنزل ويطوي المسافة ، وإذا كان راكبا ، فهو يركب ويميل مركوبه إلى صوب المنزل ، ويحرّكه ويسوقه إلى أن يطوي المسافة ، ويصل المقصد وينزل فيه ، كالمتبوع ، غاية ما في الباب أنّ قصده بالتبع أو إلجاء أو اضطرار ، كالهارب من السبع والحيّة والعدوّ ، إذ لا شكّ في أنّه يقصد المشي ، وطيّ المسافة خوفا وإلجاء.

وبالجملة ، الفعل الصادر عن الفاعل المختار يكون بشعور ، وإذا كان بشعور فيكون بإرادة قطعا وإن كان كارها ، إلّا أن يصدر عنه بغير شعور ، كالنائم والمغمى عليه وأمثالهما.

وبالضرورة ليس فعل التابع من هذا القبيل ، بل يحرك رجله أو دابّته بشعور منه ، وإن كان تبعا أو خوفا أو كرها بل أكثر الأسفار يكون كرها ، فإنّ

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١١٩ الحديث ١ ، علل الشرائع ١ / ٢٦٦ الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٠ الحديث ١١٣٣٧ مع اختلاف يسير.

١٣٤

السفر قطعة من السقر ، فيسافر العبد خوفا من الله ، أو من سلطان ، أو من ضيق معاش ، أو غير ذلك.

نعم ، إن لم يعرف التابع قصد متبوعه للمسافة ، أو عرف أنّه قاصد لها ، إلّا أنّه لا يعرف ولا يظن أنّه يتبعه أم لا ، لا يكون حينئذ قاصدا للمسافة أصلا لا بالأصالة ولا بالتبع ، فيكون اللازم عليه الإتمام.

وأمّا إذا عرف أنّ المتبوع قاصد للمسافة ، وظهر من قوله أو غيره أنّه أيضا تابع له في المسافة ، سواء حصل له العلم بذلك أو الظنّ يقصر ، لأنّه أيضا قاصد لها بالتبع.

لا يقال : المتبادر من قصد المسافة ـ الذي هو شرط ـ أن يكون بالأصالة والطوع والرغبة.

لأنّا نقول : هذا الشرط ثبت من إجماع العلماء والأخبار ، والفقهاء صرّح بعضهم بأنّه أعمّ ، ويظهر ذلك من كلام غيره أيضا (١) ، ومدار المسلمين في الأعصار والأمصار قد عرفت ، وعرفت أيضا فعل الرضا عليه‌السلام وغير ذلك ، والخبر ستعرف أنّه أيضا ظاهر في العموم ، ولو لم يكن ظاهرا فيه لم يكن ظاهرا في اشتراط الخصوص ـ كما ستعرف ـ فيكون التابع داخلا في العمومات والإطلاقات الدالّة على وجوب القصر على حسب ما عرفت ، بل عرفت ما دلّ بعنوان الخصوص أيضا.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ القصر في السفر له شروط :

الأوّل : المسافة ، وهو إجماعي بين الشيعة ، ووافقهم العامّة إلّا النادر منهم (٢) ، والأخبار فيه متواترة ، وستعرف بعضها عند ذكر مقدارها.

__________________

(١) في (ز ١) و (ط) من كلامه أيضا.

(٢) شرح فتح القدير : ٢ / ٢٧ ، لاحظ! الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٤٧٣.

١٣٥

الثاني : أن يكون المسافر قاصدا لها ، فلو قصد دون المسافة ثمّ قصد دونها لم يقصر ولو قطع أضعاف المسافة ، وكذا لو خرج غير ناو للمسافة (١) وإن بلغ مسافات ، وهذا الشرط أيضا إجماعي.

ويدلّ عليه أنّ المسافة شرط ومعتبر قطعا ، كما عرفت ، واعتبارها إنّما يتحقّق بأحد أمرين : إمّا قصدها ابتداء ، وإمّا قطعها أجمع.

والثاني غير معتبر إجماعا ، ويدلّ على عدم اعتباره الأخبار أيضا ، حيث ورد فيها الأمر بالقصر والإفطار من ابتداء المسافة بعد بلوغ حدّ الترخّص إلى انتهائها (٢) ، وأنّه لا يجب لصحّة القصر والإفطار من الابتداء وما بعده تحقّق قطعها أجمع ، فإن بدا له في الأثناء تكون الصلاة المقصورة التي صلّاها صحيحة ، لا يجب إعادتها ولا قضاؤها ـ كما سيجي‌ء ـ وكذا الحال لو مات في الأثناء ، أو خرج عن التكليف ، فتعيّن الأوّل.

ويدلّ عليه أيضا الأخبار الآتية في الشرط الثالث ، وصحيحة صفوان أنّه سأل الرضا عليه‌السلام : عن الرجل خرج وليس يريد السفر ثمانية فراسخ ، وإنّما خرج يريد أن يلحق صاحبه حتّى بلغ النهروان؟ فقال : «لا يقصّر ولا يفطر ، لأنّه خرج عن منزله ، وليس يريد السفر ثمانية فراسخ ، وإنّما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق فتمادى به السير إلى الموضع الذي بلغه» (٣).

وهذا يدلّ على أنّه إذا لم يرد السفر ثمانية فراسخ يكون عليه التمام من جهة أنّه لم يرد السفر أصلا ـ لا أصالة ولا تبعا ـ هذا المقدار ، فمفهومه أنّه إذا أراده في

__________________

(١) في (ز ١) و (ط) : وكذا لو خرج قاصد غير المسافة.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٠ الباب ٦ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٥ الحديث ٦٦٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٧ الحديث ٨٠٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٨ الحديث ١١١٩٠ مع اختلاف يسير.

١٣٦

الجملة يكون عليه القصر.

مع أنّك عرفت أنّ الأصل في المسافر القصر مطلقا خرج من لم يقصد المسافة مطلقا ـ لا أصالة ولا تبعا ـ وبقي الباقي فيه.

الثالث : استمرار ذلك القصد إلى انتهاء المسافة ، فلو رجع عن قصده قبل بلوغها أتمّ من حين الرجوع.

وكذا لو تردّد عزمه في الذهاب والرجوع ، وهو أيضا رجوع ، وأمّا ما مضى من الصلاة التي صلّاها فسيجي‌ء حكمها.

ويدلّ على هذا الشرط صحيحة أبي ولّاد ، عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : إنّي خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة ، فسرت يومي ذلك اقصر الصلاة ثمّ بدا لي في الليل الرجوع إلى الكوفة فلم أدر اصلّي في رجوعي بتقصير أم بتمام؟ فقال : «إن كنت سرت في يومك بريدا لكان عليك حين رجعت أن تصلّي بالقصر ، لأنّك كنت مسافرا إلى أن تصير إلى منزلك ، وإن كنت لم تسر بريدا فإنّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صلّيتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام» (١).

وهذه الصحيحة وإن تضمّنت الأمر بقضاء الصلوات الواقعة قبل البداء الواقع قبل سير البريد ، مع أنّ هذا القضاء غير واجب على ما ستعرف ، فلا يكون هذا الأمر باقيا على حقيقته وظاهره ، إلّا أنّه غير مضرّ ، لأنّ بعض الخبر إن كان محمولا على خلاف الحقيقة والظاهر ، لا يصير منشأ للوهن في الباقي ، كما حقّق في محلّه.

ورواية سليمان بن حفص المروزي قال : قال الفقيه عليه‌السلام : «التقصير في الصلاة بريدان أو بريد ذاهبا وبريد جائيا ، والبريد ستّة أميال وهو فرسخان فالتقصير في

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٨ الحديث ٩٠٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٩ الحديث ١١١٩٣ ، مع اختلاف.

١٣٧

أربعة فراسخ ، فإذا خرج الرجل من منزله يريد اثنى عشر ميلا ، وذلك أربعة فراسخ ، ثمّ بلغ فرسخين ونيّته الرجوع أو فرسخين آخرين قصّر ، وإن رجع عمّا نوى عند ما بلغ فرسخين وأراد المقام فعليه التمام ، وإن كان قصر ثمّ رجع عن نيّته أعاد الصلاة» (١).

وضعف السند منجبر بموافقة المشهور ، مع أنّ سليمان رجل فاضل شيعي بحسب الظاهر ، كما حقّق في الرجال (٢) ، وباقي السند ثقات.

وأمّا تضمنها الأمر بإعادة الصلاة فكما عرفت ، وأمّا تضمّنها كون البريد ستّة أميال والبريد فرسخين ، فمحمول على فراسخ الخراسانيّة ، لأنّ فرسخها يقارب فرسخين ، وربّما يكون الآن فرسخ مرو كذلك ، أو كان في ذلك الزمان كذلك.

وما رواه الكليني في «الكافي» والصدوق في «العلل» بسندهما عن إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قوم خرجوا في سفر فلمّا انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصّروا ، فلما صاروا على فرسخين أو ثلاثة أو أربعة تخلّف عنهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم إلّا به فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم وهم لا يستقيم لهم السفر إلّا بمجيئه إليهم ، وأقاموا على ذلك أيّاما لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون؟ هل ينبغي أن يتمّوا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟

قال : «إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم أقاموا أم انصرفوا ، وإن كانوا ساروا أقلّ من أربعة فراسخ فليتمّوا الصلاة أقاموا أم انصرفوا

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٦ الحديث ٦٦٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٧ الحديث ٨٠٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٧ الحديث ١١١٦٠ مع اختلاف يسير.

(٢) تنقيح المقال : ٢ / ٥٦.

١٣٨

فإذا مضوا قصّروا» (١).

ثمّ لا يخفى أنّ المسافة ـ على ما ستعرف ، وهي ثمانية فراسخ ـ أعم من أن يكون ذهابا فقط أو أربعة ذهابا وأربعة إيابا ، والتي قلنا : إنّه يشترط قصدها ، ويشترط استمرار قصدها هي هذا الأعم ، فإن قصده يكفي ، ولا يشترط قصد الخصوص والتعيين ، وإن كان صحيحا.

ولا يضرّ تبدّل الأشخاص قصدا وفعلا في الأثناء ، كمن كان قصده الثمانية ذهابا ، فتبدّل بالأربعة ذهابا والأربعة إيابا في أيّ وقت تبدّل من ابتداء الأربعة الذهابيّة إلى انتهاءها ، وكذا لو كان الأمر بالعكس ، كما أنّه لا يضرّ تبدّل طريق بطريق آخر في الأثناء ، مع كون كلّ واحد منهما مسافة ، سواء كان هذا التبديل في الذهابيّة فقط كتبديل طريق مسافته ثمانية ذهابا بطريق آخر مثله ، أو طريق مسافته أربعة ذهابا وأربعة إيابا بطريق آخر مثله.

فما في هذه الأخبار من عدّ الأربعة مسافة محمول على ضمّ الأربعة الإيابيّة أو الذهابيّة الاخرى ، كما سيجي‌ء التحقيق في ذلك.

ثمّ اعلم! أنّ استمرار النيّة الذي هو شرط معناه أن لا يرجع عن نيّته ، كما قلنا ، لا أنّه لا بدّ أن يكون ناويا إلى آخر المسافة ، إذ لا يضرّ النوم في المسافة ، ولا عدم الخطور بالبال مع كون الذهن مشغولا بامور اخر ولا فارغ البال.

بل قال في «المدارك» : ولا يقدح عروض الجنون في الأثناء ، وكذا الإغماء (٢) وذلك لأنّ القدر الذي ثبت من الأخبار وكلام الأخيار هو أن يرجع عن قصده

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٣٣ الحديث ٥ ، علل الشرائع : ٢ / ٣٦٧ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٦ الحديث ١١١٨٥ و ١١١٨٦ مع اختلاف يسير.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٣٩ و ٤٤٠.

١٣٩

ـ على حسب ما ذكرنا وعرفت ـ لأنّ مقتضى العمومات القصر ، إلّا إذا رجع عن النيّة.

والظاهر من مفهوم العلّة المذكورة في الخبر أيضا ذلك ، فتأمّل جدّا!

قال في «المدارك» : ولو منع من السفر فكمنتظر الرفقة ، ولو كان قد صلّى قصرا قبل الرجوع أو التردّد ، فالأظهر أنّه لا يعيد مطلقا ، لأنّه صلّى صلاة مأمورا بها فكانت مجزية (١).

أقول : وجه الإجزاء أنّه قبل عروض الرجوع لا شكّ في كون القصر هو الفرض عليه ، فيكون بفعله ممتثلا لا محالة ، فيكون الامتثال مستصحبا حتّى يثبت خلافه ، ولم يثبت ، لأنّ المتبادر ممّا دلّ على وجوب التمام الصورة التي لم يقع الامتثال والخروج عن العهدة ، مضافا إلى أنّ الأصل براءة الذمّة.

ورواية المروزي من جهة عدم صحّة السند لا تفي لإثبات الوجوب ، والأخبار إنّما هو بالنسبة إلى القدر الذي وافق فتوى المشهور لا أزيد ، وفرق بين كون عمل الأصحاب بنفس الرواية ، أو كون الرواية موافقة لفتواهم ، فإنّ الأوّل يجبر ضعف سندها بخلاف الثاني ، كما حقّقت في «الفوائد» (٢).

وأمّا صحيحة أبي ولّاد ، فلم يظهر قائل بمضمونها ، لأنّ الشيخ يقول : بوجوب الإعادة مع بقاء الوقت لا القضاء (٣) ، مع أنّه رحمه‌الله في نهايته وافق المشهور (٤).

ومع ذلك يعارضها صحيحة زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : في الرجل يخرج مع

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٠.

(٢) الفوائد الحائريّة : ٤٨٧.

(٣) المبسوط : ١ / ١٤١.

(٤) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٣.

١٤٠