تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

كان حرجيّين لا مطلقا ، فلا تكون في مقابلة أدلّة حرمة العمل بالظنّ ، بل المقابل لها دليل الانسداد والمقابل لدليل الانسداد قاعدة الاحتياط الآمرة بإحراز الاحتمالات الموهومة وترك العمل بالظنون القابلة لها ، وهي ساقطة بأدلّة نفي العسر ، فيبقى دليل الانسداد سليما.

وأمّا ثانيا : فلأنّ توهّم التعارض نشأ من زعم أنّ أدلّة نفي العسر مقتضية لوجوب العمل بالظنّ ، قبالا لأدلّة حرمته.

ويدفعه : أنّ التمسّك بأدلّة نفي الحرج ليس لإحراز المقتضي لوجوب العمل بل لدفع المانع من اقتضاء مقتضيه ، فإنّ المقتضي لتعيّن العمل بالظنّ هو دليل الانسداد ، وقاعدة الاحتياط مانعة من اقتضائه ، وأدلّة نفي العسر لدفع ذلك المانع.

وأمّا ثالثا : أنّ أدلّة حرمة العمل بالظنّ تعارض دليل الانسداد كما عرفت ، والأدلّة النافية للعسر والحرج مع ما تقدّم من عدم جواز المخالفة القطعيّة والخروج عن الدين لإحراز بعض مقدّماته ، وهو بطلان احتمال مرجعيّة أصالة البراءة وطريقة الاحتياط ، فتأمّل.

وأمّا رابعا : فلأنّ العسر والحرج قسمان :

أحدهما : ما لا يوجب اختلال نظم العالم.

وثانيهما ما يوجبه.

والأوّل ينفيه الكتاب والسنّة والإجماع.

والثاني ينفيه العقل أيضا ، مضافا إلى الثلاث المذكورة لاستقلال العقل بقبح جعل حكم يؤدّي إلى اختلال نظم العالم ، والأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ لا تقاوم لمعارضة العقل المستقلّ.

وقد عرفت أنّ العمل بالاحتياط فيما نحن فيه يوجب من العسر ما يؤدّي إلى اختلال النظم.

وأمّا خامسا : فلمّا عرفت من أنّ أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على سائر الأدلّة المثبتة للتكاليف ، وإن كان بينهما بحسب المفهوم عموم من وجه.

ومنها : أنّ الأدلّة النافية للعسر و [ الحرج ] إنّما تنفي الأحكام العسرة الحرجيّة الّتي تثبت بأصل الشرع ، فلا تنافي الأحكام الحرجيّة الّتي لا يستند وقوعها إلى الشارع بل إلى تسبيب من المكلّف نفسه ، ولذا لو نذر امورا عسرة كالأخذ بالاحتياط في جميع الأحكام الغير المعلومة ، وكصوم الدهر أو إحياء الليالي أو المسير إلى الحجّ ماشيا كان النذر منعقدا ،

٣٠١

لأنّ الالتزام بها إنّما جاء من قبل المكلّف لا الشارع ، ونحوه ما لو آجر نفسه لعمل شاقّ ، فإنّ مشقّته لم تمنع من صحّة الإجارة ووجوب الوفاء.

فحينئذ نقول : إنّ الموجب للاحتياط بإتيان كلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة وإن كان انسداد باب العلم واختفاء الأحكام الواقعيّة ، غير أنّ السبب في ذلك إنّما هو تقصير المكلّفين في محافظة الآثار الصادرة من الشارع المبيّنة للأحكام المميّزة بين الحلال والحرام الّتي منها حضور الإمام عجّل الله فرجه ، وهذا السبب وإن لم يكن من فعل كلّ مكلّف لعدم مدخليّة أكثرهم فيه ، إلاّ أنّ التكليف بالعسر ليس قبيحا عقليّا حتّى لا يتساوى في قبحه السبب وغيره ، ويختصّ عدم قبحه بمن صار سببا من سوء اختياره ، بل هو أمر منفيّ بالأدلّة السمعيّة الّتي ظاهرها نفي الأحكام الشرعيّة العسرة الثابتة في الشريعة أوّلا وبالذات ، فلا تنافي عروض التعسر في امتثالها لجميع المكلّفين ويتساوى فيه المقصّر وغيره.

ألا ترى أنّ الاجتهاد الواجب على المكلّفين ـ ولو كفاية ـ من الامور الشاقّة جدّا خصوصا في هذه الأزمنة ، مع أنّ السبب فيه تقصير المكلّفين الموجبين لاختفاء آثار الشريعة ، وهل يفرق في نفي العسر والحرج بين الوجوب الكفائي والعيني؟

ويزيّفه : أنّ الأدلّة النافية للعسر والحرج في نفي مجعوليّة الحكم لموضوع متعسّر لا يتحمّل عادة ، عامّة لما كان تعسّره بسبب من الشارع من مرض أو برودة هواء أو نحو ذلك ، وهو الّذي ورد فيه قولهم عليهم‌السلام : « ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر » (١). وما كان بسبب من غير الشارع سواء كان هو المكلّف نفسه أو غيره ، خصوصا ما يبلغ منه حدّ اختلال النظام والإضرار بامور المعاش ، الّذي جعل الحكم والإلزام به قبيح عقلي الّذي لا فرق في قبحه بين القسمين.

وقد ذكرنا سابقا أنّ العسر اللازم من العمل بالاحتياط فيما نحن فيه من هذا القبيل ، مع تطرّق المنع فيه من استناد سبب التعسّر وهو انسداد باب العلم واختفاء الأحكام الواقعيّة إلينا ، بل يستند إلى غيرنا من المعاندين الّذين هم أعداء الشرع وصادعيه ، والنقض بالالتزامات الحاصلة بالنذر وشبهه في غير محلّه.

أمّا أوّلا : فلأنّ أدلّة نفي العسر والحرج حاكمة على عمومات النذر وشبهه أيضا كسائر العمومات المثبتة للتكاليف ، فوجوب الوفاء بما تعذّر أو تعسّر من مورد النذر بحيث لا يتحمّل عادة ممنوع ، فيتوجّه المنع إلى انعقاد النذر في الأمثلة المذكورة بالنسبة إلى محلّ العسر.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤١٢ / ١.

٣٠٢

وأمّا ثانيا : فلوضوح الفرق بين التزام المكلّف بما ألزم به الشارع وبين إمضاء الشارع لما التزمه المكلّف ، ومورد أدلّة نفي العسر والحرج ما كان من قبيل الأوّل ، فإنّها تنفي الإلزام الحرجي الّذي يتبعه التزام المكلّف ، ومنه إيجاب العمل بالاحتياط فيما نحن فيه ، وما يلتزمه المكلّف بالنذر وشبهه وكذلك الإجارة من الأعمال الشاقّة من قبيل الثاني ولا تنفيه أدلّة نفي الحرج.

والسرّ في الفرق : أنّها واردة في مقام الامتنان فتخرج عنها التزامات المكلّف ، فلا تنفي إمضاء الشارع لها وإلزامه التابع لها كما هو واضح.

وأمّا النقض بالاجتهاد : فهو أيضا في غير محلّه ، لمنع مشقّة فيه لا تتحمّل عادة بالنسبة إلى أهله ، بل هو لأهله ليس بأشقّ من أكثر المشاغل الصعبة الّتي يتحملّها الناس لمعاشهم.

ولو سلّم كونه بنوعه أمرا شاقّا متعسّرا لا يتحمّل عادة ، فدليل وجوبه كفاية بل عينيّا في بعض الأحيان لكونه أخصّ من أدلّة نفي العسر والحرج يخصّصها ، كما تقدّم بيانه.

وقد يجاب عن احتمال مرجعيّة الاحتياط بوجوه اخر ، غير ما ذكرناه من الإجماع ولزوم العسر والحرج.

منها : منع وجوب الاحتياط إذ لا دليل عليه ، والأدلّة المقامة على وجوبه مدخولة ، فغايته كونه مستحبّا حيث لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة.

ولا خفاء في ضعفه ، إذ التحقيق أنّ الاحتياط في مثل المقام ـ بعد الإغماض عمّا ذكرناه في منع وجوبه ـ واجب ، لوجود المقتضي لوجوبه ، وهو العلم الإجمالي بالتكاليف الالزاميّة مع اشتباه محلّها ، ومعناه الشكّ في المكلّف به الدائر بين الامور المتبائنة بعد العلم بأصل التكليف إجمالا ، وستعرف في مسألة البراءة والاشتغال وجوب الاحتياط فيه.

ومنها : أنّ الاحتياط مع فرض انسداد باب العلم وفقد الظنّ الخاصّ ، وعدم اعتبار الظنّ الاجتهادي ، وملاحظة القول بوجوب معرفة الوجه غير ممكن ، كما عليه جماعة ، لأنّه لا يتمّ إلاّ بإحراز معرفة الوجه الّتي هي إمّا شرط أو محتمل للشرطيّة على القولين بوجوبها وعدم وجوبها ، وإحرازها غير ممكن لأنّها إنّما تحرز إمّا بالعلم بالوجه والمفروض إنسداد بابه ، أو بالظنّ الخاصّ به والمفروض فقده ، أو بالظنّ الاجتهادي به والمفروض عدم اعتباره ، وهذا أيضا ضعيف.

أمّا أوّلا : فلأنّه على تقدير تماميّته ، لا يجري إلاّ في موارد التعبّد أعني العبادات.

٣٠٣

وأمّا ثانيا : فلأنّ وجوب معرفة [ الوجه ] عند قائليه إمّا شرطي ، على معنى كون نفس معرفة الوجه شرطا للعبادة ، أو مقدّمي على معنى كونه مقدّمة لقصد الوجه الّذي هو كقصد القربة واجب في العبادة ، ولا يتمّ إلاّ بمعرفة الوجه ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلمنع كون معرفة الوجه من شروط صحّة العبادة ، لعدم الدليل عليه بل الدليل على خلافه ، كما يعلم من سيرة النبيّ وأصحابه وسير [ ة ] الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم بعد التتبّع في رواياتهم ، ومن ثمّ صار الحقّ عندنا في مسألة الجاهل في العبادات هو الصحّة والإجزاء مع المطابقة لا مع عدمها ، كما قرّرناه في باب الاجتهاد والتقليد.

وأمّا الثاني : لمنع وجوب قصد الوجه رأسا ـ كما حقّقناه في محلّه ـ فلا يجب لأجله معرفة الوجه مقدّمة ، فإنّه كقصد القربة يعتبران لإحراز الإطاعة والامتثال.

ولا ريب أنّ الإطاعة والامتثال ليس بأمر توقيفي يجب أخذه من الشارع ، بل هو شيء موكول إلى العقل والعرف ، ولا نرى في العقل والعرف ما يقضي بتوقّف إطاعة الشارع وامتثال أمره على قصد الوجه المتوقّف على معرفته ، الراجعة إلى معرفة الوجوب والندب ، بل يكفي في صدقهما عند العقل والعرف مجرّد الرجحان عند الشارع والمطلوبيّة له ، بل احتمالهما أيضا فيكفي في صدقهما الإتيان بالفعل لأجل أنّه راجح عند الشارع ومطلوب له ، بل الإتيان به لرجاء أنّه راجح عنده ومطلوب له من دون توقّف له على إحراز كون ذلك الرجحان والمطلوبيّة على وجه الوجوب أو الندب ، ليتوقّف ذلك على العلم بالوجوب أو الندب.

ولو سلّم وجوب قصد الوجه فهو عند قائليه إنّما يعتبر حيث يمكن ، وهو مع تعذّر معرفة الوجه غير ممكن ، فيسقط وجوبه ويلزم منه عدم وجوب مقدّمته.

فإن قلت : نعم ولكنّ المقصود في المقام ترجيح العمل بالظنّ على العمل بالاحتياط بملاحظة اشتراط معرفة الوجه وإن صارت الآن متعذّرة ، فإنّ في الأوّل إحرازا للوجه بالطريق الظنّي ، وحيث تعذّر إحرازه بطريق علمي فإحرازه بالطريق الظنّي أولى من عدم إحرازه رأسا.

وحاصله أنّه إذا دار الأمر بين إحراز الوجه بطريق ظنّي ، وبين تفويته رأسا كان الأوّل أولى.

قلت : لا نتحقّق معنى إحراز الوجه بالطريق الظنّي ولا نتعقّل فائدته.

فإن قلت : معناه الظنّ بالوجوب وفائدته إحراز الإطاعة والامتثال به.

قلت : إحراز الإطاعة والامتثال بالظنّ بالوجوب ، إمّا لأنّ الظنّ بالوجوب له مدخليّة في حصول الإطاعة والامتثال ، أو لأنّه معتبر للتوصّل إلى نيّة الوجه الّتي لها مدخليّة فيهما ،

٣٠٤

وأيّا مّا كان فهو باطل.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من عدم توقّف صدقهما عند العقل ولا في العرف على العلم بالوجه ، فضلا عن الظنّ به.

وأمّا الثاني : فلأنّ الظنّ بالوجوب لا يجدي نفعا في حصول نيّة الوجه الّتي هي عبارة عن قصد الإتيان بالفعل لوجوبه ، لأنّه لا يتأتّى إلاّ مع الجزم بالغاية ، ولا جزم بها مع الظنّ بالوجوب.

والسرّ : في عدم جدواه : أنّ المفروض عدم ثبوت حجّيّته ، وظاهر أنّ الظنّ الغير المعتبر بوجوب شيء بمنزلة الشكّ فيه ، وكما أنّ الشكّ في الوجوب لا يمكن معه قصد الوجوب ، فكذلك الظنّ الغير المعتبر بوجوبه أيضا لا يمكن معه قصد الوجوب.

نعم لو كان الظنّ من الظنون الخاصّة كان الوجوب الثابت به وجها ظاهريّا ، حصل الجزم به من مقتضى علميّة أدلّة الظنّ الخاصّ فيتأتّى به قصد الوجه الظاهري ، لكن قد عرفت فقد الظنون الخاصّة مع انسداد باب العلم.

ثمّ إذا اكتفى في إحراز قصد الوجه بالوجه الظاهري على تقدير وجود الظنّ الخاصّ جاز الاكتفاء به على تقدير العمل بالاحتياط ، لأنّه على ما بيّناه من العلم الإجمالي بوجود واجبات كثيرة فيما بين الوقائع المظنونة والمشكوكة والموهومة واجب ، ومعناه وجوب الإتيان بجميع محتملات الوجوب ، فإذا وجب الإتيان بكلّ محتمل الوجوب ، فيقصد الإتيان به لوجوبه ، وهذا أيضا قصد للوجه الظاهري وقد حصل لمكان الجزم بالغاية.

فإن قلت : إنّما نرجّح العمل بالظنّ لأنّ فيه امتثالا تفصيليّا ، وهو بحكم العقل والشرع أولى من الامتثال الإجمالي الحاصل بالاحتياط ، لإجماعهم على عدم كفاية الامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ، كما يظهر من كلامهم في مسألة الصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، وفي الثوبين أو أكثر عند اشتباه الثوب الطاهر بالثوب النجس.

وعلى هذا فلا يمكن في العمل بالاحتياط نيّة الوجه حتّى الوجه الظاهري.

قلت : التفصيل إنّما يرجّح الامتثال التفصيلي على الإجمالي إذا كان في العلم لا مطلقا ، على معنى أنّه إذا تمكّن المكلّف من الامتثال العلمي التفصيلي كان متعيّنا ، ولا يجوز العدول عنه إلى الامتثال العلمي الإجمالي ، لإجماعهم عليه ظاهرا.

وهذا هو الّذي يظهر من كلامهم في مسألة اشتباه القبلة ، ومسألة اشتباه الثوب الطاهر ،

٣٠٥

ولذا فرضوا الصلاة إلى الجهات أو في الأثواب في صورة الاشتباه ، فلو يمكّن من صلاة واحدة في مكان معلوم قبلته أو في ثوب معلوم الطهارة ، فلا يكفيه في حصول الامتثال صلوات متعدّدة في مكان آخر مشتبه قبلته ، أو في أثواب اخر مشتبه طاهرها.

وأمّا إذا تعذّر الامتثال العلمي التفصيلي ودار الأمر بين الامتثال الظنّي التفصيلى والامتثال العلمي الإجمالي فلا دليل على ترجيح الأوّل ، بل الدليل من جهة القوّة وبناء العقلاء على خلافه ، خصوصا مع عدم ثبوت حجّيّة الظنّ كما فيما نحن فيه.

بل قد عرفت أنّ هذا الظنّ في حكم الشكّ ، وكما لا يعقل ترجيح الامتثال الشكّي على الامتثال العلمي الإجمالي ، فكذلك لا يصحّ ترجيح الامتثال الظنّي بظنّ غير ثابت الحجّيّة على الامتثال العلمي الإجمالي ، بل قد يقال : لا يبعد ترجيح الاحتياط على تحصيل الظنّ الخاصّ الّذي قام الدليل عليه بالخصوص.

فالعمدة في إبطال مرجعيّة الاحتياط على معنى منع وجوبه ، هو ما ذكرناه من الإجماع ولزوم العسر البالغ حدّ اختلال النظم ، والإضرار بامور المعاش.

وقد استشكل في المقام شيخنا قدس‌سره بما ملخّصه : « أنّ غاية ما أبطله الإجماع وأدلّة نفي الحرج ، إنّما هو وجوب الاحتياط في جميع الوقائع الغير المعلومة من مظنونات الوجوب ، ومشكوكات الوجوب وموهومات الوجوب ، على طريقة رفع الإيجاب الكلّي وهو لا يلازم السلب الكلّي ، ولا يوجب رفع اليد عن الاحتياط بالكلّية ، لجواز السلب الجزئي الغير المنافي للإيجاب الجزئي المعبّر عنه هنا بالتبعيض ، وهو الأخذ بالاحتياط في البعض من الجميع دون بعض.

والأصل في ذلك أنّ مقتضى القاعدة العقليّة والنقليّة لزوم الامتثال العلمي التفصيلي للأحكام والتكاليف المعلومة إجمالا ، ومع تعذّره يتعيّن الامتثال العلمي الإجمالي في الجميع ، ومع تعذّره أو قيام الدليل على عدم وجوبه في الجميع لو دار الأمر بين الامتثال الظنّي في الكلّ وبين الامتثال العلمي الإجمالي في البعض والظنّي في الباقي ، كان الثاني هو المتعيّن عقلا ونقلا.

ففيما نحن فيه إذا تعذّر الاحتياط الكلّي ودار الأمر بين إلغائه بالمرّة والاكتفاء بالإطاعة الظنّيّة ، وبين إعماله في المظنونات والمشكوكات وإلغائه في الموهومات ، كان الثاني هو المتعيّن ، ولو فرض العسر أيضا نرفع اليد عن الاحتياط في المشكوكات ، ونحتاط في مظنونات الوجوب بالفعل ، ومظنونات الحرمة بالترك ، ولو فرض بقاء العسر

٣٠٦

أيضا نرفع اليد عنه في بعض المظنونات أيضا ، إلى أن يبقى ما لا عسر في الاحتياط فيه ، فلم يلزم من الإجماع ولزوم العسر بطلان الاحتياط رأسا ، والمفروض أنّ العمدة في مقام إثبات حجّيّة الظنّ مطلقا إبطاله لأنّه العمدة في المنع » (١).

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ هذا التفصيل إنّما يحسن لو كان القائل بمرجعيّة الاحتياط إنّما يقول بوجوبه في جميع الوقائع الغير العلميّة تعبّدا ، وليس كذلك بل يقول به لأنّه يفيد الموافقة القطعيّة والامتثال العلمي لجميع المعلومات بالإجمال ، فمناط وجوبه هو ذلك وهذا المناط غير حاصل في الاقتصار في الاحتياط على المظنونات ، أو هي مع المشكوكات مع الاعتراف بقلّة المشكوكات في نفسها.

نعم الاحتياط في هذا المقدار إنّما يفيد القطع بموافقة جملة من المعلومات بالإجمال ، لوجود العلم الإجمالي في المظنونات أيضا ، ولكن حصول القطع بموافقة جملة منها مشترك بين تقديري مرجعيّة الاحتياط حينئذ وطريقيّة الظنّ المطلق المفروض في المظنونات ، إذ المفروض موافقة الظنّ للاحتياط إذ كما يحصل القطع بموافقة جملة منها بالأخذ بالاحتياط من حيث إنّه أخذ بالاحتياط ، فكذلك يحصل ذلك للقطع بعينه بالأخذ بالظنّ من حيث إنّه أخذ بالظنّ بلا فرق بينهما أصلا.

نعم إنّما يحصل الفرق بين التقديرين في جهات اخر ، لا مدخليّة لها في الفرق بينهما من حيث إفادة القطع بموافقة جملة منها وعدم إفادته له.

منها : حصول الفرق بينهما في كيفيّة الأخذ ، إذ على مرجعيّة الاحتياط يؤخذ بالمظنون وجوبا أو حرمة ، لأنّه طرف للعلم الإجمالي المقتضي لوجوب الاحتياط ، وعلى طريقية الظنّ يؤخذ به لأنّه محرز للواقع وطريق إليه.

ومنها : حصوله بينهما في النيّة ، إذ على مرجعيّة الاحتياط يؤخذ بالمظنون لرجاء أنّه الواقع ، وعلى طريقيّة الظنّ يؤخذ به لأجل أنّه الواقع.

ومنها : حصوله بينهما باعتبار المسألة من حيث الفرعيّة والاصوليّة ، إذ المسألة على الأوّل فرعيّة لأنّ معنى وجوب الاحتياط في المظنونات وجوب الإتيان بكلّما ظنّ وجوبه وترك كلّما ظنّ حرمته إحتياطا ، وعلى الثاني اصوليّة.

وبالجملة : القول بوجوب الأخذ بالمظنون لأنّه احتياط له معنى ، والقول بتعيّن العمل

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٤٢١ ـ ٤٢٣.

٣٠٧

بالظنّ لأنّ الظنّ حجّة له معنى آخر ، والمسألة على الأوّل فرعيّة ، وعلى الثاني اصوليّة.

ومنها : حصوله بينهما في بعض مقامات الخطاب مثل تخصيص العامّ بالظنّ وعدمه بالاحتياط ، فيما لو قال : « أكرم العلماء » مع علمنا إجمالا بورود تخصيص عليه بحيث أوجب الإجمال في العامّ ، ثمّ ظننّا من جهة أمارة ظنّيّة بحرمة إكرام زيد العالم.

فإن قلنا بوجوب الأخذ بالحرمة المظنونة من جهة أنّه عمل بالاحتياط ، فلا ينهض ذلك لتخصيص أكرم العلماء ، ولا يرفع عنه الإجمال الناشئ من العلم الإجمالي بورود تخصيص عليه ، بخلاف ما لو قلنا بوجوب الأخذ بها لأنّه عمل بالظنّ ، والظنّ حجّة على معنى كونه طريقا إلى إحراز الواقع ، فإنّه حينئذ ينهض لتخصيص العامّ وربّما يرتفع به إجماله.

ولا ريب أنّ الفرق بينهما في هذه الجهات لا يوجب فرقا بينهما في إفادة أحدهما القطع بموافقة جملة من المعلومات بالإجمال ، وعدم إفادة الآخر إيّاه ، بل القطع حاصل على التقديرين.

وبالجملة : هذا القطع لازم الحصول بكلّ من تقديري تسمية ذلك عملا بالاحتياط المنوي حين العمل وتسميته عملا بالظنّ ، فلابدّ إمّا من الالتزام بالاحتياط في الجميع المؤدّي إلى العسر الموجب لاختلال النظم تحصيلا للموافقة العلميّة لجميع الواجبات والمحرّمات المعلومتين بالإجمال ، أو من القول بأنّ الشارع بعد تعذّر الموافقة العلميّة التفصيليّة لا يريد من المكلّفين الامتثال العلمي الإجمالي في التكاليف الواقعيّة المشتبهة بين الوقائع الغير العلميّة ، بل يكتفي منهم بالامتثال الظنّي التفصيلي في خصوص كلّ واقعة ظنّيّة ، وإن استلزم ذلك حصول العلم الإجمالي بامتثال جملة غير معيّنة منها ، ولأجل ذلك ارتفع العلم الإجمالي بوجود التكاليف الواقعيّة فيما بين الوقائع الغير العلميّة بعد الأخذ بجميع الوقائع المظنونة.

والأوّل باطل بالعقل والنقل فتعيّن الثاني ، وهذا هو معنى كون المرجع في صورة انسداد باب العلم بمعظم الأحكام الشرعيّة هو الظنّ المطلق ، والواسطة وهو التفصيل المتقدّم ملغاة في نظر الشارع.

وممّا يفصح عن صحّة ما قلناه ، أو يؤيّده : أنّ أصل البراءة أصل قطعي مستفاد من العقل والنقل قرّره الشارع لنفي التكليف الإلزامي في محلّ الشكّ والاحتمال ، والمفروض أنّ حرمة المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي وقبحها أيضا حكم عقلي ، فلو كان المرجع في

٣٠٨

جميع الوقائع الغير المعلومة هو الاحتياط لزم خروج الأصل القطعي بلا مورد في الشبهات الحكميّة ، وهو خلاف الاجماع حتّى على طريقة الأخباريّين في الشبهات الوجوبيّة ، ولو بنى على الرجوع إلى أصل البراءة في الجميع لزم المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي ، والخروج عن الدين ، فلابدّ وأن يكون هناك طريقة وسطى لم يلزم بسلوكها شيء من المحذورين ، وهو الأخذ بالظنّ في الوقائع المظنونة ، والرجوع إلى الأصل في غيرها ، لخروجه عن طرف العلم الإجمالي ظاهرا.

ومن طريق إبطال مرجعيّة أصل البراءة والاحتياط في الجميع يعلم اندفاع ما قد يورد أيضا : بأنّ انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ لا ينتج تعيّن العمل بالظنّ ، لجواز الرجوع في كلّ مسألة إلى الأصل الجاري في تلك المسألة ، من غير الالتفات إلى العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات بين الوقائع ، بأن يلاحظ الواقعة في نفسها ، فإن كان فيها حكم سابق يمكن بقائه كالماء المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره بنفسه استصحب وبنى على الاستصحاب فيها ، وإلاّ فإن كان الشكّ في أصل التكليف كشرب التتن ، وقراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، بنى فيها على أصل البراءة ، وإن كان الشكّ في تعيين المكلّف به مثل القصر والإتمام في المسير إلى أربعة فراسخ بنى على الاحتياط فيها إن أمكن ، وإلاّ كما إذا دار التكليف الإلزامي بين الوجوب والتحريم بنى على أصالة التخيير فيها.

ووجه الاندفاع : لزوم كلّ من محذوري مرجعيّة البراءة ومرجعيّة الاحتياط ، فإنّ مرجع الاصول المذكورة إلى قسمين :

أحدهما : الاصول النافية للتكاليف ، كأصالة البراءة واستصحابي عدم الوجوب ، أو عدم الحرمة فيما كان حالته السابقة أحدهما ، وأصالة التخيير.

وثانيهما : الاصول المثبتة للتكليف كأصل الاشتغال واستصحابي الوجوب أو الحرمة فيما كان حالته السابقة أحدهما ، فالوقائع المشتبهة بهذا الاعتبار على قسمين :

أحدهما : ما يجري فيه الاصول النافية ، ويلزم من العمل بها المخالفة القطعيّة.

والآخر : ما يجري فيه الاصول المثبتة ، ويلزم من بناء العمل عليهما العسر والحرج لكثرة المشتبهات في المقامين.

وأضعف من الإيراد المذكور ما نوقش أيضا : من أنّ الشارع إمّا أغمض عن الواقع ورفع اليد عنه ولم يتعلّق غرضه بإدراكه ، أو لا؟ فعلى الأوّل يتعيّن الأخذ بالاحتياط إذ لا

٣٠٩

طريق إلى إدراكه كما هو حقّه ، وعلى الأوّل لا معنى لتعيّن الأخذ بالظنّ لأنّه من جهة أقربيّته إلى الواقع ، والمفروض أنّه ملغى.

وفيه : من المغالطة ما لا يخفى ، ومع ذلك نختار الشقّ الثاني ، لوضوح بطلان الأوّل بملاحظة العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الواقعيّة ، ووجود واجبات ومحرّمات كثيرة فيما بين الوقائع المشتبهة ، وقضاء الضرورة بعدم كون حالنا فيها كحال البهائم ، ونمنع الملازمة بينه وبين تعيّن الأخذ بالاحتياط لما تقدّم من الإجماع ولزوم العسر والحرج ، فتعيّن العمل بالظنّ بحكم العقل المستقلّ ، فإنّ الشارع لا تصرّف له في الوقائع سوى أنّه أحدث أحكاما وضعيّة أو غير وضعيّة ، تكليفيّة طلبيّة أو غير طلبيّة ، إلزاميّة أو غير إلزاميّة ، ولم يتعرّض لبيان كيفيّة امتثالها ، بل أحال بيانها إلى العقل ، كما أنّ الإلزام بأصل الامتثال من وظيفته.

ولا ريب أنّ العقل يلزم أوّلا بالامتثال العلمي التفصيلي ، ومع عدم إمكانه وتعذّره لعذر عقلي أو شرعي يلزمه بالامتثال العلمي الإجمالي ، ومع عدم إمكانه وتعذّره لعذر عقلي أو شرعي ـ ومنه العسر ـ يلزمه بالامتثال الظنّي التفصيلي ، ومع عدم إمكانه أو تعذّره لعذر عقلي أو شرعي يلزمه بالامتثال الاحتمالي.

وهذه مراتب أربعة لكيفيّة الامتثال مرتّبة في نظر العقل ، ولا يجوز العدول من المرتبة العليا إلى السفلى إلاّ لعذر عقلي أو شرعي ، فلا يحكم بتعيّن العمل بالظنّ تحصيلا للامتثال الظنّي التفصيلي ، إلاّ بعد قيام العذر عقلا أو شرعا بالقياس إلى العلم التفصيلي والاحتياط الّذي يحصل بهما الامتثال العلمي تفصيلا أو إجمالا.

وبالتأمّل في ذلك يندفع مناقشة اخرى في الدليل ، وهي أنّ انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ لا ينتج تعيّن العمل بالظنّ ، لجواز أن يكون هناك طريق آخر تعبّدنا الشارع بالعمل به والرجوع إليه ، كالقرعة أو الرمل أو الرجوع إلى فتوى العالم بها وتقليده فيها.

وهذه أضعف من سابقتها ، لأنّه ـ مع مخالفته الإجماع على عدم الرجوع إلى القرعة وما بعدها ـ واضح الدفع بأنّ الطريق الآخر إن كان ممّا يحتمل كونه طريقا فالرجوع إليه ـ دون ما فرض في المسألة من الظنّ ـ عدول عن الامتثال الظنّي من غير عذر عقلي ولا شرعي إلى الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي ، وهو ممّا يستقلّ العقل بمنعه ، مع أنّ قيام ما يحتمل كونه طريقا في الطرف المقابل للطرف المظنون لا يخرجه عن كونه موهوما ، فالرجوع إليه يرجع إلى طرح المظنون والالتزام بالموهوم ، وهو قبيح عقلا لأنّه ترجيح

٣١٠

للمرجوح ، وإن كان ممّا يظن كونه طريقا فالرجوع إليه وإن كان نوعا لا يخالف العمل بالظنّ ، لما ستعرفه من أنّ الظن على تقدير ثبوت اعتباره بدليل الانسداد لا فرق فيه بين ما لو تعلّق بنفس الواقع وما لو تعلّق بكون شيء طريقا إليه ، فإنّ العمل به حينئذ مجز عن الواقع ، لكونه بدلا عن الواقع وإن تخلّف عنه في الواقع ، ولكنّه إذا قام بالطرف الموهوم فالأمر يدور بين الظنّ بنفس الواقع ، والطريق المظنون طريقيّته ، ويقع التعارض بينهما ، وفيه كلام سيأتي.

وأمّا الرجوع إلى العالم وتقليده فيما أفتى به ، فهو بالنسبة إلى العامي الغير البالغ رتبة الاجتهاد ممّا لا كلام في تعيّنه في حقّه ، غير أنّه ممّا لا ينبغي أن يقابل به العمل بالظنّ ، لأنّ المراد به عمل المجتهد بظنّه الاجتهادي ، وأمّا بالنسبة إلى العالم البالغ رتبة الاجتهاد فممّا لا معنى له ، لأنّ العالم الآخر الّذي هو المقلّد ـ بالفتح ـ إن كان موافقا للمقلّد ـ بالكسر ـ في القول بانسداد باب العلم وفقد الظنّ الخاصّ ، فالرجوع إليه عمل بظنّ غيره ، وهو ليس بأولى من عمله بظنّ نفسه ، بل العكس أولى ومتعيّن بحكم العقل المستقلّ لكون ظنّ نفسه أقرب إلى الواقع ، بل ظنّ الغير في مقابلة ظنّ نفسه في خصوص المسألة الشخصيّة وهم ، وإن كان مخالفا له لزعمه انفتاح باب العلم ، أو وجود الظنّ الخاصّ كخبر الواحد الّذي يزعم حجّيّته استنادا إلى دلالة آية النبأ مثلا ، فرجوع من يغلّطه ويقطع بخطائه في الطريقة إليه وأخذه بفتواه ممّا لا معنى له.

ومرجع الكلّ إلى الإجماع على منع التقليد للمجتهد وحرمته ، وممّا أجمع عليه العلماء على ما ادّعي أنّ المجتهد إذا لم يجد دليلا في المسألة على التكليف كان حكمه الرجوع إلى البراءة ، لا إلى من يعتقد وجود الدليل على التكليف.

وبجميع ما ذكر اندفع أيضا : ما توهّم من التنافي بين التزام بقاء التكليف في الوقائع المجهولة الحكم وعدم ارتفاعه بالجهل ، وبين التزام العمل بالظنّ ، نظرا إلى أنّ التكليف بالواقع إن كان باقيا فلا يجدي في امتثاله غير الاحتياط وإحراز امتثاله إجمالا.

ووجه الاندفاع : أنّ مقتضى الأصل العقلي مع الإمكان وعدم طروّ العذر العقلي والشرعي هو هذا.

وأمّا مع عدم الإمكان أو طروّ العذر ـ ولو شرعا كالحرج ـ فلا منافاة في التزام العمل بالظنّ لما ذكر ، إذ قد عرفت أنّه ليس بعد الامتثال العلمي تفصيلا وإجمالا وما بحكمه من

٣١١

الامتثال الظنّي بالظنّ الخاصّ طريق آخر للامتثال يكون مقدّما على الامتثال الظنّي.

فملخّص تقرير الانسداد : أنّ العقل بملاحظة العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الواقعيّة ، وانحصار طريق امتثالها عقلا أو شرعا في الامتثال الظنّي ، يحكم بتعيّن العمل بالظنّ ، وهل المراد به وجوب العمل به على التعيين ، أو وجوب العمل به مطلقا ولو على التخيير ، وإن كان قد يكون على التعيين؟

ويظهر الثمرة في العمل بالاحتياط حيث أمكن بلا عسر وحرج ، فهل هو في مقابل العمل بالظنّ الاجتهادي أحد فردي الواجب التخييري أو لا؟

وعلى الثاني فهل يكون مسقطا عن الواجب التعييني وهو العمل بالظنّ أو لا؟

وتحقيقه مبنيّ على النظر في مسألة مشروعيّة الاحتياط في العبادات ، على معنى كونه كطريقي الاجتهاد والتقليد طريقا مجعولا ، أو على معنى كونه مسقطا عن الطريق المجعول ، نظرا إلى أنّ وجوب سلوك أحد الطريقين غيريّ توصليّ ، قصد به إدراك مصلحة الواقع ، أو مثل مصلحة الواقع ، والاحتياط أيضا إدراك لمصلحة [ الواقع ].

وتمام الكلام في باب الاجتهاد والتقليد في مسألة عبادات الجاهل.

وينبغي التنبيه على امور مهمّة :

الأمر الأوّل

إذ قد عرفت أنّ مقتضى دليل الانسداد بحكم المقدّمات المأخوذة فيه ، وجوب تحصيل الامتثال الظنّي للأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال الغير المعلومة بالتفصيل.

فاعلم أنّ الامتثال الظنّي قد يحصل بموافقة نفس الحكم الفرعي المظنون كونه حكما واقعيّا ، كالاجتناب عن العصير المظنون حرمته ونجاسته ، وقد يحصل بموافقة مؤدّى الأمارة المظنون كونها طريق إلى الحكم الفرعي الواقعي ، كالاجتناب عن العصير الّذي قامت الأمارة بحرمته ونجاسته ، وإن لم يحصل الظنّ من جهتها بكون الحرمة أو النجاسة حكما واقعيّا ، فالظنّ الّذي يضاف إلى أمارة كالشهرة قد يكون ظنّا بنفس الواقع حصل من الأمارة ، وقد يكون ظنّا بكون الأمارة طريقا إلى الواقع حصل من أمارة اخرى ، وكما أنّ الأخذ بنفس الواقع المعلوم أو المظنون مبرءا للذمّة وموجب لفراغها فكذلك الأخذ بمؤدّى الطريق المعلوم أو المظنون كونه طريقا مبرءا للذمّة وموجب لفراغها وإن لم يصادف

٣١٢

الواقع ، باعتبار كونه بدلا عن الواقع مسقطا عنه.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه قد اختلفت أنظار القائلين بدليل الانسداد القائم بحجّيّة الظنّ في تعيين ما يثبت حجّيّته بمقدّمات ذلك الدليل ، هل هو الظنّ بنفس الواقع من أيّ شيء حصل ، أو الظنّ بطريق الواقع ، على معنى الظنّ بكون أمارة كالشهرة مثلا طريقا إلى الواقع وإن لم يحصل منه ظنّ بنفس الواقع ، أو الظنّ بنفس الواقع والظنّ بطريقه معا ، وأنّهما سيّان في الحجّيّة لكونهما متشاركين في إبراء الذمّة وتفريغها كما يظهر اختياره من بعض الأعلام (١) وعليه شيخنا الاستاد قدس‌سره؟ (٢).

والأوّل خيرة شريف العلماء وبعض تلامذته ، بزعم أنّ الظنّ بكون الشيء طريقا مبرءا للذمّة ظنّ في المسألة الاصوليّة ، ولم يثبت من دليل الانسداد اعتباره ، لاختصاصه بالظنّ في المسائل الفرعيّة ، وعدم جريانه في المسائل الاصوليّة (٣).

والثاني طريقة بعض الأفاضل في هداية المسترشدين (٤) وتبعه أخوه في الفصول (٥) ، ومستندهما في اختيار هذه الطريقة أمران :

أحدهما : ما قرّره في الفصول بقوله : « إنّا نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفا فعليّا بأحكام فرعيّة كثيرة ، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع أو بطريق معيّن نقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه ، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره ، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة ، وكلّفنا تكليفا فعليّا بالرجوع إليها في معرفتها ، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليّا بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ، وحيث إنّه لا سبيل لنا غالبا إلى تعيينها بالقطع ، ولا بطريق نقطع من السمع بقيامه بالخصوص ، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره ، فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظنّ الفعلي الّذي لا دليل على عدم حجّيته ، لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه ، وإنّما اعتبرنا في الظنّ أن لا يقوم دليل معتبر على عدم جواز الرجوع إليه حينئذ ، لأنّ الحكم بالجواز هنا ظاهري فيمتنع ثبوته مع انكشاف خلافه ، ومع

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٤٥٢.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٤٣٧.

(٣) ضوابط الاصول : ٢٦٦ ومفاتيح الاصول : ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٤) هداية المسترشدين : ٣٩٤.

(٥) الفصول : ٢٧٧.

٣١٣

تعذّر هذا النوع من الظنّ فالرجوع إلى ما يكون أقرب إليه مفادا من المدارك الّتي لا دليل على عدم حجّيّتها مع الاتّحاد ، ومع التعدّد والتكافؤ فالتخيير ، لامتناع الأخذ بما علم عدم جواز الأخذبه كما مرّ أو ترجيح المرجوح أو الترجيح مع عدم المرجّح » إلى آخر ما ذكره رحمه‌الله (١).

ويرد عليه وجوه :

أوّلها : منع نصب الشارع طرقا مخصوصة للأحكام الواقعيّة ، ودعوى العلم الإجمالي مردودة بأنّه لابدّ له من مدرك عقلي أو سمعي أو غيرهما من ضرورة أو إجماع والكلّ مفقود ، ولو صحّ ما ذكر من نصب الطرق لكان وضوح تلك الطرق بمثابة وضوح الشمس في رابعة النهار ، لتوفّر الدواعي بين المسلمين على ضبطها وحفظها والمحافظة عليها عن الاندراس والاختفاء ، كيف واحتياج كلّ مكلّف إلى معرفتها أكثر من احتياجه إلى مسائل صلواته الخمس.

واحتمال اختفائها مع ذلك لعروض دواعي الاختفاء كما اتّفق بالنسبة إلى المرجع بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظرا إلى أنّ الحاجة إلى معرفة الطرق ليست بأكثر من الحاجة إلى معرفة المرجع والحجّة بعد النبيّ ـ مدفوع بوضوح الفرق بين المقامين ، فإنّ الدواعي العارضة الباعثة على اختفاء المرجع هي الدواعي إلى طلب السلطنة الباطلة وما أشبه ذلك ، وليس شيء منها عارضة بالنسبة إلى الطرق على تقدير كونها منصوبة ، فعدم وضوحها بحيث يعرفها كلّ مكلّف إنّما هو لعدم نصب الشارع إيّاها من أصلها ، لا لاختفائها بعد نصبها.

وبالجملة ردّ الاستدلال لكونه عقليّا يكفي فيه احتمال عدم نصب الطرق المخصوصة للأحكام الواقعيّة ، وعليه مبنى المنع ، وسنده احتمال إرجاع الشارع لامتثال أحكامه الواقعيّة إلى حكومة العقل المستقلّ ، إجراء لها مجرى أحكام الموالي بالنسبة الى عبيدهم ، على ما هو طريقة العقلاء المستمرّة فيها ، من جهة حكومة العقل من جعل المدار في امتثالها والموافقة لها تحصيل العلم بها من أيّ سبب كان ، ومع تعذّره فعلى تحصيل الظنّ الاطمئناني بها ، ومع تعذّره فعلى الظنّ المطلق وإن لم يبلغ حدّ الاطمئنان ، ومع تعذّره أيضا فعلى الأخذ بأحد طرفي المسألة حذرا عن المخالفة القطعيّة والإعراض عن التكاليف الواقعيّة الالهيّة.

وبالتأمّل في ذلك يندفع توهّم القول بأنّ منع نصب الطرق لا يجامع القول ببقاء

__________________

(١) الفصول : ٢٧٧.

٣١٤

الأحكام الواقعيّة ، إذ بقاء التكليف من دون نصب طريق إليها ظاهر البطلان.

وتوضيح الاندفاع : منع بطلان بقاء التكليف مع عدم نصب طريق خاصّ غير علمي إليه ، فإنّ الباطل إنّما هو التكليف بغير المقدور ، لا إرجاع كيفيّة الامتثال إلى العقل المستقلّ وإناطته بالعلم ، ثمّ الظنّ الاطمئناني ، ثمّ الظنّ الغير الاطمئناني ، ثمّ الأخذ بأحد طرفي المسألة ، نظرا إلى حكومة العقل في مراتب الامتثال الدائر بين العلمي والظنّي الاحتمالي بتقدّم بعضها على بعض.

وبالجملة جعل تكليف واقعي لا يلازم نصب طريق خاصّ إليه قبالا للعلم ، أو الظنّ بنفس الواقع لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا ، كما في أحكام الموالي بالقياس إلى عبيدهم ، وغيرهما من صنوف الحاكم والمحكوم من العقلاء الذين مدار طريقتهم على حكومة العقل.

فإن قلت : العلم الإجمالي بنصب الطريق حاصل من الإجماع ، فإنّ المعلوم من سيرة العلماء وطريقة الفقهاء في مدارك استنباطهم اتّفاقهم على وجود طريق منصوب ، ولا ينافيه الاختلاف في الأشخاص بملاحظة أنّ منهم من يعمل بخبر الواحد دون غيره ، ومنهم بالإجماع المنقول دون غيره ، لأنّ ذلك اختلاف في التعيين [ وهو ] لا ينافي الاتّفاق على القدر المشترك.

قلت : الاتّفاق ممنوع ، فإنّ جماعة من معتبريهم كالسيّد (١) وموافقيه ممّن تقدّم عليه ومن تأخّر (٢) عنه منعوا نصب الطريق الخاصّ ، بتقريب : أنّهم زعموا كون المدار في امتثال الأحكام الواقعيّة على العلم لدعواهم انفتاح بابه ، وهذا في معنى منعهم نصب الطريق الغير العلمي ، بل منهم من أحاله كابن قبة القائل باستحالة التعبّد بخبر الواحد بل مطلق الأمارة الغير العلميّة (٣).

وقد يقرّر سند المنع من الاتّفاق ، بأنّه لو كان هناك طريق منصوب من الشارع للأحكام الواقعيّة لكان هو خبر الواحد ، لأنّه القدر المتيقّن من أفراد هذا العنوان على تقدير مساعدة دليل عليه ، لبطلان منصوبيّة غيره مع وجوده ، والتالي باطل ، لأنّ السيّد وأتباعه منعوا من العمل بخبر الواحد ، وبالغوا في المنع حتّى أنّ منهم من أحاله ، وهذا يدلّ على أنّهم لا يقولون بوجود طريق منصوب ، وإلاّ لزم كونه عندهم غير خبر الواحد وهو باطل.

ومع الغضّ عن ذلك وتسليم عدم مخالفة السيّد وأتباعه في القول بنصب الطريق

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣٠٩.

(٢) وهم الشيخ المفيد وابن ادريس وابن زهرة والطبرسي وغيرهم.

(٣) حكاه المحقّق في معارج الاصول : ١٤١.

٣١٥

الخاصّ ، نمنع كون اتّفاقهم المتوهّم مجديا في حصول العلم الإجمالي لنا بالقدر المشترك المردّد ، لأنّه إنّما يتمّ ذلك إذا ثبت اتّفاقهم على القدر المشترك أوّلا ، ثمّ وقع الاختلاف في تعيينه ، نظير ما هو الضابط في حصول العلم بالقدر المشترك في المتواتر المعنوي ، المعتبر فيه اتّفاق المخبرين الكثيرين على الإخبار بالقدر المشترك بين الوقائع الخاصّة ثمّ اختلافهم في تعيينه ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، بل القدر المشترك المتوهّم هنا أمر انتزاعي منتزع عن الموارد الخاصّة ، فإنّه لما اتّفق في الخارج من باب المقارنات الاتفاقيّة عمل كلّ واحد بطريق مخصوص ، فانتزع من موارد عملهم على وجه الاختلاف مفهوم « الطريق المنصوب » ، وعبّر عنه بالقدر المشترك ثمّ ادّعى الاتّفاق عليه ، فيكون الاتّفاق المدّعى عليه أيضا انتزاعيّا ، وهذا كما ترى لا يفيدنا العلم بأنّ هنا طريقا منصوبا لا محالة حتّى نرجع في تعيينه إلى الظنّ المطلق ، لأنّ كلّ من اختار طريقا خاصّا لنفسه فإنّما اتّفق اختياره له لتأدية نظره على حسب اجتهاده إلى كونه منصوبا من الشارع ، ويجوز على كلّ واحد الخطأ فيما أدّى إليه نظره.

وربّما استظهر إجماعهم على نصب طريق خاصّ من الإجماع على المنع من العمل بالقياس.

وفيه : منع الملازمة أمّا أوّلا : فبالنقض بأنّه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق المعلوم أيضا طريقا خاصّا لا الظنّ المطلق ، للإجماع على المنع من العمل بالقياس في التعيين.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، بأنّ الإجماع على المنع من العمل بالقياس في نفس الأحكام الشرعيّة يجامع كلاّ من احتمالي كون المرجع في الأحكام هو الظنّ أو كونه الطريق الخاصّ الّذي نصبه الشارع ، فيكون أعمّ والأعمّ لا يلازم الأخصّ ، مع أنّ منع العمل بالقياس إنّما هو لتداول العمل به من المخالفين في زمان انفتاح باب العلم لهم كأعصار الأئمّة وأهل بيت العصمة الّذين هم بوّاب العلم ، فالمنع من العمل به حينئذ لا يلازم جعل غيره طريقا للأحكام ، لعدم الحاجة إليه مع انفتاح باب العلم كما هو واضح.

فإن قلت : لا مجال لإنكار الطريق المعلوم ثبوته إجمالا ، حتّى على القول بالظنّ المطلق في الأحكام ، غاية الأمر أنّه على هذا القول عبارة عن مطلق الظنّ ، وهو طريق عقلي فلا كلام في وجود طريق للأحكام ، وهو مردّد بين طريق خاصّ جعلي ، أو مطلق الظنّ الّذي هو طريق عقلي.

٣١٦

قلت : مطلق الظنّ ليس طريقا في عرض الطريق المجعول ، إذ لا معنى للعمل بمطلق الظنّ مع وجود المبرأ اليقيني ، كما أنّه لا معنى للعمل بالأصل مع وجود الدليل ، فالقول بالظنّ المطلق في الأحكام لا يلازم القول بالطريق الخاصّ المردّد بين الطريق الجعلي والطريق العقلي ، بل لو كان هناك طريق للأحكام لكان مجعولا لا غير.

فإن قلت إنّ الشارع قد جعل للموضوعات طرقا مخصوصة كيد المسلم ، وسوق المسلم ، وفعل المسلم ، وقول ذي اليد ، وقول العدل حيث يقبل ، والبيّنة ، وعلامات القبلة ، وما أشبه ذلك ، فكيف بالأحكام بل هي أولى بجعل طرق لها.

قلت : لا ملازمة ، فالأولويّة المدّعاة ممنوعة ، لقوّة احتمال كون الحكمة في الموضوعات لزوم اختلال النظم لولا نصب الطرق فيها ، كما أشار إليه بقوله عليه‌السلام : « ولو لم يجز هذا ما قام للمسلمين سوق » (١) في خبر حجّيّة اليد بخلاف الأحكام.

ثانيها : أنّه لو سلّم نصب الطريق للأحكام ، فهو لا يلازم بقائه إلى يومنا هذا ، فالمعتبر هو العلم بوجود الطريق المنصوب في الأمارات الّتي بأيدينا اليوم ، وهذا العلم غير لازم من مجرّد العلم بنصب الطريق ، لجواز كونه في الأمارات الّتي ذهبت عنّا ، ومن المحتمل كون الطريق المنصوب هو الخبر الصحيح المزكّى كلّ واحد من رجال سنده بتزكية عدلين وما أشبه ذلك ، ولا ريب في ندرته في الأخبار الموجودة بأيدينا اليوم.

ثالثها : أنّه لو سلّم نصب الطريق وبقائه في الأمارات الّتي بأيدينا اليوم ، كخبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة ، وظهور الإجماع والاستقراء والأولويّة الظنّيّة ، ولكن لا يلزم من ذلك كون المرجع في تعيينه الظنّ ، بل اللازم فيه الأخذ بالقدر المتيقّن من الأمارات ، فإنّ المتيقّن منها الخبر الصحيح وبعده الإجماع المنقول ، إذ لم يقل أحد بحجّيّة الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول ، فيؤخذ بالأوّل فإن لم يف بغالب المسائل فبالثاني أيضا ، فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ مع وجود القدر المتيقّن ووجوب الرجوع في الباقي إلى أصالة حرمة العمل بما وراء العلم.

نعم لو احتيج في مسألة إلى العمل بإحدى أمارتين من البواقي ، واحتمل الطريقيّة المنصوبة في كلّ منهما صحّ تعيينه بعد الإغماض عمّا ستعرفه.

رابعها : أنّه لو سلّم عدم وجود القدر المتيقّن ولكنّه لا يلزم من ذلك التعيين بالظنّ ، بل

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٧ / ١ التهذيب ٦ : ٢٦١ ب ٩٠ / ١٠٠.

٣١٧

اللازم في مثل ذلك هو العمل بالاحتياط الحاصل بالأخذ بكلّما احتمل من الأمارات كونه الطريق المنصوب المعلوم بالإجمال خروجا عن عهدة العلم الإجمالي ، لا الاقتصار على ما يظنّ كونه كذلك ، كما هو الضابط الكلّي في كلّ مورد علم التكليف إجمالا واشتبه المكلّف به.

لا يقال : ـ الاحتياط مع دوران الأمر بين المحذورين غير ممكن ، وكما أنّ العمل بالطريق واجب وكذلك العمل بما ليس طريقا حرام ، وكلّ أمارة يحتمل كونها الطريق المجعول يحتمل كونها غيره ـ لأنّ حرمة العمل بما ليس طريقا تشريعيّة لا شرعيّة ، والعمل بما يحتمل الطريقيّة لرجاء أن يكون هو الطريق لا حرمة فيه حتّى على جهة التشريع ، وهذا ما يقال من أنّ الاحتياط رافع لموضوع التشريع.

نعم الحرمة الشرعيّة في هذا الاحتياط ربّما تصحّ من جهة أنّه يؤدّي إلى مخالفة الاصول المعتبرة الجارية في موارد الأمارات الّتي يؤخذ بها احتياطا من جهة احتمال الطريقيّة ، ومرجعها إلى طرح أدلّة الاصول وهو محرّم ، ولكنّه أيضا واضح الدفع بأنّ الأصل الموجود في مورد الأمارة إن كان موافقا لها في المؤدّى فالعمل بها ليس مخالفة له ولا طرحا لأدلّته ، وإن كان مخالفا لها فإن كان من قبيل أصل البراءة أو الاستصحاب فلا إشكال في عدم المخالفة أيضا ولا طرح الأدلّة ، لعدم حجّيّة أصل البراءة مع العلم الإجمالي بثبوت التكليف والشكّ في المكلّف به ، وعدم حجّيّة الاستصحاب أيضا مع العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض موارد الأمارات من جهة كونها في الواقع هو الطريق المجعول ، وإن كان من قبيل الاحتياط فيدور الأمر في العمل في كلّ مسألة يكون الاحتياط فيها مخالفا للأمارة الموجودة فيها ، بين الاحتياط في المسألة الفرعيّة والاحتياط في المسألة الاصوليّة ، فإنّ العمل بالأمارة على أنّها الطريق المنصوب أو لرجاء أنّها الطريق ، مسألة اصوليّة ويقدّم الاحتياط في المسألة الفرعيّة حينئذ على الاحتياط في المسألة الاصوليّة ، لأنّ الأوّل محصّل لنفس الواقع ، والثاني محصّل لطريقه الّذي لا يلازم الواقع.

وبالجملة العمل بالاحتياط في المسألة الاصوليّة لازم ما لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، وإلاّ فيعمل بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ، ومرجعه إلى أنّ العمل مطلقا على الاحتياط ، إلاّ أن يقال : بلزوم الحرج من العمل بالاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة ، كما في مسائل الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة فتأمّل.

خامسها : أنّه على تقدير تسليم العلم الإجمالي بنصب الطريق ، ووجود الطريق

٣١٨

المنصوب في الأمارات الّتي بأيدينا اليوم ، وعدم وجود القدر المتيقّن ، وعدم وجوب الاحتياط نمنع حكم العقل بتعيّن العمل بالظنّ في الطريق ، وحرمة العمل بالظنّ في نفس الحكم الواقعي ، بل يجوز كلاّ منهما نظرا إلى أنّ العلم الإجمالي كما أنّه حاصل بالنسبة إلى الطرق المنصوبة ، فكذلك حاصل بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة ، ونصب الطريق المعلوم بالإجمال يفيد كون مؤدّاه بدلا عن الواقع ، ومقتضى البدليّة هو التخيير ، وجواز الأخذ بكلّ من الواقع ومؤدّى الطريق في صورتي انفتاح باب العلم بهما ـ فيحكم العقل بالتخيير بين إدراك الواقع بتحصيل العلم به ، وإدراك مؤدّى الطريق بتحصيل العلم به ـ وانسداد باب العلم بهما ، فيحكم العقل أيضا بالتخيير بين العمل بالظنّ في الطريق ، والعمل بالظنّ في نفس الحكم الواقعي ، لأنّ كلّ منهما براءة ظنّيّة ولا ترجيح لإحداهما على الاخرى.

نعم لو كان باب العلم مفتوحا بالنسبة إلى الطريق المنصوب ، لا بالنسبة إلى الحكم الواقعي المجعول ، تعيّن الأخذ بمؤدّى الطريق لتقديم البراءة القطعيّة عند العقل على البراءة الظنّيّة ، كما أنّه كذلك في صورة العكس ، وهو انفتاح باب العلم بالأحكام الواقعيّة دون الطرق المنصوبة ، فيؤخذ بالواقع المعلوم دون الطريق المظنون تقديما للبراءة القطعيّة على الظنّيّة.

وبالجملة الطريق المعلوم نصبه إجمالا أمّا إن يكون منصوبا حال انفتاح باب العلم بمعظم الأحكام الشرعيّة أو حال انسداد باب العلم به ، فإن كان الأوّل فجواز العمل به مشروط بالعلم به كالعلم بنفس الواقع ، ومعه لا يحكم العقل إلاّ بالتخيير عملا بمقتضى البدليّة.

وإن كان الثاني فتقديم العمل به في حكم العقل على العمل بالظنّ في نفس الواقع ، مشروط أيضا بالعلم به ، لعدم جواز العدول عن البراءة القطعيّة إلى البراءة الظنّيّة ، وأمّا مع انسداد باب العلم بالطرق كانسداد بابه بالأحكام ، فلا يحكم العقل بتقديم إحراز الطريق بالظنّ على إحراز الواقع بالظنّ ، لعدم الفرق في البراءة الظنّيّة.

وحاصل ذلك يرجع إلى منع رجوع القطعين إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليّا بالعمل بمؤدّى الطريق ، فإنّه ممّا لا قاضي به أصلا إلاّ بتوهّم إلغاء الواقع بالمرّة ، بدعوى : أنّ نصب الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدّى الطريق ، وهو باطل لفرض العلم الإجمالي الحاصل من الضرورة والإجماع وغيرهما ببقاء التكليف بالواقع ، مع بطلان التصويب ، وسيلحقك مزيد بيان لبطلان ذلك.

فإن قلت : أنّ الشارع إذا عيّن للواقع طريقا يرجع إليه عند انسداد باب العلم ، ثمّ انسدّ

٣١٩

باب العلم بذلك الطريق أيضا ، نعلم أنّه كان بناءه على العمل بالظنّ في الطريق دون نفس الواقع.

ألا ترى أنّ المقلّد يعمل بالظنّ في تعيين المجتهد لا في نفس الحكم الواقعي ، والقاضي يعمل بالظنّ في تحصيل الطرق المنصوبة له لقطع الخصومات ، كالبيّنة واليمين والنكول والقرعة والإقرار وغيره من موازين القضاء ، لا في تحصيل الحقّ الواقعي بين المتخاصمين ، ولعلّ السرّ في ذلك : أنّه إذا عيّن الطريق للواقع دلّ ذلك على أنّ مطلوبه تحصيل الواقع بذلك الطريق لا مطلقا ، ولزم من ذلك أنّه إذا انسدّ باب العلم بالطريق أن يعمل بالظنّ في تعيينه لا في تحصيل نفس الواقع.

قلت : هذه دعوى كاذبة ومغالطة واضحة ، ويكفي في استكشاف كذبها أنّه إذا كان باب العلم مفتوحا بالنسبة إلى الحكم الواقعي وطريقه معا ، فإنّا نقطع بأنّ المكلّف حينئذ مخيّر بين إدراك الحكم الواقعي بتحصيل العلم به ، وإدراك مؤدّى الطريق المنصوب له بتحصيل العلم به.

وهذا يدلّ على أنّ خصوصيّة الطريق لا مدخليّة له في مطلوب الشارع ، بل مطلوبه أحد الأمرين من الامتثال العلمي لنفس الحكم الواقعي ، والامتثال العلمي لبدله الّذي هو مؤدّى الطريق ، وإذا انسدّ باب العلم بهما معا وانحصر طريق الامتثال في العمل بالظنّ ـ تحصيلا للامتثال الظنّي المتقدّم في حكم العقل على الامتثال الاحتمالي والمتأخّر عن الامتثال العلمي ـ لزمه أن يكون مطلوبه أيضا أحد الأمرين ، من الامتثال الظنّي لنفس الحكم الواقعي الحاصل من العمل بالظنّ في تعيين الواقع ، والامتثال الظنّي لبدله الحاصل من العمل بالظنّ في تعيين الطريق.

ومن ذلك يعلم كذب دعوى العلم بكون بناء الشارع بعد انسداد باب العلم بالطريق أيضا على العمل بالظنّ [ في الطريق ] دون نفس الواقع ، فإنّ العلم بما ذكر ممّا لا مستند له من العقل والنقل ، بل المعلوم من جهة العقل كما عرفت خلافه ، وتنظير المقام بمسألتي المقلّد والقاضي وارد على خلاف التحقيق ، لوضوح الفرق بين المسألتين وما نحن فيه ، فإنّ الظنون الّتي يستعملها المجتهد في كلّ من تحصيل الواقع وتعيين الطريق كلّها من واد واحد ، وهي الظنون الاجتهاديّة المتعارفة المقتدّم إليها الإشارة من أخبار الآحاد المعتبرة ، والاجماعات المنقولة ، وظهور الإجماع والشهرة والاستقراء والأولويّة الظنّيّة ، وهذه ظنون يغلب فيها المطابقة مع عدم مع الشارع عن شيء منها بالخصوص ، كما منع عن القياس.

ومثل هذه الظنون في الانضباط وغلبة المطابقة الظنون الّتي يستعملها المقلّد في تعيين

٣٢٠