تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

العلم به من غير تلك الجهة من الطرق العلميّة الغير النقليّة ، ومرجعه إلى دعوى مدخليّة تبليغ المعصوم من نبيّ أو وصيّ في وجوب الإطاعة والامتثال.

ويزيّفه : أنّ دعوى هذا التخصيص إمّا من جهة العقل أو من جهة النقل ، والأوّل باطل لاستقلال العقل بخلافه حسبما عرفت وكذلك الثاني ، إذ ليس في النقل ما يوهم ذلك إلاّ الأخبار المذكورة وقد عرفت حالها من حيث إنّها غير دالّة على مدخليّة تبليغ المعصوم في وجوب الإطاعة والامتثال ، فإنّ هذه المدخليّة إمّا لأجل دخل تبليغ المعصوم في نفس الحكم على وجه الموضوعيّة فما لم يبلّغه المعصوم ليس بحكم الله تعالى الّذي يجب طاعته ، أو لدخله في طريق إدراكه ، فكلّ حكم لم يدرك من طريق السماع عن المعصوم ولو بالواسطة فلم يرد الله سبحانه إطاعته وإن طابق الواقع.

وأيّا مّا كان فالأخبار المذكورة غير دالّة عليه لا صراحة ولا ظهورا ، بل هي ظاهرة في نفي مرجعيّة الجبت والطاغوت وأتباعهما ، أو نفي اتّباع الأحكام الظنّيّة المدركة بالاستحسانات ، أو بمعونة العقول الناقصة المعمولة في استنباط علل الأحكام ومناطاتها.

فالحصر المستفاد من هذه الأخبار وغيرها من أدلّة وجوب الرجوع إلى الأئمّة عليهم‌السلام إضافيّ ، قصد بالإضافة إلى الجبت والطاغوت وأتباعهما ، أو بالإضافة إلى الأحكام الظنّيّة القياسيّة ، أو الاستحسانيّة على ما كان متعارفا عند المخالفين في زمان صدور هذه الأخبار ، لا بالإضافة إلى العقل المستقلّ في مستقلاّته ، ولا بالإضافة إلى الأحكام المعلومة بطريق الجزم بواسطة المقدّمات الضروريّة ، أو النظريّة العقليّة.

ولو سلّم ظهورها فيما ذكر يتعيّن صرفها إلى ما بيّناه ، ولو فرض عدم قبولها الحمل المذكور لا مناص من طرحها ، لأنّها أخبار آحاد لا تقاوم لمعارضة العقل المستقلّ ، فهي إمّا غير منافية أو مؤوّلة أو مطروحة.

وإن كان الثاني فالمنع من العمل بالقطع الحاصل من المقدّمات العقليّة النظريّة إن اريد به خطاب الشارع بعدم العمل بالقطع المذكور بعد حصوله ، فهو غير معقول ، لأنّه على تقدير مصادفة القطع للواقع يؤدّي إلى التناقض المتضمّن لتجويز الكذب على الشارع ، لرجوع المنع المذكور إلى إنكار الملازمة بين الأصغر ، والأوسط ، ومرجعه إلى إنكار الصغرى أو إلى إنكار الملازمة بين الأوسط والأكبر ، ومرجعه إلى إنكار الكبرى.

والمفروض أنّ مصادفة القطع للواقع لا تتأتّى إلاّ على تقدير صدق النتيجة ، وهو فرع

٤١

على صدق المقدّمتين ، وعلى تقدير عدم مصادفته الواقع فالمنع المذكور إمّا أن يؤثّر في زوال اعتقاد المكلّف بإحدى الملازمتين المستلزم لزوال القطع ، أو يؤثّر في حصول قطع آخر له بخلاف القطع الأوّل مع بقائه على حاله ، أو يؤثّر في حصول الظنّ له بخلافه مع بقائه على حاله ، أو يؤثّر في حصول احتمال الخلاف فيه مع بقائه ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل : فلكونه خروجا عن موضوع المسألة ، فإنّ الكلام في العمل بالقطع مادام باقيا.

وأمّا الثاني ، والثالث ، والرابع : فللزوم اجتماع النقيضين في الاعتقاد.

وأمّا الخامس : فلأنّ الخطاب مع فرض عدم دلالته القطعيّة ولا الظنّيّة لا يعقل فيه المنع والمانعيّة من العمل بالقطع المفروض ، فلا يكون حجّة ، نظرا إلى أنّ حجّيّة الخطاب باعتبار دلالته وإفادته القطع أو الظنّ ، فلو وجد مثل هذا الخطاب في الأخبار كان مطروحا ، أو مؤوّلا بما لا ينافي العمل بالقطع الحاصل من المقدّمات النظريّة البعيدة عن الإحساس.

لا يقال : لا يعني من المنع من العمل بالقطع المذكور المنع الخطابي في الظاهر ليؤدّي إلى محذور التناقض ، أو اجتماع النقيضين في الاعتقاد ، أو غير ذلك ، بل إنّما يعني به أنّ الشارع لا يرضى بالعمل به والركون إليه في الواقع وإن لم يمنعه أيضا في الظاهر.

لأنّ عدم الرضا بالعمل به مع مصادفته الواقع ممّا لا معنى له ، لأنّ معنى مصادفته كون متعلّقه الحكم الواقعي المجعول للواقعة في نفس الأمر ، ومعنى العمل به ترتيب آثار الواقع على متعلّقه ، فإذا كان المتعلّق هو الحكم الواقعي المجعول فكيف لا يرضى الشارع بترتيب آثاره عليه؟

ومن ذلك علم أنّه لا يصحّ أن يراد بالمنع أنّ الشارع يعاقب على العمل به في الواقع وإن لم يمنعه منه في الظاهر ، إذ لا يعقل أن يعاقب الشارع على ترتيب آثار الواقع عليه.

فإن قلت : إنّ العقاب إنّما يترتّب على تقصيره لا على نفس العمل بالقطع ، فإنّه لخوضه في مقدّمات يعلم إجمالا بكثرة الخطأ والاشتباه فيها قصّر في تحصيل القطع.

قلت : ـ لو سلّمنا العلم الإجمالي ، ثمّ سلّمنا صدق التقصير مع اتفاق المصادفة للواقع ـ إنّ العقاب على التقصير باعتبار خوضه فيها لا جهة له إلاّ من حيث التجرّي ، كما في مرتكب بعض أطراف الشبهة المحصورة في صورة عدم مصادفة ارتكابه الحرام الواقعي ، والتجرّي وإن كان قبيحا إلاّ أنّه على ما تقدّم تحقيقه قبح في الفاعل لا في الفعل المتجرّى به فلا يوجب عصيانا ولا عقابا.

٤٢

ولو سلّم فالعقاب من جهته كلام آخر لا ربط له بالمقام ، حيث إنّ الكلام في العقاب على خصوص العمل بالقطع لا على الخوض في مقدّمات تحصيله باعتبار التجرّي.

ولو قدر المنع بمعنى عدم الرضا بالعمل والركون في القطع الغير المصادف ، فهو وإن كان مسلّما إلاّ أنّه لا اختصاص له بما حصل من المقدّمات العقليّة ، بل لو حصل من مقدّمات نقليّة فهو أيضا ممّا لا يرضى الله في الواقع بالعمل به والركون إليه ، مع أنّه لا فائدة فيه بالنظر إلى حال المكلّف الغير الملتفت إليه لعدم تجويزه الخلاف في قطعه.

ولو قدّر المنع بمعنى العقاب على العمل بالقطع الغير المصادف ، فهو لا يسلّم إلاّ مع العلم الإجمالي بكثرة الخطأ والاشتباه في تلك المقدّمات ، وقد تقدّم منع العلم الإجمالي بوقوع خطأ واحد فضلا عن كثيرة في المقدّمات العقليّة الّتي هي محطّ بحث الاصولي ، فإنّها غير خالية عن المستقلاّت العقليّة والاستلزامات العقليّة ، وليس في شيء منهما علم إجمالي.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه ينقدح ما في ذيل كلام هذا المحدّث من قوله : « إن تمسّكنا بكلامهم فقد عصمنا من الخطأ وإن تمسّكنا بغيرهم لم نعصم منه » ، فإنّ الخطأ في أخبارهم إن لم يكن أكثر ممّا هو في الأدلّة العقليّة فليس بأقلّ منه ، مع أنّ المنع من التمسّك بغير كلامهم ممّا يخالف سيرة سلفنا الصالحين وطريقة آبائنا السابقين من المتكلّمين والفقهاء والمحدّثين ، حيث نراهم قديما وحديثا متمسّكين في المطالب الشرعيّة كلاميّة واصوليّة وفروعيّة بالبراهين العقليّة ، وكفاك شاهدا بذلك استنادهم إلى دليل اللطف الّذي هو دليل عقلي في كثير من المطالب الشرعيّة.

وهذا من أقوى الشواهد بعدم انحصار طريق إثبات المطالب في الأدلّة النقليّة.

وأمّا ما في كلام السيد الجزائري والمحقّق البحراني فمع ما فيهما من أكثر ما تقدّم من فرض التعارض بين الدليل العقلي والدليل النقلي وبين الدليلين العقليّين ، فإنّه من أعجب العجاب بل من أوضح المفاسد ، إذ الدليل العقلي ما كان دليليّته منوطة بحصول القطع منه ، والدليل النقلي ما كان دليليّته منوطة بإفادته القطع أو الظنّ ، والتعارض عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين ، فإن كان الدليل العقلي ممّا حصل منه القطع بالمطلب فكيف أن يحصل القطع أو الظنّ من الدليل النقلي على خلافه ، وإن فرض حصول القطع أو الظنّ من الدليل النقلي فكيف يجوز أن يحكم العقل بخلافه على وجه القطع.

ومن ذلك ظهر وجه الفساد في فرض التعارض بين عقلي مع مثله ، فالدليل العقلي

٤٣

إمّا لا معارض له أو لا يكون معارضا ، والأصل في ذلك استحالة القطع أو الظنّ بطرفي نقيض القضيّة ، كاستحالة القطع بأحد الطرفين والظنّ بالطرف الآخر ، للزوم اجتماع النقيضين في الذهن.

ومن ثمّ صرّحوا في مفتتح باب التعادل والتراجيح بعدم وقوع التعارض بين القطعيّين والظنّيين ، وقطعيّ وظنّي ، وإن اريد بالدليل العقلي المقابل للنقلي ما كان بصورة القياس ، وإن لم يفد القطع ولا الظنّ بخلاف ما أفاده النقلي من القطع أو الظنّ ، فهو ـ مع أنّه ليس بدليل لفقده ما هو مناط دليليّته ـ خارج عن محلّ البحث ، إذ لم نر أحدا في مثل ذلك جوّز العمل به دون النقلي المقابل له المفيد للاعتقاد بأحد الوجهين.

ومن ذلك علم أنّ العقليّين إذا لم يحصل من شيء منهما القطع يتساقطان ، وإن حصل القطع من أحدهما دون الآخر لا يتعارضان ، وعلى التقديرين لا معنى للإشكال حسبما صنعه المحدّث البحراني.

المطلب الثالث

في حجّيّة قطع القطّاع وعدمه

وقد ذكر شيخنا قدس‌سره (١) أنّه : « قد اشتهر في ألسنة المعاصرين أنّ قطع القطّاع لا اعتبار به » ، قال : « ولعلّ الأصل في ذلك ما صرّح به كاشف الغطاء قدس‌سره ـ حيث إنّه بعد الحكم بأنّ كثير الشك لا اعتبار بشكّه ـ قال : وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو في ظنّه فيلغو اعتبارهما في حقّه » (٢) إنتهى.

ولا يراد بالقطّاع من يكثر قطعه مطلقا ، بل من يقطع كثيرا من جهة الأسباب الغير المتعارفة كما يظهر من عبارة كاشف الغطاء (٣) ، وإنّما عبّروا عنه بالقطّاع مع أنّه على مقتضى المبالغة والتكثير يشمل من يكثر قطعه من جهة الأسباب المتعارفة أيضا ، لأنّ الغالب فيه كون كثرة قطعه من جهة الأسباب الغير المتعارفة.

فإن أرادوا من عدم الاعتبار به ، عدم حجّيّته من حيث الموضوعيّة فيما أخذ القطع موضوعا له من الأحكام ، كما في الشهادة والفتوى ونحوهما فله وجه ، لأنّ أدلّة اعتباره

__________________

(١) فرائد الأصول ٢٤ : ٦٥.

(٢) كشف الغطاء : ٦٤.

(٣) كشف الغطاء : ٦٤.

٤٤

على هذا الوجه لا تشمل قطع القطّاع ، فرجع ذلك في الشهادة والفتوى إلى اشتراط حجّيّته فيهما بعدم كون صاحبه قطّاعا ، سواء رجع إلى اشتراط حكم للشاهد أو المفتي بذلك ـ كجواز أداء الشهادة وجواز الإفتاء ـ أو إلى اشتراط حكم لمن يقبل الشهادة كالحاكم ، أو من يقبل الفتوى كالمقلّد ، وهو جواز قبول الشهادة وجواز قبول الفتوى ، إلاّ أنّه يعتبر في جريان ذلك الحكم في حقّ الشاهد والمفتي أمران :

أحدهما : أن يعلم بكونه قطّاعا.

وثانيهما : أن يعلم أو احتمل كون حجّيّة قطعه مشروطة بعدم كونه قطّاعا ، لأنّه إذا علم باشتراط حجّيّة قطعه بعدم كونه قطّاعا بعد علمه بأنّه قطّاع فقد علم بعدم كون قطعه من موضوع جواز أداء الشهادة أو جواز الإفتاء ، وإذا احتمل اشتراط حجّيّة قطعه بعدم كونه قطّاعا بعد علمه بأنّه قطّاع فيشكّ في تحقّق موضوع حكمه ـ أعني جواز أداء الشهادة وجواز الإفتاء ـ والأصل يقتضي عدم الجواز.

وعلى الثاني يعتبر في جريان الحكم المذكور في حقّ الحاكم أو المقلّد أيضا أمران :

أحدهما : علمه بأنّ الشاهد أو المفتي قطّاع.

وثانيهما : أن يعلم أو احتمل كون حجّيّة قطع الشاهد أو المفتي في جواز قبول شهادته أو فتواه مشروطة بأن لا يكون قطّاعا ، لأنّه إذا علم بالاشتراط بعد علمه بكونه قطّاعا فقد علم بعدم كون قطعه من موضوع حكمه ، وإذا احتمل الاشتراط بعد العلم بكونه قطّاعا فقد شكّ في تحقّق موضوع حكمه ، والأصل معه يقتضي عدم جواز القبول.

وإن أرادوا من عدم الاعتبار عدم حجّيّة قطع القطّاع من حيث كاشفيّته فيما كان القطع طريقا إليه ، فلا يخلو إمّا أن يكون المراد منع القطّاع من الخوض في أسباب غير عادية تحصيلا للقطع ، أو يكون المراد منعه من العمل بقطعه الحاصل من جهة الأسباب الغير العادية حين حصوله.

فإن اريد الأوّل فجهة المنع من الخوض إمّا كون قطعه الّذي يحصل من تلك الأسباب ملزوما للخطأ ، أو كونه يكثر فيه الوقوع في الخطأ ، أو كونه لا يأمن من الوقوع في الخطأ.

والأوّل ممنوع ، والثاني غير بعيد ، والثالث مسلّم ، ولكنّه منقوض.

أمّا الأوّل : فلمنع الملازمة ، فإنّ القطّاع قد يصادف قطعه الواقع.

وأمّا الثالث : فلأنّ القطع من جهة الأسباب المتعارفة العادية لغير القطّاع أيضا لا يأمن

٤٥

الوقوع في الخطأ ، لانتفاء العصمة ، ولم يقل أحد بكونه جهة للمنع من الخوض.

فبقي الوجه الثاني الّذي ذكرنا كونه غير بعيد ، وعليه فإن يقصد بخوضه معرفة موضوعات الأحكام فلا يسلّم المنع منه ، إلاّ فيما كان من موضوعات الوجوب في الواجبات كمعرفة القبلة للصلاة ، ومعرفة أوقات الصلوات ، ومعرفة هلال شهر رمضان ونحو ذلك ، أو فيه مع ما كان من موضوع الاستحباب في المستحبّات بالخوض في الأسباب الغير المتعارفة ، وإن قصد به معرفة نفس الأحكام ، على معنى استنباطها بالخوض في الأسباب الغير المتعارفة فالمنع منه مسلّم ، لأنّ أدلّة استنباط الأحكام الشرعيّة غير شاملة له.

وإن اريد الثاني ـ على معنى أنّه حين القطع الحاصل له من الأسباب الغير العادية يمنع فعلا عن العمل به ـ فهو غير معقول ، كما ذكرناه مرارا لإدّائه إلى التناقض المتضمّن لتجويز الكذب على الشارع ، أو اجتماع النقيضين في الذهن والاعتقاد ، ولا يجدي في دفعه ما تكلّفه بعض الفضلاء (١) من تقييد الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع بما « إذا علم القطّاع أو احتمل أن يكون حجّية قطعه مشروطة بعدم كونه قطّاعا » فإنّ الاشتراط والتقييد إنّما يحسن في القطع الموضوعي ، لأنّه يتحمّل من الشروط والقيود كلّما اعتبره جاعل الأحكام المأخوذ في موضوعها صفة القطع.

وأمّا القطع الطريقي فلا يتحمّل حجّيّته شرطا ولا قيدا ، لأنّ القطع من حيث طريقيّته عبارة عن انكشاف الواقع ، والواقع بعد ما انكشف يقتضي كون الآثار آثارا له مطلقا ، ولو دخل حجّيّته الشرط والقيد فهو ينفي كون الآثار آثارا له حيث ينتفي الشرط والقيد ، وهذا تناقض واضح.

ومنه يظهر ما في كلامه الآخر ، فإنّه وجّه الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع ـ بعد ما قيّده بما ذكر ـ « بأنّه يشترط في حجّيّة القطع عدم منع الشارع عنه ، وإن كان العقل أيضا قد يقطع بعدم المنع ، إلاّ أنّه إذا احتمل المنع يحكم بحجّية القطع ظاهرا ما لم يثبت المنع » (٢) فإنّ حجّيّة القطع لا تقبل اشتراط عدم منع الشارع من حيث أنّ نفس القطع لا تقبل منع الشارع فيه للزوم التناقض ، فإنّ عدم ترتيب آثار الواقع على المقطوع به يناقض كون الآثار آثارا له كما هو المفروض.

فإنّ انكشاف كون الخمر حراما بواسطة انكشاف كونه مسكرا ، وانكشاف كون كلّ

__________________

(١) هو صاحب الفصول في الفصول : ٣٤٣.

(٢) الفصول : ٣٤٣.

٤٦

مسكر حراما يقتضي وجوب اجتنابه ، وحرمة التكسّب به ، وحرمة الاستشفاء به وغير ذلك من الأحكام ، ومنع الشارع عن العمل به ينفي كون هذه الأحكام آثارا له.

وله كلام ثالث يعجبني ذكره وهو أنّه مثّل لما ذكره في التوجيه من اشتراط حجّية القطع بعدم منع الشارع عنه بما إذا قال المولى لعبده : « لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك ، أو يؤدّي إليه حدسك ، بل اقتصر على ما يصل إليك منّي بطريق المشافهة أو المراسلة » (١).

وفيه : أنّه إن اريد به منع العبد من النظر لمعرفة أوامر المولى من النظر في مقدّمات يرتّبها العقل ، أو منعه من الخوض لإحراز أوامره في طرق الحدس.

ففيه : مع أنّه لا دخل له بمسألة قطع القطّاع لما بينهما من العموم من وجه ـ فإنّ الناظر في تلك المقدّمات والخائض في هذه الطرق لإحراز أوامر الشرع قد لا يكون قطّاعا ، والقطّاع قد لا يكون ناظرا في هذه المقدّمات ولا خائضا في تلك الطرق كما لا يخفى ـ أنّه كلام خارج عن مسألة العمل بالقطع حال حصوله ، وإن اريد به منعه عن العمل بالقطع حال حصوله من أحد الطريقين فهو غير معقول ، مع أنّ المثال غير منطبق على الممثّل كما عرفت.

المطلب الرابع

في اعتبار العلم الإجمالي وعدمه

والكلام فيه يقع في مقامين :

أحدهما : اعتباره في ثبوت التكليف به ، وهذا هو معنى حجّيّة العلم الإجمالي ، ومحصّله : أنّ العلم الإجمالي بالخطاب هل يوجب تنجّز التكليف بالمعلوم بالإجمال كما أنّ العلم التفصيلي يوجبه أو لا؟

وهذا يتضمّن الكلام تارة في حرمة مخالفة العلم الإجمالي ، واخرى في وجوب موافقة العلم الإجمالي ، والغرض الأصلي من عقد المسألة هو البحث عن الجهة الاولى ، وأمّا الجهة الثانية فيعرف حكمها في مسألة أصلي البراءة والاشتغال.

ثانيهما : اعتباره في ارتفاع التكليف المعلوم بالتفصيل ، على معنى كفاية الامتثال

__________________

(١) الفصول : ٣٤٣.

٤٧

الإجمالي في حصول البراءة ، وسقوط التكليف عند اشتغال الذمّة وعدمه ، كإكرام شخصين يعلم أنّ أحدهما زيد عند معلوميّة الأمر بإكرام زيد ومجهوليّة زيد مع إمكان استعلامه أو عدم إمكانه ، ومحصّل هذا العنوان أنّه هل يكفي في حصول الامتثال وفراغ الذمّة عن المكلّف به الموافقة الإجماليّة ، أو لا يكفي بل لابدّ من الموافقة التفصيليّة؟

أمّا المقام الأوّل : فليعلم أنّ الإجماليّة في العلم الإجمالي وصف فيه باعتبار متعلّق العلم ، وإلاّ فالعلم في نفسه غير قابل لوصف الإجماليّة ، فإنّ الإجمال المنسوب إليه العلم من « أجمل » بمعنى جمع ، فانتسابه إلى الإجمال بمعنى الجمع لكونه جامعا لاحتمالين فصاعدا.

وظاهر أنّ الجامع لاحتمالين فصاعدا المشتبه في الظاهر إنّما هو متعلّق العلم لا نفسه ، ومتعلّقه المشتبه ـ بسبب اجتماع الاحتمالين فصاعدا ـ فيه قد يكون نفس التكليف الدائر بين إيجاب شيء وتحريمه ، وقد يكون المكلّف ـ بالكسر ـ الدائر بين شخصين ، وقد يكون المكلّف ـ بالفتح ـ الدائر بينهما ، كما في مسألة وجدان المنيّ في الثوب المشترك ، وقد يكون المكلّف به الدائر بين أمرين فصاعدا ، كالصلاة إلى القبلة المردّدة عند اشتباه القبلة بين الجهات ، وصلاة يوم الجمعة المردّدة بين الظهر والجمعة وما أشبه ذلك.

فالأقسام أربعة ، إلاّ أنّ القسم الثاني ـ وهو الشبهة في المكلّف بالكسر ـ في خطابات الشرع غير معقول ، لانحصار المكلّف فيها في الشارع ولا تعدّد فيه.

نعم قد يوجد ذلك ويتأتّى فرضه في خطابات العرف ، كما لو توجّه إلى الولد أمر من أحد والديه ولم يعلم أنّه من أبيه أو من امّه.

ويظهر ثمرة هذا الاشتباه فيما لو مات أحدهما بعد الأمر وقبل امتثاله ، فإن كان الميّت هو الآمر سقط الأمر وانقطع التكليف وإلاّ كان الأمر باقيا إلى أن يحصل امتثاله.

هذا إن قسنا الشبهة إلى الخطاب الصادر من أحدهما ، وإن قسناها إلى خطاب الشارع بإطاعة الوالدين رجعت إلى الشبهة في المكلّف به ، إذ لا يدري أنّ الواجب عليه حينئذ هل هو إطاعة أبيه أو إطاعة امّه؟

وكيف كان فمحلّ البحث في المقام ـ بملاحظة ما ذكرناه ـ إنّما هو ما عدا القسم الثاني من الأقسام الثلاث الباقية.

والكلام في جميع هذه الأقسام يقع تارة في حرمة مخالفة العلم ، واخرى في وجوب موافقته الّذي يتأتّى بالجمع بين المحتملات في العلم ، كما أنّ الأوّل يتأتّى بترك جميع المحتملات.

٤٨

وليعلم أيضا أنّ مخالفة العلم الإجمالي قد تكون عمليّة وقد تكون التزاميّة.

وضابط الأوّل : أن يعمل المكلّف في محلّ الشبهة عملا مخالفا لكلا طرفي الشبهة استنادا إلى أصل البراءة ، كما لو ترك الصلاة إلى جميع الجهات عند اشتباه القبلة ، أو ترك الظهر والجمعة معا يوم الجمعة ، وكذلك القصر والإتمام في المسير إلى أربعة فراسخ ، أو ارتكب جميع أطراف الشبهة في الشبهة المحصورة ، أو وطئ الزوجتين المحلوف بوطئ إحداهما وترك وطئ الاخرى معا ، أو ترك وطئهما معا.

وضابط الثاني : أن يعمل عملا موافقا لأحد الاحتمالين من غير التزام بأحد الحكمين المردّد فيهما عملا بأصل البراءة ، أو الإباحة في مسألة الشبهة في التكليف الإلزامي المعلوم بالإجمال المردّد بين إيجاب الشيء أو تحريمه ، كالزوجة المردّدة بين تحريم الوطئ وإيجابه بسبب الحلف ، عند الاشتباه في متعلّق الحلف هل هو فعل الوطئ أو تركه؟ إذا اختار الفعل أو الترك على وجه الدوام ، لبنائه على التخيير الاستمراري عملا بالأصل ، فإنّ العمل كائنا ما كان موافق لأحد الاحتمالين ، نظرا إلى أنّ الوجوب يقتضي دوام الفعل والتحريم يقتضي دوام الترك ، فلا مخالفة في اختياره في العمل بعنوان القطع بل هو موافقة احتمالية ، وإنّما المخالفة في الالتزام حيث لم يلتزم بأحد الحكمين من الايجاب والتحريم ولم يتديّن بشيء منهما ، بل التزم بالإباحة الّتي هي مفاد الأصل ، والمشهور في مثل هذه المخالفة كالمخالفة العمليّة هو عدم الجواز ، كما يقتضيه إطلاقهم في مسألة ما لو اختلفت الامّة على قولين لم يكن على أحدهما دليل ، حيث إنّ العلماء اختلفوا في ذلك على قولين :

أحدهما : طرح القولين معا والرجوع إلى الأصل وهو لجماعة (١).

والآخر : التخيير بينهما وهو المشهور (٢) ، وعلّلوه : بأنّه لولاه لزم طرح قول الإمام بعنوان ، وهو مخالفة قطعيّة والمخالفة القطعيّة محرّمة ، وإطلاق هذا التعليل يشمل ما لو كان اختلاف الامّة في تعيين المكلّف به ، كما في مسألة الظهر والجمعة ، أو القصر والإتمام ، أو في تعيين التكليف الإلزامي المردّد بين الإيجاب أو التحريم ، فإنّ المخالفة اللازمة من طرح القولين في الأوّل عمليّة وفي الثاني التزاميّة لا غير.

وتحقيق المقام : أنّ حرمة مخالفة العلم الإجمالي من حيث الالتزام وعدمها مبنيّة على

__________________

(١) العدّة : ٢ / ٦٣٦ والمعارج : ١٣٣ ومعالم الدين : ١٧٩ وقوانين الاصول ١ : ٣٨٣.

(٢) العدّة : ٢ / ٦٣٧.

٤٩

وجوب الالتزام وعدمه ، فإن اريد به التديّن بأنّ حكم الواقعة في الواقع على حسب ما جاء به النبيّ لا يخلو عن أحد الحكمين ـ بعد القطع بذلك الّذي هو العلم الإجمالي المفروض ـ فلا ينبغي التأمّل ولا الاسترابة في وجوبه.

والأصل في ذلك ما ثبت بالإجماع بل الضرورة ، مع الأخبار المتواترة من وجوب التديّن بما جاء به النبيّ ، وكونه من اصول العقائد ، فإنّ المراد به وجوب التديّن بما جاء به النبيّ على ما جاء به النبيّ ، فإن كان معلوما بالتفصيل وجب التديّن بهذا المعلوم بالتفصيل ، وإن كان معلوما بالإجمال وجب التديّن به على وجه الإجمال.

وإن اريد به التديّن بأحدهما بعنوان كونه حكما ظاهريّا ، فهذا ممّا لا دليل على وجوبه بحيث يكون تركه مخالفة قبيحة عقلا محرّمة شرعا ، بعد إحراز موافقة العمل لما هو في الواقع ولو احتمالا ، حتّى مع اختيار الفعل بناء على فرض كون الوجوب المقابل للحرمة هنا توصليّا تعلّق فيه الغرض بصدور الفعل بأيّ وجه اتفق ، فيكون صدور العمل بمجرّده كافيا في سقوط الأمر ، فإنّ المخالفة العمليّة غير متحقّقة في ذلك من حيث إنّ المكلّف لا يخلو عن أحد الأمرين ـ من فعل ذلك الشيء أو تركه ـ فإن اختار فعله فهو محتمل لموافقة الوجوب ، وإن اختار تركه فهو محتمل لموافقة الحرمة ، غير أنّه لو فعله أو تركه بداعي الإباحة وقصدها عملا بالأصل كان مخالفة للالتزام بوجوبه وحرمته ، حيث لم يلتزم بشيء منهما على أنّه حكم ظاهري ، ولا ضير فيها لمكان عدم الدليل على وجوب هذا الالتزام ، بحيث يكون تركه قبيحا عقلا ، موجبا لاستحقاق المؤاخذة والعقوبة شرعا.

فيندفع بما قرّرناه ما عساه يقال : من أنّ العدول عن كلّ من الوجوب والحرمة بالبناء على البراءة والإباحة ـ كما هو اللازم من الأخذ بالأصل ـ مخالفة للواقع قطعا ، لمكان القطع بأنّ الواقع لا يخلو عن أحدهما ، والمخالفة للواقع ممّا يمنع عنه العقل الضروري ويعدّ عنده معصية.

ووجه الاندفاع : أنّ الّذي يمنعه العقل ولا يجوّزه ويعدّ عنده معصية ، إنّما هو مخالفة الحكم الواقعي من حيث العمل ، بل من حيث الالتزام أيضا.

والذي يلزم فيما نحن فيه من العدول عنهما إنّما هو ترك الالتزام بكلّ منهما بعنوان أنّه حكم ظاهري ، وكونه ممنوعا عند العقل أيضا معصية لديه غير مسلّم.

نعم ربّما يشكل الحال في البناء على الإباحة عملا بالأصل من حيث عدم خلوّه عن مخالفة عمليّة للحكم الظاهري الّذي هو نفس الإباحة ، أو الحكم الواقعي الّذي هو أحد

٥٠

الحكمين ، وذلك لأنّ التخيير الّذي يلتزم به بعد البناء على الإباحة إن كان باختيار الفعل دائما ، أو باختيار الترك كذلك ـ الّذي يقال له التخيير البدوي ـ لزم مخالفة الإباحة الملتزم بها من حيث العمل ، لأنّ التخيير الّذي يقتضيه الإباحة تخيير استمراري بين الفعل والترك ، وإن كان باختيار الفعل تارة واختيار الترك اخرى ـ الّذي يقال له : التخيير الاستمراري ـ لزم مخالفة الحكم الواقعي من حيث العمل ، لأنّه إن كان هو الوجوب فهو متضمّن للمنع من الترك ، فكيف يختار الترك تارة؟ وإن كان هو الحرمة فهو متضمّن للمنع من الفعل ، فكيف يختار الفعل اخرى؟ فلا محالة أحد الاختيارين مخالفة عمليّة قطعيّة للحكم الواقعي.

اللهمّ إلاّ أن يذبّ على تقدير الالتزام بالتخيير البدوي بمنع لزوم مخالفة الحكم الظاهري من حيث العمل ، لأنّ الإباحة الملتزم بها ظاهرا وإن كانت تقتضي جواز اختيار الفعل تارة واختيار الترك اخرى ، إلاّ أنّها لا تتضمّن منع اختيار أحدهما دائما ، فاختيار الفعل دائما أو الترك كذلك ـ حذرا عن مخالفة الحكم الواقعي من حيث العمل ـ ليس مخالفة للحكم الظاهري من حيث العمل.

نعم عمدة إشكال المسألة إنّما هو في العدول عن الوجوب والحرمة معا ، وعدم الالتزام بأحدهما تعيينا أو تخييرا بدويّا بعنوان أنّه حكم ظاهري ، لما قيل من أنّ ظاهرهم في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم الاتّفاق على عدم الرجوع إلى الإباحة ، وإن اختلفوا بين قائل بالتخيير وقائل بتعيين الأخذ بالحرمة.

وهذا يكشف عن أنّ الالتزام بالحكم كما يجب في الأحكام الواقعيّة ، كذلك يجب في الأحكام الظاهريّة أيضا ، وليس ببعيد بل هو الّذي يساعد عليه النظر الصحيح ، ويدلّ عليه كلّما دلّ على وجوب العمل على الظنون الاجتهاديّة ، وكلّما دلّ على وجوب التقليد.

فإنّ الأوّل عبارة عن وجوب الالتزام على المجتهد بمظنوناته على أنّها أحكام ظاهريّة ، والثاني عن وجوب الالتزام بفتاوى المجتهد على أنّها أحكام فعليّة ، فالأحكام الواقعيّة والظاهريّة سيّان في وجوب الالتزام ، غير أنّ الأوّل واجب نفسي ، ولذا كان له دخل في الاصول الاعتقاديّة.

والثاني واجب غيري لكونه إنّما يجب مقدّمة للعمل ، على معنى وقوع العمل على طبق المظنون والحكم المفتى به ، فلو فرض حصول المطابقة له من دون التزام كان كافيا من غير أن يترتّب عليه عقاب ، ولذا اكتفى به في إجزاء عمل تارك الطريقين ، وصحّة عبادات

٥١

الجاهل بمجرّد المطابقة للواقع بعد إحراز القربة فيها ، على ما سيأتي تحقيقه في باب الاجتهاد والتقليد.

فما يقال ـ في وجه جواز المخالفة الالتزاميّة في الشبهة الموضوعيّة عملا بأصل من الاصول ـ : من أنّ الأصل في الشبهة الموضوعيّة إنّما يخرج مجراه من موضوع التكليف ، فيقال ـ في المرأة المردّدة بين المحلوف على وطئها والمحلوف على ترك وطئها ـ : الأصل عدم تعلّق الحلف بوطئ هذه المرأة ، والأصل عدم تعلّقه أيضا بترك وطئها ، فتخرج المرأة بذلك عن موضوع حكمي التحريم والوجوب ـ وهو تحريم وطئ المحلوف على ترك وطئها ووجوب وطئ المحلوف على وطئها ـ فتحكم بالإباحة لأجل الخروج من موضوع الوجوب والحرمة لا لأجل طرحهما.

وفي الشبهة الحكميّة أيضا : بأنّ الاصول الجارية فيها وإن لم يخرج مجراها عن موضوع الحكم الواقعي ، بل كانت منافية لنفس الحكم كأصالة الإباحة مع العلم بالوجوب أو الحرمة ، فإنّ الاصول في هذه منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا لا مخرجة عن موضوعه ، إلاّ أنّ الحكم الواقعي المعلوم إجمالا لا يترتّب عليه أثر إلاّ وجوب الإطاعة وحرمة المعصية ، والمفروض أنّه لا يلزم من إعمال الاصول مخالفة عمليّة له ، ووجوب الالتزام بالحكم الواقعي مع قطع النظر عن العمل غير ثابت ، ولو فرض ثبوت الدليل عقلا أو نقلا على وجوب الالتزام بحكم الله الواقعي لم تنفع ، لأنّ الاصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي ، فهي كالاصول في الشبهة الموضوعيّة مخرجة لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم ، أعني وجوب الأخذ بحكم الله » (١).

ففيه : إنّ محصّله منع وجوب الالتزام بالأحكام الواقعيّة بل الظاهريّة أيضا بطريق أولى ، لعدم ثبوت الدليل عليه ، وقد عرفت الدليل عليه فيهما معا.

غاية الأمر أنّ الوجوب في الثاني مقدّمي صرف ، وفي الأوّل ذاتي ، ولا ينافيه كونه فيه أيضا مقدّمة للعمل لجواز مطلوبيّته لجهتين.

وما ذكر من أنّه « لو فرض ثبوت الدليل عليه لم ينفع ، لأنّ الاصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي » (٢) ففيه : ما لا يخفى من ضعف التعليل ، لمنع حكومة الاصول بانتفاء

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٨٥.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٨٥.

٥٢

الحكم الواقعي ، فإنّها غير متعرّضة للواقع لا بنفي ولا بإثبات ، بل كافلة لبيان كيفيّة العمل ، ومفادها نفي صيرورة الحكم الواقعي المجهول ـ لعذريّة الجهل ـ حكما ظاهريّا وتكليفا فعليّا وبراءة ذمّة المكلّف عنه ، فأصالة الإباحة لو كانت جارية في مسألة دوران الأمر بين [ الوجوب ] والحرمة من الشبهة الحكميّة كان مفادها عدم صيرورة الحكمين تكليفا فعليّا في حقّ هذا المكلّف الغير العالم بالتفصيل ، لا انتفاء الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال المردّد بينهما.

وعلى هذا ففي كونها مخرجة لمجاريها عن موضوع وجوب الالتزام بالحكم الواقعي منع واضح.

وممّا ذكرناه ظهر ما في دعوى كون أصالة الإباحة منافية لنفس الحكم الواقعي المردّد بين الوجوب والحرمة ، فإنّها على تقدير جريانها إذا لم تكن متعرّضة للواقع لا بنفي ولا بإثبات فكيف تكون منافية لنفس الحكم الواقعي؟.

وأمّا أنّها مع العلم الإجمالي هل تجري أو لا تجري؟ فقد عرفت منع جريانها ، نظرا إلى ظهور كلامهم في الاتّفاق على عدم الرجوع إلى أصل الإباحة في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

والسرّ فيه أوّله إلى المخالفة القطعيّة للحكم الواقعي من حيث العمل ، فإنّ اختيار الفعل تارة والترك اخرى مخالفة عمليّة لكلّ من الوجوب والحرمة.

وأمّا ما ذكر في الشبهة الموضوعيّة ، من « أنّ الاصول مخرجة لمجاريها عن موضوع الحكم الواقعي » فيقال ـ في المرأة المردّدة بين المحلوف على وطئها والمحلوف على ترك وطئها ـ الأصل عدم تعلّق الحلف بوطئ هذه المرأة ، والأصل عدم تعلّقه بترك وطئها أيضا.

ففيه : أنّ جريان الأصلين ـ مع العلم بانتقاض إحدى الحالتين السابقتين إجمالا ـ غير معقول ، لعدم معقوليّة جريان أصل العدم مع اليقين بانتقاض الحالة السابقة ومع اليقين بعدم انتقاضها ، واليقين حاصل فيما نحن فيه بانتقاض إحدى الحالتين وعدم انتقاض الاخرى.

غاية الأمر اشتباه الحالة المنتقضة بالحالة الغير المنتقضة ، والاشتباه لا يجوّز جريان الأصلين ، وجعله من الشكّ في تعلّق الحلف بالوطئ أم لا؟ وفي تعلّقه بترك الوطئ أم لا؟

تكلّف وتمحّل ، إذ ليس صورة الشكّ هكذا ، بل بمعنى أنّا لا ندري أنّ أيّ الحالتين منتقضة ،

٥٣

وأيّهما غير منتقضة مع اليقين بانتقاض إحداهما وعدم انتقاض [ الاخرى (١)] ، فبعد منع جريان الأصلين فإمّا أن يبنى على الإباحة عملا بأصل الإباحة أو يبنى على التخيير بين الوجوب والحرمة بدوا ، أو يبنى على الحرمة تغليبا لها على الوجوب.

والأوّل باطل لأنّه يؤدّي إلى المخالفة العمليّة للحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ، ولظهور الاتّفاق على عدم الرجوع إليها ، فتعيّن أحد الوجهين الآخرين.

وأيّا مّا كان فهو التزام بالحكم الظاهري ، وقد ثبت وجوبه بالدليل ، وهو ما دلّ على أحد هذين الوجهين.

وبملاحظة ما بيّناه من ظهور الإطلاق أمكن صرف إطلاق كلامهم ـ في مسألة ما اختلفت الامّة على قولين لا دليل على أحدهما حسبما ادّعيناه سابقا ـ عن مسألة دوران الأمر بين المحذورين إلى مسألة دوران المكلّف به بين المتبائنين كالظهر والجمعة والقصر والإتمام ، وما أشبه ذلك إن تحمله بعض عباراتهم ، مثل التمسّك بمقتضى العقل من حظر ، أو إباحة على القول بإسقاط القولين ، حملا له على إرادة الرجوع إلى مطلق الأصل المناسب بحيث يشمل أصل الاشتغال وأصل البراءة ، بناء على أنّ كلاّ منهما في مجراه حكم عقلي.

وحينئذ يمكن دفع ردّ الشيخ (٢) القول المذكور « بأنّه يوجب طرح قول الإمام » بمنع الملازمة ، لأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان المراد من الأصل المرجوع إليه أصل البراءة ، بالمعنى النافي للتكليف الفعلي بكلّ من الفعلين لمجرّد اشتباه المكلّف به بينهما ـ ليكون نتيجته جواز تركهما معا ، وهذا ليس بلازم لجواز كون الأصل المرجوع إليه أصل الاشتغال ـ تحصيلا ليقين البراءة المقتضي للجمع بينهما ـ وهذا ليس بمخالفة قطعيّة بل موافقة قطعيّة أو أصل البراءة النافي للضيق اللازم من التعيين ليكون مفاده التخيير ، وهذا أيضا ليس بمخالفة قطعيّة بل مخالفة احتماليّة مع موافقة احتماليّة على تقدير جعل التخيير بدويّا ، على أنّ طرح قول الإمام المؤدّي إلى المخالفة القطعيّة مشترك الورود ، بل هو على قول الشيخ من البناء على التخيير أظهر ورودا ، بناء على ما استظهره بعض مشايخنا (٣) من عبارة العدّة من كون مراده التخيير الواقعي وعليه مبنى اعتراض المحقّق في المعارج (٤) عليه : بأنّ في التخيير أيضا إبطالا لقول الإمام إلى آخر ما ذكره.

__________________

(١) في المصدر [ الآخر ].

(٢) العدّة ٢ : ٦٣٦.

(٣) فرائد الاصول : ١ : ٧٩.

(٤) معارج الاصول : ١٣٣.

٥٤

اللهمّ إلاّ أن يدفعه : بمنع الملازمة ، لجواز أن يكون كون الإمام مع أحد الفريقين من باب اختيار أحد فردي الواجب التخييري.

وعلى هذا فقد يكون النزاع بينه وبين أهل القول الآخر لفظيّا على بعض التقادير ، وهو أن يكون مرادهم من الأصل المرجوع إليه أصل البراءة النافي للضيق اللازم من التعيين ليثبت به التخيير.

والفرق بينهما بالظاهريّة والواقعيّة ، بناء على أنّ التخيير الّذي مدركه أصل البراءة لا يكون إلاّ ظاهريّا لا يوجب فرقا بينهما في المخالفة القطعيّة وعدمها كما هو واضح.

وحينئذ لا مانع من جعل التخيير على قول هؤلاء أيضا استمراريّا ، كما هو كذلك على قول الشيخ ، نظرا إلى ما ذكرناه لدفع الاعتراض من جواز كون قول الإمام من باب اختيار أحد فردي الواجب التخييري.

هذا كلّه فيما يتعلّق بالمخالفة الالتزاميّة.

وأمّا المخالفة العمليّة : فهي على قسمين :

أحدهما : كون العمل مخالفا لخطاب تفصيلي متعلّق بعنوان كلّي مشتبه مصداقه ، سواء كان في شبهة موضوعيّة كإلانائين المشتبهين أحدهما نجس ، فإنّ الخطاب التفصيلي هنا قوله « اجتنب عن النجس » مثلا ، والنجس عنوان معلوم مصداقه مشتبه بين هذا الإناء أو ذلك الإناء ومخالفته يتأتّى بارتكاب الإنائين معا ، أو في شبهة حكميّة كالظهر والجمعة ، أو القصر والإتمام عند اشتباه المكلّف به ، فإنّ الخطاب التفصيلي هنا قوله : « صلّ » والصلاة عنوان كلّي ولا يعلم أنّه في ضمن الظهر أو القصر مأمور به ، أو في ضمن الجمعة أو العصر مأمور به ، ومخالفته يتأتّى بتركهما معا.

وثانيهما : كونه مخالفا لخطاب إجمالي مردّد بين خطابين من جنس واحد كإيجابين ، كما لو علمنا بأنّه يجب علينا إمّا قراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، أو الصلاة عند ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو تحريمين كما لو علمنا بأنّه يحرم علينا إمّا الوطئ بهذه المرأة أو أكل هذا الشيء ، أو من جنسين كإيجاب شيء أو تحريم آخر ، كما لو علمنا بأنّه إمّا يجب علينا غسل الجنابة أو [ تحريم ] الوطئ بالزوجة فيما إذا علم بأنّه صدر منه في زوجته فعل ولا يدري هل هو المواقعة ليجب الاغتسال عنه؟ أو الظهار ليحرم الوطئ بها؟

وحينئذ فالمخالفة تتأتّى في الأوّل بترك الفعلين معا ، وفي الثاني بارتكاب الفعلين معا ،

٥٥

وفي الثالث بترك الأوّل وإتيان الثاني.

أمّا القسم الأوّل فالظاهر عدم الإشكال في عدم جواز المخالفة فيه مطلقا ، لكونه مخالفة للخطاب التفصيلي المفروض ، وهو معصية للشارع تعالى والمعصية قبيحة عقلا ، فاعلها مستحقّ لذمّ العقلاء ومحرّمة شرعا.

وتوهّم خروج الفعلين معا عن المعصية بأصل البراءة النافي للتكليف الفعلي بهما ، يدفعه : منع جريان الأصل مع العلم الإجمالي المفروض الّذي هو بالنسبة إلى أصل الخطاب الشرعي علم تفصيلي ، وتمام الكلام في تحقيق ذلك في باب أصل البراءة.

وأمّا القسم الثاني فيحتمل فيه وجوه :

الأوّل : عدم جواز المخالفة مطلقا ، لأنّه مخالفة للخطاب المردّد ، وهو معصية لله تعالى فتكون قبيحة وفاعلها مستحقّا للذمّ.

الثاني : جوازها مطلقا ، لأنّ الأمر المردّد لم يتعلّق به خطاب في شيء من الخطابات.

الثالث : الفرق بين المتجانسين فلا يجوز ، لأنّه بترك الفعلين معا يصدق عليه أنّه ترك واجبا ، كما أنّه بارتكاب الفعلين معا يصدق أنّه فعل محرّما ، وهذا آية المعصية القبيحة ، والمتخالفين فيجوز ، لأنّه لا يصدق بترك الأوّل أنّه ترك واجبا ولا بفعل الثاني أنّه فعل محرّما.

والرابع : التفصيل بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ، فيجوز في الأوّل لأنّ المخالفة القطعيّة في الشبهات الموضوعيّة كثيرة بل في الكثرة فوق حدّ الإحصاء ، بخلاف الشبهات الحكميّة ، كما يعلم ذلك بمراجعة كلماتهم في مباحث الإجماع وعدم القول بالفصل نراهم لا يجوّزون ثمّة خرق الإجماع المركّب ولا إحداث القول بالفصل.

وأوجه الوجوه وأقواها الوجه الأوّل لوضوح ضعف البواقي ، إذ لا يقول أحد بتعلّق الخطاب بالأمر المردّد ، والخطاب مردّد في نظرنا لا بحسب الواقع ولا ضير فيه ، وصدق أنّه عصى الله بترك الأوّل وفعل الثاني ، وكثرة وقوع المخالفة القطعيّة في الشبهات الموضوعيّة غير معلومة ، فضلا عن كونها فوق حدّ الإحصاء وهو فيما وقع أحيانا مؤوّل.

ثمّ إنّ هذه الوجوه ، المحتملة إنّما هو في مخالفة علم إجمالي لم يتولّد منه علم تفصيلي ، وقد يتولّد منه علم تفصيلي ـ على معنى أن يتولّد من الواقعتين المفروض بينهما العلم الإجمالي واقعة ثالثة معلوم حكمها بالتفصيل ـ مثل ما لو علم بخروج ثوبه عن الطهارة أو بخروج ماء وضوئه عن الإطلاق ، فتوضّأ به ولبس الثوب وصلّى بهما عملا

٥٦

بالأصل فيهما وهو استصحاب الحالة السابقة ، فإنّ صلاته هذه باطلة جزما إمّا لفوات شرط طهارة ثوبه ، أو لفوات شرط تطهّره.

وأيّا مّا كان فهو مبطل للصلاة وبطلانها يوجب أن يتوجّه إليه الخطاب بالإعادة بقوله : « أعد صلاتك ».

ومثله ما لو علم في إنائيه بأنّه إمّا هذا نجس أو ذاك مضاف ، فاستنجى بالثاني وتوضّأ بالأوّل فصلّى بهما ، فإنّ صلاته باطلة جزما إمّا لانتفاء الطهارة الحدثيّة أو لانتفاء الطهارة الخبثيّة ، وأيّا مّا كان فهو مبطل.

ومثله ما لو علم في مائين بأنّه إمّا هذا مغصوب أو ذاك مضاف ، وفي ثوب وماء إمّا بأنّ هذا مغصوب أو ذاك مضاف ، فتوضّأ بالأوّل أو لبس الثوب واستنجى بالماء ونحو ذلك ممّا لا يحصى.

فلو بنى على عدم الاعتناء بالعلم الإجمالي مطلقا ، وجوّزنا مخالفته مطلقا لأفضى إلى مخالفة العلم التفصيلي المتولّد منه في الأمثلة المذكورة ، فوجب أن لا يجوز ، إذ العلم التفصيلي الّذي لا يجوز مخالفته في حكم العقل لا فرق فيه بين ما كان ابتدائيّا أو متولّدا من العلم الإجمالي.

ولكن قد يتوهّم وقوع ذلك في الشرع في موارد كثيرة ولو على بعض الأقوال أو على قول بعضهم.

منها : ما تقدّم الإشارة إليه من مسألة (١) اختلاف الامّة على قولين الّتي صار فيها جماعة إلى طرح القولين معا بالرجوع إلى الأصل ، فإنّ ذلك ـ لو كان على إطلاقه ـ يشمل بعض الصور الّتي يؤول طرح القولين فيها إلى مخالفة عمليّة للعلم التفصيلي كما لا يخفى.

وقد عرفت لزوم هذه المخالفة على قول الشيخ أيضا ، بناء على إرادته التخيير الواقعي إلاّ على التوجيه المتقدّم.

ومنها : الشبهة المحصورة على القول بجواز ارتكاب الجميع دفعة أو تدريجا ، فإنّه لو كان على إطلاقه يؤدّي في بعض الصور إلى مخالفة تفصيليّة « كما لو اشترى بالمشتبهين من المذكّى والميتة جارية فوطئها ، فإنّه يعلم تفصيلا بطلان البيع في تمام الجارية وحرمة وطئها لكون بعض ثمنها ميتة » (٢) مع أنّه لم يظهر من القائل استثناء مثل هذه الصورة.

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٥٩.

(٢) العلاّمة المجلسي في أربعينه : ٥٨٢ والمدارك ١ : ١٠٨.

٥٧

ومنها : تجويز بعضهم (١) اقتداء أحد واجدي المنيّ في الثوب المشترك بالآخر ، مع أنّ المأموم يعلم تفصيلا بطلان صلاته ، إمّا من جهة انتفاء شرط صحّة صلاة نفسه ، أو انتفاء شرط صحّة صلاة إمامه وهو الطهارة عن الحدث الأكبر ، فيتوجّه إليه الخطاب بالإعادة أو القضاء ، فلو اكتفى بالصلاة المذكورة ـ كما هو لازم القول المذكور ـ لزم مخالفة هذا الخطاب.

ومنها : حكم الحاكم بالتنصيف في عين تدّاعاه رجلان بحيث علم صدق أحدهما وكذب الآخر ، قد يصير النصفان إلى شخص ثالث بالاشتراء ونحوه ، وهو يعلم تفصيلا عدم انتقال أحد النصفين إليه من مالكه الواقعي.

ومنها : ما لو كان عند ودعي درهم لواحد ودرهمان لآخر ، فاختلطا ثمّ تلف عنده واحد من ثلاثة دراهم ، فإنّهم حكموا « بأنّ لصاحب الاثنين درهم ونصف من الباقيين ، والنصف الآخر لصاحب الواحد » (٢) وقد يفضي ذلك إلى مخالفة تفصيليّة ، كما لو صار الواحد المشترك إلى ثالث بالاشتراء أو الهبة وهو يعلم تفصيلا بعدم انتقال النصف منه عن مالكه الواقعي إليه.

ومنها : ما لو أقرّ بعين لواحد ثمّ أقرّ بها لآخر ، فإنّها تقوّم فتدفع إلى الأوّل والقيمة إلى الثاني ، فقد يصير العين والقيمة إلى ثالث باشتراء ونحوه ، ثمّ يبيعهما بثمن واحد فيعلم عدم انتقال تمام الثمن إليه ، لكون بعض مثمنه مال المقرّ في الواقع.

ومنها : ما لو اختلف البايع والمشتري في كون المبيع بالثمن المعيّن الواصل إلى البائع عبدا أو جارية ، فإنّ البايع بعد التحالف يردّ الثمن إلى المشتري ، فإنّه مخالف للعلم التفصيلي بصيرورته ملكا للبايع ثمنا ، وكذا لو اختلفا في كون ثمن الجارية المعيّنة عشرة دنانير أو مائة درهم ، فإنّ الحكم بردّ الجارية بعد التحالف مخالف للعلم التفصيلي بدخولها في ملك المشتري ، إذ الاختلاف في تعيين المثمن أو الثمن بعد فرض وقوع العقد عليهما على وجه الصحّة لا يوجب بطلانه ، فيكون التصرّف في المثمن أو الثمن بعد الردّ تصرّفا في ملك الغير بعنوان العلم التفصيلي.

ومنها : حكمهم (٣) « بأنّه لو قال أحدهما : بعتك الجارية بمائة ، وقال الآخر : وهبتني

__________________

(١) التذكره ١ : ٢٢٤ ونهاية الإحكام : ١ : ١٠١ والتحرير ١ : ١٢.

(٢) الشرائع ٢ : ١٢١ ونهاية الإحكام : ٣١٤ وقواعد الأحكام ١ : ١٨٦ والدروس ٣ : ٣٣٣.

(٣) التذكرة ١ : ٥٧٦ وجامع القاصد ٤ : ٤٥٣ ومفتاح الكرامة ٤ : ٧٦٦.

٥٨

إيّاها ، أنّهما يتحالفان وتردّ الجارية إلى صاحبها ، مع أنّا نعلم تفصيلا بانتقالها عن ملك صاحبها إلى آخر » إلى غير ذلك من أمثال هذه الموارد الّتي حكموا بما يؤدّي إلى المخالفة العمليّة للعلم التفصيلي.

وهذا محذور واضح من حيث إنّه خرق لحكم العقل وتخصيص في الحكم العقلي ، فإنّ العلم بأيّ سبب حصل وعلى أيّ وجه حصل لا بدّ وأن يترتّب عليه آثار معلومة الّتي هي آثار الواقع ، بضرورة ما تقدّم في المباحث السابقة من حكم العقل ، فكيف يجوز مخالفته بترتيب خلاف تلك الآثار عليه إلاّ أن يفرض أنّها ليست من آثاره ، أو أنّه ليس ممّا له تلك الآثار ، ومرجعه إلى القدح في الكبرى أو الصغرى ، والكلّ باطل بدليل الخلف ، لفرض صدق كلّ من الكبرى والصغرى ، فاشكل الأمر في الموارد المذكورة ، إلاّ أنّه إشكال في تلك الموارد ولا يوجب إشكالا في أصل القاعدة ، من عدم جواز مخالفة العلم الإجمالي حيثما أدّى إلى مخالفة العلم التفصيلي.

ثمّ إنّ هذه المخالفة مخصوصة بالعلم التفصيلي المتولّد عن الواقعتين المعمول فيهما الأصل.

وأمّا العلم التفصيلي الابتدائي فلم يثبت مخالفته أصلا ، مع أنّه يمكن تطرّق التأويل بالنسبة إلى العلم التفصيلي المتولّد ، بل لا مناص منه صونا للقاعدة العقليّة عن الانتقاض ، وهو بالنسبة إلى الموارد المذكورة لا يخلو عن وجوه على سبيل منع الخلوّ وإن اختصّ بعضها ببعض ، مثل منع إطلاق كلام العلماء فيما استند لزوم المخالفة إليه كما في مسألة اختلاف الامّة على قولين بحمل الأصل المرجوع إليه بعد إسقاط القولين على ما لا يكون مفاده حكم ثالث مخالف للقولين ، وحمل التخيير في كلام الشيخ (١) على ما لا يؤدّي إلى طرح قول الإمام ، ومثل الالتزام بالصلح القهري مع كونه من صلح الحطيط الّذي مرجعه في الأعيان إلى هبة بعض المال للغير كما في مسألة الدرهم والدرهمين.

ومثله الحكم في المتحالفين بردّ الجارية أو ردّ الثمن فإنّه صلح قهري يقع بين البائع والمشتري.

ومثل المقاصّة عن الحقّ فيهما فإنّ البائع والمشتري يأخذ من صاحبه المثمن أو الثمن تقاصّا عن حقّه الّذي أنكره صاحبه.

__________________

(١) العدّة : ٢ / ٦٣٧.

٥٩

ومثل كون التحالف انفساخا شرعيّا للعقد فيرجع المثمن أو الثمن إلى ملك مالكه الأوّل.

ومثل كون العلم التفصيلي مأخوذ في موضوع حكم كحرمة بيع الميتة أو الاشتراء بها ، فإنّ الميتة المعلومة بالتفصيل يحرم بيعها والاشتراء بها لا غير.

ومثل كون الحكم الظاهري في حقّ مكلّف موضوعا لحكم مكلّف آخر كما في الاقتداء ، فإنّ شرط صلاة المأموم أن يحرز صحّة صلاة إمامه ، ويكفي فيها الصحّة الظاهريّة المستندة إلى أصل من الاصول الّتي منها أصالة الصحّة في فعل المسلم ، فلو عمّمنا الصحّة الظاهريّة بالقياس إلى الصحّة عند الإمام فقط ، اندفع الإشكال عن مسألة اقتداء أحد واجدي المنيّ في الثوب المشترك على القول بجوازه.

هذا تمام الكلام في العلم الإجمالي الحاصل عند اشتباه التكليف أو المكلّف به ، وأمّا العلم الإجمالي الناشئ عن اشتباه المكلّف بالفتح فعلى قسمين :

أحدهما : ما لو كان الاشتباه في عنوان مردّد بين شخصين كالجنب بالجنابة الحاصلة في الثوب المشترك.

وثانيهما : ما لو كان الاشتباه في شخص مردّد بين عنوانين كالخنثى المردّدة بين الذكر والانثى في الأحكام المختصّة بكلّ من النوعين.

أمّا القسم الأوّل : فيلاحظ كلّ من الشخصين حاله في الوقائع المرتبطة بالعنوان المشترك بينهما ، فيستفيد حكمه من حاله في الواقعة الّتي يبتلى بها من الوقائع المذكورة ، فقد يبتلى بواقعة يشكّ فيها في توجّه الخطاب إليه من باب الشكّ في التكليف.

وقد يبتلى بواقعة يعلم فيها بتوجّه خطاب تفصيلي غير مشتبه مصداق متعلّقه إليه.

وقد يبتلى بواقعة يعلم فيها بتوجّه خطاب تفصيلي مشتبه مصداق متعلقه إليه.

وقد يبتلى بواقعة يعلم فيها بتوجّه خطاب إجمالي مردّد بين خطابين إليه.

وهذه صور أربع يختلف أحكامها من حيث المخالفة للعلم التفصيلي أو الإجمالي وعدمها ، وجواز المخالفة وعدمه.

أمّا الصورة الاولى : فمن أمثلتها غسل الجنابة ، فإنّ لكلّ منهما إعمال أصل البراءة في حقّ نفسه ، والحكم بعدم وجوب الغسل عليه لمكان شكّه في توجّه خطاب قوله : « اغتسل للجنابة » إليه ، وهو شكّ في التكليف ويقبح للشارع أن يعاقب من كان منهما جنبا في الواقع على تركه ، لأنّ العقاب فرع على العصيان وهو فرع على تنجّز التكليف وهو فرع على

٦٠