تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

إلى الكتاب على وجه الاستقلال ـ على تقدير تسليم دلالاتها ـ عن الظواهر إلى المتشابهات ، ولو كان نحو تعارض فعلاجه الجمع بإرجاع التأويل إليها تقديما للنصّ أو الأظهر على الظاهر.

فنقول : إنّ الأخبار المذكورة يعارضها امور :

منها : قوله عزّ من قائل ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ... ) الآية (١) فإنّه يدلّ على انقسام الكتاب إلى محكمات ومتشابهات واشتماله عليهما بالفعل ، كذلك يدلّ على منع اتّباع المتشابهات ، لأنّ قوله : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) ـ الآية ـ في سياق الذمّ والتوبيخ ، فتدلّ على المنع من العمل بالمتشابهات من غير رجوع إلى الراسخين ، ولا طلب العلم بتأويلها وبيان مراداته تعالى منها ممّن خوطب به ، وعلى أنّ مورد هذا المنع هي المتشابهات لا المحكمات ولا الكتاب المنقسم إليهما ، فيدلّ على أنّ المحكمات من حكمه عدم المنع من العمل [ بها ] ولو من دون رجوع إلى الراسخين في العلم وهو المطلوب.

وينهض ذلك بيانا لأنّ مورد الأخبار المانعة ما عدا المحكمات.

لا يقال : إنّ قصارى ما يدلّ عليه الآية ، إنّما هو منع العمل بالمتشابهات لا تجويز العمل بالمحكمات ، لعدم تعرّضه تعالى لبيان حكم لها ، فالآية ساكتة عنها منعا وتجويزا ، لوضوح دلالتها على حكم المحكمات أيضا.

أمّا أولا : فلانسباق الجواز من قرينة المقابلة على ما يرشد [ إليه ] متفاهم العرف من نظائر هذا التركيب.

ألا ترى أنّه لو قيل : الإنسان إمّا عالم أو جاهل ، والعلم فضله كذا وشرفه كذا ، وعلوّ مقامه عند الله كذا ، وأنّه أفضل من العابد ، حتّى ورد أنّه أفضل من سبعين عابد ، وفي رواية من سبعين ألف عابد ، ينساق منه في متفاهم العرف انتفاء هذه الأحكام عن الجاهل ، فالآية لمّا دلّت على المنع من العمل من دون رجوع إلى الراسخين في المتشابهات ، ينساق منه في متفاهم العرف انتفاء المنع في المحكمات ، ولا نعني من الجواز إلاّ هذا.

وأمّا ثانيا : فلمكان قوله : ( هُنَّ أُمُ )(٢) في وصف الآيات المحكمات ، أي أصله الّذي يرجع إليه في استفادة المطالب واستنباط الأحكام ، أو الأصل الّذي يردّ إليه غيره من

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧.

(٢) سورة آل عمران : ٧.

١٢١

المتشابهات ، وهو الأظهر كما يرشد إليه قول مولانا الرضا عليه‌السلام في المروي عن العيون « من ردّ متشابه القرآن ، إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم » ـ ثمّ قال ـ « إنّ في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ، ومحكما كمحكم القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا » (١).

فإن ردّ متشابهها إلى محكمها عبارة عن استعلام تأويل متشابهات الكتاب عن محكماته ، وهذا إنّما يتأتّى في ظاهر منه اريد منه خلاف ظاهره الّذي يعلم من قرينة منفصلة مذكورة فيه أيضا وهي النصّ ، أو ظاهر آخر بالقياس [ إلى ] أظهر في الدلالة ، بضابطة أنّ النصّ والأظهر يقدّم على الظاهر على معنى نهوض أحدهما بيانا عن إرادة خلاف الظاهر منه ، وهو التعويل في المتشابه الّذي استعلم من المحكم.

وحاصله : حمل الظاهر على إرادة خلاف ظاهره لقرينة منفصلة هي النصّ أو الأظهر ، وهو المراد من تقديم النصّ أو الأظهر ، ومنه تقديم الناسخ على المنسوخ بحمل إطلاقه بالنسبة إلى الأزمان على إرادة عدم الاستمرار ، وتقديم الخاصّ على العامّ بحمله على إرادة الخصوص ، وتقديم المقيّد على المطلق بحمله على إرادة الفرد المعيّن.

ومن المعلوم أنّ الردّ بهذا المعنى فرع على وجود محكم في القرآن يكون بالنسبة إلى المردود نصّا أو أظهر ، وعلى جواز العمل به شرعا بعدم وجود منع شرعي من استفادة المطلب منهما بالاستقلال ، وهذا لا ينافي مفاد الآية من أنّ المتشابهات يرجع فيها إلى الراسخين في العلم ، لأنّ المستفاد من مجموع الروايات الّتي منها الرواية المذكورة أنّ متشابهات القرآن على قسمين :

أحدهما : ما يعلم تأويله بملاحظة محكماته وهذا كثير.

وثانيهما : ما لا يعلم تأويله إلاّ بالرجوع إلى الراسخين في العلم الّذي هو أعمّ من الرجوع إلى سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو سنّة أوصيائه عليهم‌السلام وهذا أكثر.

ومنه ما تقدّم الإشارة إليه في تأويله الآية ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا )(٢).

وبالتأمّل فيما قرّرناه من استظهار ردّ متشابه القرآن إلى محكمه من الرواية ، يندفع ما عساه يورد على الاستدلال بالآية من استلزامه الدور ، لأنّه اثبات لحجّيّة الكتاب بالكتاب ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٩ / ٣٩ وبحار الانوار ٢ : ١٨٥ / ٨.

(٢) سورة الأعراف : ٢٠٤.

١٢٢

فإنّ الاستدلال بظاهر الكتاب الّذي وافقه أخبار الأئمّة وبياناتهم لا ينكره الاخباريّة ، بل اعتبار وجود البيان في الأخبار في العمل بظواهر الكتاب أصل مطلبهم في المقام ، مع أنّ توهّم الدور هنا مندفع من جهة اخرى وهو أنّ إشكال الدور إنّما يتوجّه لو أردنا دفع ما ادّعوه من تشابه القرآن بأجمعه من حين نزوله ـ على ما حكاه منهم غير واحد بالآية وليس كذلك ، بل الغرض دفع مانعيّة الأخبار المستدلّ بها على المنع من العمل بالظواهر بالآية ، لنهوضها بيانا لكون مورد المنع المستفاد من الأخبار المانعة من الاستناد بالكتاب مستقلاّ إنّما هو متشابهات القرآن لا محكماته ، وهذا ممّا لا دور فيه أصلا.

فإن قلت : إنّ الاستدلال بالآية على خروج ظواهر الكتاب عن مورد الأخبار إنّما يتمّ على تقدير اندراج الظواهر في المحكمات وهو أوّل المسألة ، لجواز اختصاص المحكمات بقطعيّات الكتاب الّتي هي النصوص.

قلت : تدخل الظواهر في المحكمات باعتبار خروجها عن المتشابهات ، فإنّ ظاهر تقسيم الكتاب في الآية إليهما أن لا واسطة بينهما ، وإلاّ كانت قسما ثالثا وهو خلاف الحصر المستفاد من التقسيم ، فالظواهر حينئذ لابدّ وأن تكون داخلة في المتشابه أو في المحكم.

والأوّل باطل لأنّ المتشابه لغة ما يشبه بعضه بعضا ، وفي اللفظ ما يشبه بعض وجوهه بعضا أي يشبهه ويماثله في الاحتمال من اللفظ ، ومرجعه إلى تساوي احتمالات وجوهه بحيث اشتبه المراد بغيره.

وقد ورد تفسير المتشابه بما ذكرناه في عدّة روايات ، كالمروي عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن المحكم والمتشابه فقال : « المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله » (١).

وفي رواية اخرى « الناسخ الثابت ، والمنسوخ ما مضى ، والمحكم ما يعمل به والمتشابه الّذي يشبه بعضه بعضا » (٢) وهذا المعنى كما ترى غير متحقّق في النصّ إذ ليس فيه إلاّ وجه واحد ، ولا في الظاهر لأنّ وجهه المخالف للظاهر لا يشبه معناه الظاهر في الاحتمال لعدم تساوي احتماليهما ، والمتّبع هو الاحتمال الراجح ، فيكون الظاهر مندرجا في المحكم.

ومن ثمّ استقرّ اصطلاحهم في المحكم والمتشابه على ما هو أجود الأقوال فيهما ، بجعل الأوّل عبارة عمّا اتّضح دلالته ، والمتشابه عمّا لم يتّضح دلالته ، أي لم يتّضح معناه المراد ، لتساوي احتمالات المعاني المحتملة ، واتّضاح الدلالة أعمّ من كونها على وجه

__________________

(١) بحار الأنوار : ٦٦ : ٩٣ وتفسير العيّاشي : ١ / ١٦٢.

(٢) بحار الأنوار : ٨٩ : ٣٨٣ ح ١٩ وتفسير العيّاشي : ١ / ١١.

١٢٣

القطع بالمراد ، أو على وجه الظنّ به.

وفي معناهما ما قيل أيضا : المحكم ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن به ، ولا دلالة تدلّ على المراد به لوضوحه نحو قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً )(١) و ( لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ )(٢) ونحو ذلك ممّا لا يحتاج في معرفة المراد به إلى دلالة خارجيّة ، والمتشابه ما لا يعلم المراد بظاهره حتّى تقترن به ما يدلّ على المراد منه لالتباسه ، نحو قوله تعالى : ( وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ )(٣) فإنّه يفارق ( وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ )(٤) لأنّ إضلال السامري قبيح ، وإضلال الله تعالى حسن ، ولا يكون إلاّ بأن يراد منه : خذله الله تعالى عالما بضلاله.

وما قد يوجد في الأخبار من إطلاق المحكم على النصّ ، أو على الناسخ لا ينافي ما بيّناه ، لأنّ كلاّ من النصّ والناسخ من المحكم ، بل في بعض الروايات المنسوخات من المتشابهات والناسخات من المحكمات ، وإنّما يكون الناسخ من المحكم لأنّ الآية الناسخة بصراحة دلالتها مبيّنة للآية المنسوخة ، كاشفة عن إرادة خلاف ظاهر الإطلاق من عدم استمرار الحكم المستفاد منه.

ومنها : الخبران المتقدّمان وما بمعناهما المصرّحة بأنّ المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه أو ما يشبه بعضه بعضا ، وهذا صريح أو كالصريح في أنّ المنع المستفاد من الأخبار المانعة في غير المحكمات المندرج فيها الظواهر.

ومنها : قول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في حديث في احتجاجه على زنديق ـ : ثمّ إنّ الله قسّم كلامه ثلاثة أقسام ، فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما منه لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تمييزه ممّن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما لا يعلمه إلاّ الله وملائكته والراسخون في العلم ، وإنّما فعل ذلك لئلاّ يدّعي أهل الباطل المستولين على ميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علم الكتاب ما لم يجعله الله لهم ، وليقودهم الاضطرار إلى الائتمام بمن ولىّ أمرهم فاستكبروا عن طاعته » (٥) ودلالته على عدم تشابه الجميع ، وعلى عدم المنع الشرعي من العمل بغير المتشابه واضحة.

فإنّ مراده عليه‌السلام في التقسيم : أنّ القسم الأوّل من القرآن ما يفهمه العوامّ والعلماء مثل ( إِنَ

__________________

(١) سوره يونس : ٤٤.

(٢) سورة النساء : ٤٠.

(٣) سورة الجاثية : ٢٣.

(٤) سورة طه : ٨٥.

(٥) بحار الأنوار : ٨٥ / ٢٤٥.

١٢٤

اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً )(١) و ( لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ )(٢) و ( خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ )(٣) و ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(٤)( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى )(٥) و ( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ )(٦) وما أشبه ذلك.

والقسم الثاني : ما يفهمه العلماء خاصّة بأنوار ملكات أذهانهم.

والقسم الثالث : ما يختصّ علمه بعد الله وملائكته بالراسخين في العلم ، وهو المتشابهات من المجملات والمؤوّلات ، وإنّما خصّه بهم لحكمة أن لا يتظاهر عليهم أهل الخلاف المتأمّرين المستولين على حقّهم الّذي جعل الله لهم ، بادّعاء أنّهم يشاركهم في علم القرآن جميعه ، فيدلّ ذلك على أنّ مورد الأخبار المانعة من الاستقلال متشابهات القرآن.

ومنها : عدّة روايات وردت في الفرق بين القرآن والفرقان ، مثل رواية عبد الله بن سنان « قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القرآن والفرقان؟ قال : القرآن جملة الكتاب وأخبار ما يكون ، والفرقان المحكم الّذي يعمل به ، وكلّ محكم فرقان » (٧) وفي معناها غيرها.

وفيها دلالة واضحة على كذب ما ادّعوه من كون جميع القرآن متشابها ، كما أنّ فيها دلالة واضحة على أنّ من حكم المحكم جواز العمل به ، فبطل به ما ادّعوه من قيام المانع من العمل بمحكماته.

ومنها : الخبر المروي عن الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام » قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّها الناس إنّكم في دار هدنة ، وأنتم على ظهر سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلّ جديد ، ويقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز ، قال : فقام المقداد بن أسود فقال : يا رسول الله وما دار الهدنة؟

فقال : دار بلاغ وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع وما حلّ مصدّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدلّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو

__________________

(١) سورة يونس : ٤٤. (٢) سورة النساء : ٤٠.

(٣) سورة الرعد : ١٦.

(٤) سورة البقرة : ٤٣.

(٥) سورة الإسراء : ٣٢.

(٦) سورة النحل : ١١٥.

(٧) بحار الأنوار ٨٩ : ١٥ / ١١ ، وتفسير العيّاشي ١ : ٩.

١٢٥

الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له تخوم وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ... » إلى آخره (١).

ودلالته على المطلب في مواضع.

ومنها قول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في خطبة له في نهج البلاغة ـ : « والصلاة على نبيّه الّذي أرسله بالفرقان ليكون للعالمين نذيرا ، وأنزل القرآن ليكون إلى الحقّ هاديا وبرحمته بشيرا ، فالقرآن آمر زاجر ، وصامت ناطق ، حجّة الله على خلقه أخذ عليهم ميثاقه » (٢) فإنّ الحجّيّة على عموم الخلق مع عموم التشابه ، أو عموم المنع من العمل حتّى بغير المتشابه لا يجتمعان ، كما أنّ الهداية والبشارة برحمة الحقّ لا تتمّان مع عموم المتشابه أو منع العمل بغير المتشابه.

ومنها : أخبار الثقلين المدّعى تواترها المنقول بطرق الفريقين ، المشتمل على الأمر بالتمسّك بالكتاب المستفاد من سياقاتها وغيرها ، من نحو « ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا ، أو [ لن ] تضلّوا ما [ إن ] تمسّكتم بهما » (٣) وظاهر التمسّك بهما ـ أي بكلّ منهما ـ استقلال كلّ منهما بالإفادة في غير ما يحتاج إلى الانضمام ، من فهم المتشابهات ومعرفة الناسخ من المنسوخ ، ويتأكّد الظهور بملاحظة عطف العترة عليهم‌السلام ، لاستقلاله وعدم افتقاره إلى الانضمام ، ولا ينافيه عدم افتراقهما ، إمّا لأنّ ذلك لأجل إفهام متشابهات الآيات الواجب فيه الرجوع إلى العترة ، أو لأجل الموافقة بينهما في الأحكام المودّعة في الكتاب وعند أهل البيت عليهم‌السلام ، وما قد يتراءى من المخالفة بينهما بالعموم والخصوص فهو مخالفة صوريّه ترتفع بإرجاع التأويل إلى أحدهما الّذي ملاكه تقديم النصّ أو الأظهر على غيرهما ، وتؤول إلى الموافقة الحاصلة من نهوض النصّ والأظهر بيانا لإرادة خلاف الظاهر من غيرهما.

ومنها : الأخبار الآمرة بعرض الخبرين المتعارضين على الكتاب ، للأخذ بما وافقه وطرح ما خالفه ، الّذي لا يتمّ إلاّ بفهمه وجواز العمل به.

ومنها : الأخبار الكثيرة الّتي احتجّ فيها الأئمّة عليهم‌السلام ، لأصحابهم بما غفلوا عنه من الآيات الكتابيّة على الحكم المغفول عنه ، من غير تعرّض لبيان المراد إكتفاء بفهم المخاطب.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٥٩٨ / ٢ وتفسير العيّاشي ١ : ٢.

(٢) نهج البلاغة : خطبه ١٨٣.

(٣) الكافي ٢ : ٤١٥ / ١ والوسائل ٢٧ : ٣٣ / ٩ ، ب ٥ من أبواب صفات القاضي ومسند أحمد بن حنبل : ٣ / ١٤.

١٢٦

ومن ذلك المروي في الفقيه والكافي عن الصادق عليه‌السلام قال له رجل : إنّ لي جيرانا ولهم جوار يتغنّين بها ويضربن بالعود ، فربّما دخلت المخرج فأطيل الجلوس استماعا منّى لهنّ ، فقال الصادق عليه‌السلام : « لا تفعل ، فقال : والله ما هو شيء آتيه برجلي إنّما هو سماع سمعه اذني ، فقال الصادق عليه‌السلام : تالله أنت أما سمعت الله يقول ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً )(١) فقال الرجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من عربي ولا عجمي » (٢).

ونحوها الأخبار الكثيرة المتضمّنة لتعليم الأئمّة عليهم‌السلام أصحابهم الاحتجاج بما ورد في الكتاب على خصومهم من أهل الضلال ، وكذلك الأخبار المتضمّنة لتقرير الأئمّة عليهم‌السلام احتجاجات أصحابهم بعضهم على بعض في الاصول والفروع.

ومن ذلك : ما عن زرارة ومحمّد بن مسلم ، قال : قلنا للباقر عليه‌السلام : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هو؟ فقال : إنّ الله عزّ وجلّ يقول ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ )(٣) فصار التقصير في السفر كوجوب التمام في الحضر ، قال قلنا إنّما قال تعالى ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) ولم يقل : إفعلوا ، وكيف وجب ذلك؟ فقال عليه‌السلام : أو ليس قد قال الله عزّ وجلّ في الصفا والمروة ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما )(٤) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض ، لأنّ الله عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا التقصير في السفر شيء صنعه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكره الله تعالى في كتابه ... » إلى آخره (٥).

فإنّ زرارة ومحمّد بن مسلم تمسّكا بظاهر الكتاب في عدم دلالة نفي الجناح على الوجوب ، بل الدالّ عليه هو صيغة الأمر ولم يأت بها الله سبحانه ، ولم يردعهما الإمام عليه‌السلام ولم يقل لهما ليس لكم الاستقلال بالتمسّك بظواهر الكتاب ، بل ذكر لهما أنّ هذا الظاهر ونظيره في نظركم اريد بهما خلاف ظاهرهما وهو الإيجاب ، والقرينة عليه فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو بيان فعليّ للمحمل الّذي هو من المؤوّل.

ثمّ إنّ للفاضل السيّد الصدر كلاما في هذا المقام يعجبني ذكره للتنبيه على بعض ما يرد عليه ، فإنّه ـ على ما حكى ـ بعد ما قال : « إنّ الحقّ في العمل بالظواهر مع الأخباريّين » ذكر

__________________

(١) سورة الإسراء : ٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٨٠ / ١٧٧.

(٣) سورة النساء : ١٠١.

(٤) سورة البقرة : ١٥٨.

(٥) من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٣٤ / ١٢٦٥.

١٢٧

ما خلاصته : أنّ التوضيح يظهر بعد مقدّمتين :

الاولى : أنّ بقاء التكليف ممّا لا شكّ فيه ، ولزوم [ العمل ] بمقتضاه موقوف على الإفهام ، وهو يكون في الأكثر بالقول ، ودلالته في الأكثر تكون ظنّيّة ، إذ مدار الإفهام على القاء الحقائق مجرّدة عن القرينة وعلى ما يفهمون ، وإن كان احتمال التجوّز وخفاء القرينة باقيا.

الثانية : أنّ التشابه كما يكون في أصل اللغة (١) كذلك يكون بحسب الاصطلاح ، مثل أن يقول أحد : « أنا أستعمل العمومات وكثيرا مّا اريد الخصوص من غير قرينة ، وربما اخاطب أحدا واريد غيره ونحو ذلك » ، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ، ولا يحصل لنا الظنّ به ، والقرآن من هذا القبيل ، لأنّه نزل على اصطلاح خاصّ ، لا أقول على وضع جديد ، بل أعمّ من أن يكون ذلك أو يكون فيه مجازات لا يعرفها العرب ، ومع ذلك قد وجد [ ت ] فيه كلمات لا يعلم المراد منها كالمقطّعات.

ـ ثمّ قال ـ قال : سبحانه : ( مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ )(٢) الآية ، ذمّ على اتّباع المتشابه ، ولم يبيّن لهم المتشابهات ما هي ، وكم هي؟ بل لم يبيّن لهم المراد من هذا اللفظ ، وجعل البيان موكولا إلى خلفائه والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى الناس عن التفسير بالآراء ، وجعل الأصل عدم العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل.

إذا تمهّد المقدّمتان فنقول : مقتضى الاولى العمل بالظواهر ومقتضى الثانية عدم العمل ، لأنّ ما صار متشابها لا يحصل الظنّ بالمراد منه ، وما بقي ظهوره مندرج في الأصل المذكور فنطالب بدليل جواز العمل ، لأنّ الأصل الثابت عند الخاصّة هو عدم جواز العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل.

لا يقال : إنّ الظاهر من المحكم ووجوب العمل بالمحكم إجماعيّ ، لأنّا نمنع الصغرى ، إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر فلا ـ إلى أن قال ـ

لا يقال : إنّ ما ذكرتم لو تمّ لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضا ، لما فيها من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ المخصّص ، والمطلق المقيّد.

لأنّا نقول : إنّا لو خلّينا وأنفسنا لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة مع عدم نصب القرينة على خلافها ، ولكنّا منعنا من ذلك في القرآن للمنع من اتّباع المتشابه وعدم بيان حقيقته ، ومنعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تفسير القرآن ، ولا ريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى التفسير ،

__________________

(١) كما في المشتركات ( منه ).

(٢) سورة آل عمران : ٧.

١٢٨

وأيضا ذمّ الله تعالى عن اتّباع الظنّ وكذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه ، ولم يستثنوا ظواهر القرآن ـ إلى أن قال ـ

وأمّا الأخبار ، فقد سبق أنّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام كانوا عاملين بأخبار الآحاد من غير فحص عن مخصّص ، أو معارض ناسخ ، أو مقيّد ، ولولا هذا لكنّا في العمل بظواهر الأخبار أيضا من المتوقّفين » (١) إنتهى.

وفيه من جهات الاختلال ما لا يخفى ، خصوصا تهافت بعضه بعضا حيث أفاد تارة كون الوجه في عدم جواز العمل بظواهر القرآن لفقد (٢) المقتضي ، واخرى كونه وجود المانع كما يظهر للمتأمّل المتدبّر.

ومع الغضّ عن ذلك فأوّل ما يرد عليه : منع عدم شمول المحكم للظاهر ، بل الظاهر بحسب العرف واللغة ـ على ما بيّناه سابقا ـ من المحكم لا المتشابه لعدم تحقّق التشابه بمعناه اللغوي فيه ، وعلى طبقه وردت الرواية كما تقدّم حيث فسّر المتشابه فيها بما يشبه بعضه بعضا ، فاللغة والعرف والشرع متطابقات في عدم كون الظاهر من المتشابه ، فلا جرم يكون من المحكم لانتفاء الواسطة فيما بينهما.

ولو سلّم قيام احتمال التشابه من جهة احتمال إرادة خلاف الظاهر من غير قرينة فهو غير ضائر ، إذ العلم بكون الشيء محكما ليس شرطا ، بل العلم بكونه متشابها مانع ، فالاحتمال غير قادح في محكميّة المحكم ، وإلاّ خرج أصالة الحقيقة بلا مورد كما يرشد إليه التأمّل.

وثاني ما يرد عليه : أنّ الإجماع العملي الّذي ادّعاه من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام في العمل بظواهر الأخبار ليس لأمر مختصّ بالأخبار ، بل لأمر مشترك بينها وبين الكتاب ، وهو الأمر المركوز في أذهانهم وأذهان قاطبة أهل اللسان قديما وحديثا في مطلق كلام المتكلّم ، وهو أنّ الأصل في كلام كلّ متكلّم كونه مقصودا به اللفظ والمعنى والإفهام الّذي لا يتمّ إلاّ بحمل كلّ ظاهر على ظاهره ، لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل إلى أن يعلم قرينة خلافه ، وهذا هو المقتضي لجواز العمل بالظواهر في كلّ من الكتاب والأخبار ، ولو كان هناك إجماع مخرج من الأصل الأوّلي المقتضي للتحريم كان مدركه ذلك الأصل ، وهذا الأصل هو مفاد المقدّمة

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٥١ ـ ١٥٣ وشرح الوافية ( مخطوط ) : ١٤٠ ـ ١٤٦.

(٢) كذا في الأصل والأنسب « فقد المقتضي ».

١٢٩

الاولى حسبما ذكره ، وهو وارد على الأصل الّذي ذكره في المقدّمة الثانية ، فبطل بهذا كلّه دعوى فقد المقتضي.

وأمّا دعوى وجود المانع فقد ظهر بطلانها بما لا مزيد عليه من خروج ظواهر الكتاب عن دائرة العلم الإجمالي بعدم وجدان بيان إرادة خلاف الظاهر في أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام بعد الفحص.

وتشابه هذه الظواهر من حين نزولها فلا ينفعه الفحص ، مردود : على مدّعيه ، لإجماع الفريقين على أنّ في الكتاب ظواهر محمولة على ظواهر من غير قرينة ، ومن أنّ حمل كلّ ظاهر على ظاهره ليس من التفسير في شيء ، ولو سلّم كونه من التفسير فكونه تفسيرا بالرأي ممنوع أشدّ المنع.

وبهذا كلّه ظهر ما في قوله : « ولا ريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى التفسير » فإنّ المحتاج إلى التفسير ممّا عدا النصّ إنّما هو المتشابهات ، والظواهر ليست منها في عرف ولا لغة.

ودعوى : أنّ كلام ملك العلاّم لم يقصد به إفادة المطالب واستفادتها بالاستقلال ، بل بانضمام بيان أهل الذكر وتفسيرهم غير مسموعة ، كيف وهي لا تتمّ إلاّ على تقدير صحّة دعوى نزول القرآن من حين نزوله متشابها ، أو في غير نصوصه ، باعتبار كون جميع ظواهره مجازات مرادة بها معانيها المجازيّة من غير قرينة ، فاحيل بيانه إلى أهل الذكر ، والتقدير باطل لكونه دافعا للبداهة وقاطعا للضرورة.

ثمّ إنّه ينبغي ختم المسألة بذكر امور :

أوّلها : ما حكاه شيخنا قدس‌سره من « أنّه ربّما يتوهّم بعض (١) أنّ الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى ، إذ ليست فيه آية متعلّقة بالفروع والاصول إلاّ وقد ورد في بيانها أو في الحكم الموافق لها خبر أو أخبار كثيرة ، بل انعقد الإجماع على أكثرها ، مع أنّ جلّ آيات الاصول والفروع بل كلّها مما تعلّق الحكم فيها بامور مجملة لا يمكن العمل بها إلاّ بعد أخذ تفاصيلها من الأخبار » إنتهى (٢).

وأورد عليه : بأنّ لعلّه قصّر نظره على الآيات الواردة في العبادات ، فإنّ أغلبها من قبيل ما ذكره ، وإلاّ فالعمومات والإطلاقات الواردة في المعاملات ممّا يتمسّك بها في الفروع المتجدّدة ، أو القديمة الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنصوص المتعارضة المتكافئة كثيرة

__________________

(١) هو الفاضل النراقي في مناهج الأحكام : ١٥٦.

(٢) فرائد الاصول : ٢٤ / ١٥٥.

١٣٠

جدّا مثل : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) و ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٢) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ )(٣) و ( فَرِهنٌ مَقْبُوضَةٌ )(٤) و ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ )(٥) و ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(٦) و ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ )(٧) و ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا )(٨) و ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ )(٩) و ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ )(١٠) و ( عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ )(١١) و ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ )(١٢) و ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )(١٣) وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة ، بل هي في العبادات أيضا كثيرة مثل قوله : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ )(١٤) و ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )(١٥) و ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(١٦) و ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا )(١٧) وما أشبه ذلك ، فإنّ تمسّكهم بهذه الآيات ونظائرها في كافّة الفروع والاصول ممّا لا يخفى أمره على أحد ، كما أنّ تكثّر الفروع المتجدّدة والقديمة الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنصوص الغير السليمة عن المعارض المكافئ ممّا لا يقابل بالإنكار ، كما أنّ عدم انتهاء أفراد هذه العمومات والإطلاقات إلى عدد مع عدم ورود خبر موافق سليم عمّا يكافئه إلاّ في أقلّ قليل منها ممّا لا ينكره إلاّ مكابر ، فلولا اعتبار هذه الآيات وحجّيّة هذه الظواهر لم يستقم التمسّك بها في تلك الفروع وهذه الأفراد.

ثانيها : إذا اختلفت القراءة في لفظ الكتاب فهو على قسمين :

أحدهما : أن لا يوجب اختلافها اختلافا في المؤدّى بحيث لزم منه اختلاف الحكم الشرعي المستفاد منها ، كما في قوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا )(١٨) كما في الأكثر ، أو « فتثبّتوا » كما عن بعضهم ، ومؤدّاهما واحد ولذا يعبّر كثيرا في كلماتهم مكان « التبيّن » بالتثبّت وهذا ممّا لا كلام لنا فيه هنا.

__________________

(١) سورة المائدة : ١. (٢) سورة البقرة : ٢٧٥.

(٣) سورة النساء : ٢٩. (٤) سورة البقرة : ٢٨٣.

(٥) سورة النساء : ٥. (٦) سورة الأنعام : ١٥٢.

(٧) سورة النساء : ٢٤. (٨) سورة الحجرات : ٦.

(٩) سورة التوبة : ١٢٢. (١٠) سورة الأنبياء : ٧.

(١١) سورة النحل : ٧٥. (١٣) سورة المائدة : ٤.

(١٤) سورة التوبة : ٢٨.

(١٥) سورة المائدة : ٦.

(١٦) سورة المائدة : ٦.

(١٧) سورة النساء : ٤٣.

(١٨) سورة الحجرات : ٦.

١٣١

والقسم الآخر : ما يختلف المؤدّى بسبب اختلاف القراءة بحيث [ لزم منه ] اختلاف الحكم الشرعي ، كما في قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ )(١) حيث قرأ تارة بالتخفيف من الطهر الظاهر في النقاء عن الحيض ، واخرى بالتشديد من التطهّر الظاهر في الاغتسال.

وفائدة الاختلاف تظهر في حلّ الوطئ بعد النقاء وقبل الاغتسال وعدمه على ما هو مفاد الغاية ، فهل الحكم في نحو ذلك هو الجمع والإعمال بإرجاع التأويل إلى أحدهما لمرجّح الدلالة في الآخر من نصوصيّة أو أظهريّة ، والتخيير مع فقده أو التخيير مطلقا ، أو الوقف مع فقد المرجّح أو مطلقا والرجوع إلى الاصول أو القواعد العامّة؟ احتمالات :

وبيان ما هو الحقّ منها موقوف على ثبوت إحدى المقدّمتين :

الاولى : كون القراءات السبع المشهورة ـ وهي قراءة نافع وأبو عمرو والكسائي وابن عامر وابن كثير وعاصم وحمزة ـ كلّها ، أو هي مع الثلاث الباقية كقراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف متواترة ، والمراد تواترها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القرّاء ، لا مجرّد تواترها عن القرّاء إلينا فقط ، ليكون سند كلّ قراءة قطعيّا على معنى حصول القطع لنا بصدورها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله سبحانه بملاحظة التواتر ، وحينئذ تصير القراءتان في محلّ الاختلاف بمنزلة آيتين أو خبرين متواترين لفظا تعارضا من حيث الدلالة ، فيجب الجمع بينهما بحمل الظاهر منهما على النصّ أو الأظهر عملا بمرجّح الدلالة من النصوصيّة أو الأظهريّة إن كان موجودا ، فيحمل « يطّهرن » (٢) بالتشديد على إرادة النقاء من الدم ، لأنّ « يطهرن » بالتخفيف أظهر دلالة في النقاء من « يطّهرن » بالتشديد في الاغتسال ، ويحتمل العكس بحمله مخفّفا على إرادة الطهارة من حدث الحيض الّذي لا يرتفع إلاّ بالاغتسال ، بدعوى : أنّ المشدّد منه أظهر في الاغتسال من مخفّفه في النقاء.

وفي كلام بعض الأعلام : « أنّ المرجّح هنا ثبت للتخفيف » (٣) والظاهر أنّ مراده المرجّح الداخلي كما ذكرنا ، ويحتمل إرادة المرجّح الخارجي كورود الخبر على طبق التخفيف ، كما ورد في الأخبار ممّا دلّ على حلّ الوطئ قبل الاغتسال وبعد النقاء على كراهيّة.

الثانية : ثبوت الإجماع على تقدير عدم ثبوت التواتر على الوجه المذكور على جواز الاستدلال بكلّ قراءة ، كما ثبت الإجماع على جواز القراءة بكلّ قراءة ، فتصير بمنزلة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٢.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٢.

(٣) قوانين الاصول ١ : ٤٠٦.

١٣٢

خبرين متعارضين في الدلالة قام الإجماع على حجّيّة كلّ منهما ، أو علم حجّيّة كلّ بدليل علمي آخر ، فلابدّ من الجمع أيضا على النهج المذكور.

وعلى تقدير وجود مرجّح الدلالة وإن لم يثبت التواتر ولا الإجماع تصيران كخبرين متعارضين ، علم صدور أحدهما دون الآخر ، فلاشتباه الحجّة حينئذ بغيرها لابدّ من التوقّف في محلّ التعارض ، والرجوع إلى غيرهما من أصل أو قاعدة كلّيّة مع عدم مرجّح لإحدى القراءتين ، أو على تقدير عدم ثبوت الترجيح.

ومن الاصول ما يقتضي موافقة قراءة التخفيف وهو استصحاب الحالة السابقة على النقاء ، أعني حرمة الوطئ الثابتة حال وجود الدم إلى أن يحصل الاغتسال.

ونقض بعموم قوله تعالى : ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ )(١) من حيث الأزمان ، بناء على كون كلمة « أنّى » لعموم الزمان لا المكان ، خرج منه أيّام الحيض وبقي الباقي ومنه ما بين النقاء والاغتسال ، فيدور الأمر بين استصحاب حكم المخصّص أو العمل بالعموم الزماني ، ويبطل الأوّل : بأنّ العموم ولو كان زمانيّا دليل اجتهادي ، وقد أخذ في موضوع الاستصحاب فقده فلا يجري مع وجوده.

وفيه : أنّه إنّما يستقيم فيما إذا لزم بالاستصحاب تخصيص في العامّ وطرح لعموم ، كما لو ورد الأمر بصيام كلّ يوم ثمّ نهي عن صوم يوم الجمعة مثلا ، فإذا استصحب الحرمة ليوم السبت أيضا لزم بالاستصحاب تخصيص زائد على التخصيص ، وليس الحال في محلّ البحث كذلك ، إذ لا يلزم من استصحاب حرمة الوطئ قبل الاغتسال تخصيص آخر في عموم ( أَنَّى شِئْتُمْ ) غير ما لزم بالمخصّص الأوّل وهو آية ( لا تَقْرَبُوهُنَ ) نظرا إلى إجمال الغاية الموجودة فيها بسبب اختلاف القراءة ، فيسري الإجمال إلى العامّ بقدر ما بين النقاء إلى الاغتسال.

وإن شئت فاستوضح ذلك بفرض أمارة معتبرة مكان الاستصحاب كالخبر الجامع لشرائط الحجّيّة الدالّ على حرمة الوقاع قبل الاغتسال ، فإنّ هذه الحرمة ليست حرمة اخرى بل من تتمّة الحرمة الاولى الّتي أفادها المخصّص الأوّل ، والخبر المفروض مبيّن له ورافع للإجمال عنه وعن العامّ ، وكاشف عن كون غاية حرمة الوقاع حسبما اريد من قوله : ( حَتَّى يَطْهُرْنَ ) هو الاغتسال.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٣.

١٣٣

وبالجملة طول زمان الحرمة المستفادة من المخصّص الأوّل لا يعدّ تخصيصا آخر ، فالاستصحاب المذكور لا يزاحمه شيء من طرف العامّ لمكان الإجمال.

ولما انجرّ الكلام إلى ذكر تواتر القراءات فلا بأس بالتكلّم في هذا المطلب فنقول : المعروف من مذهب الأصحاب تواتر السبع المعروفة ، وفي كلام جماعة (١) دعوى الشهرة فيه. وعن جامع (٢) المقاصد والعزّيه (٣) وفى الروض دعوى الإجماع على تواترها ، وعن مجمع البرهان (٤) نفي الخلاف فيه ، وعن جماعة منهم الشهيدان في الذكرى (٥) وروض الجنان (٦) دعوى التواتر في الثلاث الباقية أيضا.

وفي كلام بعض الأعلام (٧) : « كونه المشهور بين المتأخّرين » ناقلا له عن روض الجنان أيضا.

وفي كلام بعض الأعلام : « ثمّ إنّ ظاهر الأكثر أنّها متواترة إن كانت جوهريّة إلى أن قال : وأمّا إذا كانت ادائيّة كالإمالة والمدّ واللين فلا ، لأنّ القرآن هو الكلام وصفات الألفاظ ليست كلاما لأنّه لا يوجب ذلك اختلافا في المعنى ، فلا يتعلّق فائدة مهمّة بتواتره » (٨) إنتهى.

والمراد بالجوهريّة ما يتعلّق بأصل الكلمة وحروفها كما في « مالك » و « ملك » بإثبات الألف وإسقاطه ، و « يطهرن » و « يطّهرن » بالتخفيف والتشديد وما أشبه ذلك.

وبالأدائيّة ما يتعلّق بكيفيّة أداء حروف الكلمة كالمدّ والإمالة واللين فهي من قبيل صفات الكلمة وحروفها.

وربّما عدّ ما ذكره رحمه‌الله من توجيه كلام الأكثر قولا بالتفصيل في المسألة وهو خيرة الزبدة. (٩)

ثمّ من المعلوم أنّ تواتر القراءات كلّها أو بعضها مبنيّ على تواتر أصل القرآن ، لأنّ القراءة فرع فما لم يكن الأصل متواترا لم يعقل كون الفرع متواترا ، وأمّا تواتر الأصل فالظاهر أنّه لا كلام لهم فيه ، فإنّهم ذكروا من غير خلاف أنّ القرآن متواتر فما نقل آحادا

__________________

(١) قوانين الاصول : ١ / ٤٠٦ ومفاتيح الاصول : ٣٢٢ ومناهج الأحكام : ١٥٠.

(٢) جامع المقاصد ٢ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٣) نقله عنه في مفتاح الكرامة ٧ : ٢٠٩.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٢١٧.

(٥) الذكرى : ٣ / ٣٠٥.

(٦) روض الجنان : ٢٦٤.

(٧) قوانين : ١ / ٤٠٦.

(٨) قوانين الاصول : ١ / ٤٠٦.

(٩) الزبدة : ٦١.

١٣٤

فليس بقرآن ، بل عندنا ألآن بل في جميع الأزمان ما هو أعلى من التواتر ، وهو التسامع والتظافر بين المسلمين البالغ بالقرآن ، وكونه كتاب نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله سبحانه إلى حدّ ضروريّ الدين ، حتّى أنّ منكره من المسلمين يلحق بالمرتدّين ، بل يعرفه سائر الملل والأديان ويعلمون أنّ الكتاب الّذي أتى به نبيّ هذه الامّة هو القرآن ، فلا جدوى في الإطالة والإطناب لإثبات تواتره ، ولا حاجة إلى تجشّم الاستدلال عليه بما ذكروه من توفّر الدواعي إلى نقله إلينا لما يتضمّنه من التحدّي والإعجاز ، وكونه أصل الأحكام وكلّما كان كذلك فالعادة تقضي بنقله متواترا.

وبالجملة ضروري الصدور من الشارع لا حاجة فيه إلى النظر والاستدلال ، وكيف كان فاحتجّوا على تواتره بوجوه :

منها : ما نقله بعض مشايخنا من أنّا قد أثبتنا كون القرآن متواترا ، فهو إمّا متواتر في القراءات السبع ، أو في بعضها دون بعض ، أو في غيرها ، أو لا فيها ولا في غيرها ، ولا سبيل إلى ما عدا الأوّل لبطلان الأخير بدليل الخلف ، فإنّ القرآن المتواتر لابدّ وأن يكون مقروّا بشيء من القراءات ، فإذا لم يكن متواترا في السبع ولا في غيرها لم يكن أصله متواترا ، وقد أثبتنا كونه متواترا.

وبطلان الثالث بعدم قائل به ، وكونه خلاف بديهة العقل نظرا إلى الأولويّة ، فإنّه بنى على كونه متواترا في قراءة فكونه كذلك في القراءات المعهودة المتداولة أولى من غيرها ، وبطلان الثاني بلزوم الترجيح من غير مرجّح ، فيتعيّن الأوّل.

ويزيّفه : منع لزوم الترجيح بغير مرجّح على تقدير اختيار الثاني ، فإنّا نقطع بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ القرآن على الوجه الصحيح ، والقدر المتيقّن منه واحدة من السبع أو العشر أو القدر الجامع بينها.

غاية الأمر أنّه تشابه علينا فلو بلغ نقله إلى القرّاء حدّ التواتر وإن اشتبه علينا لم يلزم الترجيح بلا مرجّح كما هو واضح.

وقد يجاب : بمنع الملازمة أيضا ، بأنّه إنّما يلزم على تقدير التسوية الواقعيّة بين القراءات مع عدم المرجّح في الواقع ، ومن الجايز عدم التسوية ووجود المرجّح في الواقع بالنسبة إلى البعض ، كما لو كان دواعي النقل فيه أكثر ، وشرائط التواتر فيه أجمع.

غاية الأمر عدم تعيّنه لنا ، وهو غير ضائر بعد ما كان المراد من التواتر ما تواتر عن

١٣٥

النبيّ إلى القرّاء ، فلا يرد أنّ المتواتر لا يشتبه.

ومنها : قضاء العادة بكونها متواترة لتوفّر الدواعي إلى نقلها.

ويزيّفه : أنّ قضاء العادة بتواتر الجميع قضيّة شرطيّة ، فإنّها إنّما تقضي على تقدير صدور الجميع عن النبيّ ، والكلام إنّما هو في صدق الشرط فمع قيام احتمال كون الصادر منه واحدة منها أو القدر المشترك بينها ، فالعادة لا تقضي بتواتر ما سواه.

ومنها : أنّ القراءة كيفيّة عارضة للفظ ، فيكون من قبيل الهيئة والهيئة جزء من اللفظ المركّب منها ومن المادّة ، وعدم تواترها يقضي بعدم تواتر الكلّ ، فيلزم عدم تواتر القرآن وهو خلاف الفرض.

ويزيّفه : أنّ الهيئة في ضمن قراءة مّا من القراءات ولا يلزم من عدم تواتر جميع السبع عدم تواتر البعض ، فلا يلزم خروج القرآن عن كونه متواترا كما هو واضح.

ومنها : الإجماعات المنقولة عن جماعة ـ كما تقدّم ـ المعتضدة بالشهرة المحقّقة والمحكيّة ونفي الخلاف.

ويزيّفه : ـ مع بعد تحقّق الإجماع الكاشف في محلّ البحث ـ أنّ هذه الإجماعات موهونة لا تفيدنا قطعا ولا ظنّا بالتواتر.

أمّا أوّلا : فلأنّه يوهنها مخالفة جمع من أساطين الطائفة كالشيخ في التبيان ، والطبرسي في مجمع البيان ، والسيّد الأجلّ عليّ بن طاووس في مواضع من كتاب سعد السعود ، والسيّد الجزائري في رسالة منبع الحياة ، والشهيد الثاني في شرح الألفيّة ، والفاضل المحدّث الكاشاني في مقدّمات تفسيره والعلاّمة البهبهاني في حاشية المدارك ، وبعض الأعلام وغيره ، لكون عبائرهم بين ظاهرة وصريحة في إنكار التواتر حتّى في السبع.

ففي المحكي عن التبيان « أنّ المعروف من مذهب الإماميّة والتطلّع في أخبارهم ورواياتهم أنّ القرآن نزل بحرف واحد على نبيّ واحد ، غير أنّهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القرّاء ، وأنّ الإنسان مخيّر بأيّ قراءة شاء قرأ ، وكرهوا تجريد قراءة بعينها. » (١)

وفي مجمع البيان : « الظاهر من مذهب الإمامية أنّهم أجمعوا على القراءة المتداولة وكرهوا تجريد قراءة مفردة ، والشائع في أخبارهم أنّ القرآن نزل بحرف واحد. » (٢)

وعن السيّد الجزائري ـ أنّه بعد ما اختار عدم التواتر ـ قال : « فقد وافقنا عليه السيّد

__________________

(١) التبيان : ١ : ٧.

(٢) مجمع البيان : ١ : ١٢.

١٣٦

الأجلّ عليّ بن طاووس في مواضع من كتاب سعد السعود » (١).

وفي المحكي عن شرح الألفيّة : « واعلم أنّه ليس المراد أنّ كلّما ورد من هذه القراءات متواترة ، بل المراد انحصار التواتر الآن فيما نقل من هذه القراءات ، فإنّ بعض ما نقل من السبعة شاذّ فضلا عن غيرهم كما حقّقه جماعة من أهل هذا الشأن » (٢) ولا ينافيه ما عنه أيضا في الكتاب المذكور « من أنّ كلاّ من القراءات السبع من عند الله تعالى عزّ وجلّ ، نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين صلوات الله عليه وآله الطاهرين تخفيفا على الامّة وتهوينا على أهل هذه الملّة » (٣) لجواز أنّه إنّما علم ذلك من غير جهة التواتر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي أواخر المقدّمة الثامنة من تفسير الكاشاني : « وقد اشتهر بين الفقهاء وجوب التزام عدم الخروج عن القراءات السبع أو العشر المعروفة لتواترها وشذوذ غيرها ، والحقّ أنّ المتواتر من القرآن اليوم ليس إلاّ القدر المشترك بين القراءات جميعا دون خصوص آحادها ، إذ المقطوع به ليس إلاّ ذلك ، فإنّ المتواتر لا يشتبه بغيره. » (٤)

وفي المحكي عن حاشية المدارك : « أنّ المراد بالمتواتر ما تواتر صحّة قراءته في زمان الأئمّة عليهم‌السلام بحيث يظهر أنّهم كانوا يرضون به ويصحّحون ويجوّزون ارتكابه في الصلاة ، لأنّهم صلوات الله عليهم كانوا راضين بقراءة القرآن على ما هو عند الناس ، وربّما كانوا يمنعون من قراءة الحقّ ويقولون (٥) هي مخصوصة بزمان ظهور القائم عليه‌السلام » (٦).

وفي كلام بعض الأعلام ما ملخّصه : « أنّ الّذي يمكن أن يدّعى معلوميّته هو كون مرادهم من تواتر القراءات تواترها عن الأئمّة عليهم‌السلام ، بمعنى تجويزهم قراءتها والعمل على مقتضاها لأمرهم بقراءة القرآن كما يقرأه الناس وتقريرهم لأصحابهم على ذلك.

وهذا لا ينافي عدم علميّة صدورها عن النبيّ ووقوع الزيادة والنقصان فيه ، قال : والإذعان بذلك والسكوت عمّا سواه أوفق بطريقة الاحتياط » (٧) بل ربّما نسب الإنكار إلى جماعة من العامّة أيضا.

وأمّا ثانيا : فلمنع انعقاد العدد المعتبر في التواتر بالنسبة إلى شيء من القراءات في شيء

__________________

(١) سعد السعود : ١٤٥.

( ٢ ـ ٣ ) المقاصد العليّة : ٢٤٥.

(٤) تفسير الكاشاني : ١٥.

(٥) انظر الكافي : ٢ : ٦٣٣ / ٢٣.

(٦) الحاشية على مدرك الأحكام ٣ : ٢٠.

(٧) قوانين الاصول ١ : ٤٠٦.

١٣٧

من الطبقات ، بل أكثر القرّاء رواية ـ على ما ضبطه الطبرسي في مجمع البيان ـ حمزة بن حبيب الزيّاد (١) لأنّ له سبع روايات.

وأمّا من عداه فعلى الاختلاف بين الستّ والأربع والثلاث والاثنتين ورواية واحدة ، ولا ريب أنّ السبعة لا يكفي في عدد التواتر فكيف بما هو أقلّ منه ، خصوصا مع كون رواتهم من أهل الخلاف ، وخصوصا مع ما يظهر منهم في بعض المواضع من ابتناء قراءتهم المخصوصة واختيارهم لها على نحو من اجتهادهم ، كما في « مالك » و « ملك » على ما حكاه في المجمع.

وأمّا ما قيل : من أنّ بعض القرّاء من المتأخّرين أفرد كتابا في أسماء الرجال الّذين نقلوها في كلّ طبقة وهم يزيدون عمّا يعتبر في التواتر ، ففيه : منع واضح ، لأنّ ذلك إنّما يسلّم في مجموع رواة مجموع القراءات لا مطلقا.

وبعد الغضّ عمّا ذكرناه في توهين الإجماعات نقول : بأنّ أقصاها إفادة الظنّ بتواتر السبع ، والظنّ به يقضي إلى الظنّ بصدور الجميع عن النبيّ ، فتكون الإجماعات بمنزلة خبر واحد ظنّي دالّ على ذلك ، فيعارضه ما سيأتي ممّا يدلّ من الأخبار على أنّ القرآن نزل من عند واحد على حرف واحد ، تكذيبا لمن ادّعى على نزوله على سبعة أحرف تنزيلا له على وجوه قراءات السبع.

ومنها : أنّ تواتر السبع أو هي مع الثالث الباقية ما أخبر به العدول من فقهائنا وهو لا يقصر عن نقل الإجماع ، وعن جامع المقاصد (٢) والمقاصد العليّة (٣) والروض (٤) « أنّ شهادة الشهيد (٥) لا تقصر عن ثبوت الاجماع بخبر الواحد ».

ويزيّفه : أنّ غايته الظنّ بصدور الجميع فيأتي حديث المعارضة المذكورة.

ومنها : ما روته العامّة عن النبيّ وادّعى بعضهم تواتره ، أنّه قال : « نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف » (٦) بناء على ما عليه بعضهم من حمل السبعة أحرف على سبعة أوجه من القراءات.

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٢.

(٢) جامع المقاصد ٢ : ٢٤٦.

(٣) المقاصد العليّة : ٥٢٩.

(٤) روض الجنان : ٢٦٤.

(٥) في ذكرى الشيعة ٣ : ٣٠٥.

(٦) سنن النسائي : ٣٧ ومسند أحمد بن حنبل ٥ : ١٦ و ٤١ وصحيح البخاري ٥ : ٢٧.

١٣٨

ومن طرق أصحابنا ما رواه في الخصال عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن آبائه « قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتاني آت من [ عند ] الله تعالى فقال : إنّ الله تعالى يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت : يا ربّ وسّع على امّتي ، فقال : إنّ الله تعالى يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف » (١).

ويرد عليهما : ـ بعد الإغماض عن ضعف سنديهما وعدم معلوميّة تواتر الاولى منهما ـ منع الدلالة.

أمّا أوّلا : فلعدم التعرّض فيهما لتواتر السبع ، بل غايته الدلالة على كون نزوله من الله على سبعة أحرف كما في الاولى ، أو على كون المرخّص من الله سبحانه هو قراءة على سبعة أحرف ، فغايته ثبوت السبعة أحرف بخبر الواحد لا بالتواتر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا ثانيا : فلمنع كون الأحرف مرادا بها القراءات السبع ، لجواز أن يراد بها سبعة لغات كما حمل عليه ابن الأثير في نهايته (٢) ، أو سبعة أقسام : أمر ، وزجر وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، وقصص ، ومثل ، كما في رواية (٣).

وفي اخرى « زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال » (٤).

ويؤيّدهما المروي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام « إنّ الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام ، كلّ قسم منها شاف كاف ، وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص » (٥) أو سبعة أبطن كما في غير واحد من الروايات كما يكشف عنه ما رواه في الخصال باسناده عن حمّاد بن [ عثمان ] ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام « إنّ الأحاديث تختلف منكم ، قال : فقال : إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، وأدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه ، ثمّ قال : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب » (٦).

ومع الغضّ عن جميع ما ذكر ، فالخبران يعارضان ما هو أقوى منهما ، كالمروي في الكافي في الحسن كالصحيح عن الفضيل بن زياد « قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ الناس يقولون إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال : كذبوا أعداء الله ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد » (٧).

__________________

(١) الخصال : ١ : ٣٥٨ / ٤٤. (٢) النهاية ١ : ٣٦٩ / حرف.

(٤) بحار الأنوار ٨٩ : ١٨٦ / ٣ ـ مجمع البيان ١ : ١٣.

(٣ و ٥) بحار الأنوار : ٩٠ : ٤.

(٦) الحضال ١ : ٣٥٨ / ٤٣.

(٧) الكافي ٢ : ٦٣٠ / ١٣.

١٣٩

وما رواه فيه أيضا باسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة » (١) وهما ظاهران كالصريح في بطلان الحمل على القراءات السبع ، فتعيّن الحمل على غيرها ممّا ذكرنا جمعا.

فالإنصاف : عدم معلوميّة تواتر السبع لعدم تماميّة أدلّة إثباته.

نعم المعروف المدّعى فيه الشهرة جواز الأخذ بها على التخيير في الصلاة وتلاوة القرآن وإن وجبت بنذر أو إجارة أو شبههما ، والأدعيّة والأذكار بل في المحكي عن منتهى العلاّمة نفي الخلاف فيه في الجملة ، قائلا : « وأحبّها اليّ قراءة عاصم بطريق أبي بكر بن عيّاش وأبي عمرو بن العلاء ، فإنّهما أولى من قراءة حمزة والكسائي لما فيهما من الإدغام والإمالة وزيادة المدّ وذلك كلّه تكلّف ولو قرأ بذلك صحّت صلاته بلا خلاف » (٢).

وعن جماعة منهم الشيخ والطبرسي في التبيان ومجمع البيان نقل الإجماع عليه وقد تقدّم عبارتاهما.

وفي مفتاح الكرامة دعوى « اتّفاق المسلمين على جواز الأخذ بها » (٣).

واستدلّ على ذلك مضافا إلى الإجماعات المنقولة بالرخصة المستفادة من الأخبار قولا وتقريرا.

ففي مفتاح الكرامة : « إنّ القائل بتواترها إلى أربابها لا إلى الشارع ، يقول إنّ آل الرسول عليهم‌السلام أمروا بذلك فقالوا : « اقرأوا كما يقرأ الناس » (٤) وقد كانوا يرون أصحابهم وسائر من يتردّد إليهم يحتذون مآثر هؤلاء السبعة ، ويسلكون سبيلهم ، ولولا أنّ ذلك مقبول عندهم مرضي لديهم لانكروا عليهم ، مع أنّ فيهم من وجوه القرّاء كأبان بن تغلب وهو من وجوه أصحابهم ، وهو لا يختصّ بقراءة سوى قراءة هؤلاء وقد استمرّت طريقة الناس حتّى العلماء على ذلك ، على أنّ في أمرهم بذلك إكمال كلّ بلاغ ، مضافا إلى نهيهم عن مخالفتهم » (٥) انتهى.

ومن الأخبار المذكورة في هذا الباب المرسل العامي « أنّ القراءة سنّة متبعة » (٦) قال في مفتاح الكرامة : « وهذا الخبر مشهور رووه عن زيد بن ثابت » (٧).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٣٠ / ١٢.

(٢) منتهى المطلب ٥ : ٦٤ / السادس.

(٣) مفتاح الكرامة ٧ : ٢٢١.

(٤) الكافي كتاب فضل القرآن ٢ : ٦٢٣ / ٢٣.

(٥) مفتاح الكرامة ٧ : ٢٢٠.

(٦) كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ٥٠.

(٧) مفتاح الكرامة ٧ : ٢٢٢.

١٤٠