تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

الصالح أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في فرو اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام؟ قلت فإن كان فيها غير أهل الإسلام ، قال : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (١).

هذا مضافا إلى ظهور الإجماع من كلماتهم على استواء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامّة في الحكم إلاّ فيما ثبت اختصاصه به ، وإلى عموم ما دلّ من الأخبار على أنّ حكم الله في الأوّلين والآخرين وفرائضه عليهم سواء ، وكذا الكلام في الفعل الصادر من غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المعصومين إذا احتمل الاختصاص والاشتراك إن قلنا بأنّ لهم خصائص أيضا كالنبيّ ، كما يظهر من بعض الأخبار كرواية محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « الأئمّة بمنزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنّهم ليسوا بأنبياء ، ولا يحلّ لهم من النساء ما يحلّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا ما خلا ذلك فهم بمنزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٢) ، فالأصل فيه أيضا فقاهة واجتهادا بالوجوه المتقدّمة الاشتراك إلاّ فيما ثبت الاختصاص ، وقد يستدلّ لأصالة الاشتراك بين النبيّ والامّة في الفعل المردّد بآية الاسوة (٣) الحسنة وغيرها من أدلّة التأسّي ، وفيه نظر.

المسألة الخامسة :

فيما كان الفعل الصادر منه شرعيّا لم يكن من مختصّاته ، مع كونه بيانا لمجمل علم وجهه وعلم بيانيّته من قصده أو تنصيصه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خذوا عنّي مناسككم » (٤) بيانا لقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )(٥) و « صلّوا كما رأيتموني اصلّي » (٦) ، بيانا لقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(٧) ، و « هذا وضوء لا يقبل الصلاة إلاّ به » بعد ما توضّأ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبتدأ في الغسل من الأعلى وفي غسل اليدين من المرفقين ، كما ورد في الخبر الصحيح ، ولا كلام لأحد في حكم هذا الفعل في نفسه من حيث كونه تابعا في وجهه لمبيّنه إن واجبا فواجب وإن مستحبّا فمستحبّ ، وليس المراد من كونه بيانا أنّه يعيّن وجه الفعل ، بل صفته.

وتفصيل ذلك : أنّ هذا الفعل البياني قد يشتمل على عدّة حركات أو حالات يعلم كونه

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩١ / ٥ ، ب ٥٠ من أبواب النجاسات.

(٢) الكافي ١ : ٢٧٠ / ٧ وبحار الأنوار ١٦ : ٣٦٠ / ٥٧.

(٣) الأحزاب : ٢١.

(٤) مستدرك الوسائل ٩ : ٤٢٠ باب ٥٤ / ٤ وعوالي اللآلي ٤ : ٣٤ / ١١٨.

(٥) سورة آل عمران : ٩٧.

(٦) بحار الأنوار ٨٢ : ٢٧٩ باب ٣٤ وعوالي اللآلي ١ : ١٩٧ / ٨ وسنن الدارقطني ١ : ٣٤٦ / ١٠.

(٧) سورة البقرة : ٤٣.

٤٤١

بعضها داخلا في البيان ، وكون بعضها خارجا عنه ، وكون بعضها مشتبها حاله من حيث الدخول والخروج ، كما لو استقبل في صلاته البيانيّة وابتدأ في غسل الوجه من الأعلى وفي غسل اليدين من المرفقين ، وما علم كونه داخلا بكونه من أجزاء العبادة فمنه ما علم كونه واجبا ، ومنه ما علم كونه مندوبا ، ومنه ما يكون مشتبها بين الواجب والمندوب ، وما علم كونه واجبا قد يكون واجبا ركنيّا ، وقد يكون واجبا غير ركني وقد يكون مشتبها بينهما ، وما لا يكون واجبا ركنيّا منه ما يتدارك منسيّه بعد الفعل ، ومنه ما لا يتدارك منسيّه ، ومنه ما اشتبه بينهما ، فالكلام في جهات :

أمّا الجهة الاولى : فهل الأصل فيما اشتبه بين دخوله في البيان أو خروجه منه أن يكون داخلا فيه أو خارجا منه؟ على معنى كونه من العادة ، أو لضرب من الاتّفاق وجهان ، من أصالة عدم التشريع ، ومن ظهور فعله من قرينة المقام وشهادة الحال ـ باعتبار كونه في معرض البيان ـ في قصد البيان من فعله هذا ، وأوجههما الثاني تقديما للظاهر هنا على الأصل ، لدلالة نفس تعرّضه لبيان المجمل بالفعل مع علمه بكون دلالة أكثر أجزائه على قصد البيانيّة على وجه الظهور ، على أنّه اكتفى في ثبوت البيانيّة بذلك الظهور ، ورخّص لتابعيه في التعويل عليه لئلاّ يلزم نقض الغرض ، أو لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل المنوط بتأخير البيان عن وقت الحاجة ، مع كونه من الظنّ بالحكم الشرعي الحاصل من فعل المعصوم لا بالموضوع الخارجي ، فيندرج في الظنّ المطلق الثابت حجّيّته بدليل الانسداد.

هذا مضافا إلى الظهورات اللفظيّة فيما ثبت بيانيّته بالتنصيص كالأمثلة المتقدّمة ، فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خذوا عنّي مناسككم » ظاهر في كون كلّما استحدثه في فعله البياني داخل في البيان وقوله : « صلّوا كما رأيتموني اصلّي » ظاهر في مدخليّة جميع الخصوصيّات فيما قصد بيانه ، وقوله : « هذا وضوء ... إلى آخره » ظاهر في الإشارة إلى الفعل بجميع ما استحدثه فيه.

والمناقشة في الأوّل والثاني : بمنع ظهور الأمر في الوجوب ، لجواز إرادة الندب أو مطلق الرجحان ، مدفوعة : بما تقرّر في محلّه ، من أنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، كما أنّ المناقشة في الثاني باحتمال كون « صلّوا » إخبارا بصيغة الماضي لا إنشاء ، فيكون إخبارا من فعل الأنبياء أو الملائكة ليلة المعراج ، مدفوعة : بكون هذا الاحتمال لغاية بعده لا يلتفت إليه ، ولا يوجب خروج الصيغة بظاهر الكتابة عن كونها ظاهرة في الأمر ، مضافا إلى

٤٤٢

أنّه يأباه مقام البيان كما هو المفروض ، ويبعّده أيضا عدم سبق ما يصلح مرجعا للضمير لا باعتبار اللفظ ولا باعتبار السياق.

كما أنّ المناقشة في الثالث : بأنّ نفي القبول لا يستلزم نفي الصحّة ، مدفوعة : بأنّ ظاهر سياق البيانيّة إرادة نفي الصحّة من نفي القبول.

هذا كلّه فيما استحدثه في الفعل البياني من الخصوصيّات ، كما إذا استقبل في صلاته وابتدأ في الغسل من الأعلى أو من المرفقين كما عرفت ، وأمّا لو كان قبل الشروع في الفعل البياني متلبّسا بصفة كما لو كان مستور العورة قبل الصلاة فدخل فيها بهذه الحالة ، أو كان على الطهارة فصلّى على الجنازة بيانا ، فالوجه عدم دلالة فعله بهذه الحالة على أنّ لها دخلا في البيان وأنّها معتبرة في العبادة وجوبا أو استحبابا ، لانتفاء الظهور الناشئ من شهادة الحال كما لا يخفى ، فتبقى أصالة عدم التشريع سليمة عمّا يزاحمها ، ومرجعه إلى أنّ ثبوت المدخليّة لنحو هذه الأحوال المتلبّس بها قبل التشاغل بالفعل البياني يحتاج إلى دلالة خارجيّة ، والتخصيص اللفظي ببيانيّته أيضا لا يوجب ظهور كون غير ما استحدثه من الصفات المقارنة للفعل المتلبّس بها قبله مقصودا بالبيان ، معتبرا في المجمل على وجه الجزئيّة أو الشرطيّة.

وأمّا الجهة الثانية : فبعد ما ثبت كون ما استحدثه المعصوم في فعله البياني داخلا في البيان ، على معنى قصده الدلالة على كونه معتبرا في المجمل على وجه الشطريّة أو الشرطيّة ، وتردّد في وجهه بين كونه واجبا أو مستحبّا ، فهل الأصل كونه من الواجب أو لا؟

فقد يتوهّم بناء ذلك على مسألة جريان الأصل في ماهيّات العبادات عند الشكّ في وجوب شيء فيها جزءا أو شرطا وعدمه ، فهل القول بجريان الأصل النافي للجزئيّة والشرطيّة ، يتّجه الحكم فيما نحن فيه بعدم الوجوب المستلزم لثبوت الاستحباب لدوران الأمر بينهما ، وعلى القول بعدم جريانه بدعوى كون المرجع فيها أصل الاشتغال القاضي بوجوب الإتيان بكلّ ما يحتمل كونه معتبرا في [ العبادة ] جزءا أو شرطا ، يتّجه الحكم هنا بالوجوب.

وربّما يظهر هذا البناء من كلمات بعض الأعلام (١) أيضا في هذا المقام.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٤٩٣.

٤٤٣

ولكنّ الإنصاف أنّه بناء غير جيّد لخروجه عن معقد البحث ، إذ المقصود استظهار الدلالة من فعل المعصوم على أحد الوجهين ، بعد ما ظهر منه الدلالة على دخول ما استحدثه في البيان.

والذي يساعد عليه التحقيق والنظر الدقيق هو الوجوب ، إلاّ ما ثبت استحبابه بدليل من الخارج.

وتوضيح ذلك : أنّه لا ينبغي الاسترابة في أنّ الفعل بما هو فعل مجمل ، لا دلالة فيه على شيء حتّى وجهه فضلا عن صفة المجمل من وجوب شيء فيه شطرا أو شرطا ، إلاّ إذا اقترن بقرينة حال أو مقام تعطيه الدلالة على شيء ، ومن قرائن المقام كون الفاعل قاصدا لبيان مجمل ، وكما أنّ هذه القرينة توجب ظهوره في دخول ما استحدثه في البيان على معنى كونه معتبرا في المجمل على وجه الجزئيّة أو الشرطيّة ، فكذلك توجب ظهوره في كونه واجبا بوجوب الكلّ إن كان من قبيل الجزء ، أو بوجوب المشروط إن كان من قبيل الشرط.

وبالجملة : كما أنّ قضيّة مبينيّة الفعل القصد إلى إفادة دخول ما استحدثه في البيان ، فكذلك قضيّة مبيّنيّة (١) القصد إلى إفادة وجوبه بوجوب المبيّن جزءا كان أو شرطا.

لا يقال : كونه جزءا للواجب لا ينافي استحبابه ، لأنّ من أجزاء الواجب أجزائه المستحبّة كالقنوت والتكبير المستحبّة للصلاة ، والمضمضة والاستنشاق وتثنية الغسلات في الوضوء ، فجزء الواجب يجامع كلاّ من الوجوب والاستحباب ، فالفعل المبيّن للمجمل الدالّ على الجزئيّة لا ينافي استحبابه حتّى ينكشف منه الوجوب وعلى هذا فلم لا يجوز أن يكون البدأة من الأعلى في غسل الوجه ومن المرفقين في غسل اليدين مثلا من الأجزاء المستحبّة للوضوء المجمل الّذي بيّنه المعصوم بفعله؟

لأنّا نقول : قضيّة الفعل البياني الدالّ على جزئيّة ما استحدثه أو شرطيّته ، كونه جزءا أو شرطا لماهيّة المجمل ، وجزء الماهيّة لا ينفكّ عنها والجزء المستحبّ جائز الانفكاك عنها وإلاّ لم يكن مستحبّا ، فمعنى جزئيّته ـ على ما حقّقناه في غير موضع ـ كونه جزءا للفرد الأفضل ، لأنّ معنى استحبابه استحباب اختيار الفرد المشتمل عليه وهو معنى أفضليّة الفرد ، فكون الجزء جزءا للفرد الأفضل خلاف ظاهر دليل الجزئيّة ، فلا يصار إليه إلاّ لدليل من خارج يصرف بدلالته على الاستحباب دليل الجزئيّة عن ظاهره ، وعلى هذا فكون البدأة

__________________

(١) كذا فى الأصل.

٤٤٤

من الأعلى أو من المرفقين من الأجزاء المستحبّة في الوضوء خلاف ظاهر الفعل البياني ، وكذلك سائر ما استحدثه المعصوم في فعله بيانا لكونه معتبرا في المجمل شطرا أو شرطا ، ما لم يقم دليل على استحبابه ، كما هو مفروض المقام.

وأمّا الجهة الثالثة : فبعد ما ثبت بفعل المعصوم كون ما استحدثه في فعله البياني جزءا واجبا للعبادة المجملة باعتبار كونه من أجزاء الماهيّة ، واشتبه بين الركن وغيره ، فهل الأصل فيه كونه ركنا أو لا؟

وتحقيق المقام : أنّ البحث عن ركنيّة ما ثبت جزئيّته بفعل المعصوم لا مدخليّة فيه لخصوص فعل المعصوم ، بل هو من جزئيّات مسألة أصالة الركنيّة فيما ثبت جزئيّته للعبادة ، سواء ثبت الجزئيّة بقول المعصوم أو فعله أو تقريره ، أو دليل آخر لبّي أو لفظي.

والحقّ فيها ـ على ما حقّقناه في أواخر باب أصل البراءة ـ هو الركنيّة ، لأنّ جزء الماهيّة بمفهومه يقتضي كونه بحيث ينتفي بانتفائه الماهيّة ، وإلاّ لم يكن جزءا للماهيّة.

هذا مضافا إلى أنّ الجزء الغير الركني أيضا بمفهومه تقتضي افتقاره إلى دليل ولا يكون إلاّ لأنّه خلاف الأصل ، وذلك لأنّ معنى الجزء الركني هو عدم الفرق في جزئيّته بمقتضى دليله بين العالم والجاهل ، والعامد والساهي ، والمتذكّر والناسي ، والجزء الغير الركني ما كان جزءا في حقّ العامد المتذكّر دون الساهي والناسي ، وهذا كما ترى تخصيص يحتاج إلى دليل. وإذا لم يكن دليل فالأصل عدم التخصيص ، فالأصل في الجزء أن يكون ركنا إلاّ ما دلّ الدليل على عدم ركنيّته.

والسرّ في ذلك : الّذي هو لمّ المسألة ، أنّ العبادة المركّبة من أجزاء كالصلاة التي أوّلها التكبيرة وآخرها التسليمة ليس لها وجود مغاير لوجودات أجزائها ، بل وجودها عين مجموع وجودات أجزائها ، وإذا انتفى بعض هذه الوجودات لفوات الجزء ـ ولو سهوا أو نسيانا ـ كان ذلك انتفاء لمجموع وجودات الأجزاء ، وهو بعينه انتفاء لوجود العبادة ، ووجودات الأجزاء الباقية غير مجموع وجودات أجزاء العبادة.

وأمّا الجهة الرابعة : فبعد ما ثبت في الجزء الثابت جزئيّته للعبادة المجملة بفعل المعصوم كونه جزءا غير ركني ونسي في محلّه ، فهل الأصل فيه كونه ممّا يتلافى بعد الفراغ أو لا؟

والوجه هو الثاني ، لأنّ وجوب التلافي تكليف زائد على التكليف بأصل العبادة المفروض حصول امتثاله ، بفرض عدم بطلانها بالإخلال بالجزء نسيانا ، وهذا التكليف

٤٤٥

الزائد محلّ شكّ لعدم الدليل عليه ، فالأصل براءة الذمّة عنه ، بل لو فات أصل العبادة في وقتها فوجوب فعلها بعد الوقت ، بناء على ما حقّق من عدم تبعيّة القضاء للأمر الأوّل يحتاج إلى الدليل ، فكيف بجزئها إذا فات في محلّه.

وأمّا ما يتوهّم من الأصل الاجتهادي في وجوب التلافي من جهة عموم قوله عليه‌السلام : « اقض ما فاتك كما فات » (١) لأنّ ما فات عامّ يشمل فوات الجزء أيضا ، ففيه : المنع من صدق القضاء على تدارك الجزء المنسي بعد الفراغ ، إلاّ إذا حمل على إرادة الفعل الّذي هو أحد معانيه ، وهو موضع منع ، بل الواجب حمله على إرادة فعل ما فات في الوقت في خارجه إمّا لكونه حقيقة شرعيّة فيه كما هو الأظهر ، أو لأنّه حقيقة متشرّعة فيه بحيث يعمّ عرف الأئمّة عليهم‌السلام فيحمل عليه ما في أخبارهم ، أو لأنّه غالب الإطلاق في أخبارهم عليهم‌السلام على ذلك فينصرف إليه الإطلاق.

هذا مع أنّ متن الرواية ليس على ما اشتهر في الألسن وهو ما ذكر ، بل هو قوله عليه‌السلام : « ما فاتتك من فريضة ، فاقضها كما فاتتك (٢) » وكلمة « من » بيانيّة ، واحتمال التبعيض يدفعه سبق الموصول الّذي هو كلمة الإبهام المحتاج من جهته إلى البيان فليتدبّر.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان مجمل علم كون وجهه الوجوب ، وكذا الكلام فيما علم كون وجهه الاستحباب ، فما استحدثه المعصوم في فعله البياني له يجري فيه الانقسام المتقدّم الّذي يتولّد منه الجهات المذكورة ، والأصل في الجميع ما عرفت.

ولا ينافي كون وجه أصل العبادة هو الاستحباب وجوب الجزء ، إذ ليس المراد بوجوب الجزء هنا خصوص الوجوب الشرعي المتضمّن للطلب الحتمي ، بل الوجوب الشرطي على حدّ وجوب الوضوء للنافلة ، ومعناه الثبوت في العبادة ، وكونه بحيث يتوقّف عليه الكلّ في وجوده الخارجي باعتبار دخوله في الماهيّة.

وإن شئت قلت في التقسيم : أنّ ما استحدثه المعصوم في فعله البياني ، قد يكون خارجا عن العبادة ، وقد يكون داخلا فيها ، وقد يكون مشتبها بينهما ، وما دخل فيها قد يكون جزءا لأصل الماهيّة ، وقد يكون جزءا للفرد الأفضل ، وقد يكون مشتبها بينهما ، وجزء الماهيّة قد يكون ركنا ، وقد يكون غيره ، وقد يكون مشتبها بينهما. (٣)

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٠٣.

(٢) بحار الأنوار ٨٥ : ٢١٦.

(٣) بحار الانوار ٨٥ : ٢١٦.

٤٤٦

نعم لا يجري هنا التقسيم الرابع إذ لا تلافي لمنسي جزء النافلة أصلا ، كما حقّق في الفقه ، وفي البطلان بنقصان الركن فيها سهوا إشكال ، ينشأ منه الإشكال في جريان التقسيم الثالث أيضا.

المسألة السادسة :

فيما كان الفعل الصادر من المعصوم مع كونه شرعيّا وعدم كونه من خصائصه ، بيانا لمجمل لم يعلم وجهه ، وهذا أيضا من حيث الوجه يتبع مبيّنه فيكون مجهول الوجه ، ولا ينافي ذلك بيانيّته ، إذ ليس المراد من كونه بيانا للمجمل أنّه يبيّن وجهه ، بل معناه أنّه يبيّن صفته وكيفيّته من حيث ما اعتبر فيه وما لم يعتبر من الأجزاء والشرائط ، فيجب متابعته من حيث الكيفيّة الّتي تعرّض لبيانها.

ولأجل ما عرفت من التبعيّة في الوجه وإن لم يكن خصوصه معلوما ، خرج الفعل البياني عن عنوان البحث الآتي من وجوب التأسّي بالمعصوم في فعله وعدمه ، وثبوت حكم في حقّنا بفعله وعدمه على تقدير عدم وجوب التأسّي ، لثبوت الحكم في حقّنا في محلّ البيان من غير جهة فعله ، وهو عموم الخطاب المفروض كون مفاده من حيث الحكم مبيّنا ومن حيث موضوعه مجملا كما في المسألة السابقة ، أو من حيث الحكم وموضوعه معا مجملا كما في هذه المسألة ، بل قد يكون عروض جهة البيانيّة لفعله بعد صدور الخطاب كاشفا عن عموم مفاده من حيث الحكم لغيره من الامّة ، وإن كان أصل الخطاب بصيغة المفرد الظاهرة في الاختصاص ، كقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )(١) مع فرض إتيانه عليه‌السلام بركعتين مثلا بيانا للصلاة ، فإنّه يكشف عن الشركة في وجه الصلاة وإن كان خصوصه مجهولا لنا ، لتردّده بين الوجوب والندب من جهة إجمال الأمر بين الإيجاب والاستحباب ، لأنّ التعرّض للبيان إنّما هو لتعليم صفة المكلّف به وكيفيّته ، فلولا الشركة في أصل التكليف لم يكن فائدة لبيان الصفة وتعليم الكيفيّة فيلغو ، وإذا كان الخطاب مجملا من وجهين فتارة : من حيث الحكم المردّد بين الوجوب والاستحباب ، واخرى : من حيث موضوعه باعتبار صفته وكيفيّته ، كما في عنوان هذه المسألة فلابدّ في التخلّص من الإجمال من حيث الموضوع من الرجوع إلى فعل المعصوم المفروض وقوعه بيانا ، ولو

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٨.

٤٤٧

اتّفق في بعض ما استحدثه فيه اشتباه في بعض الجهات يرجع لرفعه إلى الأصل الّذي قرّرناه في المسألة السابقة.

وأمّا الإجمال من حيث الحكم المعبّر عنه في عنوان المسألة بعدم العلم بوجه المجمل ، فلابدّ في التخلّص عنه من الرجوع إلى القواعد والاصول ، لعدم تعرّض المعصوم لبيانه في فعله من هذه الجهة ، ومن الاصول أصل البراءة في الشبهات الحكميّة من دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب إذا نشأت الشبهة من إجمال النصّ ، فتحكم بكون وجه ما بيّنه المعصوم بفعله في حقّنا الاستحباب عملا بأصل البراءة المحرز موضوعه هنا بإجمال النصّ.

فلو احتمل فيه الإباحة أيضا بني عليها بعد نفي احتمال الوجوب بالأصل.

المسألة السابعة :

فيما كان الفعل الصادر من المعصوم في غير مقام بيان المجمل ، علم وجهه من وجوب أو استحباب أو إباحة ، فالمشهور وجوب التأسّي به فيه.

وعن السيّد في الذريعة (١) نفي الخلاف فيه.

وعن الشيخ في العدّة (٢) أنّه نقل قولا بعدم الوجوب ، وآخر بعدم الجواز ، وربّما حكى قول رابع بالتفصيل بين العبادات فالوجوب أو المعاملات والمناكحات فعدمه.

وهنا تفصيل آخر اختاره في المناهج ، وهو عدم جوازه فيما فعله وجوبا أو ندبا ، وكراهته فيما فعله مكروها لو جاز صدوره عنه ، وإباحته فيما سواه.

وظاهر أنّ موضوع هذه المسألة الّذي هو محلّ هذا النزاع ، مع اعتبار عدم وقوعه بيانا لمجمل ، ما لم يكن بالوجه المعلوم من خصائصه ، كما هو ظاهر عبارة التهذيب (٣) وصريح عبارة المنية حيث قال : « وأمّا ما علم وجهه من أفعاله عليه‌السلام ممّا ليس من خصائصه فيجب علينا التأسّي به عند الأكثر من المعتزلة والفقهاء ، بمعنى أنّه إن كان واجبا وجب علينا أن نوقعه على وجه الوجوب ، وإن كان نفلا كنّا متعبّدين به على وجه النفل ، وإن كان مباحا كنّا متعبّدين باعتقاد إباحته ، وكان لنا فعله وتركه ، وأوجب بعضهم التأسّي به في العبادات دون

__________________

(١) الذريعة ٢ : ٥٧٦.

(٢) عدّة الاصول ٢ : ٥٧٣.

(٣) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ٥٤.

٤٤٨

المناكحات والمعاملات وأنكر آخرون ذلك كلّه » (١).

وبذلك ظهر ضعف دليل التفصيل على عدم الجواز فيما فعله وجوبا أو ندبا ، فإنّه استدلّ بلزوم إيجاب ما لم يعلم وجوبه ، والحكم باستحباب ما لم يعلم استحبابه ، لاحتمال كونه على هذا الوجه من خصائصه وهو حرام ، إلى أن قال : مضافا إلى ما ورد عنهم من قولهم « إنّا أهل بيت لا يقاس بنا أحد » (٢) ثمّ علّل الكراهة فيما فعله مكروها بأنّ الظاهر عدم الخلاف في كراهته ، والإباحة فيما فعله مباحا بالأصل الخالي عن المعارض ، واحتمال اختصاص الإباحة لا يدفع الأصل.

ووجه الضعف : أنّ مبناه على التشريع من جهة قيام احتمال الاختصاص ، وهذا الاحتمال منفيّ بحكم الفرض ، مع أنّه لو بنينا على تعميم موضوع هذه المسألة بالقياس إلى ما يحتمل كونه من الخصائص ، بأن يكون الموضوع ما لم يعلم كونه منها ، كفى في الخروج عن التشريع المحرّم أصالة عدم الاختصاص فقاهة واجتهادا ، فاحتمال كونه من الخصائص منفيّ إمّا بحكم الفرض أو بحكم الأصل.

وكذا ظهر ضعف القول بعدم الجواز مطلقا ، على ما نقله الشيخ في العدّة.

واحتجّ الأكثر على القول بوجوب التأسّي بوجوه :

منها : الإجماع على الرجوع في الأحكام إلى أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في قبلة الصائم ، فقد روي عن امّ سلمة أنّها سألته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها بعد ما سألها الصحابة ، « فقال لها : لم لا تقولين لهم أنّي اقبّل وأنا صائم » (٣) وكما في الغسل عن التقاء الختانين ، فروي أنّ الصحابة اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين ، فسألوا عائشة : « فقالت : فعلت أنا ورسول الله عليه وآله السلام فاغتسلنا » (٤) فرجعوا إلى ذلك واتّفقوا عليه وإجماعهم إنّما كان بفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأيضا نقل في المحصول « أنّ عمر كان يقبّل حجر الأسود ، ويقول : إنّي أعلم أنّك حجر لا يضرّ ولا ينفع ، ولولا أنّي رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يقبّلك ما كنت اقبّلك » (٥) فعلم أنّ فعله عليه‌السلام متّبع للامّة.

__________________

(١) منية اللبيب : ٢١٦.

(٢) معاني الأخبار : ٥٦ وبحار الأنوار ٢٢ : ٤٠٧ / ٢٢.

(٣) صحيح احمد بن حنبل : ٢ / ١٢٠ و ١٨٥.

(٤) سنن الترمذي : كتاب الطهارة ٨٠ وسنن ابن ماجة : كتاب الطهارة ١١١.

(٥) سنن النسائي : مناسك ١٤٧ وسنن ابن ماجة : مناسك ٢٧ وصحيح البخارى : حجّ ٥٠.

٤٤٩

وعن العلاّمة في النهاية دفعه : « بمنع استناد الإجماع إلى فعله عليه‌السلام بل إلى قوله : إذا التقى الختانان وجب الغسل ، وسؤال عمر عائشة إنّما كان ليعلم أنّ فعله عليه‌السلام هل كان مطابقا لأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله أم لا؟ » وفيه من البعد ما لا يخفى.

ولكنّ الإجماع المتمسّك به على وجوب التأسّي به صلى‌الله‌عليه‌وآله يزيّفه أنّه لا يكشف عن وجوب التأسّي ، ولا عن ثبوت حكم في حقّ الامّة بنفس فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما لم يثبت حكمه من غير جهة فعله ، لجواز بنائه على مقدّمة خارجيّة ثابتة عندهم على وجه الكبرى الكلّيّة بدليلها من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي أصالة المشاركة في الأحكام والتكاليف ، ورجوعهم إلى أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هو لإحراز الوجه الّذي هو الحكم المشترك فيه ، إلاّ أن يقال : بأنّ المراد من إثبات حكم في حقّ الامّة بفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعيين الحكم المشترك بينه وبين الامّة ، وهو المراد من التأسّي أيضا بناءا على أنّه عبارة عن الإتيان بما فعله على الوجه الّذي فعله.

ومنها : قوله عزّ من قائل : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ )(١) استدلّ به العلاّمة وغيره ، قال في التهذيب : « الاسوة الإتيان بفعل الغير لأنّه فعله ، وقوله : ( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ ) تخويف على الترك » (٢).

أقول : كونه تخويفا إنّما هو باعتبار عكس نقيض قضيّة الآية ، فإنّ قوله : ( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) ينعكس بأنّ من لم يكن يرجو الله واليوم الآخر ليس له في رسول الله اسوة حسنة ، وهذا تخويف على ترك الاسوة ، وظاهر أنّ التخويف على ترك الشيء دليل على وجوبه.

والإنصاف : أنّ الاستدلال بالآية أيضا غير ناهض ، أمّا أوّلا : فلمنع دلالتها على الوجوب بل أقصاها الدلالة على الجواز أو مطلق الرجحان ، وإنّما تحصل الدلالة على الوجوب لو قال مكان « لكم عليكم » لكون « على » للإلزام ، وغاية ما ينساق من « اللام » الجواز ، ودعوى : أنّ الدلالة على الوجوب تحصل من قوله : ( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) لكونه تخويفا على الترك ، يدفعها : منع كون ذلك تخويفا على الترك بل هو ترغيب على الفعل ، والتخويف على الترك يحصل من « لفظ يخاف الله واليوم الآخر ».

والفرق بينه وبين ما في الآية ، أنّ الخوف حيث يضاف إلى الله تعالى أو إلى اليوم الآخر ينصرف إلى عذاب الله وعذاب اليوم الآخر فيكون تخويفا ، والرجاء حيث يضاف إليهما

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٢١.

(٢) تهذيب الاصول : ٥٤.

٤٥٠

ينصرف إلى ثوابه تعالى وثواب اليوم الآخر.

فحاصل معنى قوله : ( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) : لمن كان يبتغي ثواب الله ويبتغي ثواب اليوم الآخر ، وهذا كما ترى ترغيب على فعل الاسوة ، وأقصى ما يفيده الترغيب على فعلها رجحانه لا وجوبه.

وأمّا ثانيا : فلمنع كون المراد من الاسوة في رسول الله التأسّي به فيما يفعله ، لجواز كون المراد بها الشركة ، كما في قولهم : « المال اسوة بين الغرماء » أي شركة بينهم يتساهمون فيه بأن يأخذ كلّ منه سهما على نسبة دينه ، ومن الجائز كون المراد منها في الآية الشركة بين النبيّ والامّة في الأحكام والشرائع ، فتكون الآية حينئذ من أدلّة المشاركة في التكليف من دون تعلّق لها بمقام التأسّي به في فعله ، ويحتمل أيضا أن تكون الاسوة هنا من المواساة ، فيكون مفاد الآية إيجابا لمواساة الامّة بينهم بأموالهم وأنفسهم بأن يعينوه بهما في حروبه وجهاده مع الكفّار والمشركين.

وأمّا ثالثا : فلمنع عموم للآية بحيث يثبت به الحكم على وجه الإيجاب الكلّي ، أعني وجوب التأسّي برسول الله في كلّ ما فعله ، كما هو المقصود بالبحث في المسألة الاصوليّة ، حيث يقصد فيها تأسيس قاعدة كلّيّة في فعل المعصوم ، إذ ليس في الآية إلاّ لفظ « اسوة » وهي نكرة في سياق الإثبات ولا عموم فيها ، فقصارى ما يعطيه الآية هو وجوب التأسّي به في الجملة ، ويكفي في صدق هذه القضيّة الجزئيّة في حقّ المخاطبين بها تأسّيهم برسول الله في ما يرجع إلى الاصول ، كالإيمان بالله وتوحيده وصفاته الكماليّة ، أو فيما يرجع إلى الفروع كالصلاة والصوم والحجّ مثلا.

وأمّا رابعا : فلأنّ ما يستفاد منها من وجوب التأسّي به فيما يفعله إنّما يصحّ فيما علم كون وجهه الوجوب ، لا فيما علم كون وجهه الاستحباب أو الإباحة ، لمنافاة وجوب الإتيان لكلّ من الاستحباب والإباحة فيما فعله مندوبا أو مباحا ، إلاّ أن يقال : بأنّ الحكم يرجع إلى القيد الأخير من مفهوم الاسوة وهو الاتيان بفعله على الوجه الّذي فعله ، فوجوب الإتيان بالمندوب على وجه الندب ، وبالمباح على وجه الإباحة لا ينافي استحباب الأوّل وإباحة الثاني ، فإنّ الإتيان بالمندوب على وجه الوجوب وبالمباح أيضا على وجه الوجوب حرام ، وقضيّة حرمة ذلك وجوب الإتيان [ بالأوّل ] على وجه. [ الندب ] وبالثاني على وجه الإباحة.

٤٥١

وإنّما يحصل المنافاة لو قلنا بوجوب الإتيان بكلّ منهما في مقابلة تركه ، لأنّ الاستحباب يتضمّن جواز كلّ من الفعل والترك مع رجحان الفعل ، والإباحة تتضمّن جواز كلّ منهما على وجه التسوية.

وأمّا على تقدير اختيار الفعل ، فإذا دار الأمر بين الإتيان على وجه الوجوب والإتيان على وجه الندب أو الإباحة ، فلا ريب في حرمة الأوّل وتعيّن الثاني من دون تناف بينه وبين استحبابه وإباحته.

وأمّا خامسا : فلخروج موضوع المسألة عن مورد الآية ، فإنّه إذا علم وجه الفعل وعلم عدم كونه من خصائصه ، فاللازم من المقدّمتين ثبوت المشاركة ، ويستغني بذلك عن النظر في الآية والاستدلال بها على وجوب في نحوه أو إثبات حكم في حقّ الامّة بفعله ، إلاّ أن يقال : إنّ المشاركة في التكاليف والأحكام بينه وبين الامّة إنّما تثبت بدليلها ، ومن الجائز تعدّد الأدلّة عليها ، والآية الدالّة على وجوب التأسّي به فيما فعله واجبا أو مندوبا أو مباحا من جملة أدلّتها ، فتأمّل.

فالعمدة من الأجوبة الوجوه الثلاث الاول والعمدة منها الوجه الأوّل ، فليتدبّر.

ومنها : قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ )(١) فإنّ الأمر مشترك بين الفعل والقول ، وهو الطلب الإلزامي الحاصل بالقول ، والتهديد يفيد حرمة مخالفة الرسول فيما يفعله وما يأمر به ، فيدلّ على وجوب التأسّي به في فعله.

واجيب : بمنع الاشتراك ، ولو سلّم فالمشترك لا يحمل على أحد معنييه بعينه إلاّ لقرينة ، ولا قرينة [ على ] الفعل ، وبني الاستدلال على ظهور المشترك عند التجرّد عن القرينة في إرادة جميع معانيه ، فهو قول ضعيف لا يلتفت إليه ، مع أنّ استعمال المشترك في أكثر من معنى غير جائز.

وقد يجاب : بمنع التجرّد لوجود القرينة على إرادة القول ، وهو سبق ذكر الدعاء في قوله تعالى : ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً )(٢) والدعاء لا يكون إلاّ بالقول ، ذكره في المنية (٣) والمناهج (٤) ، وفيه نظر : إذ ليس المراد بالدعاء دعوة الرسول لينهض قرينة على إرادة القول من الأمر.

__________________

(١) سورة النور : ٦٣.

(٢) سورة النور : ٦٣.

(٣) منية اللبيب : ٢١٥.

(٤) مناهج الاصول.

٤٥٢

فعن القمّي في تفسيره ، قال : « لا تدعوا رسول الله كما يدعو بعضكم بعضا » (١).

وعن الباقر عليه‌السلام [ في قوله عز وجلّ : « لا تجعلوا دعاء الرسول كدعاء بعضكم بعضا » ] يقول : « لا تقولوا يا محمّد ولا يا أبا القاسم ، لكن قولوا : يا نبيّ الله ويا رسول الله » (٢) وهذا المعنى كما ترى ممّا لا تعلّق له بالآية اللاحقة ليكون قرينة على إرادة القول من الأمر.

ومنها : قوله تعالى : ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(٣) يدلّ على وجوب الأخذ بكلّ ما أتاه الرسول والتأسّي به أخذ بما أتاه فيكون واجبا.

وفيه : منع صدق إيتانه لنا على ما فعله واجبا أو مندوبا أو مباحا من دون قصد إلى البيان كما هو موضوع المسألة ، ومع الغضّ عن ذلك فالنهي قرينة على إرادة الأمر من الإيتاء.

ومنها : قوله تعالى : ( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ )(٤) أمر باتّباعه معلّقا على محبّة الله فيكون واجبا ، والاتّباع هو الإتيان بمثل فعله على الوجه الّذي فعله لأجل أنّه فعله ، وهذا بعينه هو معنى التأسّي.

وفيه : أنّ اتّباع الشخص مقول بالتواطئ على موافقته في كلّ ما يفعل ، أو على موافقته في كلّ ما يقول.

والأوّل عبارة عن الإتيان بمثل ما فعله على الوجه الّذي فعله.

والثاني عن الإتيان بما يأمر به وترك الإتيان بما ينهى عنه ، فلابدّ في قوله : ( فَاتَّبِعُونِي ) من تقدير متعلّق ، وهو مردّد بين الأمرين ، ونحن إن لم ندّع كونه أظهر في الثاني فلا أقلّ من أن نمنع ظهوره في الأوّل ، هذا ولكن لو ادّعي ظهوره في الأعمّ باعتبار حذف المتعلّق لم يكن بعيدا ، ولعلّه عليه مبنى الاستدلال.

ومنها : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(٥) فإنّ التأسّي بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو اولي الأمر فيما فعله إطاعة له فيكون واجبا للأمر بها في الآية.

واجيب : بأنّ إطاعة الله لا يكون إلاّ بموافقة أمره أو نهيه ، فكذلك إطاعة الرسول واولي الأمر لمكان العطف ، ولا خفاء في ضعفه.

__________________

(١) تفسير القمّي : ٤٦٢.

(٢) بحار الأنوار ١٧ : ٢٧ / ١.

(٣) سورة الحشر : ٧.

(٤) سورة آل عمران : ٣١.

(٥) سورة النساء : ٥٩.

٤٥٣

والأولى في الجواب أن يقال : بأنّ الإطاعة في نفسها ظاهرة في موافقة الخطاب أمرا أو نهيا ، سواء اضيفت إلى الله الّذي يستحيل في حقّه التأسّي ، أو إلى الرسول أو اولي الأمر ، فلا تتناول التأسّي بهما في فعلهما ، مضافا إلى تطرّق المنع إلى دلالة الأمر هنا على الوجوب ، لكونه إرشاديّا معرّى عن الطلب.

ومنها : قوله تعالى : ( زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ )(١) فإنّ قوله : « لكى لا يكون على المؤمنين حرج » في معنى ليتأسّوا به في تزويج أزواج أدعيائهم من غير حرج عليهم من جهة العار أو ملامة الناس ، بمعنى أنّهم إذا رأوا أنّ النبيّ تزوّج بزوجة دعيه يتأسّون به في ذلك بلا حرج ، فدلّ ذلك على وجوب التأسّي به.

واجيب : تارة بأنّ نفي الحرج عن التأسّي به إباحة له ، لا أنّه إيجاب له.

واخرى : بأنّه أعمّ من الإيجاب والندب والإباحة ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ.

ومنها : المروي في الفقيه باسناده عن عبد الله بن المغيرة عن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : أوصي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عليّ عليه‌السلام وحده ، وأوصى عليّ عليه‌السلام إلى الحسن والحسين عليهما‌السلام جميعا ، فكان الحسن أمامه فدخل رجل يوم عرفة على الحسن عليه‌السلام وهو يتعذّى والحسين صائم ، ثمّ جاء بعدما قبض الحسن عليه‌السلام فدخل على الحسين عليه‌السلام يوم عرفة وهو يتغذى وعليّ بن الحسين عليه‌السلام صائم ، فقال له الرجل : إنّي دخلت على الحسن عليه‌السلام وهو يتغذّى وأنت صائم ، ثمّ دخلت عليك وأنت مفطر ، فقال : إنّ الحسن عليه‌السلام كان إماما فأفطر لئلاّ يتّخذ صومه سنّة وليتأسّي به الناس ، فلمّا أن قبض كنت أنا الإمام فأردت أن لا يتّخذ الناس صومي سنّة فيتأسّى الناس بي » (٢).

والجواب : أنّه لدفع « توهّم الناس وجوب صوم يوم عرفة ، لا لإيجاب التأسّي به عليه‌السلام في إفطاره ، وقوله : « ليتأسّى به الناس » مع قوله : فيتأسّى الناس بي » ليس بظاهر في الإيجاب ، إلاّ أن يرجع الإيجاب إلى اعتقاد الاستحباب أو عدم الوجوب.

والإنصاف : أنّ أدلّة وجوب التأسّي بالمعصوم في فعله المعلوم وجهه غير تامّة ، فلا يثبت بها وجوبه.

نعم يثبت بفعله الخاصّ الّذي هو الوجه المفروض كونه معلوما في حقّ غيره ، لحجّيّة فعله باعتبار كونه معصوما ، لا يعصى ولا يجهل بحكم الله ولا يسهو ولا ينسى ، فلا يأتي

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٧.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٨٨ / ١٨١٠.

٤٥٤

بغير الواجب على وجه الوجوب ، ولا بغير المندوب على وجه الندب ، ولا بغير المباح على وجه الإباحة.

والفرق بين الاعتبار المذكور لثبوت الحكم في حقّ غيره بفعله ، وبين التأسّي به في فعله المنفي وجوبه ، أنّ التأسّي يعتبر في مفهومه قيود ثلاث ، وهو الإتيان بمثل فعل المعصوم على الوجه الّذي فعله لأجل أنّه فعله ، وقضيّة الاعتبار المذكور إذا كان وجه فعله الوجوب وجوب الإتيان بمثل ذلك الفعل على وجه الوجوب ، لا لأجل أنّه فعله بل لأجل وجوبه علينا ، وإذا كان وجه فعله الندب استحباب الإتيان بمثل فعله على وجه الاستحباب بداعي ذلك الاستحباب ، لا لأجل أنّه فعله ، وإذا كان وجه فعله الإباحة جواز الإتيان به على وجه الإباحة لأجل كونه مباحا ، لا لأجل أنّه فعله.

ألا ترى أنّا نصلّي وجوبا ونغتسل في الجمعة استحبابا ونأكل أو نشرب إباحة ، ولا نلاحظ في شيء منها ولا في نظائرها كونه لأجل أنّه فعله المعصوم ، ولأجل ذلك لا يصدق على شيء منها التأسّي.

لا يقال : إنّ الحكم في حقّ غيره إنّما يثبت بمقدّمة المشاركة في التكليف لا بفعل المعصوم ، لأنّ الحكم المشترك فيه مع قطع النظر عن فعل المعصوم مطلقة ، المردّد بين الوجوب والندب والإباحة والكراهة ، وتعيينه إنّما يعلم بفعل المعصوم وهو المراد من ثبوت الخاصّ في حقّ غيره بفعله.

فائدة :

بعد ما تبيّن ثبوت الحكم الخاصّ في حقّنا بفعل المعصوم المعلوم وجهه ، ينبغي أن نبيّن طرق معرفة وجه فعله.

فنقول : قد عرفت أنّ وجه فعله إمّا الوجوب أو الندب أو الإباحة ، ولمعرفته طريقان :

أحدهما : ما يشترك فيه الثلاثة ، والآخر : ما يختصّ بأحدها دون الآخرين.

أمّا الطريق الأوّل فوجوه :

الأوّل : أن ينصّ المعصوم بوجه فعله ، كأن يقول : هذا الّذي فعلته أو أفعله واجب أو مندوب أو مباح ، أو يقول : فعلته على وجه الوجوب أو الندب أو الإباحة.

الثاني : وقوعه منه امتثالا لخطاب مبيّن باعتبار وضوح دلالته على الحكم المسوق لبيانه ، كما لو صلّى امتثالا لقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ ) أو كاتب عبده امتثالا لقوله تعالى :

٤٥٥

( فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً )(١) أو اصطاد امتثالا لقوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا )(٢) فبوقوعه امتثالا في الأوّل يعلم أنّه وقع واجبا ، وفي الثاني يعلم أنّه وقع مندوبا ، وفي الثالث يعلم أنّه وقع مباحا.

الثالث : وقوعه بيانا لمجمل علم وجهه ، فبضابطة ما تقدّم من أنّه في الوجه يتبع مبيّنه ، يعلم أنّه وقع منه واجبا أو مندوبا أو مباحا على حسب وجه المجمل المفروض كونه معلوما.

وأمّا الطريق الثاني : فيعلم إباحة فعله تارة : بأن يفعله من دون مداومة عليه ثمّ يتركه من دون عذر ، فبالترك من دون عذر ينفي احتمال الوجوب لمكان عصمته المانعة من ترك الواجب ، وبعدم المداومة على فعله ينفي احتمال الندب ولو احتمل فيه الندب مع عدم المداومة يضمّ إليه أصالة النفي أعني أصالة عدم تعلّق طلب به.

واخرى : بتجرّده عمّا يدلّ على وجه مغاير للإباحة ، مع استحالة وقوع الذنب منه النافية لاحتمال الحرمة وأصالة عدم تعلّق طلب به ايجابا وندبا ، ولو احتمل فيه الكراهة أيضا ينفي بأصالة عدم تعلّق الطلب بتركه ، فيتعيّن الإباحة في الصورتين معا.

ويعلم ندبيّته بوجوه :

الأوّل : قصده القربة بفعله مع أصالة عدم المنع من تركه ، فبالأوّل يثبت رجحانه وبالثاني ينفي احتمال وجوبه ، فيتعيّن الندب.

الثاني : أن يوقعه بقصد القربة ثمّ يتركه من غير نسخ ولا عذر ، فالأوّل يوجب رجحانه وبالثاني يعلم عدم الوجوب ، فيتعيّن الندب.

الثالث : أن يدوم عليه ثمّ يتركه في بعض الأحيان من غير عذر ولا نسخ ، فإنّ المداومة عليه يكشف عن رجحانه ، والترك بلا عذر ولا نسخ ينفي الوجوب ، فيتعيّن الندب.

الرابع : أن يوقعه معصوم على وجه الرجحان ويتركه في ذلك الوقت معصوم آخر ، فينكشف عن كونه مندوبا كصوم يوم عرفة الّذي صامه الحسن وأفطره الحسين عليهما‌السلام أو صامه الحسين وأفطره عليّ بن الحسين عليهما‌السلام على ما تقدّم في خبر ابن المغيرة عن سالم.

الخامس : كونه قضاء عن عبادة مندوبة ، كغسل يوم الجمعة إذا أتى به في غير وقته بعد ما فات عنه في وقته ، فإنّ الفرع لا يزيد على الأصل ، فيعلم كونه على وجه الاستحباب.

__________________

(١) سورة النور : ٣٣.

(٢) سورة المائدة : ٢.

٤٥٦

السادس : أن يتخيّر المعصوم بينه وبين مندوب آخر كتخيّره بين التسحّر وتلاوة القرآن في وقت السحر من ليالي شهر رمضان ، فيعلم به ندبيّة التسحّر أيضا ، إذ لا معنى للتخيير بين المندوب وغير المندوب.

ويعلم وجوبه أيضا بوجوه :

الأوّل : تخيّره بينه وبين واجب ، كما لو قرأ فاتحة الكتاب مكان التسبيحات الأربع في الثالثة والأخيرتين بحيث علم من حاله كون بنائه على التخيير ، فيثبت به وجوب القراءة تخييرا ، لاستحالة التخيير بين الواجب وما ليس بواجب.

الثاني : اقترانه بأمارة الوجوب الّتي هي من لوازم الواجب ، كما لو صلّى بأذان وإقامة ، فيعلم بذلك وقوع الصلاة على وجه الوجوب ، نظرا إلى أنّ الأذان والإقامة من خصائص الفرائض.

الثالث : كونه فعلا لو لم يجب لم يجز بل كان محرّما ، كما لو جمع بين الركوعين أو أزيد في صلاة الكسوف ، فإنّ زيادة الركن في محلّ البطلان محرّمة إلاّ إذا كانت واجبة ، كما في المأموم إذا رفع قبل الإمام سهوا فيجب العود تحصيلا للمتابعة ، ولذا لا يجوز العود إذا رفع عمدا ولو عاد بطلت.

الرابع : كونه فعلا ربط وجوبه بوجود غيره بالنذر ، كما لو نذر أنّه إن رزق له ولد تصدّق فرزق فتصدّق ، وقد يعبّر عنه بوقوعه جزاء لشرط موجب للفعل ، فيعلم وجوب التصدّق.

الخامس : كونه قضاء لعبادة واجبة لوجوب موافقة القضاء لأدائه ، وفيه منع واضح لعدم التلازم ، فقد يكون الفائت واجبا مع استحباب قضائه كزكاة الفطر على القول باستحباب قضاء فائتها بعد الوقت.

ثمّ إنّ المراد بالعلم هنا أعمّ من العلم العقلي وهو الاعتقاد الجازم المطابق ، والعلم الشرعي كما لو استند في إحراز وجه فعل المعصوم إلى أصل اجتهادي أو عملي ، كما عرفت الاستناد إليه في بعض الصور.

المسألة الثامنة :

فيما لو صدر الفعل من المعصوم على وجه الرجحان المشترك بين الوجوب والندب

٤٥٧

الموجب لتردّد الفعل بين الواجب والمندوب ، سواء علم الرجحان بقصده التقرّب فيه أو بكونه بحسب النوع من قبيل العبادة المأخوذ فيها الرجحان ، فهل يجب التأسّي به هنا أو يثبت وجوب مثله في حقّنا بفعله أو لا؟ خلاف على أقوال. نقلها في المنية ، الوجوب نسبه إلى جماعة من الاصوليّين من العامّة ، والندب نسبه إلى الشافعي والجويني ، والإباحة نسبه إلى المالك ، والتوقّف نسبه إلى السيّد منّا والصيرفي والغزالي وجماعة من أصحاب الشافعي ، واختار هو كونه للقدر المشترك بين الوجوب والندب ، وعلّله : بأنّ التقرب إلى الله بالفعل رفع كونه مباحا ومحظورا ومكروها ، وخصوصيّة كلّ من الوجوب والندب لم يعلم قصدها على التعيين وكذلك في حقّ امّته (١).

أقول : ولعلّه رحمه‌الله إنّما لم يلتفت إلى أصالة النفي أو أصالة البراءة النافيتين للوجوب ليتعيّن الندب في حقّنا لخروجه عن موضوع البحث ، فإنّ المقصود إثبات حكم في حقّنا بفعل المعصوم ، وتعيّن الندب على تقدير الاستناد إلى الأصل يستند إليه لا إلى الفعل ، فتأمّل.

ولك أن تقول : إنّه لو احرز هنا كون وجه فعله هو الندب بضميمة أصالة النفي ـ كما تقدّم بيان كونه من طرق معرفة الوجه ـ يثبت الندب في حقّنا أيضا بفعله ، من دون حاجة إلى إعمال أصل آخر.

وكيف كان فالراجح في النظر القاصر في هذه المسألة ، ثبوت الندب في حقّنا بفعل المعصوم مع انضمام أصل إليه لنفي احتمال الوجوب في فعله أو في فعلنا.

المسألة التاسعة :

فيما إذا كان الفعل الصادر من المعصوم غير معلوم الوجه والرجحان ، ففي وجوب التأسّي أو ندبه أو إباحته وعدمه أقوال :

وقيل : بالندب ، ونسب إلى الشافعي والجويني.

وقيل : بالإباحة ، ونسب إلى المالكي.

وقيل : بالوقف ونسب إلى السيّد والشيخ في الذريعة والعدّة ، ويظهر من العلاّمة والعميدي في التهذيب (٢) والمنية (٣) ، وهو الأقوى ، إذ لو كان المقصود بالبحث هنا إثبات حكم

__________________

(١) منية اللبيب : ٢١٤.

(٢) تهذيب الاصول : ٥٣.

(٣) منية اللبيب : ٢١٤.

٤٥٨

من الوجوب أو الندب أو الإباحة للتأسّي بالمعصوم في فعله ، فهو في مفروض المسألة غير ممكن التحقّق ، لعدم العلم بوجه فعله فلا يمكن الإتيان بمثله على الوجه الّذي فعله.

ولو كان المقصود إثبات حكم في حقّنا بفعله ، فإن اريد بذلك الحكم المقصود إثباته الحكم الواقعي ، وهو ما يعرض الواقعة من حيث هي وهو فعل المكلّف لعنوانه الخاصّ.

ففيه : أنّ ذلك الحكم لا يثبت إلاّ بفعله المعلوم وجهه ، والمفروض عدم العلم بالوجه.

وإن اريد به الحكم الظاهري وهو المجعول للواقعة من حيث جهالة حكمها الواقعي ، ففيه : أنّ هذا الحكم ليس إلاّ الإباحة ، ولا يثبت إلاّ بالأصل ، والظاهر أنّ أهل القول بالتوقّف لا ينكرونه.

واحتجّ أهل القول بالوجوب على ما نقله في التهذيب والمنية بقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ )(١) وقوله أيضا ( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )(٢) وقوله : ( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ )(٣) وقوله : ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ )(٤) وقوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(٥) وقوله : ( زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ )(٦) بأنّه أحوط.

وقد ظهر الجواب عمّا عدا الأخير في المسألة السادسة ، ونزيد هنا أنّ الأمر في الآية الاولى ظاهر في المعنى الإنشائي ، مع تطرّق المنع إلى اشتراكه بينه وبين الفعل ، كالمنع من الحمل عليه على تقدير الاشتراك بلا قرينة تعيّنه ، ومن ظهور المشترك عند تجرّده في إرادة جميع معانيه ، ومن جواز استعماله في أكثر من معنى.

والاسوة في الآية الثانية غير ممكن التحقّق في مفروض المسألة مع تطرّق المنع إلى دلالتها على الوجوب ، إذ ليس « اللام » مثل « على » في إفادة الإلزام ، وتوهّم التخويف من قوله : ( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) سهو وخلط بينه وبين الترغيب.

والاتّباع في الآية الثالثة وإن كان يتحقّق في فعل الرسول ، وهو عبارة عن الإتيان بمثل فعله على الوجه الّذي فعله ، وفي قوله أيضا وهو عبارة عن موافقة أمره أو نهيه ، وهو بكلّ من معنييه في مفروض المسألة غير ممكن التحقّق ، لعدم معرفة وجه فعله وانتفاء الأمر والنهي.

__________________

(١) سورة النور : ٦٣.

(٢) سورة الأحزاب : ٢١.

(٣) سورة آل عمران : ٣١.

(٤) سورة الحشر : ٧.

(٥) سورة النساء : ٥٩.

(٦) سورة الأحزاب : ٣٧.

٤٥٩

والايتاء في الآية الرابعة لا يصدق على فعل المعصوم في غير مقام البيان والتعليم ، مع أنّه بقرينة النهي ظاهر في الأمر.

والإطاعة في الآية الخامسة ظاهرة في موافقة الأمر والنهي ، ولا أمر ولا نهي في مفروض المسألة ، مع أنّ أمر الإرشاد لا يفيد الوجوب.

ونفي الحرج في الآية السادسة ظاهر في الإباحة ، أو أنّه أعمّ من الوجوب وغيره من الثلاث الباقية ، ولا دلالة في العامّ على الخاصّ.

وغاية ما يفيده الأحوطيّة هو الرجحان في محلّ احتماله وهو أعمّ من الوجوب ، فلا يستلزمه إلاّ على تقدير وجوب الاحتياط فيما يحتمل فيه الوجوب ولا قائل به ، ولو سلّم وجود القائل فأدلّة وجوبه كما حقّق في محلّه مدخولة.

لا يقال : يلزم على ما ذكرت خروج فعل المعصوم عن كونه حجّة ، إذ لا مورد للحجّيّة إذا لم يجب التأسّي به في فعله ولم يثبت بفعله حكم في حقّنا ، واللازم باطل لأنّ من ضروريّات مذهب الشيعة بل دين الإسلام بالقياس إلى فعل الرسول حجّيّة فعله كقوله ، لمنع الملازمة ، ويظهر أثر حجّيّته فيما إذا صدر فعله بيانا لمجمل ، وفيما علم وجه فعله ، وفيما شكّ في حرمته وإباحته فرأيناه أنّه فعله ، وفيما شكّ في وجوبه وإباحته فوجدناه أنّه تركه بلا عذر ، فالأوّل يرفع احتمال الحرمة ، والثاني يرفع احتمال الوجوب لمكان عصمته المانعة من ارتكاب الحرام وترك الواجب من غير عذر فيتعيّن [ الإباحة ] ، ورفع احتمال الحرمة في موضوع المسألة أيضا من آثار حجّيّته وإن لم يتعيّن بعده حكم خاصّ من الأربع أو الثلاث الباقية.

المقام الثاني

فيما يتعلّق بتقرير المعصوم

فنقول : إنّ التقرير لغة تفعيل من القرار وهو الثبوت ، فالتقرير هو التثبيت ، وفسّر بجعل الشيء قارا أي ثابتا.

وقد يفسّر بما هو من لوازم هذا المعنى ، وهو إمضاء الشيء وإنفاذه.

وفسّر أيضا بما هو لازم عدمي له ، وهو عدم الزجر والردع فيه.

واصطلاحا ـ على ما يستفاد من تفسيراتهم وتعريفاتهم الناقصة وموارد إطلاقاتهم له وتمسّكهم به ـ سكوت المعصوم عمّا اطّلع عليه من فعل أو ترك أو قول أو اعتقاد مع تمكّنه من الردع عنه ، وقولنا : « سكوت المعصوم » احتراز عن سكوت غيره إذ لا عبرة به

٤٦٠