مصابيح الظلام - ج ١

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ١

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-1-9
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٤٦٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي هدانا لدين الإسلام ، وسنّ لنا الشرائع والأحكام بوسيلة نبيّه المختار ، وأهل بيته الأطهار ، عليه وعليهم الصلاة والسلام ، وحصّنها بحصون ذوات أبواب وحدود هي مسائل الحلال والحرام ، فأعطى مفاتيح تلك الأبواب والمسائل بأيدي أولئك الوسائل ، ثم من بعدهم بأيدي ورثتهم من العلماء المقتفين لآثارهم بالبصائر النافذة اولي الفضائل ، فهم للوسائل عليهم‌السلام نوّاب وللشرع بوّاب.

قال مولانا وإمامنا أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام : «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ؛ فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله عزوجل» (١).

فمن كان منّا من أهل الخير والبرّ ، وهم الذين يأتون البيوت من أبوابها ، فلا يدخل بابا من أبواب الشرع إلّا بعد المعرفة بمفتاحه وكيفيّة فتحه ، بأن

__________________

(١) الكافي : ١ / ٦٧ الحديث ١٠ ، وسائل الشيعة : ١ / ٣٤ الحديث ٥١ مع اختلاف يسير.

٣

يكون على بصيرة فيه ، كراوي حديثهم الناظر في الحلال والحرام العارف بالأحكام ، أو على استبصار كالمقلّد لذلك العالم ، فهو ممّن فاز بالدين.

ومن لا يعرف الهرّ من البرّ ، وهم الذين يأتون البيوت من ظهورها ، فيدخل فيه من غير معرفة ، بل على التخمين ، أو الاقتفاء لآراء الماضين مع اختلافهم الشديد ، واعتراف أكثرهم بعدم جواز تقليد الميّت ، وأن لا قول للميّتين ، وإن لم يأتوا في هذا بشي‌ء مبين ، فهو في ريب من أمره وعوج ، وفي صدره من ذلك حرج ، ألّا يقبل منه صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حجّ ، إذ العامل على غير بصيرة كالسائر على غير المنهج ، لا يزداده كثرة السير إلّا بعدا.

ثمّ إنّ صاحب هذه الأسطر ، وهو خادم العلوم الدينيّة محمّد بن المرتضى الملقب بـ «محسن» أحسن الله حاله ، يقول : إنّي كنت في عنفوان شبابي شديد الشوق إلى معرفة أحكام الدين ، والعلم بشرائع سيّد المرسلين عليه وآله أفضل صلوات المصلّين ، فكنت مع بضاعتي المزجاة أخوض في هذا الأمر تشبّها بالمتفقّهين ، إلى أن وفّقني الله سبحانه لاستنباط مفاتيح جملة من تلك الأبواب ، من مآخذها المتينة واصولها المحكمة ، وهي محكمات كلام الله عزوجل ، وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلام أهل البيت عليهم‌السلام ، من غير تقليد لغيرهم وإن كان من الفحول ، ولا اعتماد على ما يسمّى إجماعا وليس بالمصطلح عليه في الاصول الراجع إلى كلام المعصوم من آل الرسول ، ولا متابعة للشهرة من غير دليل ، ولا بناء على اصول مبتدعة ليس إليها من الشرع سبيل ، ولا جمود على الألفاظ بيد قصيرة ، ولا عمل بقياسات عامية من غير بصيرة ، بل بنور من الله

٤

سبحانه وهدى ورحمة ، وله الحمد على هذه النعمة.

فشرعت في تصنيف كتاب في ذلك مبسوط لم يسبق بمثله ، سمّيته «معتصم الشيعة في أحكام الشريعة» أودعت فيه امهات المسائل ، مع ذكر الأقوال فيها والدلائل في أحسن بيان وترتيب ، فلمّا فرغت من مهمّاته وأتممت منه مجلّدا اشتغلت بأمر آخر أهمّ ممّا بقي منه ، وهو تحصيل اصول الدين بالبصيرة واليقين ، فعاقني ذلك من إتمامه منذ سنين ، ثمّ رجعت إليه فرأيت أن أختصره وأبثّ تلك المفاتيح مع ما بقي منها أوّلا في وريقات قليلة وفصول وجيزة ، ليكون تذكرة لمن أبصر وتبصرة لمن استبصر ، ثمّ إن ساعدني التوفيق أتممت ذلك الكتاب على نهج يكون كالشرح لهذا المختصر.

وذلك لمّا رأيت من قصور الهمم من مطالعة ذلك ومدارسته ، وأنّ رغبة الطباع إلى المتون الوجيزة أكثر منها إلى المبسوطات ، فشرعت فيه مستعينا بالله ومتوكّلا عليه.

فجاء بحمد الله ـ مع وجازته وتجرّده عن الفروع المتشعّبة المتكثّرة ـ على وجه يمكن أن يعرف منه حكم أكثر المسائل السانحة يوما فيوما للمستنبطين ، لاشتماله كالكتاب الكبير ـ ولو بالإشارة ـ على أكثر الدلائل لأصول المسائل ، على ما وصلت إليّ ، وكيفيّة الاستنباط كما ظهرت لديّ ، مع نقل الإجماع فيما ادّعي فيه ، بمعنى عدم اطّلاع مدّعيه في عصره على الخلاف من أحد من علماء الدين أو المذهب ، كما هو الظاهر من تلك الدعاوي ، وللتناقض في كلامهم لو لا ذلك ، ولم اسند النقل إلى صاحبه لعدم الفائدة فيه ، ولا ذكرت بعنوان النقل لعدم الاشتباه ، ولم أعتمد منه إلّا على ما علم دخول المعصوم عليه‌السلام فيه ؛ المرادف

٥

لضروري الدين أو المذهب ، لعدم حجّية غيره.

وأشرت في كلّ حكم إلى الحديث ) الوارد فيه حسبما رأيته ووجدته ، أو ذكره من يوثق به وإلى صحّته وحسنه وتوثيقه ) كذلك غالبا ؛ معبّرا عنه بالصحيح أو الحسن أو الموثّق مفردا أو مثنّى أو مجموعا.

وإن كان مع التعدّد مختلفة بالصفات الثلاث عبّرت عنها بالمعتبرة ، أو غلّبت الأشرف في الأكثر.

وما زاد رواته على ثلاثة قيّدته بالمستفيضة ، وما كان في سنده ضعف أو جهالة أو إرسال عبّرت عنه بالخبر أو الأخبار مجرّدا عن صفة ، وذلك في الآداب والسنن غير مضرّ ، كما تقرّر في محلّه ، وما لا يخلو منه من اعتبار ما ـ لشهرته ومقبوليّته أو تأيّده ببعض الظواهر ، أو اشتماله مع التعدّد على معتبر أو غير ذلك ـ عبّرت عنه بالقوي ، وعمّا يشمله والمعتبرة من دون إرادة الخصوص بالنص بلفظ الجنس أو النصوص إن كان ناصّا وإلّا فبالرواية أو بظاهر الرواية.

وما كان منها في ذكر متنه مزيد فائدة كالتنبيه على موضع الدلالة منه ،

__________________

(١) قد استقرّ اصطلاح المتأخّرين من علمائنا ـ شكر الله سعيهم ـ على تقسيم الحديث إلى أربعة أقسام : فرجال السند إن كانوا إماميين ممدوحين بالتوثيق يسمّى الحديث صحيحا ، وإن كانوا إماميين ممدوحين بدون التوثيق كلّا أو بعضا مع توثيق الباقي يسمّى حسنا ، وإن لم يكونوا إماميين كلّا أو بعضا مع توثيق الكلّ يسمّى موثّقا ، وما سوى ذلك يسمّى ضعيفا ، ومنهم من يسمّى سوى الأوّلين ضعيفا «منه رحمه‌الله».

(٢) أكثر ذلك ممّا اعتمدت فيه على نقل الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في شرحه على «الشرائع» في غير العبادات ، وفيها على نقل صاحب «المدارك» ، وكذلك في نقل الأقوال ، فإن وجدهما واحد على خلاف ما هما به ، فليس ذلك إليّ ولا ضمانه عليّ «منه رحمه‌الله».

٦

أو على صراحته في المطلوب حيث يكون حجّة على المشهور ، أو محطّا للخلاف ، أو على أنّ ما لم يذكر من قبيل ما ذكر ، أو نحو ذلك ، ذكرته بلفظه مقتصرا على قدر الحاجة منه ، من غير ذكر الراوي ولا المروي عنه ، لقلّة الفائدة في معرفة خصوصهما بعد العلم بحال الأوّل وعصمة الثاني ، فإنّ حديث أئمّتنا عليهم‌السلام جميعا واحد ، وحديثهم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام (١).

ورمزت إلى أصحابنا المجتهدين ـ رحمهم‌الله تعالى ـ بألقاب لهم وجيزة اختصارا وتعظيما ، كـ «الصدوق» لأبي جعفر محمّد بن علي بن بابويه القمّي ، و «الصدوقين» له مع والده ، و «المفيد» لأبي جعفر محمّد بن محمّد بن النعمان ، و «الشيخ» لتلميذه أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ، و «الشيخين» لهما معا ، و «الحلبي» لتلميذ التلميذ أبي الصلاح تقي بن نجم ، و «الديلمي» لتلميذه الآخر سلّار بن عبد العزيز ، و «السيّد» للمرتضى علم الهدى ، و «الإسكافي» لأبي علي محمّد بن أحمد بن الجنيد الكاتب ، و «العماني» لأبي محمّد الحسن بن أبي عقيل ، و «القديمين» لهما معا ، و «القاضي» لعبد العزيز بن البرّاج ، و «المحقّق» لنجم الدين أبي القاسم جعفر بن سعيد ، و «العلّامة» لجمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر ، و «الحلّي» لمحمّد بن إدريس ، و «الشهيد» لشمس الدين محمّد بن مكّي ، و «الشهيد الثاني» لزين الدين بن

__________________

(١) روى ذلك هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما قالوا : سمعنا أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله ، وحديث رسول الله قول الله عزوجل» (الكافي : ١ / ٥٣ الحديث ١٤) «منه رحمه‌الله».

٧

علي بن أحمد بن محمّد العاملي ، إلى غير ذلك.

وسمّيته (مفاتيح الشرائع) ورتّبته كترتيب الكتاب الكبير على اثني عشر كتابا وخاتمتين في فنّين ؛ فنّ العبادات والسياسات ، وفنّ العادات والمعاملات ، في كلّ منهما ستّة كتب وخاتمة ؛ في كلّ كتاب مقدّمة وأبواب.

نفع الله به الطالبين ، وجعله لي ذخرا ليوم الدين ، وأجرى الحقّ على لسانه آمين. (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي) (١) ، إنّك خير مستعان ، وعليك التكلان.

__________________

(١) طه (٢٠) : ٢٥ ـ ٢٨.

٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه ثقتي وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، حمدا كثيرا كما هو أهله ويستحقّه ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين أوليائه وحججه ، نشكره على ما هدى ، وعلى حفظه إيّانا عن الهلكة والردى.

ونسأله أن يكون ذلك على ما يحبّ ويهدي ، ويقهرنا على دينه القويم ، وصراطه المستقيم ، بفضله العظيم ، ولطفه العميم ، إنّه حليم كريم ، رءوف رحيم.

أمّا بعد قول المصنّف رحمه‌الله : (فمن كان). إلى آخره.

اعلم! أنّ الأحكام الشرعيّة بأسرها توقيفيّة ، موقوفة على الثبوت من الشرع بالبديهة ، سواء كانت في العبادات أو المعاملات.

وأمّا موضوعاتها ـ وهي عبارة عن أفعال المكلّفين وما يتعلّق بها ، وبعبارة اخرى : مجموع معاني ألفاظ الآيات والأخبار الواردة في بيان الأحكام غير نفس الأحكام ـ فليست بتوقيفيّة ، بل يجوز الرجوع فيها إلى غير الشرع من العرف واللغة والعقل ، وقول أهل الهيئة والأطبّاء وأهل الخبرة وأمثال ذلك ، وبيّنا وجه الجواز في «الفوائد» (١).

__________________

(١) الفوائد الحائرية : ٩٦ ـ ١٠٠ و ١٠٥ ـ ١١١.

٩

نعم ؛ إذا كان الموضوع من العبادات ـ أعني ما لا تصحّ شرعا إلّا بالنيّة ـ فهي أيضا توقيفيّة ، موقوفة على الثبوت من الشرع بالبديهة ، إذ هي هيئة مستحدثة من الشرع ، فكيف يمكن معرفتها من غير الشرع؟

وجميع ما ذكر مسلّم عند الأخباريّين والمجتهدين لبداهة وضوح أدلّته.

ثمّ اعلم! أيضا أنّ الحكم الشرعي لا يجوز المسامحة فيه ، ولا يبتنى على الظنّ ، بل لا بدّ من العلم واليقين بالآيات والأخبار والإجماع والعقل ، لأنّ الحكم الشرعي حقّ من الشارع ، وظننا ظنّ وممّن يجوز عليه الخطأ ، وكون الثاني هو عين الأوّل ، وأنّه هو هو بعينه ، بديهي الفساد ، سيّما على رأي الشيعة من كون حكم الله تعالى واحدا (١) ، على ما نطقت به أخبارهم ، وورد عن الأئمّة عليهم‌السلام التشنيع على من قال بتعدّده (٢) ، بحيث لم يخف على علماء أهل السنّة ، فضلا عن الشيعة ، وورد عنهم ـ صلوات الله عليهم ـ أنّه كما كان الله واحدا والرسول واحدا كذلك الشرع والدين ، بل أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته ـ التي يحصل القطع بأنّها منه ، لأنّها فوق كلام المخلوق عند المخالف والمؤالف ـ بالغ في التشنيع عليه (٣).

وبالجملة ؛ كون الظنّ عين الحقّ واليقين بديهي الفساد ، فضلا عن أن يكون من يجوز عليه الخطأ عين من لم يجز عليه ، ومن يكون متشرعا عين الشارع.

فلا بدّ في مقام الحكم شرعا من حصول نفس الحكم الشرعي إن أمكن ، وإلّا فما يقوم مقامه عند الشارع وما هو محسوب لديه مكانه ، وإن وقع الخطأ.

ولا بدّ من ثبوت ذلك أيضا من الشرع بلا شبهة ، ووجهه ظاهر من تلك

__________________

(١) معالم الدين في الاصول : ٢٤١ و ٢٤٢.

(٢) لاحظ! بحار الأنوار : ٢ / ١٦٨ الباب ٢٢ ، ١٧٩ الباب ٢٣.

(٣) نهج البلاغة : ١٠٨ و ١٠٩ ، بحار الأنوار : ٢ / ٢٨٤ الحديث ١.

١٠

الأدلّة.

والثبوت إن كان من ظنّي فيرجع المحذور ، وهو أنّ ظنّ من يجوز عليه الخطأ ليس نفس الحكم الشرعي بالبديهة ، وكونه قائما مقامه محسوبا مكانه يتوقّف على الثبوت من الشرع قبل ، فيدور أو يتسلسل أو ينتهي إلى العلم واليقين ، وهذا واضح ، ولوضوحه اختار الأخباريّون طريقتهم ، وتحاشوا عن الاجتهاد وحرّموه ، وحرّموا العمل بالظنّ والتقليد في نفس الأحكام ، لكونه مثل الاجتهاد ظنّيا ، ولورود مذمّتهما ، ومنعوا الحاجة إلى شرائط الاجتهاد ، لكونها فرعه ، بل قالوا : يكون الكلّ بدعة و [من] قواعد العامّة.

ومن هذا نسبوا القديمين (١) والمفيد ومن بعدهم إلى ما نسبوا ، وادّعوا علميّة الأحاديث الواردة في الكتب المعتبرة على اختلاف آرائهم في الاعتبار (٢) ، لأنّ بعض تلك الكتب معتبر عند بعضهم دون بعضهم.

وما اختاره الأخباريّون حقّ لا محيص عنه ، بشرطين :

أحدهما : كون مرادهم من العلم معناه المعروف ، وهو الاعتقاد الثابت الجازم المطابق للواقع ، إذ لو كان مرادهم ما يجتمع مع تجويز النقيض ـ على ما ادّعاه بعض متأخّريهم (٣) ـ ليرجع المحذور المذكور جزما ، إذ ما يجوز معه النقيض ليس عين الحكم الشرعي ، لأنّه حقّ ومن الشارع ، وهذا يجوز عليه الخطأ ، وممّن يجوز عليه الخطأ ، وكون أحدهما عين الآخر فيه ما فيه ، وكونه قائما مقامه ومحسوبا مكانه بدليل يجوز خطأه يدور أو يتسلسل ، فلا بدّ من الانتهاء إلى ما لا يجوز خطأه ولا

__________________

(١) هما : ابن الجنيد وابن أبي عقيل.

(٢) الفوائد المدنية : ٥٦.

(٣) الدرر النجفيّة : ٦٣.

١١

يجوز نقيضه أصلا ورأسا ، وهذا هو الواضح المذكور.

فلا محيص بالبديهة عن العلم المذكور ، أي ما كان بالمعنى المعروف ، مع أنّه معناه لغة وعرفا ، ولذا لا يجوز أن نقول : اليهودي علم أنّ رسولنا ليس بحقّ ، وأنّ المشرك علم أنّ الله تعالى متعدّد ، وأنّ المخالف علم كذا وكذا ، بل هو كفر ، لتضمّنه الاعتراف بمطابقة اعتقاده الكفر للواقع ، وعرفت أنّ ألفاظ الأحاديث يرجع فيها إلى العرف واللغة وغيرهما ، بتصريح الأخباريّين أيضا.

مع أنّ الظاهر من كثير من النصوص المنع عن العمل بغير الحقّ ، وغير اليقين ، وما يجوز خلافه (١) ، فلاحظ.

وثاني الشرطين : أن يكون العلم المذكور يحصل من أحاديث الكتب المعتبرة ، مع أنّ تلك الأحاديث رواها غير معصوم ، عن غير معصوم آخر ، عن غير معصوم آخر ، وهكذا إلى أن ينتهي آخرهم إلى المعصوم عليه‌السلام.

وحصول العلم المذكور من رواية غير معصوم ليس بديهيّا بالبديهة ، وغير البديهي يحتاج ثبوته إلى دليل يورث العلم المذكور لا ما يجوز نقيضه ، لما عرفت.

وعدم العصمة مانع عن حصوله ، لأنّ غير المعصوم الواحد يجوز عليه الخطأ ، وليس الغفلة والاشتباه محالين بالنسبة إليه ، وإن سلّمنا أنّه ما كان يكذب عمدا.

مع أنّه ورد في الأخبار المتواترة عنهم ـ صلوات الله عليهم ـ : «قد كثر [ت] عليّ الكذابة» (٢) ، وأنّه لا يخلو إمام من أئمّتنا عليهم‌السلام من كذّاب يكذب عليه (٣) ، وأنّ

__________________

(١) انظر! الكافي : ١ / ٤٢ باب النهي عن القول بغير علم ، و ٤٣ باب من عمل بغير علم.

(٢) الكافي : ١ / ٦٢ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / ٢٠٦ الحديث ٣٣٦١٤.

(٣) رجال الكشي : ٢ / ٥٩٣ الرقم ٥٤٩.

١٢

المغيرة بن سعيد وأبا الخطاب دسّا في كتب أصحابهم عليهم‌السلام أحاديث لم يكن حدّثوا بها (١) ، وأمثال هذه العبارات.

فإذا كان الحال بالنسبة إلى غير معصوم واحد هكذا ، فما ظنّك بجماعة منهم ، أخذ واحد منهم عن الآخر.

مع أنّ المحمّدين الثلاث رحمهم‌الله (٢) لا شبهة في جلالتهم (٣) وعدالتهم وتقديسهم وتفقّههم ومهارتهم ، ومع ذلك صدر عنهم اشتباهات كثيرة وغفلات عديدة ، فما ظنّك بغيرهم؟

مع أنّ كلّ واحد من المحمّدين الثلاث رحمهم‌الله ما كان يحصل له العلم من رواية رواها الآخر منهم بواسطة أنّه روى ، بل كان اعتماده على انتخاب نفسه ، وكثيرا ما كان يردّ رواية الآخر ، كلّ ذلك نراه بالمشاهدة.

وكذا الحال بالنسبة إلى سائر فقهائنا القدماء والمتأخّرين ، فإنّهم ما كان يحصل لهم العلم برواية واحد من المحمّدين الثلاث بل الكلّ ، مع نهاية خبرتهم بالأخبار ، ومهارتهم فيها ، وقرب عهدهم بها ، فما ظنّك بأحوالنا؟

وأيضا الشيخ رحمه‌الله صرّح في «العدّة» (٤) وغيرها (٥) : بأنّ أحاديثه أكثرها ظنيّة ، وأنّ مدار فقهاء الشيعة من زمان الصادقين عليهما‌السلام على أخبار الآحاد الظنيّة ،

__________________

(١) رجال الكشّي : ٢ / ٤٨٩ ـ ٤٩١ الرقم ٣٩٩ ـ ٤٠٣ ، بحار الأنوار ٢ / ٢٤٩ ـ ٢٥١ الحديث ٦٢ و ٦٣.

(٢) وهم الكليني والصدوق والطوسي رحمهم‌الله.

(٣) في (د ٢) : صلاحهم.

(٤) عدّة الاصول : ١ / ١٢٥ و ١٢٦ و ١٣٦.

(٥) انظر! مقدّمة كتابيه .. (التهذيب والاستبصار) لا سيّما بعد ملاحظة كلام الاستاد الوحيد البهبهاني رحمه‌الله في رسالته : (الاجتهاد والأخبار) بعد نقل كلام الكليني رحمه‌الله وقول الشيخ رحمه‌الله ، لاحظ! الرسائل الاصوليّة : ١٤٢ ـ ١٨٠.

١٣

بل المدار من زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الآن على ذلك.

ويظهر من كلام الصدوق رحمه‌الله ـ غاية الظهور ـ عمله بالحديث الظنّي.

وكذا الحال بالنسبة إلى سائر فقهائنا القدماء والمحدّثين منهم.

وبالجملة ؛ كتبت في رسالتي في الاجتهاد (١) موانع كثيرة لا تحصى ، كلّ واحد منها يمنع حصول العلم المذكور ، فما ظنّك باجتماع الكلّ؟ هذا كلّه بالنسبة إلى خصوص سند تلك الأحاديث.

وأمّا متونها فلا يحصل العلم المذكور بكونها عين كلام الشارع (٢) ، لأنّ الشيعة مجمعون على جواز النقل بالمعنى في الرواية.

فلعلّ المتن من أحد الرواة ، بل كلّ راو يحتمل أن يكون نقل كلام من روى عنه بالمعنى.

وكون روايتهم بالمعنى يؤدّي عين مراد المعصوم عليه‌السلام بعنوان العلم المذكور من أين هذا؟

بل المتتبّع في الأخبار يحصل له العلم بأنّ الخبر الواحد كان ينقل بمتون متعدّدة ، وكان يتفاوت المعنى.

مع أنّا رأينا كثيرا ما وقع في أخبارنا تقديم وتأخير وسقط واشتباه وتحريف وتصحيف .. إلى غير ذلك.

فجاز أن يكون في غير ما عثرنا عليه أيضا ، وقع ما وقع فيما عثرنا عليه ، وحصول العلم المذكور بعدم الوقوع من أين؟

وأثبتنا في الرسالة (٣) موانع شتّى بحسب المتن أيضا ، أشرنا هنا إليها في الجملة.

__________________

(١) الرسائل الاصوليّة : ١٦.

(٢) في (د ٢) : المعصوم.

(٣) الرسائل الاصوليّة : ١٦.

١٤

وأمّا الموانع بحسب الدلالة فلا تحصى أيضا كثرة ، أثبتناها في الرسالة (١) ، وأشرنا إلى جميع ذلك في «الفوائد» (٢).

ونقول هنا : الدلالة إمّا بالقرينة أو بغيرها ، والقرينة في الغالب امور ظنّية لا يحصل منها أزيد من الظنّ ، مع أنّ حصول العلم المذكور منها فيه ما فيه.

مع أنّه يجوز أن يكون نفس القرينة حدثت من الحوادث ، مثل تقطيع الأحاديث ، إذ أحاديثنا كلّها مقطّعة من الاصول ، أو من توهّم الراوي ، أو النسّاخ ، أو من تغيّر المجلس وأمثال ذلك ، وحصول العلم المذكور بعدم الحدوث من أين؟

وأمّا الدلالة من غير القرينة فلا شكّ في أنّه من وضع الواضع ، أو من وقوع الاصطلاح ، ولا شكّ في أنّ كثيرا من الألفاظ ، لا يحصل العلم المذكور بالوضع والاصطلاح ، ولا شكّ في أنّ المعتبر هو اصطلاح التخاطب ؛ وهو اصطلاح المعصوم عليه‌السلام مع الراوي ، كما حقّق في «الفوائد» (٣).

وكثير من الألفاظ اصطلاحنا معلوم إلّا أنّه لا نعرف أنّه اصطلاح الشارع ، مثل الألفاظ التي في اصطلاح المتشرّعة معناها الحقيقي معلوم ، ولا ندري أنّ الشارع اصطلاحه كان اصطلاح المتشرّعة أم اصطلاح أهل اللغة فيها.

وكثير من الألفاظ عكس ذلك ، بأنّ اتّحاد الاصطلاح معلوم ، لكن لا نعرف الاصطلاح والدلالة ، مثل : مفاهيم الألفاظ وأدوات العموم وأمثال ذلك.

وكثير من الألفاظ لا نعرف الأمرين جميعا ، مثل : صيغة الأمر والنهي ومادّتهما ، وكذا المشتقّات. وأمثال ذلك.

__________________

(١) الرسائل الاصوليّة : ١٦.

(٢) الفوائد الحائريّة : ١١٧ الفائدة ٦.

(٣) الفوائد الحائريّة : ١٠٥ الفائدة ٤.

١٥

فلا بدّ من ثبوت الوضع والاصطلاح ، ثمّ ثبوت اتّحاد الاصطلاح ، لوقوع الشكّ في الأمرين جميعا لكثرة الاستعمال في معان كثيرة ، ووقوع النزاع من العلماء ، ووقوع النزاع في اتّحاد الاصطلاح أيضا.

هذا ؛ مع أنّ المدار في الألفاظ على قول اللغوي والنحوي والصرفي وأمثالها ، مع أنّ إيمانهم لم يثبت بعد ، فضلا عن عصمتهم ، بل ثبت عدم إيمان أكثرهم ، بل ونصبهم وعنادهم.

وكذا الحال في أصل العدم وأمثاله ممّا لا محيص عن اعتباره لإثبات اصطلاح الشارع وغيره ، ومسلّم عند الأخباريّين ذلك.

وأمّا الألفاظ التي لا شبهة في اتّحاد اصطلاحنا مع اصطلاح المعصوم عليه‌السلام ، كما أنّه لا شبهة لنا في المعنى الحقيقي ، باصطلاحنا ، مثل لفظ القيام والقعود وأمثاله ، فالتأمّل في أنّه هل كانت في كلامهم خالية عن القرائن المانعة عنه (١) أم لا؟ والعلم المذكور لا يحصل لنا بالخلوّ عن القرائن الحاليّة والمقالية جميعا.

كيف وغالب أخبارنا يظهر معناه من ملاحظة خبر آخر أو دليل آخر؟ فيحتمل أن يكون غيره أيضا كذلك ، وأنّ الغالب كانت له قرائن اخرى غير ما اطّلعنا عليه.

وبالجملة ؛ ما ذكرنا وأمثال ما ذكرنا يمنع حصول العلم المذكور بالمراد ، كما أثبتناه في الرسالة (٢).

مع أنّ الأحاديث قلّما تخلو عن التعارض بينها أو بينها وبين غيرها من الأدلّة ، ولا يحصل العلم المذكور بعلاج التعارض من وجوه شتّى ، ذكرناها في

__________________

(١) لم ترد في (ز ٢) : (عنه).

(٢) الرسائل الاصوليّة : ١٦.

١٦

الرسالة (١) ، مثل : أنّ الأخبار الواردة في العلاج في غاية الاختلاف كمّا وكيفا وترتيبا ، بحيث لا يتأتّى الجمع أو الترجيح بوجه قطعي.

وكذا لا يتأتّى معرفة الأعدل ، والأفقه ، والمشهور (٢) بين أصحاب الراوي والتقيّة في زمانهم. إلى غير ذلك ممّا لم يعرفه الكليني رحمه‌الله ، فما ظنّك بنا؟

فمع هذه الموانع الكثيرة بحسب السند ، والمتن ، والدلالة ، وعلاج التعارض ، كيف يمكن دعوى العلم المذكور؟

على أنّه على تقدير فقدان الموانع المذكورة بأسرها ، فحصول العلم المذكور من خبر من يجوز عليه الخطأ ليس بديهيّا بالبديهة ، ولا يدلّ عليه دليل يورث العلم المذكور بالوجدان والمشاهدة ، لأنّ ذلك العلم حصوله من خبر الواحد بضميمة قرينة يقينيّة عقليّة ، وأين هي؟

إذ ليست في نفس الخبر ، ولا في الخارج أيضا بالمشاهدة ، ولو كانت قرينة ظنّية فالظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا (٣) وكذلك (٤) القرينة العلميّة التي يجوز معها النقيض ، كما عرفت.

فإذا كان حال هذه الأخبار ـ مع قطع النظر عن الموانع المشار إليها ، كما ذكر ـ فما ظنّك بحالها مع وجود تلك الموانع التي لا تحصى والاختلالات المحسوسات المشاهدات كما أشرنا في الرسالة (٥) وفي «الفوائد» إليها ، وإلى العلاج (٦).

وما أشرنا إليه هاهنا إنّما هو إشارة إلى نادر منها بالإشارة الإجماليّة ، لأنّ

__________________

(١) الرسائل الاصوليّة : ١٦.

(٢) في (د ١) و (ز ٢) و (ط) : المشتهر.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً*) يونس (١٠) : ٣٦.

(٤) في (ز ٢) : وكذا.

(٥) الرسائل الاصوليّة : ١٦.

(٦) الفوائد الحائريّة : ١١٧ الفائدة ٦ ، ٢٠٧ الفائدة ٢٠.

١٧

العاقل تكفيه الإشارة.

فالمجتهدون ـ رضوان الله عليهم ـ لمّا اطّلعوا بعنوان التفصيل على ما أشرنا إليه وما لم نشر ، وعاينوها وشاهدوها بحيث لم تخف عليهم ، وعلموا ـ أيضا ـ أنّ الأحكام الشرعيّة لا بدّ أن تكون يقينية كما عرفت ، اعتبروا لمعرفة الأحكام كلّ ما له دخل ومدخليّة في فهمها ، والوثوق به ممّا علموا أنّ له مدخليّة ، أو ظنّوا ، أو احتمل عندهم المدخليّة ، بحيث لو لم يراعوه لعلّه يتحقّق خلل.

وجعلوا تلك الامور شرائط الاجتهاد ، وبذلوا جهدهم في معرفة الحكم الشرعي على سبيل اليقين إن حصل ، وإلّا فما هو أحرى إلى أن يحصل لهم اليقين بجواز عملهم به وكونه محسوبا عندهم مكان الحكم الشرعي على سبيل اليقين ، وما جوّزوا غير ذلك ، لما عرفت من الدليل.

ولذا لم يجوّزوا لغير المجتهد العمل بفهمه والبناء على ظنّه ، وفي الحديث : أنّ من لم يعلم الحكم ومع ذلك يحكم ، فإنّه من أهل النار ، وإن كان حكمه حقّا (١) ، وسيجي‌ء أيضا في مبحث القضاء والفتوى ما سيجي‌ء.

وبعد الشروع في الاجتهاد إلى أن يصل إلى أحد اليقينين المذكورين ـ اليقين بالصدور إن أمكن ، وإلّا اليقين بالعمل لا أقلّ من ذلك ـ يظهر اختلالات لا تحصى ، كلّ واحد منها مانع عن حصول اليقين جزما ، وإن كان يقين العمل.

فلا بدّ من سدّ تلك الاختلالات وعلاجها بالوجه المقبول (٢) شرعا ، كما أشرت إلى الاختلالات وإلى العلاج في «الفوائد» (٣).

__________________

(١) الكافي : ٧ / ٤٠٧ الحديث ١ ، من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٣ الحديث ٦ ، تهذيب الأحكام : ٦ / ٢١٨ الحديث ٥١٣ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / ٢٢ الحديث ٣٣١٠٥ نقل بالمعنى.

(٢) في (د ١) و (ز ٢) و (ط) : المنقول.

(٣) الفوائد الحائريّة : ٢٠٧ ـ ٢٣٢ الفائدة ٢٠ ـ ٢٢.

١٨

فيا أخي! عذر الأخباريّين ما عرفت ووجه اختيارهم طريقتهم ، وعذر المجتهدين ووجه اختيارهم طريقتهم أيضا قد عرفت ، فعليك بإمعان النظر ، واختيار ما هو عندك أظهر ، وعذر المجتهدين في التقليد ظهر أيضا ، مضافا إلى ما ستعرف في تقليد الميّت ، مضافا إلى آية (فَلَوْ لا نَفَرَ) (١) الآية ، لأنّها في التقليد ، كما لا يخفى على المتأمّل ، وكذا الأخبار (٢) الدالّة على صحّته ، بل وجوبه أيضا.

قوله : (وإن لم يأتوا). إلى آخره.

أقول : إن كان له دليل على جواز تقليده ، كان المناسب أن يقول : مع الدليل الشرعي على جوازه قالوا بعدم الجواز وخالفوه ، كما هو طريقته.

وإن لم يكن له دليل شرعي ـ كما هو ، ظاهر بل لا شكّ فيه ـ فعدم الدليل يكفي ، بل أيّ دليل أظهر منه وأبين؟ لأنّ الحكم الشرعي توقيفي بالضرورة ، لأنّه حكم من الشارع وحقّ ، وفتوى الميّت ظنّ وممّن يجوز عليه الخطأ كما عرفت.

وكون أحدهما عين الآخر فاسد قطعا ، وإن لم يسلّم القطع مع بداهته ، نقول : غير مقطوع أنّه هو بعينه بالبديهة ، وكونه محسوبا مكانه يتوقّف على الثبوت بالبديهة ، والثبوت يكون من الدليل بالبديهة.

هذا ؛ مضافا إلى ما ثبت بالتواتر من عدم جواز التقليد والاكتفاء بالمظنّة وعدم اليقين وغيره ممّا عرفت ، خرج ما خرج بالدليل اليقيني ، وبقي الباقي.

والعقل أيضا يمنع عن ارتكاب ثمرات الفتاوى من قبل الشرع من غير أن يظهر من الشرع الرضا به ، ثبت حجيّة ظنّ المجتهد الحيّ لنفسه ولمن اعتمد على اجتهاده فقلّده ، لا لغيرهما من مجتهد أو عامي لم يقلّده ، بل يحرم عليهما العمل به.

__________________

(١) التوبة (٩) : ١٢٢.

(٢) راجع! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٣٦ الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.

١٩

وأيضا حجيّته دائرة مع بقائه ، فلو شكّ حرم عليه وعلى مقلّده أيضا ، وكذا لو ظنّ خلافه.

هذا ؛ مع أنّ الأصل عدم حجيّة ظنّ كلّ شخص ، لا أنّ الأصل حجيّة ظنّ كلّ شخص في الحكم الشرعي.

فإن قلت : لعلّ مراده خلاف ظاهر عبارته ، وهو أنّ ما دلّ على جواز التقليد يشمل قوله أيضا ، فلم فرّقوا؟

قلت : فيه ـ مع ما عرفت ـ أنّ مستند المقلّد في تقليده ليس نفس التقليد لأنّه دور محال ، وهو يعلم بالبديهة أنّ حكم الشارع حقّ ومن الشارع ، وأنّ فتوى الفقيه ؛ فتوى من يجوز عليه الخطأ ، ويرى أنّ الفقهاء في غاية الاختلاف في أكثر الأحكام ـ كما اعترف المصنّف ـ فكون فتوى واحد منهم محسوبا مكان حكم الشارع لا بدّ من ثبوته من دليل آخر ، وهو : أنّه يرى أنّ مدار غير الفقيه من المسلمين ـ في الأعصار والأمصار ـ على الرجوع إلى الفقيه ، وحصل له بالتظافر والتسامع ما حصل له بالنسبة إلى ضروريّات الدين ، مثل نجاسة روث غير مأكول اللحم ، وانفعال الماء المضاف ، وغير ذلك ، وهذا المعنى كيف يحصل له في تقليد الميّت ، مع أنّه سمع من العلماء أنّ الشيعة لا يجوّزونه ، بل نقلوا عنهم أنّ تحريمه من ضروريّات دينهم ، وأنّ العامّة يجوّزون ذلك من جهة قولهم بالقياس ، يقيسون الميّت بالحيّ لظنّ (١) عدم التفاوت ، واستبعاد الفرق مع اشتراكهم في العلّة المستنبطة ، وهي كون فتواهم حقّا بحسب الظنّ.

وبالجملة ؛ من يطّلع على فتوى ميّت ويفهمه يسمع ـ البتّة ـ ما نسب إلى الشيعة ، لأنّه اشتهر اشتهار الشمس.

__________________

(١) في (ط) و (ز ٢) و (د ١) : بظنّ.

٢٠