تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

الحجّيّة ليشملها دليل الحجّيّة.

وأيضا فإنّ الأصل لا يفيد ظنّا بالحكم الواقعي ، وكذلك الشهرة الناشئة منه ، بخلاف الشهرة في المسائل الفرعيّة فإنّها في كلّ مسألة تفيد الظنّ بالحكم الواقعي ، والقائل بحجّيّتها يقول بها بهذا الاعتبار ، فالقول بحجّيّة الظنّ بالحكم الواقعي الحاصل من الشهرة لا يستلزم القول بحجّيّة الشهرة الغير المفيدة للظنّ بالحكم الواقعي ، كالشهرة في المسألة الاصوليّة باعتبار أن مدركها الأصل وهو لا يفيد ظنّا فلا يشملها الدليل الدالّ على حجّيّة الشهرة ، باعتبار أنّها مفيدة للظنّ بالحكم الواقعي.

رابعها

خبر الواحد

الّذي ذهب جماعة إلى حجّيّته من باب الظنّ الخاصّ ، وتمسّكوا له بأدلّة خاصّة سيأتي ذكرها ، وينبغي أن يعلم أنّ تركيب خبر الواحد في إطلاقه الأكثري ليس كتركيب الخبر المتواتر والخبر المستفيض ، فإنّه فيه إضافي وفيهما توصيفي.

نعم قد يوجد في بعض الإطلاقات وروده بلفظ « الخبر الواحد » ، فيكون تركيبه أيضا توصيفيّا ، والفرق بين الاعتبارين أنّ الوحدة على الوصف وصف في الخبر كالتواتر والاستفاضة ، وعلى الاضافة وصف في المخبر ، والمضاف إليه في الحقيقة هو المخبر وهو مطويّ ، والتقدير : خبر المخبر الواحد.

ثمّ إنّ وحدة المخبر لا يراد منها الوحدة الشخصيّة أي كون المخبر شخصا واحدا ، بل الواحد هنا اصطلاح في مقابلة العدد الكثير الكافي في إفادة الخبر بنفسه العلم بصدقه ، فخبر الواحد يعني به خبر لا يكون المخبر فيه عددا كثيرا على الوجه المذكور ، سواء تعدّد أو اتّحد.

ثمّ إنّ المسألة في حجّيّة خبر الواحد وعدم حجّيّته من المسائل الاصوليّة الباحثة عن حال الدليل ، لكن لا لما سبق إلى بعض الأوهام من أنّ البحث عن حال الدليل أعمّ ممّا يرجع إلى دليليّة الدليل ، ـ بأن يكون المقصود بالبحث إثبات الدليليّة وما يرجع إلى حال من أحوال الدليل الآخر بعد الفراغ عن إحراز دليليّته ، فإنّه خلاف التحقيق ، بل لأنّ الدليل هنا هو السنّة بمعنى قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، ولذا كان المعدود في عداد الأدلّة الأربعة هو السنّة لا خبر الواحد ، والمراد بالخبر في عنوان « خبر الواحد » المبحوث عن

٢٠١

حجّيّته هو الخبر المصطلح ، المعرّف بأنّه كلام يحكي قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، والمراد بالكلام الحاكي هو قول الراوي في مقام الرواية والحكاية قال الصادق مثلا كذا ، أو سمعته يقول كذا ، أو رأيته فعل كذا ، وما أشبه ذلك ، وهذا الكلام هو الحديث والخبر المصطلح ، ويقال له : خبر العادل وخبر الواحد.

فمرجع البحث عن حجّيّته إلى أنّه هل السنّة تثبت بخبر الواحد ، كما أنّها تثبت بالنقل المتواتر وبالنقل المحفوف بقرائن القطع أو لا تثبت؟

وهذا هو معنى حجّيّة الإجماع المنقول بخبر الواحد ، فإنّ الإجماع دليل ، ومعنى حجّيّة النقل الواحد فيه أنّ الإجماع يثبت بخبر الواحد ، وظاهر أنّ كون الدليل الثابت دليليّته بحيث يثبت بخبر الواحد أو لا يثبت ، حال من أحوال الدليل بعد الفراغ عن إحراز دليليّته.

وبالجملة : السنّة دليل ، والبحث عن حالها من حيث ثبوتها بخبر الواحد والعدم بحث عن حال الدليل من حيث إنّه دليل ومفروغ عن دليليّته.

ومحصّله : أنّ العادل الحاكي لقول الإمام أو فعله أو تقريره ، هل يصدق في حكايته ويحكم على محكيه بأنّه سنّة ، فيكون كلاما في السنّة؟

وبالتأمّل في هذا البيان يعلم أنّ البحث عن الحجّيّة بالمعنى المأخوذ في هذا العنوان راجع إلى إحراز سند السنّة ، وهو صدور القول أو الفعل مثلا من المعصوم ، على معنى أنّ المقصود من إثبات الحجّيّة هو إحراز الصدور ، بلا نظر هنا إلى جهة الصدور ، وهو كون صدوره على وجه بيان الواقع لا على وجه تقيّة أو توريّة أو نحو ذلك ، ولا إلى جهة الدلالة ، وإن كان تماميّة الدليل تتوقّف على إحراز جميع هذه الجهات وغيرها من الجهات الكثيرة ، كظهور السند في الاتّصال في محلّ احتمال الإرسال ، وظهور بعض المشتركات بين الثقة وغيرها الواقعة في السند ـ باعتبار انصراف الإطلاق ـ في الثقة ، كظهور « أحمد بن محمّد » في الثقة الجليل المعروف المكنّى ب « ابن عيسى » الّذي هو شيخ القمّيّين ، وظهور كون الجواب صادرا لبيان الواقع كما يقتضيه منصب الإمامة ، لا على وجه التقيّة وقصد التورية ، وظهور الهيئة التركيبيّة لمتن الرواية في عدم السقوط والحذف ، وظهور ألفاظه باعتبار أوضاعها لغة أو عرفا أو شرعا في معانيها في أنفسها ، وظهورها أيضا في كون هذه المعاني مرادة ، وظهور القرائن الخارجيّة حالية أو مقاليّة أو مقاميّة في إرادة غير هذه المعاني من المعاني المجازيّة.

٢٠٢

فإنّ هذه كلّها ظهورات نوعيّة ، لكلّ منها مدخليّة في دليليّة الرواية ، ويتوقّف نهوضها دليلا على الحكم الواقعي على حجّيّة هذه الظنون ، غير أنّه لا نظر في دليل حجّية خبر الواحد ـ بالمعنى المبحوث عنه المقصود في العنوان ـ إلى هذه الظنون على اعتبار حكاية الراوي وهو الخبر ـ في إحراز السند ، على معنى قيامه مقام العلم بصدور ما حكاه من قول أو فعل أو تقرير من الإمام.

فما قد يتراءى من عبارات بعضهم من ترتيب بعض الجهات المذكورة على دليل حجّيّة خبر الواحد باعتبار أنّه خبر ، ليس على ما ينبغي.

ومن ذلك ما في كلام السيّد صدر الدين وغيره في مسألة الفحص عن المخصّص للعمل بالعامّ ، من إنكار وجوبه استنادا إلى إطلاق آية النبأ الدالّة بمفهومها على وجوب قبول نبأ العدل من غير تبيّن ، فإنّ الإطلاق ينفي وجوب الفحص في العمل بالعامّ الوارد في الرواية.

وفيه : أنّ الآية بعد تسليم تماميّة دلالتها إنّما يدلّ على وجوب القبول من حيث السند المحتمل للصدق والكذب ، ومعناه تصديق العادل فيما حكاه ، والحكم عليه بالصدق وعدم الاعتناء باحتمال الكذب ، والفحص عن المخصّص في العمل بالعامّ إنّما هو لإحراز دلالة العامّ على العموم ، والدلالة إنّما تقصد بعد إحراز السند فلا ينفيه الإطلاق المسوق لإحراز السند من غير نظر إلى حيث الدلالة.

ومن ذلك أيضا ما ردّ به التمسّك بإطلاق الإجماع المنقول على عدم جواز تقليد الموتى المتناول للبدوي والاستمراري ، من أنّا أثبتنا أنّ خبر الواحد حجّة من باب الظنّ ، وهو هنا لا يفيد الظنّ بعموم المنع.

وفيه : أنّ ما ثبت اعتباره من باب الظنّ في الخبر إنّما هو سند الخبر وحيث صدوره ، على معنى البناء على صدور الإجماع وتحقّقه تعويلا على نقل ناقله الذي هو من الخبر ، وهذا ممّا لا تعلّق له بجهة الدلالة.

والمناقشة المذكورة على تقدير تماميّتها مناقشة في الدلالة ، فلا تكون متفرّعة على دليل السند الدالّ على اعتبار نقل العدل وخبره من باب الظنّ.

وإذا تمهّد هذا كلّه فاعلم أنّ الظاهر أنّه لا كلام لأحد في أصل وجوب العمل في الجملة بما في أيدينا اليوم من الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة ، بل قد يقال : بأنّ هذا ممّا أجمع عليه في هذه الأعصار ، بل لا يبعد كونه ضروري الدين ، بل

٢٠٣

ربّما نسب إلى المرتضى (١) والقاضي (٢) وابن زهرة (٣) وابن ادريس (٤) دعوى تواترها كلّها أو جلّها ، ولا ينافيه كون أكثر ما وجد في الكتب الأربعة وغيرها ما لم ينقل إلاّ بطريق واحد أو بطريق غير بالغ حدّ التواتر ، لأنّهم يدّعون إحراز التواتر في جميع كتب الأخبار الّتي ذهب عنّا أكثرها ، والمعروف عن جماعة (٥) من الأخباريّين دعوى قطعيّة صدورها نظرا إلى قرائن تشهد بذلك.

وربّما عزي ذلك إلى الطبرسي (٦) بل المفيد (٧) أيضا ، وهو ظاهر المحكي عنه ممّا نقل حكايته عنه عن المحقّق في المعارج (٨) من أنّه قال : « إنّ خبر الواحد القاطع للعذر هو الّذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر إلى العلم ».

وربّما نسب ذلك أيضا إلى المرتضى واتباعه ، وهاتان الدعويان ساقطتان عندنا ، إذ لا سبيل لنا إلى إحراز التواتر في تلك الأخبار ، ولا إلى الاطّلاع على قرائن تفيد القطع بالصدور في كلّها أو جلّها.

والقرائن الّتي ذكرها الأخباريّون كلّها مدخولة على ما حقّقنا في غير المقام ، ولأجل ذا تنزّل بعض الأخباريّين عن دعوى قطعيّة الصدور إلى دعوى كونها قطعيّة العمل ، سواء كانت في الكتب الأربعة أو غيرها من الكتب المعروفة ، ككتب الصدوق من الأمالي والخصال والعلل.

وعن بعضهم استثناء الشاذّ المخالف للمشهور ، وليس غرضنا هنا التعرّض لجميع المقالات المتعلّقة بالباب ، ولا جدوى أيضا في التعرّض لأقوالهم المتشتّة ومذاهبهم المختلفة ، بل العمدة هنا التعرّض لذكر قولين طال فيهما التشاجر وكثرت في منعهما النقوض والإبرامات.

أحدهما : القول بعدم جواز العمل بخبر الواحد بطريق السلب الكلّي ، كما عن السيّد (٩) وأتباعه ممّن تقدّم ذكرهم.

__________________

(١) الذريعة ٢ : ٥٢٨ رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣٠٩.

(٢) حكاه عنه صاحب المعالم في المعالم : ١٨٩.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهيّة ) : ٤٧٥.

(٤) السرائر ١ : ٥١.

(٥) منهم صاحب الوسائل في الوسائل : ٢٧ / ١٠٥ ، والشيخ حسين الكركي في هداية الأبرار : ١٧.

(٦) مجمع البيان : ٥ : ١٣٣.

(٧) التذكرة باصول الفقه ( مصنّفات الشيخ المفيد ) ٩ : ٤٤.

(٨) معارج الاصول : ١٨٧.

(٩) رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٣٠٩.

٢٠٤

وثانيهما : القول بجواز العمل به على وجه الإيجاب الكلّي ، وحكاه في المعتبر إلى الحشويّة ، وجعله إفراطا في القول وطعن عليه حيث قال : « أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد حتّى انقادوا لكلّ خبر ، وما فطنوا لما تحته من التناقض ، فإنّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ستكثر بعدي القالّة عليّ » (١).

وقول الصادق عليه‌السلام « إنّ لكلّ رجل منّا رجل يكذب عليه » (٢).

ثمّ قال : واقتصر بعض عن هذا الإفراط ، فقال : كلّ سليم السند يعمل به وما علم أنّ الكاذب قد يلصق والفاسق قد يصدق ، ولم يتنبّه أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ، إذ لا مصنّف إلاّ وهو قد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر المعدّل.

ثمّ قال : وأفرط آخرون في طرف ردّ الخبر حتّى أحال بعضهم استعماله عقلا ونقلا ، واقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعا لكن الشرع لم يأذن في العمل به.

وكلّ هذه الأقوال منحرفة عن السنن والتوسّط ، أصوب ، فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب إطراحه » (٣) انتهى.

واحتجّ للمانعين : بالكتاب والسنّة والاجماع.

أمّا الكتاب : فمنه الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم (٤) ، والتعليل الوارد في آية النبأ (٥).

ويزيّفه : بعد تسليم دلالة الآيات وشمولها لغير اصول الدين ، أنّها لا تزيد على أصالة التحريم بل هي من مداركها.

وقد عرفت أنّ أصالة التحريم مسلّمة ، والكلام إنّما هو فيما خرج عنها بالدليل من باب التخصيص ، فلو تمّ دليل الحجّيّة وجواز العمل ولو في الجملة كان مخرجا عنهما مخصّصا لهما معا ، فلا ينبغي الاستناد إلى الآيات المذكورة في هذا المقام الذي يتكلّم فيه فيما استثنى من الأصل ، وعلى المثبت بيان دليل الاستثناء ، ولا يقابل ذلك الدليل بعد تمامه بما ذكر من عمومات المنع من العمل بما وراء العلم. وتعليل آية النبأ يندفع بأنّ التعليل بمقتضى ظاهر سياق الآية راجع إلى العمل بخبر الفاسق من غير تبيّن ، لأنّه الّذي يوجب

__________________

(١) رواه في المعتبر مرسلا عن الصادق عليه‌السلام ١ : ٢٩.

(٢) ورد قريب منه في الوسائل : ٢٧ : ٢٠٦ / ١ ، ب ١٤ من أبواب صفات القاضي.

(٣) المعتبر ١ : ٣٩.

(٤) الإسراء : ٣٦ ويونس : ٣٦ والأنعام : ١١٦.

(٥) الحجرات : ٦.

٢٠٥

الوقوع في الندم ، ولا يجري في العمل بخبر العادل تعويلا على عدالته الموجبة للوثوق بصدقه والاطمئنان بصدوره ، فإنّه يؤمننا من الوقوع في الندم ، نظرا إلى ما دلّ على إناطة العمل بالخبر بالموثوق والاطمئنان ، واعتبار التبيّن في العمل بخبر الفاسق أيضا لأجل إفادته لهما ، ومنه اشتهار العمل بالخبر الضعيف أو عمل جماعة من أجلاّء الأصحاب ، وغير ذلك من القرائن المفيدة لهما.

وأمّا السنّة : فمنها المروي عن البحار (١) عن بصائر الدرجات (٢) عن محمّد بن عيسى ، قال : « أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام وجوابه بخطّه عليه‌السلام ، فكتب نسألك عن العلم المنقول [ إلينا ] عن آبائك وأجدادك صلوات الله عليهم أجمعين قد اختلفوا علينا فيه فكيف العمل به على اختلافه؟ فكتب عليه‌السلام بخطّه وقرأته « ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموه فردّوه إلينا ». ومثله عن مستطرفات السرائر (٣).

وفيه : أنّه بنفسه خبر واحد فلا يعقل التمسّك به في منع العمل بخبر الواحد ، هذا مع احتماله إرادة ما يعمّ الوثوق والاطمئنان من لفظ « العلم » جمعا بينه وبين ما دلّ على إناطة العمل بخبر الواحد بهما.

ومنها : الأخبار الدالّة على عدم جواز العمل بالخبر المأثور إلاّ إذا وجد له شاهد من كتاب الله ، أو من السنّة المقطوع بها ، أو الإجماع أو العقل ، كما صرّح به الشيخ في الاستبصار وغيره ، فتدلّ على المنع عن العمل بالخبر المجرّد عن القرينة ، مثل ما ورد في غير واحد من الأخبار من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ما جاءكم عنّي لا يوافق القرآن لم أقله » (٤) ، وقول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. « لا يصدّق علينا إلاّ ما يوافق كتاب الله وسنّة نبيه » (٥) وقوله عليه‌السلام : « إذا جاءكم حديث عنّا فوجدتم عليه شاهد أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به ، وإلاّ فقفوا عنده ثمّ ردّوه إلينا حتّى نبيّن لكم » (٦).

ورواية أبي يعفور قال : سألت أبا عبد الله عن اختلاف الحديث يرويه من أثق به ومن

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٤١ / ٣٣.

(٢) بصائر الدرجات : ٥٢٤ / ٢٦.

(٣) السرائر : ٣ / ٥٨٤.

(٤) الوسائل ٢٧ : ١١١ / ١٥ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الوسائل ٢٧ : ١٢٣ / ٤٧ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٦) الوسائل ٢٧ : ١١٢ / ١٨ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٢٠٦

لا أثق به ، قال : « إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله ومن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخذوا به ، وإلاّ فالّذي جاءكم أولى به » (١).

وقوله عليه‌السلام لمحمّد بن مسلم : « ما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يوافق كتاب الله فخذ به ، وما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يخالف كتاب الله فلا تأخذ به » (٢).

وقوله عليه‌السلام : « ما جاءكم من حديث لا يصدّقه كتاب الله فهو باطل » (٣).

وقول أبي جعفر عليه‌السلام : ما جاءكم عنّا فإن وجدتموه موافقا للقرآن فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا فردّوه ، وإن أشتبه الأمر عندكم فقفوا عنده ، وردّوه إلينا حتّى نشرع من ذلك ما شرع لنا » (٤).

وقول الصادق عليه‌السلام : « كلّ شيء مردود إلى كتاب الله والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » (٥).

وصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة ، أو تجدوا معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتاب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا » (٦).

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ولو مع عدم المعارض ، فإنّها كثيرة جدّا بل متواترة معنى كما ادّعي.

وجه الاستدلال بها : أنّها واضح الدلالة على حجّيّة كلّ خبر تشهد القرينة القطعيّة من الكتاب والسنّة المقطوع بها على صدقه ، وعدم حجّيّة غيره سواء خالف الكتاب والسنّة أو لم يوافقهما ، وإنّما لم يذكر فيها الإجماع ودليل العقل من القرائن المفيدة للقطع بصدق الخبر ـ كما صنعه الشيخ ـ لرجوعهما إلى الكتاب والسنّة ، فإنّ الإجماع لا ينفكّ عن السنّة

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٠ / ١١ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٤ / ٥ ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٣) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٤ / ٧ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ٢٧ : ١٢٠ / ٣٧ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الوسائل ٢٧ : ١١١ / ١٤ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٦) بحار الأنوار ٢ : ٢٥٠ / ٦٢.

٢٠٧

باعتبار كشفه عن قول المعصوم ، وحكم العقل إن كان على سبيل التنجيز كحرمة الظلم ونحوها فهو موجود في الكتاب لا محالة بل في السنّة أيضا ، وإن كان على سبيل التعليق كأصل البراءة ونحوه فكذلك أيضا ، فإنّ مدركه من عمومات أصل البراءة مذكور في الكتاب والسنّة ، إن لم نقل بأنّه لا معنى لجعل مخالفته ميزانا لكذب الخبر.

ويمكن أن يكون الكتاب والسنّة المجعولين فيها ميزانا لصدق الخبر وكذبه كنايتين عن مطلق الدليل القطعي ، فلا يرد عليها أنّها لا تدلّ على اعتبار مطلق القرينة المفيدة للقطع بصدق الخبر ، وإلاّ كان عليهم عليهم‌السلام ذكر الإجماع ودليل العقل أيضا في عداد القرائن.

وكيف كان فقد يجاب عن الأخبار المذكورة : بأنّها لا تقاوم لمعارضة الأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الواحد ، لكونها أقوى منها باعتبار أنّها أكثر عددا وأرجح عملا واعتضادا ، فلابدّ من إطراحها أو ارتكاب خلاف الظاهر فيها.

وقد يجاب أيضا : بتنزيلها على الآحاد الواردة في العقائد الفاسدة ، مثل الجبر والغلوّ والتفويض والتجسيم وغيره ممّا افترى فيها على الأئمّة عليهم‌السلام ، فلا يمكن الأخذ بها لمخالفتها الكتاب والسنّة ، بل مطلق الدليل القطعي القائم على بطلان هذه العقائد.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إمّا أن يراد من الاستدلال بتلك الأخبار بيان مانعيّة المخالفة للكتاب أو السنّة من العمل بالخبر المخالف ، كما هو مقتضى ما دلّ منها على طرح الخبر المخالف لهما ، أو بيان شرطيّة الموافقة لأحدهما الموجبة للعلم بالصدق للعمل بالخبر ، كما هو مقتضى ما دلّ منها على طرح كلّ خبر لا يوافقهما.

وأيّا مّا كان فهو غير صحيح.

أمّا الأوّل : فلأنّه إن اريد بالمخالفة المفروض كونها مانعة ، المخالفة الكلّيّة الحاصلة بالتبائن الكلّي الّذي ضابطه تعذّر الجمع أو تعسّره ، فهو يوجب إخراج الأخبار الدالّة على وجوب طرح الخبر المخالف ـ على كثرتها حتّى ادعي تواترها معنى ـ بلا مورد ، إذ لا يكاد يوجد في الآحاد خبر خالف الكتاب والسنّة بالتبائن الكلّي ، بل قد يقال : بأنّه لا يوجد ذلك في الأخبار الكاذبة الّتي كان وضّاع الحديث يضعونها ويدسّونها في كتب أصحاب أئمّتنا عليهم‌السلام ، بل وضع مثل ذلك ينافي غرضهم من تلبيس الأمر على أصحاب الأئمّة في الاصول والفروع وترويج مذاهبهم الباطلة ، لعلمهم بعدم قبول أحد لمثل هذا الخبر المخالف ، ومن هنا يعلم أنّ هذا النحو من الخبر على تقدير وجوده فيما بين أخبار الآحاد

٢٠٨

ـ باعتبار أنّه لا يقبله أحد بل لا يجوّز قبوله ـ خارج عن محلّ النزاع ، لأنّ مخالفته على هذا الوجه كافية في إسقاطه عن الحجّيّة.

وإن اريد بها المخالفة الجزئيّة الحاصلة بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد ، بأن يكون الخبر خاصّا مخالفا لعمومات الكتاب والسنّة ، أو مقيّدا مخالفا لمطلقاتهما ، فحينئذ إمّا أن يراد من كون المخالفة على هذا الوجه مانعة ، أنّها أمارة على الكذب في الخبر المخالف ، وهو الباعث على وجوب طرحه ففيه : أنّه يوجب الكذب في أكثر الأخبار الموجودة بأيدينا اليوم المأثورة عن الأئمّة عليهم‌السلام إن لم نقل كلّها ، لأنّها تخالف الكتاب والسنّة هذه المخالفة ، وهذا مع بعده في نفسه مدفوع بالعلم الإجمالي بأنّ الصادر من تلك الأخبار وغيرها من الأئمّة عليهم‌السلام أكثر من غيره بمراتب شتّى ، فلا يمكن رفع اليد عن العلم الإجمالي بمجرّد هذه الأخبار ، وإن جعلنا مدركه ما عهدناه من أرباب التصانيف في الأحاديث ، نقدوها وانتخبوها من مجموع أحاديث الاصول فأخرجوا منها الأخبار الكاذبة المجعولة على حسب وسعهم واجتهادهم ، فلم يبق من تلك الأخبار في أحاديث تصانيفهم إلاّ أقلّ قليل منها.

فإن قلت : إنّ المعلوم بالإجمال يتميّز من غيره بأمارات الصدق والقرائن المفيدة للوثوق بصدق الأكثر ، فيبقى غيره العاري عن نحو هذه القرائن خارجا عن طرف العلم الإجمالي ، محكوما عليه بالكذب ، لوجود أمارته معه وهو مخالفة الكتاب والسنّة ، فيجب طرحه عملا بهذه الأخبار.

قلت : فعلى هذا بطل السلب الكلّي المدّعى من جهة هذه الأخبار ، لأنّه يرتفع بالإيجاب الجزئي ولو في ضمن الأقلّ فضلا عن الأكثر ، كما فيما نحن فيه.

أو يراد أنّ المخالفة على هذا الوجه مانعة تعبّدا من الشارع عن العمل بالخبر المخالف مطلقا ، سواء عارضه خبر موافق لهما أو لا.

ففيه : أنّ دليل هذا التعبّد ـ وهو الأخبار المذكورة ـ معارض بما هو أقوى وأرجح من جهات شتّى ممّا يدلّ على جواز العمل بخبر الواحد الموثوق بصدقه وصدوره من جهة الأمارات والقرائن الموجبة للوثوق.

أو يراد أنّها مانعة تعبّدا من العمل به إذا عارضه خبر موافق.

ففيه : أنّه لا ينافي الحجّيّة الذاتيّة ولا حجّيّة الخبر المخالف السليم عن المعارض ، فيؤول مفاد الأخبار حينئذ إلى بيان حكم الترجيح في الخبرين المتعارضين بالموافقة

٢٠٩

والمخالفة للكتاب ، فتكون هذه الأخبار في سياق ما ورد في الأخبار العلاجيّة لبيان الترجيح بهذا المرجّح ولا كلام فيه.

وأمّا الثاني : فلأنّه إن اريد من شرطيّة الموافقة أنّها قرينة صدق توجب العلم بصدور الخبر الموافق ، ففيه : منع واضح ، لأنّ مجرّد موافقة الخبر الخاصّ أو المقيّد لعمومات الكتاب والسنّة أو مطلقاتهما لا يمكن كونها قرينة موجبة للعلم بالصدق والصدور مطلقا ، وإن أوّل بصدور مضمونه لا نفسه.

ومع التنزّل فلا يسلّم إفادتها العلم بصدور الخبر بنفسه أو بمضمونه إلاّ على تقدير نصوصيّة العمومات والمطلقات في دلالاتهما على جميع الأفراد الّتي منها مورد هذا الخبر الموافق ، ضرورة أنّه لو ورد في أخبار الآحاد قوله : « لا بأس ببيع العنب ممّن يعمل خمرا » مثلا ، فإنّه يوافق قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) ولكنّه لا يصير بمجرّد هذه الموافقة قطعي الصدور من المعصوم إلاّ إذا كان دلالة ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) على جميع أفراده الّتي منها بيع العنب ممّن يعمل خمرا على طريق النصوصيّة الموجبة للقطع بدخول كلّ فرد في الإرادة ، إذ مع احتمال عدم الدخول في كلّ فرد ، حتّى هذا الفرد احتمل عدم الصدور في ذلك الخبر.

ودعوى النصوصيّة في دلالة العمومات والمطلقات باطلة لا ينبغي الإصغاء إليها ، بل غاية ما فيهما من العموم والإطلاق كون الدلالة فيهما على وجه الظهور والظنّ ، وقضيّة الظنّ بدخول كلّ فرد في الإرادة ـ حتّى هذا الفرد ـ كون الخبر الوارد فيه موافقا للعموم أو الإطلاق أيضا ظنّي الصدور فأين القطع بالصدق؟

وإن اريد منها أنّ الموافقة لها أمارة صدق وقرينة توجب الظنّ بالصدور فهو مسلّم ، ولكنّ الأخبار الدالّة على شرطيّة الموافقة بهذا المعنى لا تزيد على الدلالة على أنّ شرط العمل بخبر الواحد هو الوثوق بصدقه والاطمئنان بصدوره ، فتكون مسوقة في سياق ما سيأتي من الأخبار الدالّة على إناطة العمل به بالوثوق والاطمئنان ، وهذا ممّا لا كلام فيه فارتفع النزاع ، بل الأخبار المستدلّ بها حينئذ لنا لا علينا.

وقد يجاب أيضا : بأنّ هذه الأخبار على تقدير تسليم دلالتها على وجوب طرح الخبر المخالف ، أو الغير الموافق للكتاب والسنّة مطلقا لا يتناول الأخبار الّتي لم تحرز فيها مخالفة ولا عدم موافقة لهما ، وهي الأخبار الدالّة على أحكام لم توجد هذه الأحكام ولا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧٥.

٢١٠

مقابلاتها في كتاب ولا سنّة على وجه تبلغه أفهامنا القاصرة.

وقد دلّ على جواز ذلك غير واحد من الأخبار الدالّة على أنّه قد يرد من الأئمّة ما لا يوجد في الكتاب والسنّة ، كالمروي عن البصائر والاحتجاج مرسلا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : « ما وجدتم في كتاب الله فالعمل به لازم ، ولا عذر لكم في تركه ، وما لم يكن في كتاب الله تعالى وكانت فيه سنّة منّي فلا عذر لكم في ترك سنّتي ، وما لم يكن فيه سنّة منّي ، فما قال أصحابي فقولوا به ، فإنّما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم ، بأيّها أخذ اهتدى ، وبأيّ أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة لكم ، قيل : يا رسول الله ، ومن أصحابك؟ قال أهل بيتي » (١) الخبر.

والرواية المنقولة عن العيون ، وفيها : « أنّ ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب ـ الله إلى أن قال ـ : وما لم يكن في الكتاب فأعرضوهما على سنن رسول الله ـ إلى أن قال ـ : وما لم تجدوا في شيء من هذه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك » (٢).

ومرجعه إلى أنّ الدليل أخصّ من المدّعى ، فلا يثبت به الكلّيّة المدّعاة.

وأمّا الإجماع : فادّعاؤه على المنع معروف من السيّد المرتضى ، وقيل : إنّه ادّعاه في مواضع من كلامه ، وجعله في بعضها بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب الشيعة (٣) وهو ظاهر المحكي عن الطبرسي في مجمع البيان حيث قال : « لا يجوز العمل بالظنّ عند الإماميّة إلاّ في شهادة العدلين ، وقيم المتلفات وأروش الجنايات » (٤) ، فإنّ ظاهره بملاحظة الأمثلة ، أنّه أراد بالظنّ خبر الواحد الظنّي ، أي المظنون الصدق ، وقد جعل المنع من العمل به من مذهب الإماميّة.

وفيه : لو كان موضع الدلالة من كلامه هو هذه العبارة نظر من وجهين ، لجواز كون مراده الظنّ أو الخبر الظنّي في الموضوعات لا خبر العادل في الأحكام ، وكيف كان فيأتي في كلام الشيخ ـ عند نقله الإجماع على جواز العمل ـ أنّه كان يعترف بما ادّعاه السيّد من الإجماع على المنع من العمل بأخبار الآحاد ، إلاّ أنّه أوّله بكون معقده الأخبار المرويّة

__________________

(١) بصائر الدرجات : ١ / ١١ / ٢ والاحتجاج : ٢ : ١٠٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١ / ٤٥ والوسائل ٢٧ : ١١٣ / ٢١ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٣) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤ و ٣ : ٣٠٩.

(٤) مجمع البيان ٤ : ٥٧ ذيل الآية ٧٩ من سورة الأنبياء.

٢١١

بطرق المخالفين.

وكيف كان فما ادّعاه السيّد من الإجماع ـ بل معروفيّة المنع من مذهب الشيعة ـ محصّله غير متحقّق ، ومنقوله غير مفيد ، والاعتماد على نقله في منع العمل بخبر الواحد غير صحيح ، لأنّه أيضا من قسم خبر الواحد.

وعلى بناء اعتباره على كشفه الظنّي عن السنّة ، أو وجود دليل معتبر ، نظرا إلى كونه نقلا للكاشف عن أحد الأمرين ، يرد عليه أيضا : أنّه ـ مع ما ستعرفه من معارضة إجماع الشيخ (١) وشهرة خلافه بين المتقدّمين والمتأخّرين وغير ذلك ـ لا يكشف عن أحد الأمرين ولو ظنّا ، فلا يمكن التعويل عليه أصلا ، بل دعوى المعروفيّة من المذهب أمر عجيب ، حيث لم نعثر على ما يشهد بما ادّعاه من كلام المورّخين ، ولا أصحابنا المحدّثين ، ولا علماء الرجال ولا غيرهم ، بل المعلوم من مذهبهم شدّة المحافظة على كتب الأخبار ، والمبالغة في حفظ الأحاديث المرويّة عن الأئمّة الأطهار ، حتّى أنّه ملأت طواميرهم من الأحاديث والأخبار وضبط أسانيدها ، وصنّفت كتب كثيرة ورسائل عديدة في ضبط أحوال الأسانيد ، والمبالغة في جرحها وتعديلها ، ولم نقف من أحد منهم على إشارة إلى ما ادّعاه السيّد من إجماع الطائفة والمعروفيّة من مذهب الشيعة ، ولا إلى ما ارتكبه من تنزيل العمل بالأخبار منزلة العمل بالقياس.

فلو صحّ ما ادّعاه فكيف يخفى على من عداه ، بل المتتّبع في كتب الأحاديث والرجال يعلم ضرورة من حال أربابها أنّ العمل بأخبار الآحاد في الجملة كان من مذهب الإماميّة ، وكان عليه طريقة الرواة وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، فإن أراد السيّد وأتباعه بما ادّعوه منع العمل بالأخبار مطلقا ، حتّى روايات الثقات والصحاح منها باصطلاح القدماء ، وما يطمئنّ بها النفس ويسكن إليها الفؤاد فنحن لا نصدّقهم بل نخالفهم ، لأنّ المعلوم من ضرورة المذهب خلافه ، ولا نسلّم منهم الإجماع على الدعوى المذكورة ، وإن أرادوا منع العمل في الجملة وعلى وجه الإيجاب الجزئي فلا مخالفة بيننا وبينهم ، لأنّا لا ندّعي الكلّيّة بل في الجملة ، ومناطه على ما ستعرفه ما يوجب الاطمئنان والوثوق.

وقد يجاب : أيضا بطريق المعارضة بالنظر إلى دعوى الشيخ الإجماع على جواز

__________________

(١) العدّة ١ : ١٢٨.

٢١٢

العمل ، المعتضدة بدعوى جماعة اخرى الإجماع على حجّيّة خبر الواحد في الجملة ، وتحقّق الشهرة على خلافها بين القدماء والمتأخّرين.

فلنشرع بذكر ما احتجّ به المثبتون للحجّيّة ، فنقول : إنّ لهم من الأدلّة الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

أمّا الكتاب : فمنه آيات كثيرة منها ثلاثة تمسّك بها الشيخ في العدّة ، وهي آيات النبأ والنفر والكتمان ، وقيل أوّل من تمسّك بها فيما نعلم الشيخ ، والعمدة منها آية النبأ وهي قوله تعالى في سورة الحجرات : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ )(١).

وينبغي التعرّض قبل بيان وجه الاستدلال لشرح مفردات الآية ، فقوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) أي أخبركم فاسق بشيء ، وقوله : ( فَتَبَيَّنُوا ) أي اطلبوا بيان صدق الخبر وظهوره وثبوت المخبر به في الخارج ، ولذا شاع تفسيره بالتثبّت بالفحص والسؤال ، وقوله : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) أي مخافة أو كراهة أن تصيبوا ، والإصابة بحسب الأصل والوضع اللغوي وإن كانت لمطلق إيصال الشيء خيرا كان أو شرّا ، إلاّ أنّ إطلاقها ينصرف إلى إيصال الشرّ ، ولا يصرف إلى إيصال الخير إلاّ لقرينة ، ومنه المصيبة حيث تطلق مطلقة على إيصال العزاء الّذي هو من الشرّ ، ففرق بين مطلق الإصابة ، والإصابة المطلقة ، حيث إنّ الاولى لما يعمّ الخير والشرّ ، والثانية ظاهرة عرفا بحكم الانصراف في الشرّ ، ولا تطلق على الخير إلاّ مقيّدة ، فقوله : ( أَنْ تُصِيبُوا ... ) إلى آخره أي مخافة أن توصلوا الشرّ من نهب الأموال ، أو أسر النفوس ، أو قتلهم بسبب جهلكم بكذب الخبر ، وقوله : ( فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) أي فتدخلوا في الصباح حال كونكم نادمين إن جعلناه بمعنى الدخول في الصباح كما هو الأصل فيه ، أو فتصيروا نادمين إن جعلناه بمعنى الصيرورة كما جوّزه النحاة.

وحاصل المراد أنّ إصابة القوم بجهالة كذب الخبر ممّا يوجب الوقوع في الندامة ، والتعبير عن هذا المعنى بقوله : ( فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) استعارة بالكناية ، حيث شبّه إصابة القوم بالجهالة بإصابة قوم في ظلام الليل الّتي ربّما توجب الوقوع في الندامة ، باعتبار وقوعها على غير مستحقّها بعد ما ارتفع الظلام بالدخول في الصباح ، وكذلك إصابة قوم نهارا عملا بالخبر الغير المعلوم صدقه بلا تبيّن صدقه ، فأطلق على المشبّه ما هو من

__________________

(١) سورة الحجرات : ٦.

٢١٣

خواصّ المشبّه به ، ومحصّل المعنى : تعليل الأمر بالتبيّن عند العمل بخبر الفاسق بعدم الوقوع في الندم ، كما هو شأن العمل بالخبر الغير المعلوم صدقه من غير تبيّن صدقه ، بخلاف العمل به بعد التبيّن.

وأمّا وجه الاستدلال : فيقرّر تارة بالبناء على مفهوم الشرط لكون قضيّة الآية شرطيّة ، واخرى بالبناء على مفهوم الوصف ، لمكان ذكر « الفاسق » [ الّذي ] هو من الوصف.

أمّا الأوّل : فلأنّه تعالى علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق بالنبأ ، وقضيّة التعليق على الشرط انتفاء وجوبه عند انتفاء مجيء الفاسق به ، وهو قد يجامع مجيء العادل به ، وحينئذ فإمّا أن يجب القبول أو يجب الردّ مطلقا ، والثاني باطل لاستلزامه كون العادل أسوأ حالا من الفاسق فتعيّن الأوّل ، إذ لا واسطة وهو المطلوب.

وظنّي أنّ توسيط المقدّمة الأخيرة ممّا لا حاجة إليه في تتميم الاستدلال ، بل الاستدلال يتمّ بدونه بناء على أنّ وجوب التبيّن شرطي ، ومعناه كون العمل بخبر الفاسق مشروطا بتبيّن صدقه ، وهذا هو منطوق الآية ، ومفهومها الّذي هو عبارة عن انتفاء الحكم المنطوقي عند انتفاء الشرط ، هو عدم كون العمل بخبر العادل مشروطا بالتبيّن ، ومعناه جواز العمل به من غير تبيّن فسقط اعتبار المقدّمة الأخيرة المشتملة على الترديد ، ولعلّهم في توسيط هذه المقدّمة زعموا التبيّن واجبا نفسيّا وحينئذ فانتفاء الوجوب النفسي في القضيّة المفهوميّة لا يلازم القبول من غير تبيّن ، لجواز الواسطة وهي الردّ من غير تبيّن ، فلا يتمّ الاستدلال إلاّ بنفي احتمال الواسطة ، فلابدّ من توسيط المقدّمة الأخيرة المشتملة على ترديد خبر العادل بعد نفي وجوب تبيّن صدقه وكذبه بين وجوب القبول ووجوب الردّ. ثمّ نفي الاحتمال الثاني ببطلان كون العادل أسوأ حالا من الفاسق بضرورة من حكم العقل.

أقول : نفسيّة الواجب هنا وإن كان يساعد عليه الأصل اللفظي ، وهو ظهور الأمر المطلق في الوجوب النفسي ـ كما حقّق في محلّه ـ غير أنّ هذا الظهور يصرف عنه لصارف ، وهو القرينة المقامة على الوجوب الشرطي من وجوه ثلاث :

أحدها : اتّفاق العلماء قديما وحديثا على أنّ التبيّن في خبر الفاسق إنّما اعتبر مقدّمة للعمل لا غير.

وثانيها : قضاء القوّة العاقلة بعدم كون التبيّن بنفسه عنوانا يصلح للوجوب ، وكونه مطلوبا للشارع لولا العمل بالخبر.

وثالثها : التعليل الوارد في الآية ، فإنّ إصابة قوم بجهالة والوقوع في الندامة بسببها إنّما

٢١٤

يتأتّى بواسطة العمل بالخبر بلا تبيّن لا غير ، على أنّه على تقدير البناء على الوجوب النفسي أيضا لا حاجة إلى اعتبار الواسطة ، لمنع الملازمة على احتمال وجوب الردّ ، على معنى أنّه لا يلزم على تقدير عدم قبول نبأ العدل مع وجوب تبيّنه كونه أسوأ حالا ، فإنّ احتمال الكذب في نبأ الفاسق لمّا كان احتمالا ظاهرا فوجب التبيّن عنده لأجل ذلك ، بخلاف نبأ العادل فإنّ الاحتمال المذكور فيه ضعيف بل في غاية الضعف ، فانتفى وجوب التبيّن عنده من جهته.

وهذا يدلّ على حسن حاله لا على سوء حاله ، وقول المستدلّ في الترديد وحينئذ فإمّا أن يجب القبول أو يجب الردّ ، قلنا في ردّه : أنّ التبيّن في نبأ الفاسق على زعمه لم يكن لأجل العمل ، فكيف يردّد نبأ العادل بين وجوب القبول ووجوب الردّ.

وبالجملة فالمستدلّ إمّا أن يقول بكون التبيّن في نبأ الفاسق مقدّمة للعمل به ، أو لا يقول به.

فعلى الأوّل سقط احتمال الوجوب النفسي في التبيّن.

وعلى الثاني سقط اعتبار الترديد في تتميم الاستدلال ، إذ المفروض عدم تعلّق الغرض في التبيّن بالنسبة إلى نبأ الفاسق بالعمل به ، كما هو معنى نفسيّة الوجوب حتّى يصحّ أن يقال : بأنّه إذا جاز العمل به بعد التبيّن ولم يجز العمل بنبأ العادل مع التبيّن ومع عدمه لزم كونه أسوأ حالا.

وأمّا الثاني : فلأنّه تعالى علّق إيجاب التبيّن على كون المخبر فاسقا ، فينتفي عند انتفائه.

والفرق بين هذا التقرير والتقرير السابق ، أنّ الانتفاء هنا يعتبر في الوصف وثمّة في الشرط ، والقضيّة المفهوميّة على اعتبار مفهوم الشرط ينحلّ إلى قولنا : « إن لم يجئكم نبأ فاسق فلا يجب عليكم التبيّن » ، وعلى اعتبار مفهوم الوصف بنحلّ إلى قولنا : « إن جاءكم غير فاسق بنبأ فلا يجب عليكم التبيّن » ، ومعناه إن جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التبيّن ، إذ لا واسطة بين الفاسق والعادل في نفس الأمر ، وحينئذ إمّا أن يجب القبول أو يجب الردّ إلى آخر ما تقدّم ، وقد عرفت ما فيه.

لا يقال : أنّ كون المخبر فاسقا يتضمّن وصفين بل أوصافا ثلاث ، كونه مخبرا ، وكون المخبر واحدا على ما يقتضيه تنوين التمكن ، وكون المخبر الواحد فاسقا ، وكلّ واحد يصلح للعلّيّة فيحتمل كلّ تعليل الحكم به ، فسقط الدلالة على عدم وجوب التبيّن عند كون المخبر عادلا ، لقيام احتمال التعليل بأحد الوصفين الأوّلين ، وكلّ منهما وصف عامّ مشترك بين الفاسق والعادل ، وإن كان ثانيهما أخصّ من الأوّل ، إلاّ أنّه كالأوّل أعمّ من الثالث.

٢١٥

لأنّا نقول : إنّ كلاّ من الوصفين الأوّلين إنّما يصلح للعلّيّة وتعليل الحكم به إذا لوحظ بما هو هو ولو خلّي وطبعه ، لا بالنظر إلى قضيّة الآية ، فإنّها ظاهرة في التعليل بالوصف الأخير وهو الفسق.

أمّا أوّلا : فلأنّه المتبادر من الآية في متفاهم العرف.

وأمّا ثانيا : فلأنّه المذكور في الكلام صريحا.

وأمّا ثالثا : فلاقتران الحكم بذلك الوصف.

وأمّا رابعا : فلأنّه المناسب أو أشدّ مناسبة لإيجاب التبيّن ، فإنّ الفسق يناسب عدم قبول الخبر ، أو أشدّ مناسبة له لأنّه يناسب الكذب ، وهو المانع من القبول.

ثمّ إنّه أورد على الاستدلال بالآية بإيرادات كثيرة ترتقي إلى خمسة وعشرين أو ستّة وعشرين ، وإن كان أكثرها قابلا للدفع ، إلاّ أنّ منها ما لا مدفع له وهو أمران :

أحدهما : أنّ الاستدلال بالآية إمّا أن يكون باعتبار مفهوم الوصف ، أو باعتبار مفهوم الشرط ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ المحقّق ـ على ما قرّر في محلّه ـ عدم حجّيّة مفهوم الوصف ، على معنى أنّ التعليق على الوصف لا يفيد العلّيّة والتعليل لكثرة الفوائد ، وكون هذه الفائدة ظاهرها أو أظهرها عرفا غير مسلّم ، خصوصا إذا لم يعتمد الوصف الوارد في الكلام على موصوف كما فيما نحن فيه.

وتوهّم اعتماده بالموصوف المقدّر وهو « رجل » أو « مخبر » أو نحو ذلك والمقدّر كالمذكور.

يدفعه : أنّ التقدير ممّا لا موجب له والأصل عدمه ، فيكون الوصف المذكور أشبه باللقب ، فالمفهوم المتوهّم من جهته أشبه بمفهوم اللقب ، لأنّ اللقب هو الاسم وفسّر بما هو العمدة في الكلام وهو المسند والمسند إليه ، وغيرهما من القيود فضلة ، ومنها الشرط في القضيّة الشرطيّة ، والوصف في القضيّة التوصيفيّة ، وظاهر أنّ ورود الفضلة في الكلام لا بدّ لها من فائدة أزيد من الفائدة المطلوبة من أصل الكلام ، وهو إفادة أصل الحكم الّتي لا تتمّ إلاّ بالمسند والمسند إليه ، ولذا لا يقتضي التعليق على أحدهما فائدة اخرى سوى فائدة أصل الكلام ، وهو السرّ في عدم حجّيّة مفهوم اللقب ، فإنّ ذكر المسند أو المسند إليه لأنّ الكلام لا يتمّ بدون أحدهما وفائدته لا تتمّ إلاّ بذكرهما معا ، بخلاف ذكر ما هو من الفضلة

٢١٦

فإنّه ممّا لا يتوقّف عليه تماميّة أصل الكلام ولا تماميّة فائدته ، فلابدّ لذكرها من فائدة اخرى ، وإفادة الانتفاء عند الانتفاء تصلح لتلك الفائدة ، والمفروض أنّ « الفاسق » في الآية باعتبار أنّه لم يعتمد على موصوف أنّما اعتبر مسندا إليه ، فيكون من العمدة وهي اللقب ، وقد عرفت أنّ التعليق على العمدة لا يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، وهذا هو معنى كون المفهوم المتوهّم بالنسبة إلى ذلك الوصف أشبه بمفهوم اللقب.

وفيه نظر : لأنّ ما هو من قبيل مفهوم اللقب ، هو انتفاء أصل حكم الكلام المتقوّم بالمسند والمسند إليه ، كما لو قلنا في مثل ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ) أنّه يدلّ على عدم مجيء العادل ، ولا كلام في عدم حجّيّة هذا المفهوم ، لا انتفاء حكم آخر غير الحكم المتقوّم بالمسند والمسند إليه كما فيما نحن فيه ، فإنّ إيجاب التبيّن عن نبأ الفاسق غير إسناد المجيء بالنبأ إلى الفاسق ، فلو فرض دلالة التعليق على انتفائه عند انتفاء الفسق كان من مفهوم الوصف لا غير ، فلا معنى لجعله أشبه بمفهوم اللقب ، فانحصر طريق ردّ الاستدلال في منع حجّيّة مفهوم الوصف.

وأمّا الثاني : فلعدم كون التعليق في الآية مساوق لتعليل الحكم بالشرط في موضوع محقّق على كلا تقديري وجوده وانتفائه ، كما هو الضابط في حجّيّة مفهوم الشرط ، كما في قوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » ، لا لبيان كون الشرط محقّقا لموضوع الحكم بحيث يقضي انتفائه بانتفاء أصل الموضوع ، ففي مثل ذلك لا يقصد منه المفهوم ، للزوم اللغو كما في قولك : « إن قدم زيد من السفر فاستقبله » ، و « إن رزقت ولدا فاختنه » ، و « إن أصبت مالا فأنفقه » ، و « إذا لقيت أسدا فاحذر منه » ، ومنه قوله عزّ من قائل : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ )(١) الآية ، ولا ريب أنّ ما نحن فيه من هذا الباب ، فإنّ مجيء الفاسق بنبأ محقّق لموضوع وجوب التبيّن ـ وهو نبأ الفاسق ـ ومع انتفائه لا نبأ أصلا حتّى يتبيّن صدقه أو كذبه ، فالسالبة في جانب المفهوم لو قصد إفادته إنّما هي من جهة انتفاء الموضوع وهي غير مفيدة ، فيلزم كون اعتباره وقصده لغوا.

لا يقال : إنّ السلب من جهة انتفاء الموضوع خلاف ظاهر القضيّة ، لكونها حقيقة في كون سلبها لانتفاء المحمول مع تحقّق الموضوع فلتحمل عليه لأصالة الحقيقة ، لأنّ الأصل

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤١.

٢١٧

إنّما يرجع إليه في موضع تردّد اللفظ بين حقيقته ومجازه ، ولا يكون إلاّ حيث أمكن إرادة الحقيقة ، وحينئذ كان الأصل هو الحمل على السلب باعتبار انتفاء المحمول ، ولا يعدل عنه إلى غيره إلاّ لصارف ، والمقام ليس منه لكون الموضوع متيقّن الانتفاء على تقدير انتفاء الشرط فلا محيص من التزام كون السلب في السالبة في جانب المفهوم ـ لو كان مرادا ـ باعتبار انتفاء [ الموضوع ](١) لا غير.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يتوجّه على تقدير اعتبار الحكم السلبي لأمر عدمي وهو نبأ الفاسق ، [ لا ] لأمر وجودي وهو نبأ العدل ، وعليه مبنى الاستدلال لا على الأوّل ، ولذا قيل في تقريره : أنّ عدم مجيء فاسق بنبأ قد يجامع مجيء العادل به ، وحينئذ فالسلب إنّما هو لأجل انتفاء المحمول مع تحقّق الموضوع.

قلت : هذا يستقيم لو كان المأخوذ في القضيّة المنطوقيّة نقيض مجيء العادل بنبأ والمفروض خلافه ، لأنّ المأخوذ فيها نقيض عدم مجيء الفاسق بنبأ ، ولا ريب أنّ مجيء العادل بنبأ ليس بعين عدم مجيء الفاسق بنبأ ، لاستحالة كون الأمر الوجودي عين أمر عدمي ، ولا أنّه من أفراده ، ومصاديقه ، لاستحالة كون الأمر الوجودي فردا ومصداقا لأمر عدمي ، بل هو مقارناته الاتفاقيّة ، لأنّ عدم مجيء فاسق بنبأ قد يقارنه من باب البغت والاتّفاق مجيء عادل بنبأ ، ومجرّد هذه المقارنة لا توجب كون موضوع الحكم السلبي في القضيّة المفهوميّة هو الأمر الوجودي ، فدعوى : عموم عدم مجيء الفاسق بنبأ لمجيء العادل به ، وأنّه أعمّ منه فيشمله الحكم ، وهو عدم وجوب التبيّن ، واضح الدفع : بأنّ العموم المدّعى هنا إن اريد به عمومه في الصدق فهو محال لما عرفت من استحالة كون الأمر الوجودي مصداقا لأمر عدمي.

وإن اريد به عمومه له في التحقيق الخارجي ، على معنى أنّ عدم مجيء فاسق بنبأ قد يتحقّق معه مجيء عادل بالنبأ ، فهو مسلّم لرجوعه إلى المقارنة الاتفاقيّة.

ولا ريب أنّ الحكم المسوق في القضيّة لموضوع لا يتناول لوازم ذلك الموضوع فكيف بمقارناته الاتفاقيّة ، فلو صحّ إرادة عدم وجوب تبيّن الصدق والكذب على تقدير عدم مجيء الفاسق بنبأ ، فهو لا يشمل نباء العادل لمجرّد كون مجيء العادل به ممّا قد يقارن عدم مجيء الفاسق بنبأ من باب الاتّفاق.

__________________

(١) وفى الأصل : « المحمول » بدل « الموضوع » والظاهر أنّه سهو منه رحمه‌الله ولذا صحّحناه بما فى المتن.

٢١٨

نعم لو فرض كون نقيض مجيء العادل بنبأ مأخوذا مع نقيض عدم مجيء الفاسق بنبأ في القضيّة المنطوقيّة ، بأن يكون قضيّة الآية هكذا : « إن جاءكم فاسق بنبأ ولم يجئكم عادل به فتبيّنوا » إتجّه عموم الحكم المفهومي لنبأ العادل ، لكون قضيّة المفهوم حينئذ هكذا : « إن لم يجئكم فاسق بنبأ وجاءكم عادل به فلا يجب عليكم التبيّن » ، والمفروض عدم كون وضع قضيّة الآية على هذا الوجه.

وبالجملة : ما توهّم من العموم ـ مع قطع النظر عمّا ذكرناه من أنّه من المستحيل كون الأمر الوجودي مصداقا للعدمي ، وأن حكم القضيّة لا يتناول لوازم موضوعه فضلا عن مقارناته الاتفاقيّة ـ عموم فرضي منوط باعتبار المعتبر ، ومع عدم ثبوت هذا الاعتبار كان المتّبع ما يساعد عليه الانفهام العرفي.

ولا ريب أنّ الانفهام العرفي في نظائر المقام ـ كما يرشد إليه التدبّر في الأمثلة المتقدّمة ـ لا يساعد إلاّ على ما ذكرناه ، من كون السلب ـ على تقدير كونه مرادا ـ من جهة انتفاء الموضوع ، ولا يتسارع الذهن إلى ما ذكر من الفرد الفرضي الاعتباري أصلا ، بل هو شيء قد يقارن عدم مجيء الفاسق بالنبأ من باب الاتّفاق ، ومجرّد المقارنة الاتفاقيّة لا توجب انفهامه من اللفظ بحيث يعمّه الحكم أو يختصّ به.

ألا ترى أنّ في مثل « إن قدم زيد من السفر فاستقبله » ، قد يكون عدم قدوم زيد يقارنه قدوم عمرو ، ولا يتسارع ذهن أحد إلى انفهام عدم وجوب استقبال عمرو لمجرّد المقارنة الاتفاقيّة لقدومه عدم قدوم زيد ، حتّى يتّجه أن يقال : إنّ السلب في سالبة القضيّة المفهوميّة بانتفاء المحمول لا الموضوع.

ثانيهما : ما نقل إيراده عن محكي (١) العدّة (٢) والذريعة (٣) والغنية (٤) ومجمع البيان (٥) والمعارج (٦) وغيرها (٧) ، ومحصّله : أنّ الدلالة المفهوميّة على حجّيّة خبر العادل الغير المفيد للعلم وجواز العمل به من غير تبيّن ، إن سلّمناها فإنّما هي لظهور التعليق في الجملة الشرطيّة أو الوصفيّة في انتفاء وجوب التبيّن عند العدالة ، ويعارضه ظهور التعليل في الآية في عموم وجوب

__________________

(١) حكى عنهم في مفاتيح الاصول : ٣٥٥. (٢) العدّة ١ : ١١٣.

(٣) الذريعة ٢ : ٥٣٦.

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٤٧٥.

(٥) مجمع البيان ٥ : ١٣٣.

(٦) معارج الاصول : ١٤٦.

(٧) شرح زبدة الاصول للمولى صالح المازندراني ( مخطوط ) : ١٦٦.

٢١٩

التبيّن في كلّ من خبر الفاسق وخبر العادل ، لأنّ مفاده أنّ خوف الوقوع في الندم بالعمل بالخبر من جهة الوقوع في مخالفة الواقع علّة لوجوب التبيّن ، وخوف الوقوع في الندم قائم في العمل بخبر العادل أيضا لأنّه ينشأ من احتمال الكذب في الخبر ، وهو أمر مشترك بين خبر الفاسق وخبر العادل.

غاية الأمر كونه في خبر الفاسق أقوى منه في خبر العادل ، كما أنّ احتمال الصدق في خبر العادل أقوى منه في خبر الفاسق ، ومجرّد هذا التفاوت لا يوجب فرقا بينهما في خوف الوقوع في الندم وعدمه.

لا يقال : ـ خبر العادل لا يحتمل الكذب ، لأنّه يوجب الفسق وهو ينافي العدالة ، نعم يحتمل فيه الخطأ وهو لا ينافي العدالة لأنّه يصدر لا عن عمد وقصد ، إلاّ أنّه احتمال ضعيف لا يعتنى به عند العقلاء خصوصا في الحسّيّات ، فلا موجب لخوف الوقوع في الندم في العمل بخبر العادل حتّى يشمله عموم التعليل ـ لأنّ انكار قيام احتمال الكذب في خبر العادل مكابرة لا ينبغي الإصغاء إليها. والاستناد فيه إلى أنّه توجب الفسق ، والفسق ينافي العدالة.

يدفعه أوّلا : أنّ معنى منافاة الفسق العدالة أنّه لا يجامع العدالة في زمان واحد ، لا أنّه لا يرفع العدالة ، ولا ريب أنّ العادل قد يفسق فيخرج عن العدالة ، فالكذب الموجب للفسق ليس بمستحيل من العادل ، فلا استحالة في كون المخبر قبل إخباره عادلا ويصير فاسقا بنفس إخباره ، والأصل فيه أنّ العدالة أمارة يغلب معها الظنّ بالصدق ، لا أنّها طريق إلى العلم بالصدق.

وثانيا : منع الملازمة بين الكذب والفسق ، لأنّ العادل كثيرا مّا يكذب لمصلحة راجحة في نظره كما في محلّ التقيّة فلا ينافي عدالته ، فلا يأمن الناظر في خبر من الوقوع في الندامة بالعمل به من غير تبيّن ، فظهور التعليق في الآية يعارضه ظهور التعليل فيها ويرجّح عليه ، لأنّ التعليل في متفاهم العرف أظهر في العموم من التعليق في المفهوم ، ومن الواجب تقديم الأظهر على الظاهر ، بل نقول : بأنّ التعليل في كثير من المقامات حاكم على كثير من الظهورات ، فقد يخصّص فيما هو بحسب الدلالة اللفظيّة عامّ ، وقد يعمّم فيما هو بحسب الدلالة اللفظيّة خاصّ.

ومن الأوّل ، قول القائل : « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » فإنّه يخصّص الحكم بالأفراد الحامضة ، مع أنّ « لا تأكل الرمّان » عامّ.

٢٢٠